بازگشت

التخطيط الالهي بعد الاسلام


و نعني به ذلک الجزء من التخطيط الالهي الذي يبدأ بظهور الاسلام، و ينتهي باليوم الموعود. و ينبغي أن نري موقف الاسلام من هذا التخطيط، و موقف قادته منه، و أثرهم فيه.

النقطة الأولي:

الاسلام هو الأطروحة العادلة الکاملة، المذخورة للتطبيق في اليوم الموعود.

يدلنا علي ذلک: الأدلة القطعية الدالة علي أن الاسلام آخر الشرائع السماوية، و أنه لانبي بعد نبي الاسلام و ان «حلال محمد حلال الي يوم القيامة و حرامه حرام الي يوم القيامة». فلو کان ناقصا لما حقق الغرض الالهي الکبير، و لوجب علي الله تعالي تحقيق غرضه المهم بايجاد أطروحة أخري الالهي الکبير، و لوجب علي الله تعالي تحقيق غرضه المهم بايجاد أطروحة أخري کاملة ينزل بها نبي آخر. و هو خلاف الدليل القطعي بأنه لانبي بعد نبي الاسلام.

مضافا الي الأدلة القطعية الدالة علي عالمية الدعوة الاسلامية و استيعابها لکل المشاکل و الأحکام، و انه «ما من واقعة الا و لها حکم»، مما يجعل لها الصلاحية الکاملة، لتکون هي الأطروحة العادلة في اليوم الموعود.

و من الملحوظ بوضوح أن هذه الأدلة القطعية، منطلقة من زاوية اسلامية، و أما اذا أردنا الانطلاق من زوايا أخري، فيجب البدء باثبات صحة الاسلام و صدقه أساسا، و هذا موکول الي محله من بحوث العقائد.

و قد يقول قائل: فلماذا لم تنزل تعاليم الاسلام قبل عصر نزولها، لتکون هي الأطروحة المتوفرة منذ العصر الأول.

و جواب ذلک متوفر فيما قلناه من قصور البشرية في الأزمنة السابقة علي الاسلام عن فهم الأطروحة الکاملة. و أن الأنبياء السابقين جاهدوا في تربية البشرية لجعلها قابلة لهذا الفهم. و لا يمکن أن يرسل الله تعالي تلک الأطروحة لمن لايفهمها و لا يستطيع استيعابها، لأنها لاتنتج حينئذ أي أثر.

اذن فلا بد لنا الان من ايضاح معني قصور البشرية عن تلقي تعاليم الاسلام



[ صفحه 225]



في العصور السابقة عليه.

و في الحق أن عددا مما جاء به الاسلام من تعاليم، کان متعذرا جدا أن يستوعب البشر معناها يومئذ استيعابا کافيا... الي حد ستکون الدعوة الي تلک الأحکام منشأ للغرابة في ذلک العصر، مما يجعل مجرد الايمان بها صعبا فضلا عن استيعابها الدقيق، فضلا عن تطبيقها الشامل. و حسبنا في هذا الصدد استعراض جوانب أربعة:

الجانب الأول:

ان مستوي العقيدة الالهية التي جاء بها الاسلام من التجريد و التوحيد الخالصين، لم يکن موجودا بوضوح في الشرائع السابقه. و انما کانت هذه العقيدة في تطور مستمر، في ألسنة الأنبياء علي مرور الزمن، اذ يعطي کل نبي من تلک العقيدة ما يناسب المستوي الثقافي و الفکري الذي وصلت اليه البشرية في خطها التربوي الطويل.

و هذا واضح جدا لمن استعرض دعوات الأنبياء المتسلسلين. فنري الأنبياء السابقين علي موسي بن عمران لايکادون يذکرون من صفات اله تعالي الا ما کان ظاهرا من آثاره و أفعاله عزوجل. من أنه (يرسل السماء عليکم مدرارا و يمددکم بأموال و بنين و يجعل لکم جنات و يجعل لکم أنهارا. ما لکم لا ترجون لله وقارا، و قد خلقکم اطوارا. ألم تروا کيل خلق الله سبع سموات طباقا و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا). [1] .

الا ما کان من محاولة ابراهيم الخليل عليه السلام من محاولة البرهنة علي التوحيد، علي شکل بسيط النتائج بالنسبة الي ما جاء به الاسلام من صفات.

ثم أننا نجد اليهون الان يومنون ببعض اشکال التجسيم، و نجد المسيحيين يومنون ببعض انحاء التعدد. و هذه بالرغم من أنها عقائد باطلة نعلم باليقين انها لم ترد في شرائعهم و تعاليم انبيائهم. الا انهم، علي اي حال، لم يجدوا في ما بلغهم عن أنبيائهم ما ينافي ذلک، أو يکون دليلا صريحا علي بطلانه. و الا لم يکونوا



[ صفحه 226]



ليلتزموا بهذه العقائد بطبيعة الحال. و معني ذلک أن موسي و عيسي عليهما السلام لم يوضحا بصراحة التجرد الکامل و التوحيد المحض لله عزوجل، مواکبة مع المستوي العقلي و الثقافي للبشرية في تلک العصور.

الجانب الثاني:

ان فکرة الدعوة العالمية التي قام عليها الاسلام، لم يکن ليسيغها المجتمع الذي کان يرزح في عواطف قبلية و عنصرية و قومية، لمدة عدة مئات من السنين. و من هنا جاءت فکرة «شعب الله المختار» و اختصاص الدعوتين اليهودية و المسيحية في أنظار المؤمنين بها ببني اسرائيل دون سائر الناس.

الجانب الثالث:

ان فکرة الدولة النظامية التي جاء بها الاسلام و مارسها الرسول الأعظم (ص)، و حاول تطبيقها من جاء بعده الي الحکم من الخلفاء. أن هذه الفکرة لم يکن ليفهمها الناس قبل الاسلام، باي حال، کيف و هم يعيشون الجو القبلي و العنصري، حتي أن الملوکية في تلک العصور کالسلطة الفرعونية أو القيصرية، لم تکن الا توسيعا لفکرة السلطة القبلية و الاقطاع الذي يدعي لنفسه ملکية الأراضي و الفلاحين جميعا، و هم يمثلون الأعم الأغلب من الشعب يومئذ.

و من هنا لم يکن في الامکان أن تتکلف الديانات السابقة بايجاد النظام الاداري أو الحکومي، بأي حال. و انما کان الأنبياء و أوصياؤهم يضطلعون بقيادة شعوبهم بشکل فردي مع الحفاظ علي السلطة الدنيوية في عصورهم.

الجانب الرابع:

أننا نجد في الاسلام دقة في فهم الأحکام و في تنظيمها، في العبادات و المعاملات و العقوبات و الأخلاق، ما لا يکاد يفقهها الناس السابقون... کما يتجلي ذلک بوضوح لمن راجع الأحکام الاسلامية المعروضة في الکتاب الکريم و السند الشريفة، واطلع أيضا علي تفاصيل الأحکام المعروضة في التوراة و الانجيل، و توفر للمقارنة بينهما.

اذن، فکيف تصلح الشرائع السابقة، لأن تکون هي الأطروحة العادلة الکاملة... و کيف يصلح أهل العصور الأولي لتعقل هذه الأطروحة المتمثلة



[ صفحه 227]



بأحکام الاسلام. و معه يتضح بجلاء أنه لم يکن في الامکان نزول أحکام الاسلام قبل العصر الذي نزل فيه.

النقطة الثانية:

بعث نبي الاسلام (ص) بالأطروحة التشريعية العادلة الکاملة، بعد أن أصبحت البشرية في مستواها العقلي و الثقافي العام قابلة لفهمها و استيعاب أحکامها، لتکون هي الأطروحة المأمولة في اليوم الموعود.

ولکنه - مع شديد الأسف - لم يکن في الامکان أن يتکفل التطبيق العالمي الموعود، لعدم توفر الشرط الثاني من الشرطين الأساسيين لوجود هذا التطبيق... و لا زال هذا الشرط غير متوفر الي حد الان.

فبينما کان المانع بالنسبة الي الأنبياء السابقين عن هذا التطبيق، هو عدم توفر کلا الشرطين... نجد أن المانع بالنسبة الي نبي الاسلام هو عدم توفر شرط واحد منهما، بعد أن تمت تربية البشرية علي الشرط الاخر علي أيدي الانبياء السابقين.

و لسائل أن يقول: فلماذا تمت تربية البشرية علي أحد الشرطين و لم تتم تربيتها علي الشرط الاخر؟ بالرغم من جهود الأنبياء في الخط التاريخي الطويل.

و يمکن الانطلاق الي الجواب من زاويتين:

الزاوية الأولي:

أن توفير الشرط الأول، و هو ايجاد المستوي اللائق في البشرية من الناحية العقلية و الثقافية لفهم العدل الکامل... أسهل بکثير من توفير الشرط الثاني و هو الوصول بالبشرية الي المستوي العالي من الاخلاص و التضحية.

فان تربية الفکر و الثقافة لاتواجه عادة من الموانع و العقبات ما تواجهه التربية الوجدانية من ذلک، متمثلد في الشهوات و المصالح الخاصة، و ظروف الظلم و الاغراء، فمن الطبيعي أن تحتاج التربية الأولي الي زمن أقصر بکثير من الزمن الذي تحتاجه التربية الثانية. و من الطبيعي أن يکون البشر لدي أول نضجهم الفکري في التربية الأولي غير ناضجين وجدانيا في التربية الثانية، لأن هذه التربية لم تکن قد آتت أکلها بعد، و انما تحتاج الي توفير زمان آخر طويل حتي تتوفر نتائجها بوضوح.



[ صفحه 228]



و من هنا أمکن وصول البشر الي الحد الثقافي المطلوب، فاستحقت عرض الأطروحة الکاملة عليها و افهامها اياها... علي حين لم تکن قد وصلت الي الحد المطلوب من الناحية الوجدانية، لتستطيع تحمل القيادة العالمية بين يدي النبي (ص).

الزاوية الثانية:

ان البشرية مهما کانت قد تطورت من الناحية الوجدانية، علي أيدي الأنبياء السابقين... فانه علي أي حال غير کاف لايجاد الاخلاص المطلوب الذي به يکون تحمل مسوولية العدل العالمي الکامل في اليوم الموعود. باعتبار ضرورة أن تتربي البشرية علي الأطروحة بعد نزولها و معرفتها، بما فيها من دقة و عمق. فانه اذ يکون المطلوب هو تطبيق هذه الأطروحة، يکون الشعور بالاخلاص نحو الهدف ککل، ذلک الاخلاص الناتج من جهود الأنبياء السابقين.

فکان لابد لأجل ضمان نجاح التطبيق في اليوم الموعود، أن تمر البشرية بظروف معينة، تکفل لها التربية علي الاخلاص علي الشکل الدقيق للأطروحد الکاملة المتمثلة بالاسلام. و قد قلنا أن الهدف الالهي الأسمي، هو فوق کل الاعتبارات، فيتعين علي الأمة الاسلامية أن تعيش الظروف التي تربيها و تمحصها من جديد.

و بدأت الظروف الطارئة بالحدوث و التواتر، متمثلة في عدة أمور:

الأمر الأول:

انقطاع الوحي بموت رسول الاسلام (ص).

الأمر الثاني:

انقطاع التطبيق الناجح للشريعة الکاملة، بموت النبي (ص) أو بانتهاء الخلافة الأولي.

الأمر الثالث:

ابتناء الحکم في البلاد الاسلامية علي أساس من المصالح السياسية الظالمة المنحرفة.



[ صفحه 229]



الأمر الرابع:

ضعف المستوي الأخلاقي لدي الناس بشکل عام، و تقديمهم مصالحهم الشخصية علي اتباع تعاليم دينهم سواء علي الصعيد الفردي أو الاجتماعي.

و يکاد کل واحد من هذه الامور، فضلا عن مجموعها، أن يکون موجبا لياس الفرد العادي و الشعور بالتحلل و الابتعاد عن الاسلام.

و من هنا مکان الشخص محتاجا في استمراره علي اخلاصه و ايمانه، الي قوة الارادة و شعور بالمسوولية الاسلامية، أعلي من المستوي المطلوب. و کان الأشخاص الممثلين لهذا الاخلاص، قد نجحوا في عملية التمحيص و الاختبار الالهية، بهذا المقدار.

الا أن هذا المقدار غير کاف في ايجاد الاخلاص الذي يتطلبه القيام بمسوولية اليوم الموعود، فکان لا بد أن تمر الأمة بتمحيص ضخم و عملية غربلة حقيقية، حتي ينکشف کل فرد علي حقيقته، فيفشل في هذا التمحيص کل شخص قابل للانحراف، لأجل أي نقص في ايمانه أو عقيدته أو اخلاصه.

و کان هذا التمحيص الضخم متمثلا بطرفين مهمين تمر بهما الأمة الاسلامية بل البشرية کلها الي العصر الحاضر.

الظروف الأول:

غيبة الأمام المهدي عليه السلام، تلک الغيبة التي توجب للغافل عن البرهان الصحيح، الشک بل الانکار.

الظرف الثاني:

تيار الردة عن الاسلام، و أقصد به التيارات المعادية للاسلام، و التي تحمل بين طياتها معاني الخروج عنه و التبري من عقيدته. بما فيها تيار التبشير المسيحي الاستعماري، و تيار الحضارة الغربية المبني علي التحلل الخلقي و انکار المثل العليا. و التيارات المادية الصريحة کالشيوعية و الوجودية و غيرها... تلک التيارات التي استطاعت أن تصطاد من أمتنا الاسلامية و من العالم کله، ملايين الأفراد.

و تحت هذين الظرفين، کان التمسک بالاخلاص العالي، عمل جهادي في



[ صفحه 230]



غاية الصعوبة و التعقيد، و يحتاج الي مضاعفة علي مستواه فضلا عن الصعوبة و تکميله فکان «القابض علي دينه کالقابض علي جمرة من النار» و کان المخلصون علي المستوي العالمي، في غاية القلة و الندرة بالنسبة الي مجموع سکان العالم.. و ان کنا لو لاحظنا مراب الاخلاص الثلاثة أو الأربعة السابقة، فان النسبة تتسع عن هذاالمقدار الضيق بکثير.

و لا زالت البلايا و المحن تتضاعف، و ظروف التميص و الاختبار الالهي تتعقد و تزداد... حتي أصبح الفرد يقهر علي ترک دينه و التمرد علي تعاليم ربه، بمختلف أساليب الخوف و الترغيب. و لعل المستقبل - ان لم يأذن الله تعالي بالفرج و الظهور - کفيل بأن نواجه اشکالا من الخطر و البلاء علي ديننا و دنيانا هي أهم و أصعب مما حصل الي حد الان. فليفهم کل مسلم موقفه، و ليتلمس درجة ايمانه و يشخص مقدار قابليته علي الصمود، قبل أن يسقط في هاوية الانحراف. لکي يوطن نفسه علي الصبر و الجهاد علي کل حال ليکون له فخر المشارکة في بناء العدل العالمي في اليوم الموعود.

و قد يخطر في الذهن: ان ما قلناه من أن ظروف الظلم دخيلة في التمحيص و الاختبار الالهي، يلزم منه أن يکون الله تعالي راضيا بوجود الظلم و الانحراف، و هذا خلاف الأدلة القطعية في الاسلام.

و يمکن الجواب علي ذلک من زوايتين نذکر احداهما و نوجل الأخري الي حين اتضاح مقدماتها في مستقبل البحث.

و الزواية التي نود الانطلاق اليها الان هي أن الأدلة القطعية في الاسلام قامت علي أن الله تعالي لايريد الظلم،بمعني أنه لايجيزه تشريعا، فليس في شريعة الاسلام حکم ظالم، و ليس اي ظلم مما يقع يکون مجازا من قبل الشريعة، بل يتصف بالحرمة و الشجب حتما. اذ من الواضح أن الاسلام انما شرع ليخرج البشرية من ظلمات الظلم الي نور العدل، بل هو - کما عرفنا - يمثل العدل الکامل من جميع الجهات، بشکل لم يتحقق في اي تشريع آخر علي مددي التاريخ.

و اما بحسب التدبير التکويني لله تعالي في مخلوقاته، فمن الواضح الضروري ان الله تعالي سمح بوجود الظلم، و لم يسبب الأسباب الي قمعه قهرا و علي کل



[ صفحه 231]



حال: اذ لو کان الله تعالي لا يريد الظلم - بهذا المعني - لما وجد الظلم علي سطح الأرض.

الا أن سماحه بوجود الظلم، لا يعني قهر الظالمين علي ايجاد الظلم، بل الظلم يوجد باختيار الظالمين و بمحض ارادتهم، بعد أن وفر الله تعالي لهم فرص الطاعة و هداهم النجدين و عرفهم حرمة الظلم من الناحية التشريعية. فانحرفوا باختيارهم و أوجدوا الظلم باختيارهم، من دون أن يکون لله عزوجل اي تسبيب الي ايجاده.

اذن فالظلم غير مراد لله تعالي، لا تشريعا لانه حرمه في شريعته و نهي الناس عنه، و لا تکوينا، لأنه عزوجل لم يقهر الناس عليه. و انما غاية ما هناک أنه سمح من الناحية التکوينية بوجود الظلم في خليفته ناشئا من اختيار الظالمين، و ذلک للتوصل الي هدفين مهمين:

الهدف الأول:

المحافظة علي الاختيار و نفي الجبر الذي قام البرهان علي استحالته علي الله عز و جل. فانه لو قهره عباده علي ترک الظلم لم يکن الاختيار متوفرا کما هو واضح.

الهدف الثاني:

اجراء قانون التمحيص و الاختبار. الذي يفيد من الناحية الفزدية، بالنسبة الي کل فرد من البشرية علي الاطلاق (ليقضي الله أمرا کان مفعولا ليهلک من هلک عن بينة و يحي من حي عن بينة). [2] و يفيد من الناحية العامة باعتبار أن له أکبر الأثر في تحقق الهدف الأساسي من ايجاد الخليقة نفسها. فان المجتمع الموعود، لا يمکن أن يحدث ما لم تسبقه فترة من التمحيص لتوفير شرطه الثاني الذي عرفناه. و في ما يلي من البحوث ما يزيد ذلک جلاء و وضوحا.

النقطة الثالثة:

کما شارک الأنبياء السابقون عليهم السلام في التبشير باليوم الموعود، استمر



[ صفحه 232]



نبي الاسلام صلي الله عليه و آله و خلفاؤه المعصومون عليهم السلام و کثير من صحابته في هذا التبشير. و کان تبشيرهم اهم واوسع، باعتبار انهم يحملون الي العالم نفس الأطروحة العادلة التي سوف تأخذ طريقها الي التطبيق في اليوم الموعود. فهم أقرب الي ذلک اليوم و ألصق به من الأنبياء السابقين... و أشد مسؤولية بالتمهيد له و ايجاد المقدمات المؤدية اليه.

فکان أن اضطلع النبي (ص) و من بعده بتهيئة الذهنية العامة للاجيال، عن ذلک بالترکيز علي ثلاث قضايا مهمة:

القضية الأولي:

الأخبار بوجود الغرض الالهي الکبير، و التبشير بتحقق اليوم الموعود الذي ياخذ فيه العدل الکامل طريقه فيه الي التطبيق. و يکفينا من ذلک أن القرآن الکريم نفسه شارک في هذا التبشير حين قال: (و ما خلقت الجن و الأنس الا ليعبدون) [3] أو حين قال: (وعد الله الذين آمنوا منکم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)... الخ الاية. [4] أو حين قال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدي و دين الحق ليظهره علي الدين کله) [5] الي غير ذلک من الايات.

القضية الثانية:

التأکيد علي أن القائد الرائد لانجاز ذلک الغرض الکبير، هو الامام المهدي (ع) کما ورد في النصوص المتواترة عن النبي (ص) و هي ايضا متواترة عمن بعده. و لاثبات هذا التواتر مجال آخر. و حسبنا أنها أخبار مروية و معترف بصدقها و تواترها من قبل الفريقين.

و انما کان هذا التاکيد لکي تکون الأمة علي علم بمستقبل أمرها من ناحية، و مطلعة علي اسم قائدها العظيم من ناحية أخري. فانه لاينبغي أن تفاجا الأمة بالظهور من دون اخبار سابق. و لکي لا تکون هذه القيادة ممکنة الانتحال



[ صفحه 233]



و التزوير، و لو في حدود ضيقة، من قبل أشخاص آخرين. علي ما سنوضحه في الجهة الاتية ان شاء الله تعالي.

القضية الثالثة:

الاخبار بما سيقع في هذا العالم من ظلم و فساد، کما وردت بذلک الأعداد الضخمة من الأخبار، علي ما سنسمع في الفصل الاتي. و کان هذا الاخبار مشفوعا بذکر التکليف الاسلامي و أسلوب العمل الواعي في هذه الظروف... حتي يکون الفرد علي بصيرة من أمره عارفا بضرورة الصمود تجاه تيار الانحراف و الفساد، لکي يکتب له النجاح في التمحيص الالهي، فيکون من المخلصين المحصين الذين يکون لهم شرف المشارکة في ترسيخ قواعد العدل العالمي في اليوم الموعود.

و أما الذي يسير مع تيار الانحراف، فلا يهمه - بطبيعة الحال - أن يفهم التکليف الاسلامي الواعي، و معه يکون من الفاشلين في التمحيص و الاختبار.

و من هنا نستطيع أن نفهم بوضوح، ارتباط کل هذه القضايا التي بلغت الي الأمة، بالتخطيط الالهي لليوم الموعود.. لتشارک في اعداد أکبر عدد ممکن من المخلصين الممحصين علي طول الخط، بتهيئة الذهنية العامة لهذه الحقائق و اقامة الحجة عليها، حتي يکون الفرد المسلم علي بينة من أمره و بصيرة من دينه، فيختار سبيل الرشاد بين تيارات الانحراف، کما هو المطلوب.

النقطة الرابعة:

و قد راينا المهدي (ع) نفسه في البحوث السابقة يشارک بتهيئة الذهنية العامة للأمة لليوم الموعود، تلک التهيئة التي توفر له شروطه الأساسية. و ذلک باتخاذ خطوات ثلاث:

الخطوة الأولي:

اقامة الحجة علي وجوده بتکرار المقابلات مع عدد من الناس کبير نسبيا، خلال الغيبة الصغري و الغيبة الکبري معا. و بذلک يوسس للمسلمين أساس الصمود ضد واجهة کبري للشک في وجوده.



[ صفحه 234]



الخطوة الثانية:

اعطاء الأطروحة التامة لفکرة غيبته و ظهوره. کما سمعنا ذلک في عدد من مقابلاته و توقيعاته، في غيبته الصغري، کمقابلته مع علي بن مهزيار و توقيقعه للأسدي. [6] .

و بذلک يعطي الثقافة الکافية التي تعطي الدفع الأساسي للفرد المسلم للصمود و الثبات عن بصيرة و تفهم حقيقي للهدف المنشود.

الخطوة الثالثة:

العمل علي ازالة الظلم و الطغيان، في الحدود التي سبق ان ذکرناها في القسم الأول من هذا التاريخ.

و بذلک يعطي الفرد للمسلم فرصة أکبر للنجاح في التخطيط و التمحيص الالهيين، باعتبار قلة الموانع و التعسفات نسبيا، ضد الايمان و الاخلاص، حينئذ. مما يفسح مجالا اوسع للعمل علي طبق الاخلاص و تبليغ مؤداه الي الاخرين.

فالمهدي (ع) في کل هذه الخطوات، يسير في خط التخطيط الالهي العام لليوم الموعود، کما سبق أن سار سلفه الصالح المتمثل بالانبياء و الأئمة عليهم السلام. و کيف لايکون کذلک، و هو القائد العظيم المدخور لذلک اليوم العظيم.


پاورقي

[1] نوح: 71: 16 - 11.

[2] الانفال: 42:8.

[3] الذاريات: 56:51.

[4] سورة النور: 55 /24.

[5] التوبة: 33/9 و الفتح: 28:48 والصف: 9:61.

[6] انظر مثلا تاريخ الغيبة الصغري، ص 577 و غيرها.