الجواب
ان الفرق کبير جدا بين النبي والعالم، فان العالم يجد، ويجتهد في البحث والتنقيب في الکتب، وعند الاساتذة والرواة، ويعتمد القرائن و ظواهر الالفاظ، ويفتي بموجبها اجتهادا وعملا بالرأي، بعد اليأس من الظفر بغير ما وصل اليه،وقد يخطي ء في فتواه، اذا من الجائز ان يفهم من الظواهر غير ما تدل عليه، لشبهة في خياله، بل قد لا تکون تلک الظواهر والقرائن من الأدلة في شي ء الا في ظنه و حسسبانه، و من الجائز ايضا ان يکون هناک دليل علي العکس، و لکنه خفي عليه، وعجز من الوصول اليه، و من هنا يسوغ لعالم آخر ان يقف له، و يناقشه في فهمه ومعرفته، وان کان دونه فضلا و علما، کما له ان يعدل عن رأيه الي ضده او يقلم فيه، ويطعم، اذا استبان لديه الحق، وهو معذور في ذلک، حتي لو عدل من الصواب الي الخطأ، ما دام السبيل الي المعرفة منحصرا فيما استخرجه من الدليل الذي استبان له بعد افراغ الوسع والجهد
[ صفحه 68]
في البحث والتنقيب.
اما تقليد الجاهل لهذا المجتهد الذي يجوز عليه الخطأ فلأن کل انسان بالغ عاقل عليه ان يطيع ويمتثل أوامر الله ونواهيه دفعا للعقاب و الضرر المعلوم، لو خالف وعصي، ولا طريق للجاهل الي الطاعة والامتثال الا الاحتياط، او التقليد، والاول عسير، او معتذر، فتعين الثاني، ولو أبحنا للجاهل ان يخالف العالم العادل لکان معني هذا اننا نبيح له ان يخالف احکام الله.اويؤديها مشوهة علي غير وجهها، و بدون علم بوظائفها و أرکانها واوقاتها..
هذا هو شأن العالم اما شأن النبي فعلي العکس من ذلک، لانه ينقل الحکم عن جبرئيل عن الله، لا عن ابي هريرة، ولا يرجع الي کتاب، لان الکتب تبحث عن سنته، و لا الي استاذ، لان قوله الفضل والحجة لجميع الاساتذة.. و بکلمة ان حکم المجتهد ذاتي، لاموضوعي، اي ان للذات و«الأنا» تأثير فيه، ولذا يقول، أنا رأيت وفهمت ان هذا حکم الله في حقي وليس من شک ان «الأنا» تخطي ء، وتصيب، بل ان جواز الخطأ عليها اثر من آثارها،
[ صفحه 69]
ولازم من لوازمها التي لا تنفک.
اما قول النبي فموضوعي صرف، لا اثر فيه للذات سوي التعبير عما في الواقع وفي اللوح المحفوظ، ولذا يقول: هذا هو حکم الله بالذات، و لا يقول: هکذا رأيت وفهمت، ولذا استحال في حقه العدول، لان العدول يتفرع عن الرأي، ولا رأي بل وحي يوحي.. وبديهة ان حکاية الحکم عن الله بمعني الوحي تستتبع عصمة الحاکي له، و تلازمه ملازمة الظل للشاخص، بحيث اذا انتفت عنه انتفت معها النبوة لامحالة، بل ان العصمة هي النبوة و النبوة هي العصمة، لان عدم عصمة النبي معناه عدم عصمة الوحي، وعليه فلا يکون القرآن قرآنا، ولا جبريل امينا. ولا محمد نبيا تعالي الله عما يقول الجاهلون.
ثم هل لمثلي ومثلک ممن يجوز عليه الخطأ و الزلل ان يکون مؤهلا للرسالة والتبليغ عن الله؟.. اذن اين الفرق بين التابع والمتبوع؟. ولماذا وجب علي الناس التصديق والقبول من النبي؟.. وما هو السر لاختيارة رسولا، واتخاذه خليلا و حبيبا وکليما دون سواه من الخلق، اذا لم يکن فوق الشبهات والهفوات؟...
[ صفحه 70]
واعتقد ان الذين اعترفوا بالنبوة و انکروا العصمة قد خلطوا بين الذات والموضوع، بين حکاية النبي للوحي، ورأي المجتهد وظنوا ان النبي يعبر عن رأيه وتفهمه، ولو فرقوا بينهما لقالوا بالعصمة لا محالة والذي يدلنا علي خلطهم هذا انهم عقدوا في کتب الاصول فصلا خاصا لاجتهاد النبي، کما في المستصفي للغزالي، وغيره، فلقد جاء في الجزء الثاني من هذا الکتاب: «اختلفوا في النبي: هل يجوز له الاجتهاد فيما لانص فيه؟...».
واختار الغزالي الجواز، وقاس النبي بغيره من المجتهدين، ومما قال: «کما دل الدليل علي تحريم مخالفة الامام الاعظم و الحاکم، [1] لان صلاح الخلق في اتباع رأي الامام والحاکم، و کافة الامة، فکذلک
[ صفحه 71]
التي» أي ان النبي يحکم بالرأي والظن، تماما کما يحکم المجتهد.. وهو کما تري مخالفة صريحة لقوله تعالي: «لاينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي علمه شديد القوي».
وتقول: هذا يدل علي عصمة النبي فقط دون غيره: مع ان الامامية يقولون بعصمة الامام ايضا فما الدليل علي ذلک؟.
پاورقي
[1] جاء في کتاب الاحکام السلطانية للفراء، و کتاب المذاهب الاسلامية الابي زهرة وغيرهما ان الحاکم الفاسق تجب اطاعته، وتحرم مخالفته عند اکثر من واحد من أئممة السنة، وعلمائهم، واعتقد ان کل من افتي بذلک فانما افتي به خوفا، او طمعا، لااقتناعا وايمانا، و مهما يکن، فقد اتفقت کلمة الشيعة علي انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن اجل هذا کان نصيبهم دائما القتل والسجن و التشريد.