الانتظار
ان من التکاليف المطلوبة في عصر الغيبة: الانتظار.
و ننطلق الي الحديث عن ذلک ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولي:
في مفهوم الانتظار.
ان المفهوم الاسلايم الواعي الصحيح للانتظار، هو التوقع الدائم لتنفيذ الغرض الالهي الکبير، و حصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الکامل بقيادة و اشراف الامام المهدي عليه السلام.
و هذا المعني مفهوم اسلامي عام تشترک فيه المذاهب الکبري في الاسلام، اذ بعد احراز هذا الغرض الکبير و تواتر أخبار المهدي عن رسول الاسلام (ص) بنحو يحصل اليقين بمدلولها و ينقطع العذر عن انکاره أمام الله عزوجل. و بعد العلم باناطة تنفيذ ذلک الغرض بارادة الله تعالي وحده، من دون أن يکون لغيره رأي في ذلک، کما سبق. اذن فمن المحتمل في کل يوم أن يقوم المهدي (ع) بحرکته
[ صفحه 292]
الکبري لتطبيق ذلک الغرض، لوضوح احتمال تعلق ارادة الله تعالي به في أي وقت.
لا ينبغي أن تختلف في ذلک الأطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) عن غيرها... اذ علي تلک الأطروحة، ياذن الله تعالي له بالظهور بعد الاختفاء، و أما بناء علي الأطروحة الأخري القائلة: بأن المهدي (ع) يولد في مستقبل الدهر و يقوم بالسيف، فلاحتمال ؤن يکون الان مولودا، و يوشک أن يأمره الله تعالي بالظهور. و هذا الاحتمال قائم في کل وقت. بل أن لمعني الانتظار مفهوما أعم من الاسلام و أقدم. أما قدمه فلما ذکرناه من تبشير الأنبياء باليوم الموعود، فالبشرية کانت و لا زالت تنتظره، و إن تحرفت شخصية القائد و عنوانه علي ما ذکرناه. و ستبقي تنتظره ما دام في الدنيا ظلم و جور. و أما عمومه فباعتبار التزام سائر أهل الأديان السماوية به، مع غض النظر عن الاسم.
و هذا بنفسه، ما يجعل المسوولية في عهدة کل مومن بهذه الأديان، و خاصة المسلم منهم. في أن يهذب نفسه و يکملها و يصعد درجة اخلاصه و قوة ارادته، لکي يوفر لنفسه و لاخوانه في البشرية شرط الظهور في اليوم الموعود.
النقطة الثانية:
لا يکون الفرد علي مستوي الانتظار المطلوب، الا بتوفر عناصر ثلاثة مقترنة: عقائدية و نفسية و سلوکية. و لولاها لايبقي للانتظار ؤي معني ايماني صحيح، سوي التعسف النفسي المبني علي المنطق القائل: اذهب أنت و ربک فقاتلا، أنا ههنا قاعدون... المنتج لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل ايجابي في سبيل ذلک.
العنصر الأول:
الجانب العقائدي... و يتکون برهانيا من ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
الاعتقاد بتعلق الغرض الالهي باصلاح البشرية جميعا، و تنفيذ العدل المطلق فيها في مستقبل الدهر. و ان ما تعلق به الغرض الالهي و الوعد الرباني في القران لا يمکن أن يتخلف. و قد سبق أن عرفنا برهانه.
[ صفحه 293]
الأمر الثاني:
الاعتقاد بأن القائد المظفر الرائد في ذلک اليوم الموعود، هو الامام المهدي (ع)، کما تواترت بذلک الأخبار عند الفريقين، بل بلغت ما فوق حد التواتر. و قد علمناأن ذلک ضروري الثبوت.
الأمر الثالث:
الاعتقاد بأن المهدي القائد هو محمد بن الحسن العسکري (ع)... الأمر الذي قامت ضرورة المذهب الامامي. و قامت عليه الأعداد الضخمة من أخبارهم... و وافقهم عليه جملة من مفکري العامة و علمائهم کابن عربي في الفتوحات المکية. و القندوزي في ينابيع المودة و الحمويني في فرائد السمطين، و الکنجي في البيان... و غيرهم.
و المعتقدون بهذه الأمور، و ان کانوا علي بعض الاختلاف، الا أننا ذکرنا في فصل (التخطيط الالهي) أن الأمرين الأولين يرجعان الي الثالث في نتائجهما و تطبيقاتهما، فيمکن الاعتقاد بها جميعا بدون أي تناف أو اختلاف.
العنصر الثاني:
الجانب النفسي للانتظار. و يتکون من أمرين رئيسيين:
الأمر الأول:
الاستعداد الکامل لتطبيق الأطروحة العادلة الکاملة عليه، کواحد من البشر، علي أقل تقدير، ان لم يکن من الدعاة اليها و المضحين في سبيلها.
الأمر الثاني:
توقع البدء بتطبيق الأطروحة العادلة الکاملة أو بزوغ فجر الظهور في أي وقت... لما قلناه من أنه منوط بارادة الله تعالي، بشکل لايمکن لغيره التعيين أو التوقيت. و من المحتمل أن يشاء الله تعالي ذلک في أي وقت. مضافا الي الأخبار الدالة علي حصوله فجأة بغتة، و سنروي طرفا منهافيما يأتي.
و هذا الشعور يمکن أن يوجد في نفس الفرد المؤمن باليوم الموعود، طبقا لأي من الأمور الثلاثة في العنصر الأول، و طبقا لمجموعها أيضا. و يکون شعورا طيبا علي
[ صفحه 294]
نفسه مرضيا لضميره، باعتبار ما يتضمنه من شعور بالاخلاص تجاه نفسه و مجتمعه و أمته... و هي الجهات التي سوف ينتشلها اليوم الموعود من المشاکل و الظلم.
و اذا تم لدي الفرد الشعور بهذين الأمورين في نفسه، فقد تم لديه العنصر الثاني، و استطاع أن يتقبل بسهولة و رحابة صدر العنصر الاتي.
العنصر الثالث:
الجانب السلکوکي للانتظار.
و يتمثل بالالتزام الکامل بتطبيق الأحکام الالهية الساريد في کل عصر، علي سائر علاقات الفرد و أفعاله و أقواله، حتي يکون متبعا للحق الکامل و الهدي الصحيح، فيکتسب الارادة القوية و الاخلاص الحقيقي الذي يوهله للتشرف بتحمل طرف من مسووليات اليوم الموعود.
و هذا السلوک ضروري و ملزم لکل من يومن باليوم الموعود، علي أي من المستويات السابقة، فضلا عن مجموعها. و بخاصة المسلمين الذين قام البرهان لديهم بأن المهدي (ع) يطبق أطروحته العادلة الکاملة متمثلة في أحکام دينهم الحنيف.
و أما المسلم الامامي الذي يعلم بأن قائده معاصر معه، يراقب أعماله و يعرف أقواله، و يأسف لسوء تصرفه... فهو مضافا الي وجوب اعداد نفسه لليوم الموعود، يجب أن يکون علي مستوي المسوولية في حاضره أيضا، و في کل أيام حياته، لکي لا يکون عاصيا لقائده متمردا علي تعاليمه. و هذا الاحساس نفسه، يسرع بالفرد الي النتيجة المطلوبة، و هو النجاح في التمحيص، و الاعداد لليوم الموعود.
و اذا کان الفرد علي هذا المستوي الرفيع، استطاع أن يحرز الخير، علي مستويات أربعة.
المستوي الأول:
احراز الخير لنفسه في دنياه و آخرته. أما في آخرته، فباعتبار رضاء الله عز و جل. و أما في دنياه، فباعتبار أمرين: أحدهما: السلوک العادل الذي يتخذه الفرد و المعاملة الصالحة و العلاقات الجيدة التي يعامل بها الاخرين. و ثانيهما: أنه يصبح
[ صفحه 295]
علي مستوي المسؤؤلية لتحمل مواجهة القيادة في اليوم الموعود، اذا بزغ فجره. المستوي الثاني:
احراز الخير لأمته،باعتبار أنه اذ يعد نفسه الاعداد الصالح، فانه يشارک في تهيئه شرط اليوم الموعود، بمقدار تکليفه و قدرته،فيکون قد تسبب الي الخير کل الخير لأمته.
المستوي الثالث:
احراز الخير، لا لأمته فحسب، بل للبشرية جمعاء. فان الخير الناتج من ايجاد شرط الظهور،عام لکل البشر، و المشارکة في ايجاده مشارکة في ايجاد العدل الکامل السائد في اليوم الموعود.
و هذه المستويات الثلاثد،مما تقتضيه العقائد الاسلامية العامد المشترکة بين سائر المذاهب.. بل مما يقتضيه الاعتراف باليوم الموعود، في أي دين من الأديان.
المستوي الرابع:
ان الفرد بمساهمته في ايجاد شرط الظهور، يساهم في ارضاء امامه المهدي (ع) و جلب الراحد اليه... بالنسبة الي الشعور بزيادة المومنين و قلة العاصين، و المشارکة الحقيقية في الاعداد للهدف الکبير.
و هذا المستوي خاص بالأطروحة الامامية لفهم المهدي (ع).
فهذه هي الجهات الأساسية التي يجب أن يتخذها الفرد، لکي يکون علي المستوي الاسلامي المطلوب للانتظار.
النقطة الثالثة:
في حث فکرة المهدي (ع) علي العمل.
اتضح مما ذکرناه في النقطتين السابقتين، و غيرهما، ما هو الحق في الجواب علي الشبهة القائلة: بأن انتظار الامام المهدي (ع) سبب للتکاسل عن الاصلاح و ترک
[ صفحه 296]
العمل الاجتماعي، و عدم معارضة الظلم و الظالمين، اعتمادا علي اليوم الموعود و الاصلاح المنشود.
أو انطلاقا من الاعتقاد بأن المهدي (ع) لايظهر حتي تمتلي ء الأرض ظلما وجورا، اذن فيجب توفير الظلم و الجور و ترک العمل استعجالا لظهور المهدي (ع).
و يتم النظر في جواب هذه الشبهة علي مستويات ثلاثه، باعتبار أن الأوساط التي تمر هذه الفکرة بين ظهرانيهم علي ثلاثة أقسام رئيسية، تتخذ عند کل واحد منهم طابعا معينا، ونتيجة خاصة تختلف عن الاخرين.
المستوي الأول:
أوساط المنکرين للمهدي (ع) علي الأساس المادي، أو ما يمت اليه بصلة. أولئک الذين لايجدون دليلا علي مدعاهم الا بمجرد الاستبعاد و التشکيک، فهم يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بما يدعون و لعلهم يستطيعون ابعاد المهدويين عن مهدويتهم و تشکيکهم في معتقدهم!!.
وليت شعري: أن المادية سبق أن قالت: بأن الذين أفيون الشعوب و مخدرها. فکيف بالاعتقاد بالمهدي الذي هو بعض فروعه.
و قد أجاب الالهيون:- و معهم الحق - بأن الدين کان و لا يزال أساس الثورات و المعارضات و المطالبة باقامة الحق و العدل علي مدي التاريخ،و أکبر مثير للعواطف الانسانية علي طول الخط. و نظرة واحدة الي تاريخ البشرية مع شي ء من الموضوعية و التجرد تثبت ذلک. و قد قلنا و سنقول في العقيدة المهدوية مثل ذلک علي ما سيأتي عن قريب.
المستوي الثاني:
أوساط المؤمنين بالمهدي (ع) الذين يتصفون بصفتين مهمتين:
الأولي: التقاعس عن العمل أساسا، و تقديم المصلحة الخاصة علي المصالح العامة عموما.
الثانية: ان المفاهيم الاسلامية تنطبع في أذهانهم بشکل ناقص و محاطي ء، بشکل تصلح تبريرا للواقع الفاسد، أکثر من أي شي ء آخر.
[ صفحه 297]
و تنطلق الشبهة في هذه الأوساط من الاعتقاد الذي ذکرناه بأن المهدي (ع) لا يظهر حتي تمتلي ء الأرض جورا و ظلما، کما ورد في الحديث المتواتر عن النبي (ص)، اذن يفهمون من ذلک: أنه يجب توفيرالظلم و الجور، و ترک العمل ضده، استعجالا لظهور المهدي (ع).
المستوي الثالث:
مستوي الأوساط التي تعتقد بأن العمل الاسلامي ضد الظلم و الظالمين، غير موثر بأي حال.
و هولاء هم اليائسومن الذين سيطرت هيبة الانحراف و هيمنة الظلم السائد في البشرية علي نفوسهم، فاعتقدوا بعدم جدوي أي شي ء من الاصلاح أو الأمر بالمعروف في هذا المجتمع الفاسد. و من ثم اضطروا الي السکون و ترک العمل، انتظارا لظهور المهدي (ع) ليکون هو الرائد الأول في اصلاح العالم.
فهذه هي أهم الشبه التي تعيش في أذهان بعض المستويات، و يمکن أن نعتمد علي معارفنا السابقة في مناقشة هذه الأفکار. و ذلک انطلاقا من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول:
ان مشارکة الفرد و المجتمع في ايجاد شرط الظهور، لا يکون الا بالعمل الجاد المنتج لرفع درجة الاخلاص و الشعور بالمسوولية، ليکون في امکان المخلصين المشارکة في مهام هداية العالم عند الظهور.
و قدعرفنا کيف وقع ذلک کقضية رئيسية في التخطيط الالهي اليوم الموعود، و ان عنصر التمحيص و الاختبار في ظروف العالم و الانحراف، هو العنصر الأکبر في ايجاده.
الوجه الثاني:
ما عرفناه من أنه يجب علي الفرد أن يجعل نفسه علي مستوي رضاء الامام المهدي (ع) قبل ظهوره و بعده. ولن يکون کذلک الا اذا کان متمثلا للأحکام الاسلامية بدقة، سواء ما کان منها علي المستوي الشخصي أو علي المستوي الاجتماعي. و لن يحرز رضاء الامام بطبيعة الحال، بالاقتصار علي الجانب
[ صفحه 298]
الشخصي من أحکام الاسلام، لأن في ذلک عصيانا للأحکام الاجتماعية و الاصلاحية. و هو ما لايرضاه الله تعالي و لا رسوله و لاالمهدي.
اذن فالاعتقاد بوجود القائد الرائد، باعث أي باعث علي العمل الاجتماعي و الاصلاحي. و لا يکاد يوجد هذا الباعث بدون هذا الاعتقاد الا بشکل ضئيل. و انما انصرف عموم الناس عن العمل نتيجة لتناسيهم قائدهم و تغافلهم عن مسوولياتهم تجاهه.
الوجه الثالث:
أننا لو غضضنا النظر - جدلا - عن الوجهين السابقين، و فرضنا أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) ليس له أي أثر في الحث علي العمل الاجتماعي المثمر. فهو - علي اي حال - ليس موجبا لمنع عنه و الحث علي ترکه. فلو وجد هناک دافع آخر للعمل، أمکن أن يوثر أثره بکل وضوح، و يعمل عمله في العقول والقلوب المخلصة.
و السر في ذلک واضح علي الصعيد الاسلامي، کل الوضوح. باعتبار أن الأحکام الاسلاميد الموجودة في الکتاب والسنة، کانت و لا زالت معروفة و سارية المفعول، و لا زال الناس مسوولين عن تطبيقها امتثالهابکل تفاصيلها. و من الواضح أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) لايرفعها و لا يخصصها لضرررة الدين و اجماع المسلمين. و ليس علي الفردالمسلم الذي يريد الاطاعة و الامتثال، الا أن يراجع الأحکام الاسلامية ليعرف ما فيها من جوانب شخصية و جوانب عامة... لکي يطبقها علي حياته الخاصة و العامة، و يباشر العمل الاجتماعي العام طبقا للتکليف الاسلامي بالجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنکر أو مکافحة الظلم. و هذا لا ينافي بحال، عمل الفرد علي صعيد عام،تارة أري فيما بعد الظهور، لو حدث اليوم الموعود خلال حياته.
و أما الفرد الذي يسير في طريق الانحراف، و يبيع دينه بدنياه، و يقدم مصلحته الخاصة و شهواته علي کل اعتبار، فهو من الطبيعي أن لا يکون الاعتقاد بالمهدي (ع) دافعا له علي العمل، بعد أن لم يکن الاعتقاد بالاسلام نفسه دافعا له. و هذاتقصير في الفرد و ليس قصورا في الفکرة کما هو واضح.
[ صفحه 299]
و أود أن أشير في هذاالصدد الي ملاحظات ثلاث، لعلها تلقي بعض الضوء علي أهمية العمل الاسلامي، في عصر ما قبل الظهور:
الملاحظة الأولي:
أننا برهنا خلال عرضنا المتخطيط الالهي: أن ما يرفع درجةالاخلاص في الأمة و يوجد شرط الظهور، هو العمل ضد الظلم فعلا - و معه ينبغي أن يمر الفرد فعلا في ظروف الظلم و الانحراف، لکي يعمل ضده،حتي يتصاعد اخلاصه و تقوي ارادته.
و من هنا نعرف أن الفرد الذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم، أو أن المجتمع الذي يعيش في الرفاه النسبي بعيدا عن هذه الظروف. فانه لن يعمل و لن يستطيع الوصول الي حد الوعي و الاخلاص المطلوب. و لو وصل الي شي ء، فانما يصل اليه ببطء شديد، و يکون ضحلا و قليلا.
کما أن الأمة اذا شاع بين ظهرانيها الظلم و التعسف، و کانت راضية به مستخذية تجاهه، لايوجد العمل فيها ضده، و لا التفکير لرفعه أو التخفيف منه. اذن فسوف تکون أمة خائنة يتسافل اخلاصها و ينمحي شعورها بالمسوولية، و تحتاج في ولادة ذلک عندها من جديد الي زمان مضاعف و دهر طويل و (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بانفسهم). [1] و ليت شعري کيف يکون هولاء علي مستوي اصلاح البشرية کلها في اليوم الموعود، و هم قاصرون عن اصلاح مجتمعهم الصغير؟!!.
اذن فالتفکير الجدي و العمل هو الأساس لتصعيد درجة الاخلاص و الشعور بالمسوولية و المران علي الصمود و التضحية هو الشرط الأساسي لتکفل مهم اليوم الموعود. فمن السخف ما قيل: بأن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) دافع علي الاستخذاء و ترک العمل.
الملاحظة الثانية:
ان تصعيد درجة الاخلاص، قد يکون قائما علي أساس الاضطرار و قد يکون بالاختيار.
[ صفحه 300]
أما قيامه علي أساس الاضطرار، [2] فهو الأمر العام الذي يقتضيه التمحيص الالهي، بشکل رئيسي. فان الأفراد في حبهم لذاتهم و تفضيلهم للراحة، لا يميلون عادة - الي العمل الاجتماعي العام، لما فيه من شعور بالجهد و المسوولية. و من ثم فهم لا ينطلقون نحو الا تحت وطاة من الاضطرار و الشعور بالضغظ و الاحراج. و من ثم کان لابد في حملهم علي العلم العام من ايکالهم الي الظروف الصعبة الظالمة. و من ثم انعقد التخطيط الالهي علي حمل الأمة علي العمل الاضطراري بهذا المعني، لأجل تحقيق مصالحها الکبري في يوم الظهور.
و أما قيام الاخلاص و الوعي علي أساس الاختيار، فباندفاع المکلف الي العمل أزيد من مقدار الاضطرار و الاحراج، بمجرد شعوره بالمطلوبية الاسلامية له، الزاما أو استحبابا... بأن يکون علي الدوام معارضا للظلم داعيا الي الحق هاديا الي سبيل ربه بالحکمة و الموعظة الحسنة.
صحيح، ان الاندفاع الي ذلک، يحتاج الي درجة کبيرة من الوعي و الاخلاص و قوة الارادة، لايتوفر الا للقليل... الا أنه - علي أي حال - ليس هو المستوي المطلوب توفره في المشارکة في قيادة العالم کله في يوم الظهور. و انما يکون العمل الاختياري أو ما نسميه بالتمحيص الاختياري مضافا الي التمحيص الاضطراري، سببا لايجاد مثل هذا المستوي الرفيع.
و من الواضح ما لهذا التمحيص الاختياري، من أثر بليغ في التصعيد السريع، بشکل أعظم بکثير مما ينتجه التمحيص الاضطراري... و في التعجيل بايجاد شرط الظهور، بمقدار ما تقتضيه الظروف الثقافية و الفکرية التي يعيشها الفکر الاسلامي، في أي عصر.
اذن، فما قيمة هذه الشبهة التي تقول بأن الاعتقاد بالمهدي (ع) يمنع عن العمل الاجتماعي الاصلاحي، و لله في خلقه شوون.
[ صفحه 301]
الملاحظة الثالثة:
في فهم الحديث النبوي.
أننا بعد أن عرفناالتخطيط الالهي لليوم الموعود، نستطيع أن نفهم قوله (ص): يملأ الأرض قسطا و عدلا کما ملئت ظلما و جورا.
فالظلم و الجور، في عصر ما قبل الظهور، جزء من هذاالتخطيط، لايجاد الشرط الثاني للظهور، و هو توفير قوة الارادة و الاخلاص في الأمة بشکل عام. و قد عرفنا أن هذا يحدث في نسبة ضئيلة من البشر، و يکون الباقي علي مستوي الانحراف و الفساد.
اذن، فالأرض تمتلي ء ظلما و جورا، لکمن لا بالجبر و الاکراه، من قبل الله تعالي أو من غيره، و انما باعتبار انصراف الأعم الأغلب من الناس الي مصالحهم اندحارهم تجحاه تيار الخوف و الاغراء. و هو لاينافي توفر شرط الظهور و ترسخه في الناس، متمثلا في تلک النسبة الضئيلة عددا الضخمة أهمية و ايمانا و ارادة.
و امتلاء الأرض ظلما، أمر خارج عن اختيار الفرد بوجوده الشخصي، و انما هو ناتج عن الطبيعة البشرية بشکل عام، المتوفرة في المجتمع الناقص. و يکون تکليف الفرد اسلاميا منحصرا شرعا في تصعيد درجة اخلاصه و قوة ارادته، عن طريق مکافحة الظلم و العمل علي کفکفته و رفعه. لکي يتوفر تدريجا شرط الظهور.
و ليت شعري، ان شرط الظهور، هو هذا المستوي الايماني، و ليس هو کثرة الظلم و امتلاء الأرض جورا، کما يريد البعض أن يفکروا. لوضوح أن الأرض لو امتلأت تماما بالظلم و انعدم منها عنصر الايمان، لما أمکن اصلاحها عن طريق القيادة العامة. بل يکون منحصرا بالمعجزة التي برهنا علي عدم وقوعها، أو ارسال نبوة جديدة، و هو خلاف ضرورة الدين من أنه لا نبي بعد رسول الاسلام.
و انما تتضمن فکرة اليوم الموعود،سيطرة الايمان علي الکفر، بعد سيطرة الکفر علي الايمان... مع وجود کلا الجانبين. و هو قول الله تعالي بالنسبة الي المومنين: (ليستخلفنهم في الارض و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) و قوله (ص): يملأ الأرض قسطا و عدلا، کما ملئت ظلما و جورا.
[ صفحه 302]
النقطة الرابعة:
للبحث عن الانتظار -: في اختلاف مفهومه باختلاف عصور الدعوة الالهية.
سبق أن برهنا أن ايجاد اليوم الموعود، هو الغرض الأساسي من ايجاد البشرية... و قد خطط الله تعالي لايجاده منذ فجر الخليقة، و لا زال هذا التخطيط ساريا الي حين تحقق نتيجته النهائية و غرضه الأصيل.
و قد کان انتظار البشرية لليوم الموعود، موجودا، منذ بلغ الأنبياء السابقون عليهم السلام البشرية عن وجوده... الا أن الانتظار اکتسب صيغا متعددة بتعدد أزمنه تطور البشرية نحو ذلک الغد المنشود. فان البشرية قد مرت - بهذاالاعتبار - بأربعة عهود أو مراحل.
المرحلة الأولي:
فترة ما قبل الاسلام. و قد کان الناس خلالها يفهمون من کل نبي يبلغهم عن اليوم الموعود، أمرين مقترنين: اأولهما: الاهمال من التاريخ و ايکاله الي ارادة الله تعالي محضا. و ثانيهما: ان هذا النبي الذي يبلغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه المهمة، و انما سيوجد في المستقبل البعيد شخص ا خر يکون مضطلعا بها، و قائدا للبشرية من خلالها.
اذن، فالانتظار لم يکن حاملا لنفس المفهوم الذي يحمله في عصر الغيبة الکبري... فبينما نري أن صياته الأخيرة هي: توقع حدوث اليوم الموعود في کل حين،علي ما سبق... نري أن صيغته يومئذ کانت تتضمن العلم بعدم حدوثه السريع، و الاکتفاء بالاعتقاد بأن هذا مما سيحدث جزما في المستقبل البعيد.
و الناس في تلک المعهود، و ان لم يکونوا ملتفتين الي سر ذلک، الا أننا عرفنا باطلاعنا علي تفاصيل التخطيط الالهي. حيث عرفنا أن کلا شرطي اليوم الموعود، لم يکونا متوفرين في تلک الفترة. فلم تکن البشرية علي مستوي فهم الأطروحة العادلة الکاملة من ناحية، و لم تکن علي مستوي الاخلاص و قوة الارادة المطلوب توفرها في قيادة اليوم الموعود.
المرحلة الثانية:
فترة ما بعد الاسلام الي بدء الغيبة الصغري... حيث کانت البشرية قد
[ صفحه 303]
تلقت عن الله عزوجل أطروحتها العادلة الکاملة. و بذلک توفر أحد الشرطين السابقتين.
الا أن معني الانتظار لم يکن يختلف - مع ذلک - اختلافا جوهريا عما سبق. بمعني أن الأمل في ذلک الحين لم يکن منعقدا علي حدوث اليوم الموعود بغتة و في أي وقت. بل کان المفهوم هو تحققه في المستقبل البعيد أيضا. غاية الفرق عن المرحلة السابقة، هو احراز المسلمين: أن اليوم الموعود سوف يکون طبقا لأطروحتهم ودينهم، دون غيره.
و هذا واضح جدا، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلک اليوم من قبل النبي (ص) و الائمة المعصومين (ع) بعده. اما بالنسبة الي النبي (ص) فيکفينا اخباراته عن المهدي (ع) و أنه من ولده و عترته و أنه من ذرية فاطمة عليهاالسلام، و أنه يوجد فيملأ الأرض قسطا و عدلا، و أنه من ولد الحسين (ع) و ان صفته کذا و کذا... اذن فقائد اليوم الموعود ليس هو شخص النبي (ص)، و لن يقوم النبي (ص) بهذه المهمة الکبري، خلال حياته، کما عرفناه فلسفة ذلک فيما سبق. اذن فالانتظار في عهدالنبي (ص) کان مقترنا باليقين بعدم حدوثه الفوري في ذلک الحين.
و يبقي الانتظار في عصر الأئمة عليهم السلام، حاملا لنفس هذا المفهوم، و يمکن أن نستفيد ذلک من عدة أشکال من الأحاديث التي کانوا عليهم السلام يعلنون بها فکرة المهدي (ع) أمام الناس.
کقولهم (ع) أن المهدي هو السابع من ولدالخامس منهم [3] أو قول الامام الباقر عليه السلام: و الله ما أنا بصاحبکم. قال الراوي: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من تخفي علي الناس ولادته فهو صاحبکم. [4] فهو اذ ينفي عن نفسه أنه المهدي (ع) نعرف أن اليوم الموعود لن يتحقق ما دام في الحياة علي أقل تقدير.
و کقولهم: کيف أنتم اذا بقيتم بلا امام هدي و لا علم، يبرا بعضکم من
[ صفحه 304]
بعض... الحديث. [5] اذن فما دام أمة الهدي عليهم السلام معروفين و متصلين بالناس فالمهدي غير موجود، و من ثم فهو لن يقوم بالسيف لانجاز اليوم الموعود.
و کذلک اذا لاحظنا أخبار التمحيص، التي تنفي الظهور قبل مرور الناس بهذاالقانون. کقوله (ع): ان هذا الأمر لايأتيکم الا بعد يأس. و لا والله حتي تميزوا. و لا والله حتي تمحصوا، و لا والله لايأتيکم حتي يشقي من يشقي و يسعد من يسعد. و قد سبق. اذن فاليوم الموعود لن يتحقق ما دام الناس غير ممحصين.
و کذلک اذا لاحظنا الأخبار الدالة علي حدوث علامات الظهور، مما لم يتحقق في عصر الأئمة (ع) السابقين، کالصيحة و الخسف، و غيرها مما سيأتي. فانه ما لم توجد هذه العلامخات، لايظهر المهدي (ع)، علي ما سوف نوضحه في القسم الثالث من هذا التاريخ.
اذن، فالمسلمون في زمن النبي (ص) و الأئمة (ع) لم يکونوا ينتظرون ظهورالمهدي (ع) علي الفور، و ان کانوا قد بلغوا بشکل أکيد و شديد عن ظهوره في مستقبل الزمان.
أقول: هذا من الناحية النظرية صحيح. الا أننا نجد من الناحية العملية، أن هذه الفکرة صادقة في زمن النبي (ص). و أما في زمن الأئمة (ع): فلا تخلو هذه الفکرة من اشکال.
فاننا نجد أن توقع ظهور المهدي (ع) في ذلک الزمن کان کبيرا. سواء في ذلک القواعد الشعبية الامامية، أو غيرهم. أما غير الاماميين فواضح طبقا لفهمهم لفکرة المهدي (ع). اذ أن ولادته و قيامه بدولة الحق، ممکن بعد النبي (ص) مباشرة فصاعدا.
و أما الاماميون، فقد دلت الاخبار علي وجود هذا التوقع فيهم... بما فيها اخبار التمحيص نفسها حيث يقول الامام (ع) فيها: ان هذا الامر لا ياتيکم الا بعد يأس... أو يقول:
هيهات هيهات... لا يکون الذي تمدون اليه أعناقکم حتي تمحصوا. [6] .
[ صفحه 305]
و روي عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله ما لباسه الا الغليظ و لا طعامه الا الجشب... الحديث. [7] .
و روي عن ابراهيم بن هليل قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداک، مات أبي علي هذا الأمر، و قد بلغت من السنين ما قد تري. أموت و لا تخبرني بشي ء؟! فقال: يا أبا اسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله اعجل و ما لي لا أعجل، و قد بلغت من السن ما قد تري؟ فقال: يا أبا اسحاق ما يکون ذلک حتي تميزوا و تمحصوا و حتي لا يبقي فيکم الا الأقل... الحديث. [8] .
و هذه الأخبار واضحة جدا في التوقع و الانتظار الفوري، حتي ان أبا اسحاق لم يتصور أن يکبر سنه و لما يظهر المهدي بعد.
و کذلک اذا نظرنا الي الأخبار الدالة علي وجود توقعات من الائمة (ع) بأشخاصهم بأن يقوموا بدور المهدي (ع). کالخبر السابق عن الامام الباقر (ع): و الله ما أنا بصاحبکم... الحديث. و ما روي عن حمران بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) فقلت له: أنت القائم؟... الحديث. [9] و في حديث آخر عنه قال قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: جعلت فداک أني قد دخلت المدينة و في حقوي هميان فيه ألف دينار، و قد أعطيت الله عهدا أن أنفقها ببابک دينارا دينارا أو تجيبني فيما أسألک عنه. فقال: يا حمران سل تجب و لا تبعض دنانيرک. فقلت: سألتک بقرابتک من رسول الله صلي الله عليه و آله، أنت صاحب هذا الأمر و القائم به. قال: لا. قلت: فمن هو بأبي أنت و أمي. فقال: ذاک المشرب حمرة... الحديث [10] . و في حديث آخر [11] عن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر ولکني لست بالذي أملؤها عدلا کما ملئت جورا. و کيف أکون ذلک علي ما تري من ضعف بدني. و ان القائم هو الذي اذا خرج کان في سن الشيوع و منظر الشبان... الحديث.
[ صفحه 306]
الي أحاديث أخري من هذا القبيل.
و کذلک اذا نظرنا الي الخبر القائل: سئل أبو عبدالله عليه السلام: هل ولد القائم؟ فقال: لا. ولو أدرکته لخدمته أيام حياتي. [12] .
اذا نظرنا الي هذه الأخبار، نجد مفهوم الانتظار، و مزيد الاهتمام بظهور المهدي (ع)... ناشئنا من سبب رئيسي واحد، و هو ابهام فکرة المهدي في اذهانهم و الجهل بتفاصيلها، حتي أن حمران بن أعين و الريان بن صلت، و هما من أجلة أصحاب الائمة (ع) کانا لايزالان لايعرفان من هو القائم علي التعيين، و قد مضي من صدر الاسلام أکثر من مئة سنة.
و قد کانت لهذه الأحاديث وغيرها مما صدر من الايضاحات و التفاصيل عن هذه الفکرة، من الأئمة المعصومين عليهم السلام، أکبر الأثر في جلاء الفکرة لدي قواعدهم الشعبية و ارتفاع ابهامها تدريجا، حتي أننا نري الان بوضوح طبقا للتخطيط الالهي أنه لم يکن بالامکان القيام بدور المهدي (ع) في ذلک العصر، لعدم توفر أحد شرائط الظهور. و من ثم لم يکن المهدي (ع) مولودا، و لم يکن أحد من الائمة السابقين هو المهدي القائم بالأمر بأي حال.
و قد کان لهذا الابهام، في غير الأوساط الامامية، أثرا سيئا أحيانا، اذ فسح المجال للعديدين في.ن يستغلوا تبشير النبي (ص) بالمهدي (ع) فيدعون المهدوية لأنفسهم. و لا ننسي بهذا الصدد أن الرشيد العباسي لقب ولده بالمهدي، عسي أن يتوهم الناس أنه المهدي المنتظر.
و قد سمعنا في تاريخ الغيبة الصغري، [13] کيف أن جماعة القرامطة في الشرق الأدني و جمعا غفيرا في الشمال الافريقي قد آمنوا بمهدوية محمد بن عبيدالله العلوي جد الفاطميين، الذين حکموا مصر بعد ذلک.
المرحلة الثالثة:
- لعصور الانتظار -: عصر الغيبة الصغري، لمن يؤمن بها، و هم القواعد الشعبية الامامية.
[ صفحه 307]
و فيها - کما عرفنا في تاريخها - کان الامام المهدي (ع) موجودا يقود قواعده الشعبية في الخفاء. و لاشک أن الناس کانوا ينتظرون ظهوره في أي وقت. باعتبار ما يحسونه من ظلم و مطاردة و تعسف من قبل الحاکمين. و هم يعلمون علم اليقين بوجوده و اطلاعه علي الأوضاع الشاذة التي يعيشها المجتمع، و يعلمون أنه المذخور لازالة الظلم من العالم کله غافلين - بطبيعة الحال - عن اقتضاء التخطيط الالهي تأجيل ذلک، لعدم توفر أحد شرائط اليوم الموعود.
و لو دققنا النظر، لم نجد في رفع هذا الجو الفکري من الناس، مصلحة. بل کانت المصلحة تقتضي ايکالهم الي انتظارهم التلقائي الارتکازي، و عدم التعرض الي تصحيحه أو تکذيبه. لأنه علي أي حال، يزيد من الربط العاطفي للقواعد الشعبية المهدوية، بامامها و قائدها. لوضوح أن الأمل في کلما کان أقوي کان هذا الارتباط أبلغ و أکبر.
بل أن هناک من الأخبار ما يدل علي أن الامام المهدي (ع) نفسه کان يذکي هذه العاطفة و يوکد قرب الظهور. و قد ذکرناها في تاريخ الغيبة الصغري، و ناقشناها. [14] .
و قد يخطر في الذهن: أنه کان يمکن للناس في تلک الفترة، أن يطلعوا علي الأخبار الدالة علي توقف ظهور المهدي (ع) علي التمحيص، أو الأخبار الدالة علي حدوث علامات الظهور... لکي يعرفوا أن الظهور لم يکن ليقع في تلک الفترة، بعد وضوح أن التمحيص لم يکن حاصلا، و العلامات لم تکن حادثة.
و يمکن أن يناقش ذلک بعدة أجوبة، أوضحها: أن الفرد الاعتيادي يحتمل تحقق التمحيص المطلوب، في عصره، کما يحتمل حدوث علامات الظهور في المستقبل القريب. و من ثم يحتمل أنه لم يبق بينه و بين الظهور الا زمن قصير. و هذا الاحتمال کاف في اذکاء أوار الجو النفسي و الفکري للانتظار.
المرحلة الرابعة:
فترة الغيبة الکبري، التي لا زلنا نعيشها.
و قد قلنا أن الانتظار فيها يحمل معني توقع الظهور، و قيام اليوم الموعود في أي
[ صفحه 308]
وقت وفي کل يوم. لکونه منوطا بارادة الله تعالي لا غير. کما ورد في بيان المهدي (ع) الذي أعلن به انتهاء السفارة و بدة الغيبة الکبري، حيث قال: فلا ظهور الا باذن الله تعالي ذکره. [15] و لما ورد من أن يوم الظهور يحدث فجاة أو بغتة، کما سمعنا من مکاتبة المهدي (ع) للشيخ المفيد. و غيرها من الروايات التي سوف نذکرها.
نعم يمکن أن نلاحظ أنه في فترة بدء الغيبة الکبري، کان هناک من الدلائل علي عدم فورية الظهور، حيث نسمع من بيان انتهاء السفارة نفسه قوله عليه السلام: فقد وقعت الغيبد التامة، فلا ظهور الا باذن الله تعالي ذکره. و ذلک بعد طول الأمد و قسوة القلوب... الحديث. [16] و طول الأمد يستدعي مضي عدة سنوات، بل عدة عشرات، لابد من انتطار انتهائها، قبل توقع الظهور الفوري.
الا أن مفهوم طول الأمد، يختلف باختلاف تصور الأفراد، و مقدار وعيهم العقلي و الثقافي و الايماني. فقد لايحتاج حين يسمعه الفرد العادي لأول مرة أکثر من عدة سنوات، و بخاصة مع اناطة الظهور باذن الله تعالي مع ما يراه الفرد من قسوة القلوب فعلا و امتلاء الأرض جورا. فکان في الامکان - بحسب الجو النفسي السائد يومئذ - أن يبدأ مفهوم الانتظار الفوري بعد عدة سنوات من تاريخ هذا البيان. و لم يکن أهل ذلک العصر بحاجة الي أن يدرکوا أن المراد من طول الأمد ما يزيد علي الالف عام بقليل أو بکثير، کما ندرکه الان.
فان قال قائل: ان الانتظار للظهور الفوري، ينافي ما جعل من علامات و شرائط لليوم الموعود، فانه لايکون الا عند حصول تلک الأمور. فالانتظار للظهور الفوري انما يصح بعد حصولها، و أما قبل ذلک فينبغي أن يعود مفهوم الانتظار الي الشکل الذي قلناه في صدر الاسلام من العلم بحصول اليوم الموعود مع اليقين بعدم الظهور الفوري.
و هذا الاشکال مشابه لما أوردناه في المرحلة الثالثة: عصر الغيبة الصغري. و جوابه نفس الجواب، و ملخصه: ان العلامات يحتمل وقوعها في أي وقت ويحتمل
[ صفحه 309]
أن يتبعها ظهور المهدي (ع) بزمان قصير. و أما شرائط الظهور، فيحتمل اکتمالها و نجازها في أي وقت أيضا. و قلنا بأن وجود هذا الاحتمال في نفس الفرد کاف في ايجاد الجو النفسي للانتظار الفوري.
فان قال قائل: بأن ما عرفناه شرطا رئيسيا للظهور، مما هو غير متحقق لحد الان، هو حصول التمحيص و الامتحان للناس، و نحن نجد بالوجدان أن عددا کبيرا من الناس ان لم يکن جميعهم أو أکثرهم، غير ممحصين، و لا تصل نتائج اختبارائهم الي نهايتها.
قلنا: أنه يمکن الجواب علي ذلک بوجهين:
الوجه الأول:
ان هذا الکلام يتضمن جهلا بمعني التمحيص و الاختبار، فان المراد منه ليس هو تمحيص الأفراد کأفراد خلال أعمارهم القصيرة، لکي نتوقع أن يصل کل فرد خلال حياته الي النتائج النهائية للتمحيص.
بل المراد تمحيص الأمة أو البشرية في أمد طويل،بشکل منتج لتمحيص الأفراد، في نهاية المطاف. و يتم ذلک عن طريق ما نسميه ب«قانون الترابط بين الأجيال» فان کل جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوي فکري وثقافي الي الجيل الذي يليه. و يکون علي الجيل الاخر، أن يأخذ بهذا المستوي قدما الي الامام. ثم أنه يعطي نتائجه الي الجيل الذي بعده و هکذا..
و کذلک الحال بالنسبة الي نتائج التمحيص، فان کل جيل يوصل إلي الجيل الذي يليه. و يکون علي الجيل الاخر، أن يأخذ بهذا المستوي قدما الي الامام. ثم انه يعطي نتائجه الي الجيل الذي بعده و هکذا...
و کذلک الحال بالنسبة الي نتائج التمحيص، فان کل جيل يوصل الي الجيل الذي يليه، ما يحمله من مستوي في الايمان و الاخلاص... فيصبح الجيل الجديد، قد وصل بالتلقين الي نفس الدرجة - تقريبا - من التمحيص التي وصلها الجيل السابق. ثم أن الجيل الاخر بدوره سيمر بتجارب و سيقوم بأعمال معينة و سيصادف ظروف الظلم و الاغراء، فيتقدم في سلم التمحيص درجة أخري، و هکذا.
و يقانون تلازم الأجيال، سيأتي علي الأمة زمان، يکون الجيل الذي فيها، ق انتج التمحيص الالهي فيه نتيجته المطلوبة. حيث ينقسم المجتمع الي قسمين منفصلين: الي من فشل في التمحيص فاختار طريق الضلال محضا. و هم الأکثر
[ صفحه 310]
الذين يملأون الأرض جورا و ظلما... و الي من نجح فيه فاختار طريق الهداية و الاخلاص محضا. و بوجود هذه المجموعة يتحقق شرط الظهور.
اذن، فکيف يمکننا أن ندعي العلم بعدم تمحيص أکثر الناس، کما قلناه في السوال. مع أن النتيجة الکفرة و المنحرفين، فان التمحيص قد انتج تطرفهم الي جهة الضلال. کما أنه واضح بالنسبة الي عدد من المومنين المخلصين، حيث تطرفوا الي جهة الهدي و الايمان. و هذه هي نتيجة التمحيص.
نعم، قد تتعلق الارادة الاهية، بتاکيد التمحيص و تشديده أکثر مما هو عليه الان، متوخية تعميق اخلاص المخلصين، لکي يکونوا بحق علي المستوي المطلوب لقيادة العالم في اليوم الموعود.
و علي أي حال، فيبقي شرط الظهور محتمل الانجاز في أي وقت، فلا يکون منافيا مع مفهوم الانتظار الفوري.
الوجه الثاني: ان التمحيص الدقيق المأخوذ في التخطيط الالهي، لايجب ان ينتج نتيجة واضحة فعلية کاملة، بالنسبة الي کل البشر و انما اللازم هو أن يصل الي هدفه، و هو ايجاد شرط الظهور.
بيان ذلک: أن التمحيص يکون علي مستويين:
المستوي الأول:
ما يکون من موقف کل فرد تجاه مصالحه و شهواته. و هذا التمحيص موجود بوجود البشرية و وجود مفاهيم الحق و العدل المعلنة بين الناس. و لا ينقطع الا بانتهاء البشرية. لا يختلف في ذلک عصر الغيبة عن عصر الظهور. فان عصر الظهور ينتج ايضاح الحق و سيطرته علي العام. ولکنه لايقوم بتبديل الغرائز و الشهوات.
المستوي الثاني: ما يکون من موقف الفرد تجاه تيارات الظلم واضطهاد الظالمين. و هو تمحيص خاص بما قبل الظهور، لعدم وجود الظلم و الظالمين بعده. و هذا هو العنصر المهم الذي أسه التخطيط الالهي لتحقيق شرط الظهور.
و شرط الظهور لو کان هو حصول النتيجة في کل البشر، لکان حصولها
[ صفحه 311]
ضروريا قبل الظهور، کما قال السائل... ولکن شرط الظهور ليس بهذه السعة، و انما هو حصول عدد من ذوي الاخلاص القوي و الارادة الماضية، بمقدار کاف لغزو العالم و السيطرة علي البشرية بأطروحة الحق.
و حينما يحصل هذا المقدار من الناس، تکون نتيجة التمحيص الکاملة، قد تمخضت بالنسبة اليهم، باحرازهم درجة الاخلاص العليا. کما تکون قد تمخضت بالنسبة الي آخرين في التطرف نحو الانحراف و الفساد.
و أما البشر الاخرون، فلا مانع أن يصلوا الي بعض درجات التمحيص و يقفوا. و تبقي الدرجات العليا من مواقفهم وردود فعلهم غامضة غير ممحصة. و هذا کما هو ثابت بالنسبة الي أغلب البشر قبل نهايات الغيبة، کذلک يمکن أن يکون ثابتا بالنسبة الي بعضهم عند أول الظهور أيضا.
ولکننا - بهذاالصدد - يجب أن نتذکر الدرجات الثلاث، للاخلاص، التي قلناها... و کلها نتيجة للتمحيص و ان اختلفت مراتبها و مداليلها. و ما قلناه قبل أسطر و ان کان صحيحا في درجة الاخلاص العليا، فانه لايحصل الا في عدد معين من البشر. ولکن الدرجة الثانية و الثالثة من الاخلاص، تحصل في أعداد ضخمة من الناس، قد تشکل أکثر البشر في الجيل المعاصر للظهور. و يکون الظهور بنفسه ظرفا جديدا تتفتح فيه مواهب العديد من الناس علي النحو الموجه المطلوب. علي ما سوف نسمع في التاريخ القادم.
و علي أي حال، فمن المحتمل علي الدوام و في أي وقت، أن يکون العدد الکافي لغزو العالم قد تحقق، و ان شرط الظهور قد توفر. فيکون الظهور علي هذا التقدير - فوريا او قريبا جدا. و احتمال تحقق الشرط کاف في احتمال فورية الظهور. و معه يکون مفهوم الانتظار الفوري، موجودا خلال عصر الغيبة الکبري.
پاورقي
[1] الرعد 11:13.
[2] لاينبغي الخلط بين الاضطرار و بين الاکراه. فان الاضطرار يمثل حاجة شديدة مع انحفاظ الارادة معها، کمن يبيع داره من أجل دين کبيرعليه. و الاکراه لا تنحفظ معه ارادة کمن باع داره تحت و طأة التهديد بالقتل، أو تحت الضرب الشديد مثلا. ولکل منها «اختيار» يقابله.
[3] انظر مثلا منتخب الأثر ص 212.
[4] انظر اکمال الدين المخطوط.
[5] نفس المصدر.
[6] أنظر غيبة النعماني ص 111.
[7] غيبة النعماني ص 122.
[8] نفس المصدر ص 111.
[9] غيبة النعماني ص 115.
[10] المصدر ص 115 - 114.
[11] اعلام الوري ص 407.
[12] المصدر ص 129.
[13] أنظر ص 353 و ما بعدها.
[14] انظر ص 584 و ما بعدها.
[15] انظر تاريخ الغيبة الصغري ص 634، و غيبة الشيخ الطوسي ص 243.
[16] نفس المصدرين و الصفحتين.