الغيبة المستلزمة لعمر مفتوح مع انفتاح الزمن
من مقتضيات وخصائص المفهوم المهدوي عند أهل البيت (ع) هو الاعتقاد بغيبة الإمام (ع) عن الأنظار، واستمراره علي ذلک إلي حين يأذن الله سبحانه وتعالي له بالظهور، وإثبات هذه الخصوصية ننجزه في مرحلتين:
1 ـ مرحلة إثبات امکانية العمر الطويل.
2 ـ مرحلة إثبات تحقق ذلک فعلاً بالنسبه للإمام المهدي (ع) وغيبته فيه.
أولاً: مرحلة إثبات امکانية العمر الطويل الي آخر الزمان
فأن المشکلة الأساسية التي تواجه المفهوم المهدوي عند أهل البيت (ع) تتمثل في ما يستلزمه هذا المفهوم من عمر مفتوح مع إنفتاح الزمن وممتد بامتداده وقد عولجت هذه المشکلة بإجابات کثيرة نورد هنا إجابة السيد الشهيد الصدر عليها، فقد کتب يقول:
هل بالإمکان أن يعيش الإنسان قروناً کثيرة کما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أکثر من ألف ومائة وأربعين سنة، أي حوالي مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمر بکل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلي الشيخوخة؟
کلمة الإمکان هنا تعني أحد ثلاثة معان: الإمکان العملي، والإمکان العلمي، والإمکان المنطقي أو الفلسفي.
وأقصد بالإمکان العملي: أن يکون الشيء ممکنا علي نحو يتاح لي أو لک، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلي قاع البحر، والصعود إلي القمر، أشياء أصبح لها إمکان عملي فعلاً. فهناک من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشکل وآخر.
1 ـ الکلام في وقته دقيق علمياً، فهو يقول: انه ممکن علمياً، ولکنه لم يکن قد تحقق فعلاً، والواقع أن کثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء، وتسيير المرکبات الفضائية إلي کواکب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبحت حقائق في أواخر القرن العشرين.
يدرک ـ قبل أن يمارس أي تجربة ـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فرداً وزوجاً في وقت واحد، وهذا تناقض، والتناقض مستحيل منطقياً. ولکن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق،وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارته ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية، إذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأکثر حرارةً إلي الجسم الأقل حرارةً، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأکثر حرارةً إلي الجسم الأقل حرارةً إلي أن يتساوي الجسمان في الحرارة.
وهکذا نعرف أن الإمکان المنطقي أوسع دائرة من الإمکان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمکان العملي.
ولا شک في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممکن منطقياً لأن ذلک ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض لأن الحياة کمفهوم لا تستبطن الموت السريع، ولا نقاش في ذلک.
کما لا شک أيضاً ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممکناً إمکاناً عملياً، علي نحو الإمکانات العملية للنزول إلي قاع البحر أو الصعود إلي القمر، ذلک لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين، ولهذا نجد أن أکثر الناس حرصاً علي الحياة وقدرة علي تسخير إمکانات العلم، لا يتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمکان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرر رفضه من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدي الإنسان، فهل تعبر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض علي أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل کفاءة للاستمرار في العمل، إلي أن تتعطل في لحظة معينة، حتي لو عزلناها عن تاثير أي عامل خارجي؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في کفاءة الانسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية، نتيجة صراع مع عوامل خارجية کالميکروبات أو التسمم الذي يتسرب إلي الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مکثف أو أي عامل آخر؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم علي نفسه، وهو جاد في الإجابة عنه، ولا يزال للسؤال أکثر من جواب علي الصعيد العلمي.
فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلي تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتکاک مع مؤثرات خارجية معينة، فهذا يعني أن بالإمکان نظرياً، إذا عزلت الأنسجة التي يتکون منها جسم الإنسان عن تلک المؤثرات المعينة، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الاُخري التي تميل إلي افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحية نفسها، بمعني أنها تحمل في احشائها بذرة فنائها المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول: إذا أخذنا بوجهة النظر هذه، فليس معني هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو ـ علي افتراض وجوده ـ قانون مرن لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية، أن الشيخوخة کظاهرة فسيولوجية لا زمنية، قد تأتي مبکرة، وقد تتأخر ولا يظهر إلاّ في فترة متأخرة، حتي أن الرجل قد يکون طاعناً في السن ولکنه يملک أعضاء لينة، ولا تبدو عليه اعراض الشيخوخة کما نص علي ذلک الأطباء. بل إن العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلک القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلي اعمارها الطبيعية وذلک بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.
وبهذا يثبت علمياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معينة أمر ممکن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلي کائن معقد معين کالإنسان، فليس ذلک إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلي الإنسان، وصعوبتها بالنسبة إلي أحياء اُخري. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحرکة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمکانية إطالة عمر الإنسان، سواءً فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتکاک مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلک: أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممکن منطقياً وممکن علمياً، ولکنه لا يزال غير ممکن عملياً، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمکان عبر طريق طويل.
وعلي هذا الضوء نتناول عمر المهدي (ع) وما اُحيط به من استفهام أو استغراب، ونلاحظ:
إنه بعد أن ثبت إمکان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الامکان النظري إلي إمکان عملي تدريجا، لا يبقي للاستغراب محتويً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، فيتحول الإمکان النظري إلي إمکان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلي مستوي القدرة الفعلية علي هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اکتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا کانت المسألة هي أنه کيف سبق الإسلام ـ الذي صمم عمر هذا القائد المنتظر ـ حرکة العلم في مجال هذا التحويل؟
فالجواب: إنه ليس ذلک هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حرکة العلم.
اوليست الشريعة الإسلامية ککل قد سبقت حرکة العلم والتطور الطبيعي للفکر الإنساني قروناً عديدة؟
أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حرکته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين؟
أوَلَم تأت بتشريعات في غاية الحکمة، لم يستطع الإنسان أن يدرک أسرارها ووجه الحکمة فيها إلاّ قبل برهة وجيزة من الزمن؟
أو لم تکشف رسالة السماء أسراراً من الکون لم تکن تخطر علي بال إنسان، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟
فإذا کنا نؤمن بهذا کله، فلماذا نستکثر علي مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالي ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ وانا هنا لم اتکلم إلاّ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة، ويمکن ان نضيف إلي ذلک مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة السماء نفسها.
لم يتح للعلم ان يحققه إلاّ بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول (ص) التحرک السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلک، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلک.
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالي للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتي اليوم في حياة الناس، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء.
ولکن! أوَليسَ الدور التغييري الحاسم الذي اُعد له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس، وما مرت بهم من تطورات التاريخ؟
أوَلَيسَ قد اُنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد علي أساس الحق والعدل؟
فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الکبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف کطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما کان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب علي اليوم الموعود إنجازه. فإذا کنا نستسيغ ذلک الدور الفريدتاريخياً علي الرغم من انه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلک العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟
ولا أدري!
هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيکون لکل منهما عمر مديد يزيد علي أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟
أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح، الذي نص القرآن الکريم علي أنه مکث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد.
والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مکث في قومه حتي الآن أکثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز الف عام علي أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟
وقد عرفنا حتي الآن أن العمر الطويل ممکن علمياً، ولکن لنفترض أنه غير ممکن علمياً، وأن قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمکن للبشرية اليوم، ولا علي خطها الطويل أن تتغلب عليه، وتغير من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلک؟ إنه يعني أن إطالة عمر الإنسان ـ کنوح أو کالمهدي ـ قروناً متعددة، هي والجواب: إن المهمة أولا واحدة، وهي تغيير الظلم والفساد، وأن الوظيفة کما اوکلت إلي النبي، فقد اوکلت هنا إلي من إختاره الله تعالي أيضاً کما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم (ص): «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطول الله ذلک اليوم حتي يبعث رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً...» التاج الجامع للاصول 5: 343.
وأما من جهة قطعية النص، فاحاديث المهدي بلغت حد التواتر، وهو موجب للقطع والعلم، فلا فرق في المقامين. راجع: التاج الجامع للاصول 5: 341 و 360 فقد نقل التواتر عن الشوکاني، وانتهي المحققون من علماء الفريقين إلي القول بأن من کفر بالمهدي فقد کفر بالرسول محمد (ص) وليس ذلک إلاّ بلحاظ أنه ثبت بالتواتر، وأنه من ضرورات الدين، والمنکر لذلک کافر اجماعا. وراجع: الإشاعة لاشراط الساعة / البرزنجي في بحثه حول المهدي. وقد نقلنا حکاية التواتر في المقدمة أيضاً.
ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالي عن عيونهم وهو يمشي بينهم. کل هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطلت لحماية شخص، کانت الحکمة الربانية تقتضي الحفاظ علي حياته، فليکن قانون الشيخوخة والهرم من تلک القوانين.
وقد يمکن أن نخرج من ذلک بمفهوم عام وهو أنه کلما توقف الحفاظ علي حياة حجة لله في الأرض علي تعطيل قانون طبيعي، وکانت إدامة حياة ذلک الشخص ضرورية لانجاز مهمته التي أعد لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلک القانون لانجاز ذلک، وعلي العکس إذا کان الشخص قد انتهت مهمته التي أعد لها ربانياً فإنه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.
ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: کيف يمکن أن يتعطل القانون؟ وکيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اکتشف ذلک القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية علي اُسس تجريبية واستقرائية؟!
والجواب: ان العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فکرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلک: أن القوانين الطبيعية يکتشفها العلم علي أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة اُخري يستدل بهذا الاطّراد علي قانون طبيعي، وهو أنه کلما وجدت الظاهرة الاُولي وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلک وذاتها لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمکن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي اثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤکد أن القانون الطبيعي ـ کما يعرفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين،فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدي الظاهرتين عن الاُخري في قانون طبيعي لم يکن ذلک فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أکبر مما کانت عليه في ظل وجهة النظر الکلاسيکية إلي علاقات السببية.
فقد کانت وجهة النظر القديمة تفترض أن کل ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالاُخري فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل ان تنفصل إحدي الظاهرتين عن الاُخري، ولکن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلي قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلک الضرورة الغيبية.
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدي إلي استحالة.
وأما علي ضوء الاُسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة، في أن الاستقراء لا يبرهن علي علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولکنا نري أنه يدل علي وجود تفسير مشترک لاطّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترک کما يمکن صياغته علي أساس افتراض الضرورة الذاتية، کذلک يمکن صياغته علي أساس افتراض حکمة دعت منظم الکون إلي ربط ظواهر معينة بظواهر اُخري باستمرار، وهذه الحکمة نفسها تدعو أحياناً إلي الاستثناء فتحدث المعجزة.
وهکذا يتّضح بنحو علمي منطقي مبرهن أن العمر الطويل أمر ممکن، ولا يلزم منه محذور علمي ولا فلسفي. وبهذا تنتهي المرحلة الأولي من البحث في خصوصية الغيبة.
ثانياً: مرحلة إثبات تحقق ذلک فعلاً في الإمام المهدي (ع) والبحث في هذه المرحلة يتم بطريقين:
1 ـ عقائدي 2 ـ وتاريخي
1 ـ الطريق العقائدي
ويمکن تقريره بثلاثة بيانات:
أ ـ إن هذه الخصوصية من اللوازم الذاتية للمفهوم المهدوي عند أهل البيت (ع)، فثبوت هذا المفهوم ـ بالنحو الذي مرّ آنفاً ـ ثبوتاً برهانياً قاطعاً، واتضاح بطلان ما سواه، يقودنا بنحو طبيعي إلي الاعتقاد بغيبة الإمام الثاني عشر (ع). فما دام الأئمة اثني عشر فقط، وأنهم معينين من قبل الله سبحانه وتعالي، وليس للناس دور في إختيارهم، فليس بإمکاننا إلاّ أن نتصور استمرار حياة الإمام الثاني عشر ومواکبته للمسيرة البشرية وظهوره بعد ذلک في الشوط الأخير منها، ومن الطبيعي أن لا يتاح لإنسان يُقدّر له مثل هذا الهدف، وتقدر له مثل هذه الحياة الطويلة، أن يعيشها بصورة ظاهرة، ولابد له من ان يمارسها بنحو خفي غائب عن الأنظار، إلاّ أن يفترض وفاة الإمام المهدي (ع) في الزمان الطبيعي لامثاله ثم عودته للحياة في زمن الظهور، ولکن هذا الافتراض يلزم منه انقطاع الحجة في الفترة الفاصلة من وفاته إلي ظهوره، وهو مخالف لحديث الثقلين الذي يدل علي تلازم الکتاب والعترة وعدم افتراقهما في زمن من الأزمان حتي قيام الساعة والورود علي الحوض، کما يلزم منه الاعتقاد برجعة الإمام المهدي إلي الحياة بعد وفاته، وهو مما لا قائل به بين المسلمين.
ب ـ الروايات الدالة علي اتصاف الإمام المهدي بالغيبة، وقد ذکرتها بعض مصادر أهل السنّة مثل: ينابيع المودّة وفرائد السمطين.
ففي ينابيع المودّة (ص 447) عن کتاب فرائد السمطين عن الباقر عن أبيه عن جده عن علي (ع)، قال: قال رسول الله (ص): «المهدي من ولدي تکون له غيبة إذا ظهر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً».
وفيه (ص 448) عنه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله (ص): «أن علياً وصيي ومن ولده القائم المنتظر المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً أن الثابتين علي القول بإمامته في زمان غيبته لأعزّ من الکبريت الأحمر» فقام إليه جابر بن عبدالله فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدک غيبة؟ قال: «اي وربي ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الکافرين ـ ثم قال ـ يا جابر إن هذا أمر من أمر الله وسر من سرّ الله فإياک والشک فإن الشک في أمر الله عزّ وجل کفر».
وفيه في الصفحة المذکورة عنه عن الحسن بن خالد، قال: قال علي بن موسي الرضا ـ رضي الله عنهما ـ: «أن الرابع من ولدي ابن سيدة الإماء يطهر الله به الأرض من کل جور وظلم وهو الذي يشک الناس في ولادته وهو صاحب الغيبة فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربّها».
وفيه (ص 454) عنه عن أحمد بن زياد عن دعبل بن علي الخزاعي في حديث وروده علي الرضا
وانشاده قصيدته التائية، إلي أن قال: «إن الإمام بعدي ابني محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم وهو المنتظر في غيبته والمطاع في ظهوره ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً وأما متي يقوم؟ فأخبار عن الوقت فقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) قال: مثله کمثل الساعة لا تأتيکم إلا بغتة».
وفيه (ص 488) عن غاية المرام عن فرائد السمطين عن جابر بن عبدالله رفعه: «المهدي من ولدي اسمه اسمي وکنيته کنيتي أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً تکون له غيبة وحيرة تضل فيها الاُمم يقبل کالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً».
وفيه عنه عن فرائد السمطين في الصفحة المذکورة عن الباقر عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع) رفعهُ: «المهدي من ولدي تکون له غيبة وحيرة تضل فيها الاُمم إلي أن قال ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً».
وفيه (ص 493) عن المناقب عن أبي جعفر محمد الباقر، قال: قال رسول الله (ص): «طوبي لمن أدرک قائم أهل بيتي وهو أتم به في غيبته قبل قيامه ويتولي أولياءه ويعادي أعداءه ذلک من رفقائي وذوي مودتي وأکرم اُمتي عليَّ يوم القيامة».
وفيه عنه عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع)، قال: قال رسول الله (ص): «المهدي من ولدي اسمه اسمي وکنيته کنيتي وهو أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً تکون له غيبة وحيرة في الاُمم حتي يضل الخلق عن أديانهم فعند ذلک يقبل کالشهاب الثاقب فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً». وفيه عنه مثل ذلک غير أنه قال فعند ذلک يقبل کالشهاب الثاقب يأتي بذخيرة الأنبياء (ع) الحديث.
وفيه (ص 494) عنه عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري يقول: قال لي رسول الله (ص): «يا جابر إن اوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ستدرکه يا جابر فاذا لقيته فاقرأه مني السلام ثم جعفر بن محمد ثم موسي بن جعفر ثم علي بن موسي ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم القائم اسمه اسمي وکنيته کنيتي ابن الحسن بن علي ذلک الذي يفتح الله تبارک وتعالي علي يديه مشارق الأرض ومغاربها ذلک الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت علي القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان».
ج ـ إن المهدي الموعود إن لم يکن إماماً معصوماً، وکان رجلاً عادياً من عامّة المسلمين سوف لن يکون هناک تناسب بينه وبين ظهور المسيح (ع) معه وهو نبي من اُولي العزم ليؤيد المهدي ويدعو المسيحيين الي الإذعان بنبوّة النبي (ص)، فلابد وان يکون المهدي الموعود إماماً معصوماً، وحيث إن الإمامة المعصومة ليست أمراً قابلاً للإدّعاء بل تحتاج الي تعيين سماوي ونص نبوي يکشف عنها ولم يجرِ ذلک في غير الأئمة الإثني عشر (ع) حتي علي مستوي الإدّعاء فضلاً عن الدليل والبرهان، وقد ثبتت وفاة الأئمة المتقدمين ودفنت أجسادهم في أماکن معلومة، وبقي الإمام الثاني عشر لم تُعلم له وفاة حتي الآن. فلابد من
الاعتقاد باستمرار حياة هذا الإمام من حين ولادته الي حين ظهوره في آخر الزمان ليکون مؤهلاً لتأييد المسيح (ع) له يقول السيد سامي البدري في ذلک:
«فإن ظهور عيسي سوف يکون بحاجة إلي استيعاب علمي وقيادي من قبل المهدي الموعود باعتباره يقوم شاهداً له وللرسالة التي يرفع شعارها وکتابها وتابعاً له. والمهدي علي التصور السنّي لن يکون قادراً علي استيعاب المسيح بل هو غير قادر علي استيعاب طوائف المسلمين.
لن يکون قادراً علي استيعاب المسيح لأن المسيح نبي ورسول معصوم ومؤيد إلهياً بالمعجزات ومثله لا يمکن أن يستوعبه إنسان غير مؤيد بالمعجزات والعصمة والعلم التام.
ولن يکون قادراً علي استيعاب الاُمة المسلمة بلا تأييد إلهي بالمعجزة والعصمة والعلم التام لوجود مشکلات أساسية:
منها: مشکلة إثبات کونه المهدي الموعود، فهو من دون التأييد الإلهي الخاص لن يکون قادراً علي کسب القناعة الموضوعية التامة من الآخرين.
ومنها: مشکلة إقناع علماء زمانه بالخضوع لآرائه في الجرح والتعديل وتخريج الحديث والاستنباط منه فهو علي أکثر تقدير مجتهد کباقي المجتهدين يجوز للعوام أن يرجعوا إليه ويخضعوا لأفکاره أما المجتهدون الآخرون فلا يوجد أي مبرر للخضوع لفهمه، أما تخريجه للحديث وأراؤه في الجرح والتعديل فستکون المشکلة فيها أعظم لو تجاوز فيها أئمة الجرح والحديث التاريخيين کالبخاري وأحمد بن حنبل ويحيي بن معين وغيرهم.
ومنها: مشکلة النظام السياسي الذي يسمح له أن يشکل تجمعه الحرکي، إذ الأنبياء مع التأييد الإلهي لم يسلموا من الاستضعاف فکيف بالمهدي غير المؤيد.
ومنها: مشکلة الشيعة الذين لن يؤمنوا بمثل مهدي غير معصوم وغير منصوص عليه ولم يکن ابناً للحسن العسکري (ع) وليس هو إلا مهديهم.
وقد يقول قائل: بأننا نفترض أن المهدي بالتصور السنّي مؤيد بالمعجزة والعلم التام والعصمة.
قلنا: إن هذا الافتراض سيجعل من المهدي علي الاُطروحة السنّية نبيّاً لأننا افترضنا أن علمه علم تام لم يستمد من علم بشري، وليس من شک أن هذا الفرض سوف يکون خلاف القرآن الذي نصّ علي أن محمداً خاتم النبيين.
وهذا بخلاف المهدي علي التصور الشيعي فهو ليس نبيّاً بل هو عالم مطهر معصوم وارث لتراث جده عن طريق آبائه ملهم بذلک العلم الموروث معرّف بالنص عليه من قبل أبيه المعرّف من قبل آبائه المعصومين حتي ينتهي الأمر إلي النبي (ص) الذي عرّف بهم جميعاً وبعلي في الغدير خاصه وقد وجدت مثل هذه الحالة ـ أي حالة عالم مطهر وارث للعلم ملهم به ـ وليس بنبيّ، في الاُمم السابقة وقص القرآن علينا خبرها.
إذن لابد من مهدي مؤيد بالعلم والعصمة والمعجزة وليس بنبي وليس هو إلا المهدي علي الطرح الشيعي الذي يستوعب ما عجز عنه المهدي علي الطرح السنّي.
يستوعب المهدي علي التصورالشيعي ظاهرة المسيح لأن هذا المهدي کان قد بشر به عيسي کما بشر بجده النبي (ص) وأبيه علي (ع)، وهو معصوم وارث لتراث النبوة الخاتمة الذي کتبه علي (ع) بيده وأملاه النبي (ص) عليه ووارث أيضاً لتراث النبوات الإسرائيلية الذي اجتمع عند عيسي ومنه انتقل عبر آخر أوصيائه إلي آباء النبي ثم إلي أبي طالب ثم إلي النبي ثم إلي علي والأئمة من ذريته. مضافاً إلي ذلک هو ملهم بهذا العلم کما اُلهم آباؤه من قبل، مضافاً إلي ذلک هو مؤيد بالخوارق التکوينية کما کان وصي سليمان آصف مؤيد بهايکن نبيّاً بل کان وصيّاً وارثاً للعلم وکذلک المهدي بن الحسن العسکري (ع).
وإذا کان المهدي علي التصور الشيعي قادراً علي استيعاب ظاهرة عيسي (ع) وهو نبي ورسول وصار من جنوده وأنصاره ومؤيديه فهو علي استيعاب طوائف اُمة جده أقدر».
2 ـ الطريق التأريخي
ويمکن تقريره بثلاثة بيانات:
أ ـ إن التاريخ ـ وکما مرّ ـ قد شهد بولادة الإمام المهدي (ع) ولم يشهد بوفاته، مما يدل علي استمرار حياته، وحيث لا نتحسس وجوده ولا نشخص أحداً من الناس بعنوان أنه المهدي ابن الإمام الحسن العسکري، فلابد وأن تکون له حياة خفية غير ظاهرة للناس.
ب ـ إن التاريخ قد شهد بحصول مشاهدات عينية متکررة للإمام المهدي (ع) في زمان غيبته، وقد أ لّفت في ذلک کتب مثل کتاب تبصرة الولي فيمن رآي القائم المهدي للسيد هاشم البحراني، وذکر الشيخ ابو طالب التجليل التبريزي في کتابه «من هو المهدي» 266 شخصاً ممن رأي الإمام المهدي في غيبته الصغري مع ذکر قصص أکثرهم، وخصص فصلاً لمن رأي الإمام في غيبته الکبري، وذکر عشرين کتاباً اورد أصحابها فيها القصص والأخبار التأريخية في ذلک، وهنا نحن نذکر قصة أوردها السيد صدر الدين الصدر في کتابه «المهدي» نقلاً عن الشيخ عبدالوهاب الشعراني في کتابه «طبقات العرفاء» في احوال الشيخ حسن العراقي:
«قال: ترددت اليه مع سيدي أبي العباس الحريثي فقال: أتأذن لي أن احکي لک حکايتي من مبتدأ أمري إلي وقتي هذا کأنک کنت رفيقي من الصغر فقلت له نعم فقال کنت شاباً من دمشق وکنت صانعاً وکنا نجتمع يوماً في الجمعة علي اللهو واللعب والخمر فجاءني التنبيه من الله تعالي يوماً ألهذا خلقت فترکت ماهم فيه وهربت منهم فتبعوا ورائي فلم يدرکوني فدخلت جامع بني اُمية فوجدت شخصاً يتکلم علي الکرسي في شأن المهدي (ع) فاشتقت إلي لقائه فصرت لا أسجد سجدة إلا وسألت الله تعالي أن يجمعني معه فبينما أنا ليلة بعد صلاة المغرب اُصلي صلاة السنة وإذا بشخص جلس خلفي ومسح علي کتفي وقال لي: قد استجاب الله تعالي دعاءک يا ولدي مالک أنا المهدي. فقلت: تذهب معي إلي الدار، فقال: نعم، فذهب معي وقال: اخل لي مکاناً انفرد به فأخليت مکاناً فأقام عندي سبعة أيام بلياليها».
وقال الشيخ علي بن عيسي الأربلي في کشف الغمة:
«إن الناس ينقلون قصصاً وأخباراً في خوارق العادات للإمام المهدي (ع) يطول شرحها وأنا أذکر من ذلک قصتين قريب عهد بزماني وحدثني بها جماعة من ثقاة اخواني.
الأولي: إنه کان في بلد الحلة بين الفرات ودجلة رجل اسمه إسماعيل بن الحسن قال اخواني حکي لنا إسماعيل أنه خرج علي فخذي الأيسر ثوثة مقدار قبضة الإنسان فعجزت الأطباء عن علاجها فجاء بغداد ورآه أطباء الأفرنج فقالوا لا علاج لها فتوجه إلي سامراء وزار الإمامين علي الهادي والحسن العسکري ـ رضي الله عنهما ـ ونزل السرداب ودعا الله تعالي تضرعاً واستغاث بالإمام المهدي (ع) ثم مضي إلي دجلة فاغتسل ثم لبس ثوبه فرأي أربعة فرسان خارجين من باب سور البلد وواحد شيخ بيده رمح وشاب آخر عليه فرجية ملونة فصاحب الرمح يمين الطريق والشابان يسار الطريق والشاب صاحب الفرجية علي الطريق فقال له صاحب الفرجية: أنت تروح غداً إلي أهلک، فقا له: نعم، فقال صاحب الفرجية له تقدم اليّ حتي أبصر ما يوجعک فقدم إليه ومد يده إليه فعصر الثوثة بيده فأوجعه ثم استوي علي سرجه، فقال الشيخ صاحب الرمح: أفلحت يا إسماعيل هذا الإمام ثم ذهبوا وهو يمشي معهم، فقال الإمام: ارجع فقال لا اُفارقک ابداً فقال الإمام:
المصلحة في رجوعک، فقال لا اُفارقک أبداً فقال الشيخ يا إسماعيل ما تستحي يقول لک الإمام ارجع مرتين فتخالفه فوقف وتقدم الإمام خطوات ثم التفت إليه وقال: يا إسماعيل اذا وصلت إلي بغداد فلابد أن يطلبک أبو جعفر يعني الخليفة المستنصر بالله فإذا حضرت عنده واعطاک شيئاً فلا تأخذه وقل لولدنا الرضا ليکتب لک إلي علي ابن عوض فإنني اُوحيه يعطيک الذي تريد ثم سار مع أصحابه فلم يزل قائماً يبصرهم حتي غابوا ثم قعد علي الأرض ساعة متأسفاً محزوناً وباکياً عن مفارقتهم ثم جاء إلي سامراء فاجتمع القوم حوله وقالوا نري وجهک متغيراً فما أصابک، فقال: هل عرفتم الفرسان الذين خرجوا من البلد وساروا ساحل الشط قالوا هم الشرفاء أرباب الغنم، فقال لهم بل هم الإمام واصحابه الشاب وصاحب الفرجية هو الإمام مس بيده المبارک مرضي فقالوا أرنيه، فکشف فخذه فلم يروا له أثراً فمزقوا ثيابه وادخلوه في خزانة ومنعوا الناس عنه لکيلا يزدحموا عليه، ثم إن الناظر من طرف الخليفة جاء الخزانة وسأله عن هذا الخبر وعن اسمه ونسبه ووطنه وعن خروجه من بغداد اول هذا الاسبوع ثم ذهب عنه. فبات إسماعيل في الخزانة وصلي الصبح وخرج مع الناس إلي أن بعُد من سامراء فرجع القوم ووادعوا فسار منفرداً حتي وصل موضع فرأي الناس مزدحمين علي القنطرة العتيقة يسألون عمن ورد عليهم عن اسمه ونسبه وموضع مجيئه فلما لاقوه عرفوه بالعلامات المذکورة فمزقوا ثيابه واخذوها تبرکاً وکان الناظر کتب إلي بغداد وعرفهم الحال وکان الوزير طلب السعيد رضي الدين ليعرفه صحة الخبر فخرج رضي الدين الذي هو کان من أصدقاء إسماعيل وکان ضيفه قبل خروجه إلي سامراء فلما رآه رضي الدين وجماعة معه فنزلوا عن دابتهم وأراهم فخذه فلم يروا شيئاً فغشي علي رضي الدين ساعة ثم أخذه بيده وأدخله علي الوزير وهو يبکي ويقول: هذا أخي وأقرب الناس إلي قلبي فسأله الوزير عن القصة فحکاها له فأحضر الأطباء الذين رأوا مرضه وسألهم متي رأيتموه قالوا منذ عشرة أيام فکشف الوزير فخذ إسماعيل فليس فيها أثر قالوا هذا عمل المسيح (ع) فقال الوزير نحن نعرف من عملها ثم احضره الوزير عند الخليفة فسأله عن القصة فحکي له ما جري فأعطي له الف دينار فقال ما أجسر أن آخذ منه ذرّة فقال الخليفة ممن تخاف فقال من الذي فعل بي هذا قال لي لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً. فبکي الخليفة ثم قال علي بن عيسي کنت احکي هذه القصة لجماعة عندي وکان شمس الدين ولده حاضراً عندي لا أعرفه قال أنا ابنه من صلبه فقلت: هل رأيت فخذ أبيک وهي مجروحة؟ قال: إني کنت صبياً في وقت جراحة فخذه، ولکن سمعت القصة من أبي واُمي واقربائي وجيراني ورأيت فخذه بعدما صلحت ولا أثر فيها ونبت في موضعها شعر وقال أيضاً: سألت السيد صفي الدين محمد بن محمد ونجم الدين حيدر بن الأيسر اخبراني بصحة هذه القصة وإنهما رأيا إسماعيل في مرضه وصحته وحکي لي ولده أن أباه ذهب إلي سامراء بعد صحته أربعين مرة طمعاً أن يعود له الوقت الذي رآه.
الثانية: حکي لي السيد باقي بن عطوة العلوي الحسني أن أباه عطوة لا يعترف بوجود الإمام المهدي (ع) ويقول إذا جاء الإمام فيبرئني من هذا المرض أصدق قولهم ويکرر هذا القول فبينما نحن مجتمعون وقت العشاء الأخيرة صاح ابونا فأتيناه سراعاً فقال: إلحقوا الإمام في هذه الساعة خرج من عندي فخرجنا فلم نر أحداً فجئنا إليه وقال أنه دخل اليّ شخص وقال: يا عطوة فقلت لبيک قال أنا المهدي قد جئت إليک أن اشفي مرضک ثم مد يده المبارک وعصر ورکي وراح فصار مثل الغزال، قال علي بن عيسي سألت هذه القصة من غير ابنه فأقرّ بها».
ومن هنا فقد آمن بعض الأعلام من أهل السنّة بحياته وبقائه أو هو لازم کلامهم. وقد ذکر السيد صدر الدين الصدر بعضهم فقال:
«منهم: الشيخ محيي الدين العربي في الفتوحات علي رواية الشيخ عبدالوهاب الشعراني في کتابه اليواقيت والجواهر الذي تقدم عيناً نقله عن کتاب اسعاف الراغبين، فان کون المهدي بن الحسن العسکري بلا فصل کما هو صريح کلامه مع وفاة الإمام الحسن العسکري في سنة مائتين وستين لازمه حياة المهدي وبقاؤه حتي يظهر أو أنه يموت ثم يحييه الله تعالي بقدرته. ولا أظن ان الشيخ محيي الدين يرضي بان ينسب إليه الاحتمال الأخير.
ومنهم: الشيخ عبدالوهاب الشعراني في کتابه اليواقيت والجواهر علي ما في اسعاف الراغبين (ص 157) حيث قال: المهدي بن الإمام الحسن العسکري ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي بن مريم هکذا اخبرني الشيخ حسن العراقي عن الإمام المهدي حين اجتمع به ووافقه علي ذلک سيدي علي الخواص» انتهي.
ومنهم: الشيخ أبو عبدالله محمد بن يوسف بن محمد الکنجي في کتابه البيان في أخبار صاحب الزمان علي ما نقله اسعاف الراغبين (ص 227) قال: «ومن الأدلة علي أن المهدي حيّ باق بعد غيبته إلي الآن وأنه لا امتناع في بقائه بقاء عيسي بن مريم والخضر وإلياس من أولياء الله تعالي وبقاء الأعور الدجال وابليس اللعين من أعداء الله تعالي وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالکتاب والسنّة» انتهي.
ومنهم: الشيخ العارف الفاضل الخواجه محمد بارسا في کتابه فصل الخطاب علي ما في ينابيع المودّة (ص 451) بعد ان ذکر ولادة المهدي المنتظر وان الله تعالي آتاه الحکمة وفصل الخطاب في سن الطفولية کما منّ علي يحيي وعيسي بذلک قال: «وطوّل الله تبارک وتعالي عمره کما طوّل عمر الخضر (ع)». انتهي.
ومنهم: الشيخ صدر الدين القونوي في بعض وصاياه لتلامذته عند موته علي ما في ينابيع المودة (ص 469) حيث قال: «إن الکتب التي کانت لي من کتب الطب وکتب الحکماء وکتب الفلاسفة فبيعوها وتصدقوا بثمنها للفقراء وأما کتب التفسير والأحاديث والتصوف فاحفظوها في دار الکتب واقرأوا کلمة التوحيد (لا إله إلا الله) سبعين ألف مرة في الليلة وبلّغوا مني سلاماً إلي المهدي (ع).» انتهي.
أقول: يمکن أن يقال أن قوله ذلک لا يدل علي وجود المهدي وحياته إذ ربما قال ذلک برجاء أن يدرکوا ظهوره، ولکن الأول أظهر.
ومنهم: الشيخ سعد الدين الحموي علي ما في ينابيع المودّة (ص 474) نقلاً عن کتاب الشيخ عزيز بن محمد النسفي عند کلامه في ترتيب الأولياء وأن الله تعالي إختار في هذه الاُمة اثني عشر ولياً من أهل البيت فجعلهم خلفاء نبيّه المعظم (ص) إلي أن قال: «وأما آخر الأولياء الذي هو آخر خلفاء النبي والولي والنائب الثاني عشر وخاتم الأولياء فهو المهدي صاحب الزمان». انتهي.
ومنهم: الشيخ شهاب الدين الهندي المعروف بملک العلماء في کتابه هداية السعداء علي ما في الدرر الموسوية، قال عند ذکره الأئمة الاثني عشر: التاسع يعني من ولد الحسين الإمام حجة الله القائم المهدي وهو غائب وله عمر طويل کما في المؤمنين عيسي وإلياس والخضر وفي الکافر الدجال والسامري. انتهي.
ومنهم الشيخ الکامل الشيخ محمد المعروف بخواجه بارسا في حاشية له علي کتاب فصل الخطاب مضافاً إلي ما تقدم عنه علي ما في الدرر الموسوية، حيث قال: وبه (يعني بالمهدي) ختمت الخلافة والإمامة وهو إمام منذ وفاة أبيه إلي يوم القيامة وعيسي يصلي خلفه ويصدقه ويدعو الناس إلي ملته وهي ملة النبي (ص). انتهي.
ومنهم: الشيخ المحدث الشهير ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري في شرح صحيح البخاري في کتابه (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر) قال: يتعين اعتقاد ما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر وهو الذي يخرج الدجال وينزل عيسي (ع) في زمنه وهو المراد حيث اطلق المهدي، وأما من قبله فليس واحد منهم هو المهدي المنتظر. انتهي. والشاهد قوله: من وجود المهدي المنتظر.
ومنهم: غير واحد من الفضلاء والعرفاء فإن الذي يظهر من أشعارهم العربية والفارسية المذکورة في ينابيع المودّة وغيره من بعض کتب المناقب أنهم يرون حياة المهدي المنتظر وأنه حي يرزق لوصفهم له بالولاية والإمامة والخلافة والنيابة عن النبي (ص) وأنه الواسطة في الفيوضات الإلهية.
ج ـ ونعتمد في تقريرالبيان الثالث علي ما کتبه السيد الشهيد محمدالصدر (ره) حيث کتب يقول:
«إن الغيبة تجربة عاشتها اُمّة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغري، ولتوضيح ذلک نمهد بإعطاء فکرة موجزة عن الغيبة الصغري».
الغيبة لکي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتکيّف نفسها شيئاً فشيئاً علي أساسها، وکان هذا التمهيد هو الغيبة الصغري التي اختفي فيها الإمام المهدي عن المسرح العام، غير أنه کان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وکلائه ونوابه والثقات من أصحابه الذين يشکلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي.
شَغَلَ مرکز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممن أجمعت تلک القواعد علي تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم کما يلي:
1 ـ عثمان بن سعيد العمري.
2 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح.
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري.
وقد مارس هؤلاء الأربعةبتعيين من الإمام المهدي (ع).
السمري هو آخر النواب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغري التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الکبري التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبّر التحول من الغيبه الصغري إلي الغيبة الکبري عن تحقيق الغيبة الصغري لأهدافها وانتهاء مهمتها لأنها حصّنت الشيعة بهذه العمليه التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تکيّف وضع الشيعة علي أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبل فکرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصينخط عام،
والآن بإمکانک أن تقدّر المواقف في ضوء ما تقدم، لکي تدرک بوضوح أن المهدي حقيقة عاشتها اُمة من الناس، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحدٌ، کل هذه المدة تلاعب في الکلام، أو تحايلاً في التصرف أو تهافتاً في النقل. فهل تتصور ـ بربّک أن بإمکان اُکذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة علي سبيل الترتيب کلهم يتفقون عليها، ويظلون يتعاملون علي أساسها وکأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشک، ودون أن يکون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويکسبون من خلال ما يتصف به سلوکهم من واقعية ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً: إنّ حبل الکذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش اُکذوبة بهذا الشکل، وکل هذه المدة، وضمن کلّ تلک العلاقات والأخذ والعطاء، ثم تکسب ثقة جميع من حولها.
وهکذا نعرف أن ظاهرة الغيبة الصغري يمکن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات مالها من واقع موضوعي، والتسليم بالإمام القائد بولادتهعن المسرح ولم يکشف نفسه لأحد
لکنها في الوقت نفسه تحث الإنسان المؤمن باتجاه التعقل والتدبّر المفضي في النتيجة إلي تصيّد الحِکَم المحتملة والأغراض الإنسانية التفصيلية المتوقعة في مختلف الجهات العقائدية والتشريعية من الإسلام.
ونحن قد درسنا المسألة المهدوية من زاوية الدليل والبرهان، واتضح أن مفهوم مدرسة أهل البيت عن المهدوية بالقياس إلي مفهوم مدرسة المذاهب الأربعة عنها من ناحية الدليل والبرهان يمثل هذه المسألة في مستواها الأکمل والأتم.
وکمالها في المجال العقائدي والبرهاني يقتضي ويؤدي بنا إلي الاعتقاد بکمالها في ما تقدمه من معطيات انسانية، والمفارقة التي تؤدي بالکثيرين إلي التشکيک وإثارة الشبهات حول مفهوم المهدوية عند أهل البيت تعود إلي أن هؤلاء لا ينظرون إلي زاوية الدليل والبرهان بقدر ما يرکّزون علي الناحية الإنسانية التي تجعلهم يتساءلون:
ما هي الثمرة المترتبة علي الاعتقاد بمفهوم عن المهدوية يتصف بمعاني غيبية غير مألوفة کالغيبة، والعمر الطويل، والإمامة المبکرة؟ وحينما لا يتوصلون إلي جواب کاف وتبقي الناحية الإنسانية لهذا المفهوم محاطة بالغموض والإبهام يدفعهم الجهل بها، والعجز عن تصورها إلي إنکار هذا المفهوم واتهامه بالغلو والخيال، والاستعاضة عنه بمفهوم آخر للمهدوية يخلو من هذه الأبعاد، ولا يتطلب کلفة غيبية کبيرة، دون أن يعلموا أ نّهم بعملهم هذا قد انتقلوا من الکمال إلي النقص، وأن اعتراضهم علي هذه الأبعاد الغيبية إنّما هو اعتراض علي الجوهر الغني لمفهوم المهدوية في الإسلام، فضلاً عن مخالفته للناحية المنطقية التي تقتضي في باب الاعتقاد متابعة الدليل والبرهان أينما إتجها، لا تحريفهما باتجاه ما تقتضيه الأهواء والأغراض والاعتقادات الشخصية.
ولو أنهم تدبروا في مفهوم أهل البيت (ع) عن المهدوية لوجدوه في ناحيته الإنسانية أکمل من مفهوم مدرسة الخلفاء عنها، وقد تکفل السيد الشهيد الصدر ببيان هذه الناحية بياناً رائعاً حيث کتب يقول:
«ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول: لماذا کل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالي علي هذا الإنسان