بازگشت

في ارتباط شرائط الظهور بالتخطيط الالهي


حملنا الي الان- فکرة مهمة عن هذا الارتباط. ينبغي لنا في هذه الجهة أن نرکز الکلام و نفصله، مع تحاشي التکرار جهد الامکان.. و ذلک ضمن نقطتين:

النقطة الأولي:

عرفنا في الفصل الذي عقدناه لبيان التخطيط الالهي لليوم الموعود: ان هذا التخطيط مکرس خصيصا لأجل انجاح اليوم الموعود و ضمان وجود العدل فيه. ولو لم يکن لذلک شي ء من الشروط، لأمکن ايجاده في أي وقت. و لأمکن الاستغناء عن التخطيط أيضا. و انما تبرهن وجود هذا التخطيط، باعتبار البرهنة علي وجود هذه الشرائط من ناحية، و البرهان علي وجودها بشکل طبيعي غير اعجازي، فيما لاينحصر توقفه علي المعجزة.



[ صفحه 410]



و التخطيط الالهي يقوم بتربية البشريةباسلوب معين لأجل ايجاد هذه الشرائط تدريجا خلال عمر البشرية الطويل.

فأول هذه الشرائط وجودا هو حصول الأطروحة الکاملد العادلة المتمثلة بالاسلام، باعتبار أن البشرية قبله کانت في مرحلد التربية التدريجية للاعداد لفهم هذه الأطروحة، کما سبق أن أوضحنا.

و لم يکن في الامکان أن تسود العالم أطروحة سماوية سابقة،باعتبار کونها (عدلا مرحليا) يقصد به التربية الي تقبل العدل الکامل أکثر مما يقصد به التطبيق الشامل. مضافا الي ما قلناه من أن تمحيص البشرية لم يکن کاملا، و کان لابد لها أن تمر بالتمحيص علي الأطروحة الکاملة نفسها.

و من ثم يکون لهذا الشرط السبق المنطقي في التربية علي سائرالشرائط الاخري.. اذ لا معني لوجود القائد قبل وجود القانون الذي يوکل اليه تطبيقه... کما لا معني للتمحيص الکامل المنتج للشرطين الأخيرين، الا التمحيص علي الأطروحة الکاملة.

فان قيل: فلماذا لا يمکن وجود القائد قبل وجود الأطروحد أو معها.

قلنا في جوابه: ان أردتم من وجود القائد، وجوده و ممارسته للقيادة فعلا... فهذا مما لا يمکن نجاحه قبل وجود الأطروحة العادلة و التمحيص الکامل. و ان أردتم وجوده، و لو في الغيبة، بمعني وجوده قبل الاسلام غائبا حتي يأذن الله تعالي له بالظهور.

فهذا الاحتمال، يحتوي علي اسفاف في التفکير. اذ لا موجب لوجوده في ذلک الحين. و اذا کان خاليا عن - الحکمة لم يکن الله تعال ليفعله. بل ان الحکمة في تأخره عن الاسلام، لعدة نواح مهمة: منها طول الغيبة طولا مفرطا لو وجد قبل الاسلام. مما يسبب فتح أفواه الشکاکين أکثر. و منها: عدم وجود ارهاصات کافية واردة لنا ممن قبل الاسلام لاثبات وجوده لو کان موجودا. اذن فوجوده يومئذ معناه ضياعه علي الناس و انتفاء البرهان علي وجوده أصلا. و هو محذور مهم خطط الله تعالي لرفعه رفعا باتا. الي غير ذلک من النواحي. و معه فيتعين أن يکون القائد موجودا و مولودا بعد نزول الأطروحة العادلة الکاملة، المتمثلة بالاسلام.



[ صفحه 411]



و کان ثاني الشروط تحققا هو وجود القائد المذخور لليوم الموعود، انطلاقا من زاوية الاعتقاد بغيبته عليه السلام.

و قدعرفنا لذلک آثارا مهمة تمت الي التمحيص بصلة... کالتربية علي طاعته و احترام رأيه و امتثاله. و لولا الغيبة لم يمکن تحقق ذلک. مضافا الي مصالح أخري سنذکرها في الجهة الاتية انشاء الله تعالي.

و معه يکون لهذا الشرط التقدم المنطقي في الرتبة علي الشرطين الأخيرين، باعتبار کونهما منبثقين عن التمحيص... ذلک التمحيص الذي يقوم - بالنسبة الي جزئه المهم - علي تقدم وجود القائد و غيبته، بحيث لولا ذلک لکان التمحيص ناقصا نقصا مهما. الي حد يکاد يتعذر ايجاد اليوم الموعود وانجاحه، علي ما سنسمع في التاريخ القادم.

و أما الشرطان الأخيران: أعني وجود الناصرين الممحصين بالعدد الکافي لغزو العالم، ووجود القواعد الشعبية المطبقة... فهما آخر الشرائط تحققا... وهما يوجدان مقترنين نتيجة للتمحيص الطويل، في عصر الفتن و الانحراف،خلال عصر الغيبة الکبري، کما سبق أن أوضحنا.

النقطة الثانية:

ان هذه الشرائط التي ذکرناها لليوم الموعود، مع التحفظ علي روحها، و التوسع في مدلولها، هي شرائط الدعوة الالهية في کل حين. و بمقدار ما تتضمنه دعوة أي نبي أو امام من نقاط قوة و ترکيزه لهذه الشروط، فانها تستطيع التوسع و الانتشار، و بمقدار ما تفقده منها تأخذ بالضيق و الضمور و تضطر الي الانسحاب الجزئي، أو الأخذ بالعزلة و التقية.

بل تستطيع القول بأن هذه الشرائط، بصيغها الموسعة، تکون هي الشروط الأساسية لنجاح أي دعوة کانت مما يتوقع لها التوسيع و الانتشار، أو أنها تطمع بذلک بشکل و آخر. فبمقدار ما تحرزه من هذه الشروط تستطيع التقدم و السيطرة، بمقدار ما تخسره منها، تضطر الي الانسحاب و العزلة و مجاملة الناس.

و لا يلزمنا في تصور ذلک، الا تعميم معني الشرائط و توسيعها الي حد ما، فيصبح الشرط الأول: هو وجود الفکرة المنظمة القانونية التي تدعي لنفسها اصلاح



[ صفحه 412]



العالم... و هو ما يصطلح عليه بالمبدأ في لغة العقائديين، أيا کانت وجهته.

فاذا کان للمبدأ قائد محنک قدير، و کان له من المويدين و المخلصين، المقدار الکافي لنشر دعوته، و من القواعد الشعبية المناصرة له المقدار الکافي أيضا... کتب لدعوته النجاح و التقدم لا محالة.

و أقصي ما تحاول الدعوات في العالم جاهدة لايجادة، هو ايجاد هذين الشرطين الاخيرين، بعد فرض کونها دعوات مبداية ذات قيادة. و قد کرس التخطيط الالهي علي تحقيقها أيضا، بعد أن أصبحت الأطروحة العادلة الکاملة بميلاد المهدي (ع) دعوة ذات قيادة.

و ان لم تستطع الدعوات احراز هذه الشرائط، و بخاصة الشرطين الأخيرين... کان ذلک سببا لتقهقرها و تقدم خصومها و مناوئيها. فاما أن تبقي في ميدان الجهاد و المجابهة حتي تفني عن آخرها و تنقطع دعوتها بالمرة. و أما أن تأخذ بمسلک السرية و التکلتم و مجاملة الناس. لأجل المحافظة علي مبدئها و قواده... و هو المعني الرئيسي للتقية، کما أوضحنا فيما سبق.

اذن فالتقية تقترن علي طول الخط، و في جميع الدعوات في العالم، مع قصور هذه الشرائط عن ضمان النجاح... کالمسلک الذي تطبقه الأحزاب المبدأية في العصور المتأخرة، من السرية و الکتمان... و کما أمر به الاسلام في العصر الذي لم تتحقق فيه هذه الشرائط بالنسبة الي الأطروحة العادلة الکاملة، و هو عصر ما قبل الظهور.

و علي أي حال، فالدعوة الالهية، علي طول الخط، کانت تدور مدار وجود هذه الشرائط و عدمها. و يتجلي ذلک بکل وضوح، في التاريخ الاسلامي. حيث نري النبي (ص) کان ملتزما في أول دعوته بالسرية و التکتم أو «التقية» حينما لم يکن الشرطان الأخيران: الأنصار و المويدين متوفرين لديه. و لم يبدا دعوته الا بعد أن أحرز من محتوي الشرطين ما يکفي لضمان البقاء. و لم يبدأ بالحرب مع الأعداء، في أول غزواته في بدر، الا عندما حصل علي العدد الکافي من الناصرين المندفعين بالحرارة العاطفية الثورية، التي قلنا أنها البديل عندهم عن الوعي و الاخلاص الممحص، لعدم توفر التمحيص الکافي بالنسبد اليهم.



[ صفحه 413]



و استمر الفتح الاسلامي مبنيا علي هذا الأساس... و انما بدأ الانحطاط و الضمور، مع الانحراف و قلة اخلاص المخلصين و عدم اندفاع المندفعين.

و نري الامام أميرالمومنين علي بن أبي طالب عليه السلام، انما يأخذ بزمان الاصلاح في الأمة الاسلامية، حين يجد الناصرين المويدين، فيناجز الناکثين و القاسطين و المارقين من القتال. و لولا ذلک، لم ين الجهاد لازما عليه. کما نفهمه من قوله عليه السلام: أما والذي فلق الحبة وبر. النسمة، لولا حضور الحاضر، و قيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علي العلماء أن لا يقاروا علي کظة ظالم و لاسغب مظلوم، لا لقيت حبلها علي غاربها و لسقيت آخرها بکأس أولها، و لألفيتم دنياکم هذه أزهد عندي من عطفة عنز. [1] .

و انما أخذ الله تعالي علي العلماء ذلک، عند قيام الحجة بوجود الناصر، و هو عبارة عن توفر الشرط الثالث، الذي لولاه لما وجب علي القائد الاسلامي تکفل القيادة، و لا عتزل علي عليه السلام هذا المرکز الهام، و لم يغره ما فيه من منزلة و شهرة و مال.

و انما أکد علي توفر الشرط الثالث، باعتبار وضوح توفر سائر الشروط في دعوته عليه السلام. و عدم وجود بوادر انخرامهنا الا فيما يعود الي هذا الشرط. فان دعوته مبدئية ذات قيادة، و هو بشخصه القائد... و انما کان عليه السلام يعاني من توفر الشرط الثالث... حيث نراه في العهد الأخير من خلافته يخاطب أصحابه بأنهم ملأوا قلبه قيحا و يتمني ابدالهم بخير من صرف الدينار بالدرهم. و هذا راجع في حقيقته و التأسف من ضعف الشرط الثالث يومئذ و عدم توفره بالنحو المطلوب... للظروف التي کان يعيشها المجتمع يومئذ، مما لا مجال للافاضة فيه.

و حينما يتولي ابنه الامام الحسن عليه السلام مرکز الخلافة، و القيادة، و يحاول مناجزة القتال للجهاز المنحرف الحاکم... يتفرق عنه جيشه، و يستطيع معاوية شراء ضمائر قادته واحدا بعد واحد. حتي لم يبق للامام (ع) من جيشه ناصر... اضطر الي الصلح مع معاوية... و هذا في واقعه، رجوع الي المحافظة علي الدعوة المبدئية بعد انخرام الشرط الثالث... أو الرجوع الي التقية، بالمعني الذي قلناه



[ صفحه 414]



بعد عدم وجود الناصرين المويدين. و لتفصيل ظروف هذا القائد الممتحن الصابر مجال آخر.

و يأتي دور الامام الحسين بن علي عليه السلام بعد ذلک... فتاتيه مئات الکتب من العراق، من الناصرين المويدين الثائرين علي الحکم الأموي المنحرف... فتتوفر له «الجة بوجود الناصر»... أعني الشرط الثالث: بعد توفر الشرائط الأخري. فيشعر بوجوب قيامة بالدعوة الالهية و الثورة لطلب الاصلاح في أمة جده رسول الله (ص)، کما قال هو عليه السلام. [2] .

و اذ ينحرف عنه هولاء الناصرون، و ينخرم الشرط الثالث، نجد ما يترتب عليه من مأساة دموية کبري في کربلاء... عليه و علي آله و أصحابه السلام. فيعطي بذلک درسا خالدا من التضحية و الجهاد في سبيل الأطروحة العادلة الکاملة، ليکون موقفه محکا مقتدي، لمن يريد أن يکون من الناجحين في التمحيص الالهي الکبير.

و يأتي دور الأئمة المعصومين عليهم السلام المتأخرين عن الامام الحسين (ع)... فيبدأ عصر الهدنة، کما سمعنا تسميته بذلک من قبلهم عليهم السلام... و ذلک: باعتبار عدم توفر الشرط الثالث و انعدام الناصرين المخلصين، أو قلتهم عن المقدار الکافي للثورة.

و يتضح ذلک بجلاء من موقف الامام الصادق (ع) تجاه مبعوث الثورة الخراسانية اليه. الذي کان يقول له بأن الثائرين هناک أصحابه مويدوه، فلماذا لا يقوم بالجهاد والمطالبة بحقه في الحکم المباشر... قائلا: يا ابن رسول الله لکم الرأفة و الرحمة، و أنتم أهل بيت الامامة. ما الذي يمنعک أن يکون لک حق تقعد عنه، و أنت تجد من شيعتک مئة ألف يضربون بين يديک بالسيف.

فقال له (ع): اجلس يا خراساني رعي الله حقک. ثم قال: يا حنيفة، اسجري التنور، فسجرته حتي صار کالجمرد و أبيض علوه. ثم قال: يا خراساني قم فاجلس في التنور. فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار، أقلني أقالک الله. قال: قد أقلتک.



[ صفحه 415]



قال الراوي - و هو حاضر ذلک المجلس -: فبينما نحن کذلک، اذ أقبل هارون المکي، و نعله في سبابته. فقال: السلام عليک يا ابن رسول الله. فقال له الصادق (ع): ألق نعلک من يدک و اجلس في التنور. قال: فالقي النعل من سبابته، ثم جلس في التنور. و بعد هنيهة التفت اليه الامام عليه السلام، و قال: کم تجد بخراسان مثل هذا. فقال: و الله و لا واحدا. فقال: أما أنا لانخرج في زمان نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت. [3] .

يتضح لنا من هذه الرواية أمران مقترنان:

احدهما: الصفة التي يجب أن يتحلي بها الناصر للدعوة الالهية، نتيجة للاخلاص الممحص الذي عاش تجربته و اقتطف ثمرته. و هي الايمان المطلق بالقيادة، بحيث لا يصرفه عن امتثال تعاليمها صارف، و لا تأخذه فيها لومة لاثم. و ان جر عليه الوبال، و ان لم يفهم وجه الحکمة من التعاليم، بعد أن کان لديه الايمان المطلق بالتعاليم.

ثانيهما: ان هذه الصفة غير موجودة في عصر التمحيص والامتحان، او عصر الهدنة، في العدد الکافي للقيام بالدعوة الالهية. و من ثم يکون الشرط الثالث منخرما. فلا يکون القيام بهذه الدعوة واجبا و لا يوجد أي ضمان لنجاحها علي تقدير القيام بها... کما کان عليه الحال، في ثورات الثائرين في عصر الأمويين و العباسيين، فانها جميعا کانت تفقد الضمان للنجاح، فکان يکتب عليها الفشل، مهما قويت واتسعت برهة من الزمن.

و بهذا نستطيع أن نتبين بوضوح، الأهمية البالغة للشرط الثالث الذي يريد الله تعالي بتخطيطه العام ايجاده في البشرية من خلال التمحيص، و ما هي النتيجة الکبري التي سوف ينتجها، و ما هي الصفة التي يتحلي بها المخلص الممحص الذي يستطيع المشارکة في تطبيق العدل الکامل علي العالم کله، بين يدي القائد المهدي (ع).

اذن، فهذه الشرائط في واقعها، هي شرائط الدعوة الالهية في کل حين. و حيث لم تتوفر علي مر العصور، لم تستطع هذه الدعوة شق طريقها المأمول في العالم



[ صفحه 416]



بالرغم من أن الله تعالي أنزل دينه (ليظهره علي الدين کله ولو کره المشرکون). و ستشق هذه الدعوة طريقها، و يتحقق مدلول هذه الاية الکريمة، في أول فرصة تتوفر فيها هذه الشروط. و ليس ذلک الا عند ظهور الامام المهدي (ع).

و لولا التخطيط الالهي لايجاد الشروط، باعتبار استهدافه لليوم الموعود، لأمکن عدم تحقق شي ء من هذه الشروط في أي وقت من عمر البشرية الطويل. ولکن الله تعالي، و هو اللطيف الخبير بعبادة، شاء ان يتفضل علي البشرية باليوم الموعود، و أن يربيها لأجل أن يزرع فيها بذور المسؤولية تجاهه و ايجاد الشروط التي بها تستطيع تکفل مسووليته.


پاورقي

[1] أنظر نهج البلاغة شرح محمد عبده، ط. مصر، ص 31 و ما بعدها.

[2] مقتل الحسين، ص 139.

[3] البحار، ج 11، ص 139، عن المناقب لابن شهر اشوب.