و الصابرين علي البأساء والضراء في عهد الفتن و الانحراف
في فضل الانتظار و المنتظرين، خلال عصر الغيبة الکبري... و الصابرين علي البأساء والضراء في عهد الفتن و الانحراف.
و ننطلق الي الکلام في ذلک من ناحيتين:
الناحية الأولي:
فيما تقتضيه القواعد العامة الاسلامية من ذلک:
يقوم الفرد المسلم المخلص فيه عصر الغيبة الکبري بعدة مهام اسلامية، لها أکبر الفضل و أعظم الأثر في تربية الفرد و تکامله، و قربه من تعاليم ربه و رضاه. و يفضل في ذلک - احيانا - حتي علي عصر النبوة و عصر الظهور. و تتلخص تلک المهام في عدة أمور:
الأمر الأول:
الايمان بالغيب. فان الفرد المسلم في هذا العصر، يختلف حاله عن المسلمين
[ صفحه 364]
في عهد النبي (ص) من حيث وضوح الاعتقاد بالعقائد الاسلامية، و قربها الي الحس، طبقا لما يميل اليه البشر من ميلهم الي شهادة الحس و انشدادهم الي الزمان و المکان.
و قد کان هذا موفرا في عهد النبي (ص)، حين کان هو (ص) الذي يمارس الدعوة الاسلامية بيده، فتتوفر علي يده العديد من المزايا التي لايمکن أن يوجد مجموعها في أي عصر آخر.
المزية الأولي:
قوة الاقناع الناتجة مما له من الثقافة الالهية العالية.. و ما له من الهيبة في نفوس المسلمين.
المزية الثانية:
تلقي الوحي من الله عزوجل، في القرآن و غيره. حتي لکان الفرد الاعتيادي آنذاک، يحس بأثر تعاليم الوحي في حياته العملية، و تطبيقها في مجتمعه الذي يعيشه، و يحس بما يستجد من تعاليم و توجيهات... و بما ينزل من قرآن مبشرا و منذرا و معلما و مهددا.
المزية الثالثة:
العدل الشامل الذي ساد الدولة الاسلامية في عصره (ص)... ذلک العدل الذي أعطي الدليل التاريخي الحاسم علي مر العصور، و الي يوم الظهور الموعود،.... علي نجاح التجربة الاسلامية في مجال التطبيق.
المزية الرابعة:
النصر المؤزر المستمر الذي کان يناله الجيش الاسلامي بقيادته (ص)، مما لا يمکن أن يخطر علي بال، بحسب التخطيطات العسکرية المعروفة يومئذ... بل في کل عصر، مع حفظ النسبة بين الجيشين المتحاربين عدة و عددا. و ذلک نتيجة للتوفيق الالهي الذي کان يحالفه في غزواته، کما نطق به التنزيل، و دلت عليه التجربة التاريخية.
[ صفحه 365]
المزية الخامسة:
شخصيته (س) من حيث کونه المثل الأعلي للخلق الاسلامي الرفيع. فقد طبق علي نفسه التعاليم التي جاء بها بدقة و اخلاص، فکان مثلا يحتذي و قدوة للوري و کمالا انسانيا عاليا، حتي نطق التنزيل بالاعجاب به و تاييده بقوله عز من قائل: (و أنک لعلي خلق عظيم). [1] .
الي غير ذلک من المميزات التي لا شک أن لها الأثر البالغ العميق في تقريب الفرد من الايمان و ايضاحه له و ترسيخه في نفسه... حتي أنه يکاد يري جميع العقائد و المفاهيم التي يبشر بها النبي (ص) حسية جلية واضحة للعيان، بالرغم من کونها أمورا فکرية أو ميتافيزيقية.
و رغم هذا الوضوح، فقد مدح الله تعالي: (الدين يومنون بالغيب) [2] و (الذين يخشون ربهم بالغيب)، [3] و أثني عليهم في عدد من مواضيع کتابه الکبير.
و سيتوفر مثل هذا الوضوح، في تطبيق آخر لهذه المميزات العديدة، ما عدا الوحي، في القائد الاسلامي العالمي الجديد، المهدي (ع) الذي سيتکفل ايضاح الدعوة الاسلامية و تطبيقها علي البشر أجمعين.
الا أن شيئا من هذه المميزات، لا يکاد يوجد في عصر الغيبة الکبري، عصر الفتن و الانحراف. و من هنا، کان الايمان بالعقائد الاسلامية بالنسبة الي الفرد الاعتيادي، أبعد عن الحس،يحتاج الي صدر أرحب و وجدان أخصب و تعب في الفحص و التفکير أکثر... خاصة بعد الحکم الاسلامي، و تأکيد القرآن علي عد مجواز التقليد في العقيدة، و شجب اتباع الاباء و المربين بدون برهان، بل لابد للفرد أن يأخذ بزمام عقيدته بنفسه و يؤمن بها عن وعي و اقتناع.
و من المعلوم أنه کلما حصل العناء في سبيل العقيدة الالهية، أکثر، و استلزم
[ صفحه 366]
الايمان تضحية أکبر... و کانت النتائج صحيحة صالحة.. کان ذلک موجبا للکمال البشري و القرب الالهي بشکل أکبر و أعظم.
و هذا المعني بالذات، من جملة حلقات التخطيط الالهي لتربية الأفراد المخلصين الممحصين في عصر الفتن و الانحراف. و سنوضح ذلک بعد قليل.
الأمر قليل:
مما يقوم به الفرد المخلص في عصر الغيبة: تحمل التضحيات و المشاق في سبيل ايمانه و تمسکه باسلامه... تلک المشاق التي لم تکن موجودة في عصر النبوة و لن تکون موجودة في عصر الظهور.
فان المشاق التي تبذل عادة في سبيل العقيدة علي قسمين:
القسم الأول:
ما يبذله الفرد عن طواعية و اختيار، من خدمات و أتعاب. و هو ما سميناه بالتمحيص الاختياري. و عرفنا أثره الکبير في تکامل الفرد طبقا لقانون التمحيص العام.
القسم الثاني:
ما يقع علي الفرد من الاخرين في المجتمع، من قهر و مطاردة و ايلام، ضد ايمانه و أعماله و عقيدته.
و يختلف هذان القسمان في ثلاثة مستويات رئيسسية:
المستوي الأول:
ان القسم الأول:
ان القسم الأول مشترک بين عصر النبوة و عصر الغيبة و عصر الظهور. فان لکل عصر من هذه العصور مشاکله التي تحتاج من المخلصين المبادرة الي حلها. و حسبنا من ذلک، ان الفرد في عصر النبوة کان يخرج طواعية لينال الشهادة في سبيل الحق و الواجب.
ولکن القسم الثاني: غير موجود في المجتمع الذي يحکمه الاسلام، سواء في عصر النبوة أو عصر الظهور... و انما هو خاص بعصر الفتن و الانحراف..
[ صفحه 367]
هذه العصور التي نعيشها، حيث أصبح المعروف منکرا و المنکر معروفا، و طورد المخلصون علي اخلاصهم و حسن تصرفهم.
المستوي الثاني:
ان القسم الأول من التضحية منسجم مع العقيدة، لا يجد الفرد فيه أي مجابهة لها أو مناقضة لمقتضياتها. باعتبار کون القيام به مطابق مع تعاليمها و في مصلحة الدعوة اليها و الترکيز عليها.
و أما القسم الثاني، فهو يتضمن - بشکل مباشر و صريح - مجابهة للعقيدة، و أيقاعا للظلم علي الفرد باعتبار ما يحمله من ايمان و ما يقوم من عمل في سبيل الحق.
المستوي الثالث:
ان القسم الثاني أکثر ايلاما للنفس و أصعب تحملا للفرد من الأول.
فان القسم الأول من التضحية، مهما جر من مصاعب و آلام، فانه أمر اختياري للفرد لايجد فيه أسفا. و انما يجد فيه المخلص حلاوة الايمان و نور العمل الصالح.
و أما القسم الثاني، فيجد فيه الفرد ضغط الاضطرار و قسوة المرارة و ضيق الالم... و لولا ثقة الفرد بربه و عقيدته، و قائده المهدي (ع)، لکان من الهالکين.
و علي أي حال، فمن الجلي أن تحمل التضحية من کلا القسمين، کما عليه حال العمل العام خلال الغيبة، أصعب منه و أعقد من تحمل قسم واحد من العمل. و هذا أيضا أحد عناصر التمحيص الالهي و أسبابه، علي ما سنذکر.
الأمر الثالث:
صمود الفرد ضد الاغراء، بشکل غير موجود، لا في عصر النبوة و لا في عصر الظهور.
فان الاغراة الذي قد يواجهه الفرد علي قسمين:
القسم الأول:
الاغراء النائج من مصالحه الشخصية و شهواته النفسية، باعتبار ما للشهوات
[ صفحه 368]
الغريزية من اندفاع الاشباع، من دون أن تنظر الي الطرق و الوسائل. و قد قيل صدقا: ان الغرائز لا عقل لها.
القسم الثاني:
الاغراء النائج من قبل الاخرين، حين يري الفرد ما لعصر الفتن و الانحراف من جمال و حضارة و تنظيم... و ما لاتباع تياراته و حکامه من ضمان للمال و الشهرة و الراحة في الحياة. فيأتي کل ذلک الي نظر الفرد بهيجا عظيما يغويه بالاتجاه نحوه و الحصول عليه و العمل علي الوصول اليه.
و القسم الأول، مواکب للبشرية علي طول وجودها الطويل، ما دام في الانسان شهوات و ما دامت له مصالح خاصة. لا يختلف فيه عصر الغيبة الکبري عما قبله أو ما بعده. و هذا هو المحک الأساسي للتمحيص العام للبشرية أجمعين.
الا أن القسم الثاني خاص بعصر الغيبة الکبري، بصفتها عصر الفتن و الانحراف. لوضوح أن المصالح الشخصية التي تقتضي الاغراء بالحصول علي القوة و المال، کلها موجهة الي دولة الحق،عند وجودها في عصر النبوة أو عصر الظهور... بخلافه في عصر الغيبة، فانها موجهة للحضارة الماديد و الحکام المنحرفين.
الأمر الرابع:
ايمان الفرد بالمهدي (ع)، و يتجلي ما يستلزمه من تضحيات و مصاعب، في مستويات ثلاثة:
المستوي الأول:
کونه ايمانا بالغيب... فيلاقي من العقبات ما قلناه في الأمر الأول، سواء کان باعتبار الايمان باليوم الموعود، الذي يطبق الله تعالي أطروحته الکاملة علي البشر. أو باعتبار الايمان بالمهدي (ع) و غيبته... علي الاختلاف بين الناس في هذه العقائد الثلاث. فان الايمان بأي واحدة منها ايمان بالغيب، فضلا عن الايمان بها جميعا، طبقا للفهم الامامي للمهدي (ع). فانها جميعا خارجة عن الحس الاعتيادي. الا لأولئک الخاصة الذين شاهدوا المهدي (ع) علي وجه التعيين. و قليل ما هم.
[ صفحه 369]
المستوي الثاني:
استلزام طول مدة الغيبة و تماديها، بحسب الذهنية الاعتيادية للبشر، فيما شاهدوا من مقادير عمر الانسان، استلزامه لاستبعاد وجود المهدي (ع) خلال هذه المدة، و ترجيح موته أو عدم ولادته.
کيف و هو المدخور لنشر العدل و رفع الظلم، فلماذا لايخرج لنشره و هو يري الظلم المتفاقم علي وجه الأرض. و قد أسلفنا الجواب علي مثل هذه الأسئلة، فلا نعيد.
المستوي الثالث:
ما يستلزمه الايمان بوجود المهدي (ع) و علمه بأعمال الناس و مشاهدته للمجتمع عن کتب حال غيبته... من شعور الفرد بالمسوولية المضاعفة، بالترکيز علي العمل الصالح علي الصعيدين الشخصي و الاجتماعي، ليکون عند حسن ظن قائده به وثقة امامه.
و من الواضح، أن الايمان بالغيبة، و ما تتضمنه من مصاعب، غير موجود، لا في عصر النبوة، و لا في عصر الظهور.
اذن... فهذه أمور أربعة، تمثل المسؤوليات المهمة و التضحيات الکبري التي يجب علي الفرد المسلم القيام بها خلال الغيبة الکبري. و هي التي - بمجموعها - جعلت هذه الفترة من عمر البشرية الطويل، أصعب الفترات، من حيث تأکد التمحيص و عمق الامتحان. و التي جعلت الفوز فيه بالشکل الکامل الشامل، قليلا و محتاجا الي زمان طويل و تربية مستمرة، سواء علي مستوي الفرد، أو علي مستوي الأمة جميعا.
کل ذلک، ليتحقق الضمان الأکيد في الحصول علي جماعة من الصامدين ضد کل هذه المصاعب، الناذرين أنفسهم في سبيل ربهم و عقيدتهم علي کل حال، لا تأخذهم في الله لومة لاثم... ليکونوا هم أعوان المهدي (ع) في نشر القسط و العدل علي وجه البسيطة في اليوم الموعود.. و بغير هذا المستوي من الاخلاص، لن يمکن تحقيق الحکم العالمي العادل، باي حال من الأحوال.
فهذا هو الکلام في الناحية الأولي، في ما تقتضيه القواعد العامة من فضل
[ صفحه 370]
الاخلاص و المخلصين خلال عصر الفتن و الانحراف، بشکل يفوق غيره من العصور.
الناحية الثانية :
فيما نطقت به الأخبار من فضل المؤمنين المخلصين المضحين في سبيل الله في عصر الفتن والانحراف... المنتظرين لليوم الموعود، فيما قبل الظهور.
أخرج مسلم [4] والترمذي [5] و ابن ماجة [6] عن النبي (ص) أنه قال : العبادة في الهرج کهجرة إلي.
و الفهم الواعي الحصيح لهذا الحديث الشريف، يتوقف علي تقديم عدة مقدمات :
المقدمة الأولي :
إن المراد بالهرج، و هو الفتن و الانحراف الذي يقع في عصر الغيبة الکبري.
باعتبار ما نطقت به أخبار الفريقين و مصادر العامة علي وجه الخصوص، من وقوع الهرج و القتل و الفتن خلال هذا العصر. فان هذه الأخبار، تکون قرينة تدلنا علي أن المراد بالهرج في هذا الحديث هو عصر الهرج و الفتن، لا نفس الهرج، و هو القتل.
المقدمة الثانية :
يراد بالهجرة إلي النبي (ص) : الهجرة من دار الکفر إلي دار الإسلام. و هو في واقعه أساس الأعمال الاسلامية جميعا و مبدؤها الذي تنطلق منه، لأنه تعبير آخر عن اعتناق الاسلام نفسه.
المقدمة الثالثة :
قد عرفنا ما تقتضيه القواعد من أن الإيمان و العمل الاسلامي، کلما واجه من العقبات أکثر و احتاج من التضحيات إلي عدد أکبر، کان مقربا إلي الله تعالي بشکل أعمق و موجبا لتکامل الفرد بنحو أسرع.
[ صفحه 371]
المقدمة الرابعة :
يراد بالعبادة، معناها العام، لا خصوص الصلاة و الصوم، و أن کانت هذه من أقدس أشکال العبادات. بل يراد کل عمل مطلوب في الاسلام يحققه الفرد امتثالا للأمر الالهي، و تطبيقا لتعاليم الإسلام. فتشمل العبادة بهذه المفهوم سائر الأعمال الاسلامية، الفردية منها و الاجتماعية، کما سبق أن حملنا عن ذلک فکرة کافية... و حققناه مفصلا في بحث متکامل عن المفهوم الواعي للعبادة في الاسلام.
إذن ينتج من هذه المقدمات الأربع : أن مراد النبي (ص) من حديثه هذا هو : أن العمل الاسلامي في سبيل الله بمختلف مستوياته، مما يقع في عصر الهرج و الفتن والانحراف له من الفضل عند الله و عند رسوله، کفضل اعتناق الاسلام نفسه.
و ليس ذلک بالعجيب، بعد الذي سمعناه من الأخبار و رأيناه بالعيان، من مجابهة الفتن و الانحراف، للعقيدة و المعتقدين، و قهرهم علي ترک الايمان و الخروج عن طاعة الله عزوجل، بمختلف وسائل الظلم و الاغراء... إذن فتکون المحافظة عن العقيدة و البقاء علي السلوک الصالح، من الاهمية کالدخول في الاسلام لاول مرة، و ليت شعري، قد يکون البقاء علي العمل الصالح مستلزما للتضحية و المتاعب أکثر مما يستلزمه اعتناق الاسلام لاول مرة.
و أخرج ابن ماجة [7] و الترمذي [8] في حديث عن رسول الله (ص) قد سبق أن سمعنا قسما منه، أنه قال : فان من ورائکم أيام الصبر. الصبر فيهن علي مثل قبض علي الجمر. للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون بعمله.
فالعمل الواحد المتشابه، يتضاعف فضله و أجره، بتضاعف التضحية في سبيل تحقيقه. حتي إذا ما وصلت التضحية إلي أوجها، و کان التمسک بالدين کالقبض علي الجمر في الشدة و البلاء، وصل الفضل و الاجر إلي أوجه أيضا...
و کان العمل الواحد من الرجل الواحد، في مثل هذا الظرف، معادلا لعمل خمسين عامل مثله في حال الرخاء و الدعة.
[ صفحه 372]
و رقم الخمسين، بطبيعة الحال، لايراد به التحديد، بل هو لمجرد المبالغة و التکثير، کقوله تعالي: (أن تستغفر لهم سبعين مرة). [9] فلا ينافي القول بأن فضل الفرد الصابر المجاهد قد يفوق عمل غيره باضعاف هذا المقدار، بازدياد ما يتحمل من المحن و الالام.
و روي الکليني في الکافي [10] بسنده الي عمار الساباطي. قال قلت لأبي عبد الله (ع): أيما أفضل العبادة في السر مع الامام منکم المستتر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق و دولته [11] مع الامام منکم الظاهر.
فقال: يا عمار: الصدقة في السر أفضل من الصدقة في العلانية. و کذلک - و الله - عبادتکم في السر مع امامکم المستتر في دولة الباطل و حال الهدنة؛ و ليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة و الأمن في دولة الحق...
الي أن يقول: قلت: قدر الله رغبتي في العمل و حثثتني عليه.
ولکن أحب أن أعلم کيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الامام الظاهر منکم في دولة الحق، و نحن علي دين واحد.
فقال: أنکم سبقتموهم الي الدخول في دين الله عزوجل، و الي الصلاة و الصوم و الحج، و الي کل خير وفقه، و الي عبادة الله عز ذکره سرا من عدوکم مع امامکم المستتر، مطيعين له صابرين معه منتظرين لدولة الحق، خائفين علي امامکم و أنفسکم من الملوک الظلمة... مع الصبر علي دينکم و عبادتکم و طاعة امامکم و الخوف من عدوکم. فبذلک ضاعف الله عزوجل الأعمال، فهنيئا لکم.
قلت: جعلت فداک، فما تري اذن أن نکون من أصحاب القائم، و يظهر الحق. و نحن اليوم في امامتک و طاعتک، أفضل أعمالا من أصحاب دولة الحق و العدل.
فقال: سبحان الله. أما تحبون أن يظهر الله تبارک و تعالي الحق و العدل في
[ صفحه 373]
البلاد، و يجمع الکلمة و يؤلف الله بين قلوب مختلفة، و لا يعصون الله عزوجل في أرضه و تقام حدوده في خلقه، و يرد الله الحق الي أهله، فيظهر حتي لا يختفي شي ء من الحق، مخافة أحد من الخلق. [12] أما والله يا عمار، لا يموت منکم ميت علي الحال التي أنتم عليها، الا کان أفضل عند الله من کثير من شهداء بدر و أحد. فابشروا.
و دلالة علي هذه الرواية علي تفضيل العبادة و العابدين و الصبر و الصابرين، خلال عهود الظلم و الانحراف، علي العبادة في عهود الراحة و الرخاء، ذلک الرخاء الناتج عن حصول دولة الحق بقيادة الامام المهدي (ع) و تطبيقه للأطروحة العادلة الکاملة علي العالم. دلالة هذه الرواية علي ذلک، أوضح من أن يخفي أو أن يکون محلا للمناقشة.
ولکننا من أجل تجلية الموقف، نود التعرض الي نقطتين:
النقطة الأولي:
أنه قد اشترط الامام الصادق عليه السلام، في هذه الرواية، في تحديد فضل الصابرين... بأن يکونوا مع امامهم المستتر. يعني: المستتر بامامته، لا يباشر الحکم. فقد يقول قائلا: أننا الان عصرالغيبة الکبري لسنا مع امام ظاهر، و لا مع امام مستتر - بذلک المعني - فلا يکون لمخلصنا من الفضل ما وصف في هذه الرواية.
و يجاب عن ذلک، علي مستويين:
المستوي الأول:
أننا بالفعل مع امام مستتر، طبقا للمفهوم الامامي، الذي انطلقت منه هذه الرواية... و لسنا محرومين من هذه المزية لکي لا يشملنا الفضل الموصوف في الرواية. فان المهم هو کون الفرد موافقا مع الامام ايمانا و عقيدة. و تستطيع أنت أن تضيف الي ذلک - ان رغبت -: کونه معاصرا له في الزمان. و کلا هذين الأمرين متوافران لذدي من يعتقد بالغيبة. فانه يعتقد أنه علي طول الخط معاصرا زمانا مع امامه المهدي (ع)، و متفق معه في العقيدة و الايمان. و أما کون الامام معروفا
[ صفحه 374]
بالشخص فهذا ليس له أي دخل في صدق کون الفرد معه، کما هو واضح.
و بتعبير أدق: ان المهم الي أکدت عليه الرواية، هو کون الامام مستتر بامامته خوفا من الظالمين... و کون الفرد مطيعا له عقيدة و سلوکا. و هذا بنفسه متوفر في عصر الغيبة، بالنسبة الي الفرد المخلص، کما کمان متوفرا في عصر الأئمة (ع). فان کلا المعصرين، هما من عصور الفتن و الانحراف و انحصار الحق و استتار الامام. و لا يبقي لمعروفية الامام بشخصه دخل مهم من هذه الجهة.
المستوي الثاني:
أننا نفترض - جدلا - أن وجود الغيبة يمنع من کوننا مع الامام. أو نجر الکلام الي من لا يقول بالغيبة أصلا. ولکن مع ذلک نقول بشمول الفضل الموصوف في الرواية، للمخلصين الموجودين خلال عصر الفتن و الانحراف.
فان ما هو المدار في ثبوت الفضل، و ما هو الأساس في التمحيص الالهي، علي ما عرفنا، انما هو الخوف، من الظلم و الصمود ضد کيد الأعداء و ضد مطاردة المنحرفين... فان العمل و العبادة خلال الخوف، أفضل و أعلي في درجات الکمال، من العمل في عصور الاطمئنان و الرخاء. و هذا الجو العاصف موجود في القرون المتأخرة، کما هو موجود في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام بدون فرق. فان کلا العصرين، من عصور الفتن و الانحراف.
و يزداد الخوف و تتکاثر المصاعب ضد المخلصين، في العصور المتاخرة عن عصر الأئمة (ع) من عدة نواح:
الأولي: ان الحکم في ذلک العصر، مهما کان مصلحيا و منحرفا، کان يقوم باسم الاسلام، و علي أساس تطبيقه. علي حين لا نجد اليوم علي وجه الأرض حاکما علي الاطلاق يمثل هذا الاتجاه. بعد أن اتجهت أساليب الحکم الي المادية و العلمانية.
الثانية: أن التنظيم العام الذي تقوم عليه الدولة في ذلک العصر، کان أبسط بکثير مما تقوم عليه الدول الان. من جهات عديدة جدا. في الجهاز العسکري و جهاز الشرطة و نوع الأسلحة و شکل الحکم و أسلوب التجسس و المطاردة، و تنظيم الدولة، و الأحزاب و التکتلات... الي غير ذلک.
[ صفحه 375]
الثالثة: أنه في ذلک العصر، کانت تغزو المجتمع الحادية و أساليب هدامة، الا أنها کانت ضعيفة، مرفوضة من قبل الرأي العام المسلم و مطاردة من قبل السلطات الحاکمة. و أما التيارات الالحادية و نحوها، اليوم، فهي مدعمة بتفکير المفکرين و تأليف المولفين، و وسائل الاعلام العالمية، و مدعمة أيضا بالتأييد المطلق من قبل کثير من الدول، تبذل عليها الميزانيات الطائلة و الأساليب الهائلة. و تطارد من يعارضها و يدعو الناس الي رفضها و التوجه الي الحق، المتمثل بالاسلام و تعاليم الله عزوجل.
و من هنا نفهم أن الظلم فيما بعد عصر الأئمة (ع) أشد و أوکد، و التمحيص الالهي أعقد. فاذا کان لأصحاب الأئمة عليهم السلام،من الفضل ما ذکرته الرواية، فهو أوکد و أعمق في حق المخلصين المتأخرين عن ذلک العصر. و کلما تعقد التمحيص و صعب، کان الفضل عند الله أکثر و الکمال المحرز في الايمان و الاخلاص أکبر.
النقطة الثانية:
قول الامام الصادق (ع) - بحسب الرواية -: لا يموت منکم ميت علي الحال الذي أنتم عليها، الا کان أفضل عند الله من کثير من شهداء بدر و أحد. فابشروا.
و هذا واضح و صحيح، بعد أن تلاحظ أمرين مما قلناه:
الأمر الأول:
ما قلناه، من أفضلية الممحصين الکاملين الصالحين لقيادة العالم بين يدي المهدي (ع). من الأعم الأغلب من أصحاب رسول الله (ص). کما سبق أن برهنا عليه.
الأمر الثاني:
ما قلناه قبل قليل، من أفضلية من يعيش في عصر الغيبة عمن يعيش في غيره من العصور، و لو أثبت الفرد الجدارة و الصمود ضد الظلم و الانحراف.
فان قال قائل: انهم قد استشهدوا في سبيل الله تعالي دوننا، فيجب أن يکونوا أفضل منا.
[ صفحه 376]
قلنا: کلا. فان الشهادة التي نالها الأغلب في بدر و أحد، کانت باعتبار الاندفاع الثوري والوهج العاطفي الحراري الذي أوجده رسول الله (ص) في مجتمعه. کما سبق أن عرفنا. و مثل هذا العمل و ان کان يمثل نجاحا کبيرا في التمحيص الاختياري،الا أنه لا يمکن أن يکون سببا لتربية الفرد و تکامله، و دقة تمحيصه... فان ذلک ما يحتاج الي زمان طويل و تسلسل تدريجي بطي ء، و تکامل متواصل... و لا يمکن للفرد أن يقفز دفعة واحدة الي الکمال، مهما کانت الظروف التي عاشها صعبة و متعبة.
و مثل هذه التربية البطيئة، يمر بها الفرد المسلم بل الأجيال المسلمة في عصر الغيبة الکبري، بشکل أطول و آکد بکثير مما مر به أصحاب رسول الله (ص) خلال عقدين من الزمن. و ستنتج نتائج أوسع و أعمق و ذات مستويات أکبر مما نتج بالنسبة الي الأغلب ممن عاصر النبي (ص). کما استطعنا أن نتبين خطوطه العريضة فيما سبق من البحوث.
و بذلک نستطيع أن نفهم سائر الروايات الواردة في فضل الصامدين علي الحق المنتظرين لليوم الموعود.
منها: ما رواه الصدوق في الاکمال [13] عن الامام الحسين بن علي عليهما السلام، أنه قال - في کلام له عن المهدي (ع) -: له غيبة يرتد فيها أقوام، و يثبت علي الدين فيها آخرون. و يقال لهم: متي هذا الوعد ان کنتم صادقين. أما أن الصابر في غيبته علي الأذي و التکذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله و آله الطاهرين الأخيار.
و ما أخرجه البرقي في المحاسن [14] عن الامام الصادق (ع)، قال: من مات منکم علي أمرنا هذا فهو بمنزلة من ضرب فسطاطه الي رواق القائم، بل بمنزلة من
[ صفحه 377]
يضرب معه بالسيف، بل بمنزلة من استشهد معه، بل بمنزلة من استشهد مع رسول الله (ص).
و أخرج أيضا: [15] من مات منکم علي هذا الأمر منتظرا له، کان کمن کان في فسطاط القائم (ع). و عن الامام الباقر (ع) - في ضمن حديث - أنه قال: القائل منکم: ان أدرکت القائم من آل محمد نصرته، کالمقارع معه بسيفه... الحديث.
بل أن الممحصين الکاملين لأعظم حتي من هذه الدرجة کما تدل عليه روايات أخري:
منها: ما رواه الصدوق في اکمال الدين [16] أيضا عن الامام علي بن الحسين (ع) في حديث له عن المهدي (ع): ان أهل زمان غيبته القائلين بامامته و المنتظرين لظهوره، أفضل من أهل کل زمان، لأن الله تبارک و تعالي أعطاهم من العقول و الافهام و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان، و جعلهم في ذلک الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف. أولئک المخلصون حقا... و الدعاة الي دين الله سراو جهرا.
و ما رواه الشيخ في الغيبة [17] عن النبي (ص) أنه قال: سيأتي قوم من بعدکم، الرجل الواحد منهم له اجر خمسين منکم قالوا: يا رسول الله، نحن کنا معک ببدر و أحد و حنين و أنزل فينا القرآن. فقال: أنکم لو تحملون لما حملوا لم تصبروا صبرهم.
اذن فهولاء الممحصون الکاملون، أفضل من عامة المعاصرين للنبي (ص). و السر فيه ما قلناه من فجاجة أولئک من حيث التمحيص، و عمق هولاء. و الشخص الفج لا يتحمل التمحيص العميق بطبيعته، و هو معني قوله: انکم لو تحملون لما حملوا، لم تعبروا صبرهم.
و نود أن نعلق علي هذه الأخبار الأخيرة بنقطتين:
[ صفحه 378]
النقطة الأولي:
ان التعبير بالقسطاط و بالسيف، انما جاء في هذه الروايات، مماشاة مع ما يعرفه الناس في عصر صدور هذه الروايات. و قد سبق أن قلنا في أول القسم الثاني من هذا التاريخ، أننا يجب أن نبحث عن مصاديق جديدة لمثل هذه التعبيرات، مناسبة للعصر الذي تتحدث عنه. فيکون المراد بالسيف سلاح الامام المهدي (ع) و بالفسطاط مقره أو عاصمته أو نحوها.
و من المحتمل أن يکون المراد بالفسطاط المدرسة الفکرية، بحسب ما نصطلح عليه اليوم أو المبدأ المستلزم لا تجاه فکري و سلوکي خاص في الحياة.
و القرينة علي ذلک، ما رواه أبو داود [18] عن رسول الله (ص) في حديث له عن الفتنة، قال: يصبح الرجل فيها مومنا و يمسي کافرا، حتي يصير الناس الي فسطاطين: فسطاط ايمان لا نفاق فيه. و فسطاط نفاق لا ايمان فيه... الحديث. فان المراد منه - بکل وضوح - المدرستين الفکريتين أو المبدأين العقائديين، شبههما بفسطاطين لجيشين متحاربين کما کان عليه أهل ذلک الزمان.
النقطة الثانية:
عرفنا في الجانب الأول من الحديث عن الانتظار و المنتظرين، نفس ما أفادتنا اياه هذه الرواات من کون الفرد الممحص الکامل أفضل من کثير من المستشهدين بين يدي رسول الله. کما عرفنا أنه بمنزلة المعاصرين مع المهدي (ع) العالمين في سبيل نصرته.
و ذلک التجاور المکاني و الزماني، ليس له حساب في العقيدة و العمل،و انما الذي يوخذ بنظر الاعتبار هو درجة الاخلاص،و الايمان و قد عرفنا أن أصحاب المهدي (ع) علي درجة عليا من الاخلاص الممحص و قوة الايمان... فاذا کان الفرد في عصرالغيبة ممحصا بنفس الدرجة کان مثل أصحاب المهدي (ع) بطبيعة الحال.
الا أن ما ورد في بعض هذه الروايات، من أن الفرد المخلص في زمان الغيبة، کالمستشهد بين يدي المهدي (ع)، مما لا يکاد ينسجم مع القواعد اذ المفروض
[ صفحه 379]
تماثل الفردين في الاخلاص الممحص، مع زيادة الاخر بفضل الشهادة في سبيل الله عزوجل. الا أن ينال هذا الفرد في عصر الغيبة، الشهادة في سبيل الله ايضا.
پاورقي
[1] القلم: 4 /68.
[2] البقرة: 3:2.
[3] الأنبياء: 49:21. و الملک: 12:67، و فاطر: 18:35.
[4] ج 8، ص 208.
[5] ج 3، ص 332.
[6] ج 2، ص 1319.
[7] ج ص 1331.
[8] ج 2، ص 437.
[9] التوبة 80:9.
[10] أنظر المصدر المخطوط.
[11] في المصدر المخطوط: و دولة. و الظاهر أنه تحريف.
[12] في المصدر المخطوط: مخافة أحد من أحد من الحق. و هو تحريف، يرجح أن يکون صحيحه ما أثبتناه.
[13] أنظر المصدر المخطوط.
[14] ج 2، ص 172.
[15] المصدر و الصفحة و کذلک الخبر الذي يليه.
[16] أنظر المصدر المخطوط.
[17] أنظر ص 275 و أخرجه في الخرايج، ص 195.
[18] ج 2، ص 411.