بازگشت

في الفتنة التي فيها القاعد خير من القائم


أخرج الصحيحان [1] بلفظ واحد عن رسول الله (ص) أنه قال: ستکون فتن القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الماشي، و الماشي فيها خير من الساعي. من تشرف لها تستشرفه. و من وجد فيها ملجأ فليعذ به. و ذکر کل من الشيخين لها أکثر من سند واحد.

و أخرج مسلم [2] عنه (ص): أنها ستکون فتن. الا ثم تکون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها و الماشي فيها خير من الساعي اليها. الا فاذا نزلت أو وقعت، فمن کان له أبل فليلحق بابله، و من کان له غنم فليلحق بغنمه، و من کانت له أرض فليلحق بأرضه.. الحديث. و ذکر له سندين.

و قد أخرج غيرهما من أصحاب الصحاح، هذاالمضمون،غير أننا ذکرنا أننا نقتضر عليهما فيما أخرجاه. و هو مضمون اقتصر اخراجه علي مصادر اخواننا أهل السنة، و لم نجد في المصادر الامامية له ذکرا.

و لفهم هذه الأخبار أطروحتان، بعد العلم أن الفتن قد يراد بها التمحيص و الاختيار، و قد يراد بها النتيجة البسيئة للتمحيص أعني الکفر و الانحراف. و کلاهما من معانيها اللغوية. و قد جاء طبقا للمعني الأول قوله تعالي: «وفتناک فتونا» [3] و قوله:«وظن داود انما فتناه». [4] قوله: «ان الذين فتنوا المومنين و المومنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم». [5] .

ولکن المعني الأول، غير مراد من هذه الروايات جزما، اذ لا معني للتخلص



[ صفحه 337]



و الانعزال عن التمحيص، بعد کونه قانونا منطبقا علي کل البشر، في التخطيط الالهي. فيتعين أن يراد بالفتن المعني الثاني، و هو الکفر و الانحراف.

و طبقا هذا المعني يکون في فهم هذه الروايات أطروحتان:

الأطروحة الأولي:

أن النبي (ص) يشير الي زمان مستقبل بالنسبة الي عصره، تحدث فيه الفتن. و ينصح المسلمين بالانصراف عنها و الانعزال عن تيارها و القعود عن العمل معها أو ضدها... بل اللازم هو اللجوء الي ملجأ أو الخروج الي البوادي و الأطراف هربا من التدخل في الفتنة.

و اذا صحت هذه الأطروحة، تکون هذه الأخبار، موافقة للقواعد العامة التي عرفناها عند وجوب العزلة، و مخالفد لها عند وجوب العمل و الجهاد، حيث نري هذه الأخبار تأمر بالعزلة علي کل حال.

الأطروحة الثانية:

أن النبي (ص) يشير الي الفتن نفسها، بقوله: ستکون فتن. لا انه يشير الي الزمان الذي تقع فيه، کما هو الوجه في الأطروحة الاولي. فانه لا ذکر للزمان في هذه الروايات أصلا. فيکون المراد: ان القاعد عن تأجيج الفتن و اثارتها و المشارکة فيها خير من القائم و القائم خير من الساعي. فان المشارکة فيها، کلما کانت أقل، کان أفضل.

و معه يکون مضمونها صحيحا و مطابقا للقواعد. فان المشارکة في الفتنة مستلزم للانحراف و الفساد لا محالة، و هو مما لا يرضاه النبي (ص) لأمته، وينصح بالتجنب عنه. و هذا في غاية الوضوح. و معه تخرج هذه الروايات عن کونها آمرة بالعزلة. و انما هي تأمر بالانعزال عن الفتن لا عن العمل ضدها. بل قد يقال: ان فيهادلالة علي جواز العمل ضد الفتن بل علي وجوبه. فانهذا العمل قد يکون هو الملجأ الوحيد للتخلص من الفتن. و قد أمر (ص) أن: «من وجد فيها ملجأ فليعذ به».

و علي هذه الأطروحة عدة قرائن مرجحة لها من عبائر هذه الأحاديث الشريفة:



[ صفحه 338]



القرينة الأولي:

قوله (ص): من تشرف لها تستشرفه.

فان المراد أن من تعرض للفتن أثرت الفتن عليه و جرفته بتيارها. يقال: تشرف للشي ء اذا تطلع اليه. و استشرف: انتصب. و من المعلوم أن الغالب من أفراد الأمة، ممن لا عمق له في التفکير، و لا دقة في النظر، بمجرد اطلاعهم علي المذاهب و الفلسفات اللاسلامية، تنتصب هذه المذاهب في أذهانهم، بمعني أنهم يرون لها هيبة و هيمنة، و يکونون في طريق الاعتراف بها و التصديق بمضمونها... فيودي ذلک بهم الي الانحراف عن الاسلام.

و أما العمل الذي يعطي للفرد و الأخرين المناعة عن الفتن و الفرصة الکافية للاضطهاد و مناقشتها، فهو من أعظم الأعمال الاسلامية، و مما لا تنقيه هذا الروايات، طبقا لهذه الأطروحة.

القرينة الثانية:

قوله: الساعي اليها.

فان السعي اليها متضمن للتعرض لها و السير في رکابها. و منه نعرف أن المراد مما سبقه من القيام في الفتنة و المشي فيها هو ذلک أيضا. و معه لايکون لها أي تعرض للنهي عن العمل ضدها أصلا.

القرينة الثالثه:

قوله: من وجد فيها ملجا فليعذ به، بعد أن تفهم أن (في) بمعني (من) فکأنه قال: من وجد منها. و لا شک أن المراد هو ذلک علي أي حال.

و الوجه في هذه القرينة: أن الملجأ لا ينبغي أن نفهم منه خصوص المکان المنزوي أو البعيد، بل نفهم منه کل منقذ من الفتنة و ما هو مبعد عنها. و من المعلوم أن الارتباط بأهل الحق، و اتخاذ العمل الاسلامي، خير ملجأ ضد تيارات الفتن و الانحراف.

نعم، لو انحصر حال الفرد في النجاة من الفتنة أن يفر عنها و يبتعد منها، وجب عليه ذلک، بأن يلحق بالأرياف اذا کان له فيها غنم أو ابل! بتعبير الرواية.



[ صفحه 339]



و لعل سبب الترکيز علي هذا الشکل من السلوک، في هذه الأحاديث. هو أن أغلب أفراد الأمة الاسلامية في أغلب عصور الغيبة الکبري، جاهلون بتفاصيل الشرع الاسلامي و عدم العمق فيه عمقا يعطي المناعة الکافية عن الانحراف و التأثر بالمبادي ء الغريبة و الاراء المريبة. اذن يکون الواجب علي الفرد اذ يشعر بسموولية صيانة نفسه من ذلک کله.. أن يعتزل المجتمع و يضحي بالغالي و النفيس في سبيل دينه.. و ان ألقي به الاعتزال في الريف. و هذا حکم صحيح علي القاعدة، کما ذکرنا في الصورة الرابعة للعزلة.

و هذا لايعني، أن الفرد المسلم الذي يجد من نفسه قوة في الصمود و قابلية علي مجابهة التيار الظالم،يجب عليه أيضا أن يعتزل. کلا. بل يجب عليه أن يعمل و أن يخطط لأجل اعلاء کلمة الله و ترسيخ الفهم الاسلامي في نفوس الاخرين.


پاورقي

[1] أنظرالبخاري، ج 9، ص 94. و مسلم، ج 8، ص 168.

[2] ج 8، ص 169.

[3] طه. 40:20.

[4] ص 24:38.

[5] البروج: 49:5.