في مناشي ء التخطيط الالهي
و يمکننا ان نعرض ذلک ضمن عدة نقاط:
النقطة الاولي:
ان الله تبارک و تعالي خلق الخلق متفضلا، و لم يخلقهم عبثا و لم يترکهم هملا. بل خلقهم و هو غني عنهم، لاجل حصولهم علي مصالحهم الکبري و وصولهم الي کمالهم المنشود، المتمثل باخلاص العبادة لله تعالي. قال عز من قائل: (و ما
[ صفحه 202]
خلقت الجن و الانس الا ليعبدون) [1] .
اذن فالغرض من الخليقة هو الحصول علي هذا الکمال العظيم المتمثل بتوجيه العقيدة و المفهوم الي الله عزوجل، و قصر السلوک علي طاعته و عدله في کل حرکة و سکون. و اذا نظرنا الي حقيقة هذا الکمال من جوانبه المتعددة، و استطعنا تحصيل الفکرة المتکاملة عنه، عرفنا الهدف الالهي المقصود الذي اصبح هدفا لايجاد الخليقة.
الجانب الأول:
ايجاد الفرد الکامل. من حيث أن قصر الانسان نفسه علي التربية بيد الحکمة الالهية الکبري و تحت اشرافها و تدبيرها، يوجد فيه الانسان العادل الکامل، الذي يعيش محض الحرية عن انحرافات العاطفد و المصالح الضيقة، و المساوق في انطلاقه مع انطلاقة الکون الکبري الي الله عز و جل.
الجانب الثاني:
ايجاد المجتمع الکامل، و البشرية الکاملة المتمثلة من مجموعة الأفراد الذين يعيشون علي مستوي العدل و الاخلاص، و التجرد من کل شي ء سوي عبادة الله تعالي، تلک العبادة التي تتضمن تربية الفرد و المجتمع، و الارتباط بکل شي ء علي مستوي العدل الالهي.
الجانب الثالث:
ايجاد الدولة العادلة التي تحکم المجتمع بالحق و العدل، بشريعة الله الذي لا تخفي عليه خافية في الأرض و لا في السماء. و تکون هي المسؤولة الأساسية عن السير قدما بالمجتمع و البشرية نحو زيادة في التکامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات.
فهذا هو معني العبادة المقصود في الاية، و کل ما کمان علي خلاف ذلک فهو تقصير في العبادة الحقيقية تجاه الله عزوجل. و لا يمکن ان نفهم من الاية هذا المعني القاصر بطبيعة الحال.
[ صفحه 203]
النقطة الثانية:
ان الاية واضحة الظهور في أن الغايه الاساسية و الغرض الاصلي من ايجاد البشريد هو ايجاد هذه العبادة الکاملة في ربوع البشرية، او ايصالها الي هذا المستوي الرفيع. و ذلک بقرينة وجود التعليل في قوله تعالي: ليعبدون، مع الحصر المستفاد من الاية من وقع أداة الاستثناء (الا) بعد النفي حين قال عز من قائل: (و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون).
اذن فهذا هو الهدف الوحيد المنحصر الذي لاشي ء وراءه من خلقة البشرية، المعبر عنهم بالانس. و هذا الهدف ملحوظ و مخطط بشکل خاص منذ بدة الخليقة، و يبقي - بطبيعة الحال - مواکبا لها ما دامت البشرية في الوجود.
و هذا بالضبط هو ما نعنيه حين نقول: ان الله تعالي لم يخلق البشرية لأجل مصلحته، فانه غني عن العالمين، و انما خلقهم لأجل مصلحتهم. و اي مصلحة يريدها الله لعباده غير کمالهم و رشدهم و صلاحهم المتمثل بالعبادة المخلصة و التوجه اليه بالخيرات نحوه عز و علا.
النقطة الثالثة:
ان الغرض الالهي من خلق البشرية، ما دام هو ذلک، اذن فلا بد أن يشاء الله تعلاي ايجاد کل ما يحققه و الحيلولة دون کل ما يحول عنه... شان کل غرض الهي مهم... فان الحکمة الأزلية حين تتعلق بوجود اي شي ء، فان تخلفه يکون مستحيلا، و تکون ارادة الله تعالي متعلقة بايجاده لو کان شيئا آنيا فوريا، او التخطيط لوجوده لو کان شيئا موجلا و محتاجا الي مقدمات من الضروري ان توجد قبله.
و قد برهنا في رسالتنا الخاصة بالمفهوم الاسلامي للمعجزة ان الغرض الالهي المهم اذا تعلق بهدف من الاهداف، فانه لابد من وجود ذلک الهدف، و لو استلزم بوجوده او ببعض مقدماته خرق قوانين الطبيعة، و ايجاد المعجزات. فان القوانين الطبيعيد انما اوجدها الله تعالي في کونه لاجل تنفيذ أغراضه من ايجاد الخلق. فاذا توقفت تلک الأغراض علي انخرام تلک القوانين و حدوث المعجزات أحيانا أو في کثير من الأحيان... کانت تلک القوانين الطبيعية قاصرة عن الممانعة و التأثير.
[ صفحه 204]
و هذا هو الذي يلقي الضوء علي الفکرة الأساسية التي يقوم عليها (قانون المعزات) الذي اشرنا اليه... و نوجل الغوص في تفاصيل ذلک الي رسالتنا الخاصة بها.
النقطة الرابعة:
اننا نجد بالوجدان القطعي أن هذا الغرض الالهي المهم الذي نطقت به الاية بالمعني الذي فهمناه، لم يحدث في تاريخ البشرية علي الاطلاق منذ وجودها الي العصر الحاضر. اذن فهو باليقين سوف يحدث في مستقبل عمر البشرية بشميئة خالقها العظيم. و هذه هي الفکرة الأساسية التي ننطلق فيها الي التسليم بالتخطيط الالهي لليوم الموعود.
ولئن کان المنطق الاساسي في هذا البرهان هو قوله تعالي:(و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون)... فانه يمکن الانطلاق الي نفس النتيجة من آيات قرآنية أخري نذکر منها آيتين، مع بيان الوجه في الاستدلال مختصرا، و نحيل التفصيل الي الکتاب الخامس من هذه الموسوعة الخاص باثبات وجود المهدي (ع) عن طريق القرآن الکريم.
الاية الأولي:
(وعد الله الذين آمنوا منکم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض، کما استخلف الذين من قبلهم وليمکنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشرکون بي شيئا. و من کفر بعد ذلک فاولئک هم الفاسقون). [2] .
فهذا وعد صريح من الله عزوجل، و (ان الله لا يخلف الميعاد). [3] للبشرية المؤمنة الصالحة التي قاست الظلم و العذاب في عصور الانحراف و بذلت من التضحيات الشي ء الکثير... بأن يستخلفهم في الأرض، بمعني أنه يوفقهم الي السلطة الفعلية علي البشرية و ممارسة الولاية الحقيقة فيهم. فاذا استطعنا أن نفهم
[ صفحه 205]
من (الأرض) کل القسم المسکون من البسيطة، کما هو الظاهر من الکلمة و المعني الواضح منها حملا للام علي الجنس بعد عدم وجود اي قرينة علي انصرافها الي ارض معينة. و معني حملها علي الجنس: ان کل ارض علي الاطلاق سوف تکون مشمولة لسلطة المومنين و استخلافهم و سيحکمون وجه البسيطة.
و هذا هو المناسب مع الجمل المتأخرة في الاية الکريمة، کقوله تعالي: (وليمکنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم). فان التمکين التام و الاستقرار الحقيقي للذين، لايکون الا عند سيادته في العالم اجمع. و کقوله تعالي: (و ليبدلنهم من بعد خوفهم امنا)... بعد ان نعرف ان المومنين کانوا قبل الاستخلاف يعانون الخوف في کل مناطق العالم لسيادة الظلم و الجور في العالم کله. فلا يکون الخوف قد تبدل الي الأمن حقيقة الا بعد أن تتم لهم السلطة علي وجه البسيطة کلها.
فاذا تم لنا من الاية ذلک، و لا حظنا وجداننا الذي ذکرناه و هو ان هذا الوضع الاجتماعي العالمي الموعود، لم يتحقق علي مدي التاريخ منذ فجر البشرية الي عصرنا الحاضر. اذن فهو مما سيتحقق في مستقبل الدهر يقينا طبقا للوعد الالهي القطعي غير القابل للتخلف او التمييع.
الاية الثانية:
قوله تعالي: (هو الذي أرسل رسوله بالهدي و دين الحق ليظهره علي الدين کله و لو کره المشرکون). [4] .
و هي تعطينا بوضوح، الغاية و الغرض الرئيسي من ارسال رسول الاسلام صلي الله عليه و آله بالهدي و دين الحق. يدلنا علي ذلک قوله تعالي ليظهره، حيث دلت لام التعليل علي الغاية، و السبب في انزال شريعة الاسلام و هو أن يظهره اي يجعله منتصرا و مسيطرا علي غيره من الاديان و العقائد کلها. و ذلک لا يکون الا بسيطرة دين الحق علي العالم کله.
و اذا کان هذا غاية من ارسال الاسلام، اذن فهو يقيني الحدوث في مستقبل الدهر. لان الغايات الالهية غير قابلة للتخلف.
[ صفحه 206]
ولئن دلت هاتان الايتان علي نفس المطلوب.... الا أن قوله تعالي: (و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون)، اهم في مقام الاستدلال علي ذلک، لأنها تدلنا علي الغرض الاسمي لخلق البشرية أساسا ذلک الغرض الذي کان موجودا منذ بدء الخلق. بخلاف الايتين الاخيرتين، فانهما مختصتان بمضامين محدودة نسبيا، کما يتضح لمن فکر في مدلوليهما.
و ان هاتين الايتين في الواقع، من تطبيقات ذلک الغرض الأسمي الذي نطقت به، الاية الکريمة الأولي، کما سيتضح بعد قليل عند معرفتنا بتفاصيل التخطيط الالهي لليوم الموعود.
النقطة الخامسة:
ان تکامل الفرد، و بالتالي تکامل المجتمع البشري، يتوقف - بعد أن وهبه الله عز و علا العقل والاختيار - علي عاملين: عامل خارجي و عامل داخلي أو قل: عامل موضوعي و عامل ذاتي.
أما العامل الخارجي الموضوعي، فهو افهام الفرد - و بالتالي المجتمع - معني العدل و الکمال الذي ينبغي ان يستهدفه و المنهج الذي يجب عليه أن يتبعه في حياه و يقصر عليه سلوکه.
و هذا الافهام لا يمکن صدوره الا عن الله عزوجل، بعد البرهنة علي عدم امکان توصل البشرية الي کمالها و معرفتها بالعدل الحقيقي اذا عزلت فکريا عن الحکمة الأزلية الالهية، کما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الاسلامية. و من ثم لايمکن أن يتحقق الغرض الالهي المهم في هداية البشرية و ايجاد العبادة الکاملة في ربوعها، اذا اوکلت البشرية الي نفسها و فکرها القاصر، و القي حبلها علي غاربها. اذن، فلابد من اجل التوصل الي ذلک الغرض الکبير من ان يفهمها الله تعالي معني العدل و الکمال و تفاصيل السلوک الصالح الذي يجب اتخاذه.
و حيث ان افهام البشرية من قبل الله تعالي بالمباشرة و المواجهة مستحيل، کما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الاسلامية، احتاجت البشرية الي أن يرسل الله تعالي اليها أنبياء مبشرين و منذرين. و ان يکون ارسالهم و اثبات صدقهم طبقا لقانون المعجزات. لان هذه المعجزات تقع في طريق هداية البشر و الوصول الي
[ صفحه 207]
ايجاد الغرض المهم من ايجادهم.
و منه نستطيع ان نلاحظ، کيف ان خط الانبياء الطويل، و الاعداد الکبيرة منهم، انما کان باعتبار التقديم و التمهيد للغرض الکبير. باعتبار أن البشرية حين أول وجودها کانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الکامل، فلم يکن في الامکان ايجاد المجتمع العادل الکامل الموعود في ربوعها لأول وهلة. بل کان لا بد أن تتربي البشرية تدريجا الي أن تصل الي المستوي اللائق الذي يوهلها لمجرد فهم العدل الکامل الذي يريد الله تعالي تطبيقه في اليوم الموعود.
و من هنا نعرف أن الأنبياء انما تعددوا و تکثروا من أجل اعداد البشرية و تربيتها للوصول الي هذا المستوي اللائق... لکي يتم لها هذا العامل الخارجي الأساسي و هو افهامها العدل الکامل و الأطروحة النظرية التامة للعدل التشريعي الذي يريد الله تعالي تطبيقها علي وجه الأرض، و التي بها تتحقق العبادة الکاملة التي يرضاها الله تعالي لخلقه، و بها يتحقق الهدف الأساسي لايجاد الخليقه.
و أما العامل الداخلي الذاتي، فهو الشعور بالمسوولية تجاه الأطروحة العادلة الکاملة، باعتبار أنها انما تضمن العدل فيما اذا أطاعها الأفراد و طبقت في حياتهم، و هي انمنا تضمن الطاعة التامة، مع وجود الشعور بالمسوولية، اذن فلا بد من اجل وجود العدل ان يوجد هذا العامل الداخلي الذاتي في الانسان.
و انما يوجد الشعور بالمسؤولية و ينمو، نتيجة لأسباب ثلاثة، مقترنة:
السبب الأول:
ادراک العقل لأهمية طاعة الله و الخضوع له و الانصياع الي اوامره و نواهيه، باعتباره مستحقا للعبادة مع غض النظر عن أي اعتبار آخر.
السبب الثاني:
الشعور باهمية طاعة الله تعالي، باعتبارها الضامن الحقيقي للعدل المطلق، علي المستويين الفردي و الاجتماعي، او بتعبير آخر: تربية الاخلاص الذاتي لطاعة الله باعتبار المعرفة الواضحة بضمانها للعدل المطلق.
[ صفحه 208]
السبب الثالث:
العامل الأخروي المتمثل بالطمع بالثواب الذي رصده الله تبارک و تعالي للمطيعين، و الخوف من العقاب الذي توعد به العاصين و المذنبين.
و هناک فرق اساسي في طرق ايجاد هذه الأسباب. فالسببان الأول و الأخير يوجدان بالتربية النظرية فقط، و يتحققان بمجرد الفات الفرد اليهما و تصديقه بصحتهما. و اما السبب الثاني، فالبرهنة النظرية عليه غير کافية بطبيعة الحال، بشکل ينتج الاخلاص و الوعي الحقيقيين و الاستعداد للتفاني في سبيل العدل المطلق... في سبيل الله تعالي. بل يحتاج ذلک الي تمرين طويل الأمد و تجربة و ممارسة.
و من هنا تنبثق اهمية هذه التجربة و الممارسة في تربية الاخلاص بشکل خاص، و التکامل بشکل عام... بصفة احدي المقدمات الأساسية و الأسباب الرئيسية لايجاد المجتمع العادل، الذي يتحقق فيه الغرض الأساسي لايجاد البشرية.
النقطة السادسة:
ان التجربة و الممارسة التي عرفنا أهميتها في تربية الاخلاص و الاندفاع الي الطالعة، اذا الاحظناها علي أساس فردي لم تکتسب أهمية أکثر من انتاج الاخلاص و التکامل للفرد الواحد. و أما اذا لا حظناها علي أساس عام، و قلنا أن المجتمع بصفته مکونا من أفراد، و الأمة بصفتها مکونة من مجتمعات، يجب أن تمر بدور التربية و التجربة التي تنمي فيها روح الاخلاص و الطاعة تجاه تعاليم الله عزوجل.
اذن تکتسب تربية الأمة و التجربة التي يجب أن تمر بها الأمة نفس الأهمية الکبري، باعتبارها مقدمة حقيقية للغرض الالهي الکبير من ايجاد الخليقة. فاذا علمنا - کما سبق - أن الله تعال يفعل اي شي ء يکون مقدمة لوجود غرضه الأساسي... اذن فهو - بکل تاکيد - سوف يخطط لتربية الأمة علي هذا الطريق.
و قد يخطر في الذهن هذا السوال: ان هذه التربية حين تکون مقدمة للغرض الالهي، و يکون الغرض مهما بحيث عرفنا أنه يمکن اقامة المعجزات في سبيل
[ صفحه 209]
التمهيد اليه. فلماذا لا توجد هذه التربية في ربوع الأمة دفعة واحدة عن طريق المعجزة؟.
و الجواب علي هذا السؤال يکون من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول:
ان ايجاد الايمان و الاخلاص في أنفس الأفراد بطريق المعجزة، يودي بنا الي القول بأن الله تعالي يجبر الأفراد علي الطاعات و ترک المعاصي و هذا مبرهن علي بطلانه و فساده في بحوث العقائد الاسلامية.
الوجه الثاني:
ان هذا الأسلوب المقترح من المعجزة ينافي قانون المعجزات، اذن فلا يمکن وجود مثل هذه المعجزة.
و السبب في ذلک هو أن قانون المعجزات، کما عرفناه، يقضي بعدم قيام المعجزة ما لم يکن قيامها طريقا منحصرا لاقامة الحجة و هداية البشرية. و أما اذا کانت للنتجية المطلوبة أسالبي بطبيعيد غير اعجازية، کان عدم قيام المعجزة حتميا، و اوکل الله تعالي ايجاد النتيجة الي أسبابها الطبيعية نفسها، مهما طال الزمن بهذه الأسباب و النتائج. فان الله تعالي طويل الانات و لايفرق في ذاته مرور الزمان.
فاذا طبقنا ذلک علي مورد حديثنا، وجدنا أن لتربية الأمة أسباب طبيعية، سوف نعرض لها في النقطة الاتية، يمکن أن تنتج نتائجها خلال زمان طويل. و معه يکون عدم قيام المعجزة لايجاد تلکم النتائج حتميا.
الوجه الثالث:
اننا لو تنزلنا - جدلا - عن الوجهين السابقين. وقلنا بامکان تربية الأمة عن طريق المعجزات. فيکون الأمر دائرا و مرددا بين تربية الأمة عن هذا الطريق أو تربيتها عن الطريق الطبيعي. عندئذ يمکن القول: أن الأهداف التربوية التي يمکن ايجادها بالطرق الطبيعية افضل بکثير من الأهداف التربوية التي يمکن ايجادها بالمعجزات. و لا تتحقق العبادة الکاملة المطلوبة لله عزوجل الا باختيار أفضل
[ صفحه 210]
الفردين،و من هنا لابد من الالتزام بعدم قيام المعجزات لأنها الطريق الأردا في تربية الأمة.
والسبب في ذلک: هي أن التربيد ان وجدت بطرقها الطبيعية، کانت متضمند لمرتبة عالية من الرشد والنضج من الناحية السلوکية و العقائدية، لأن من الطرق الطبيعية للتربية - علي ما سنعرف - التمحيص و الاختبار، و المرور بالتجارب القاسية. فاذا خرج الفرد من التمحيص و التجربة ناجحا منتصرا، کان اخلاصه قد اکتسب نضجا و رشدا لم يکن في السابق، باعتبار أن الفرد أصبح يعرف ما يهي و دود الفعل المطلوبة تجاه المصاعب، و ما هي قيمة العدل في حل مشاکل البشرية بازاء الحول الأخري الفاشلة التي عرضها الاخرون. و کل ذلک لا يکون الا خلال ردح طويل من الزمن.
بخلاف المعجزة، فانها ان أحدثت المجتمع الصالح، فأنها لايمکن أن توجد نضجه و رشده باي حال، بل سوف يکون مجتمع فجا و عدلا صوريا بطبيعة الحال. ما لم تفترض أمور أخري اضافية کنزول الوحي علي کل افراد الأمة... أو نحو ذلک مما لم تقم عليه الدعوة الالهية علي طول خط التاريخ الطويل.
النقطة السابعة:
في محاولة التعرف علي الأسباب الطبيعية للتربية و ايجاد الاخلاص.
تتوقف التجربة و الممارسة التي يجب ان تمر بها الأمة في تربيتها الطويلة... علي أحد عاملين:
العامل الأول:
التطبيق الفعلي الحلي للمجتمع العادل المطلق، حتي يراه الناس و يحبوه و يقدموا مصالحه العامة علي مصالحهم الخاصة. فان شعور الناس بوجود العدل المطلق مطبقا علي وجه الارض، يکفي بمجردة في توجيه عواطف الناس و صهر اخلاصهم الي حد بعيد.
العامل الثاني:
مرور الأمة خلال تربيتها بعوامل صعبة و ظروف ظالمة عسرة، تجعلها تتوفر
[ صفحه 211]
شيئا فشيئا علي التعمق الفکري و العاطفي، و تصوغ منها في نهاية المطاف امة شاعرة بالمسؤولية قوية الارادة و العزم علي تطبيق الاطروحة العادلة الکاملة.
و ذلک بعد أن تعيش الامة الشعور بأمرين مقترنين:
أحدهما: الشعور بافضلية الأطروحة العادلة، لابشکل نظري فحسب، بل بشکل حسي معاش. بعد أن تمت المقارنه لدي الأمة بکل وضوح بين هذه الأطروحة و بين سارء النظم و القوانين و النظريات المخالفة لها. و ثبت بالتجربة فشل سائر النظم و النظريات، و اداثها الي انواع مختلفة من الظلم و التعسف. باعتبار النقص الذاتي الموجود في سائر النظم، ذلک النقص الذي تبرا منه تعلو عليه الأطروحة الکاملة.
ثانيهما: الشعور بأهمية التضحية الحقيقية علي مختلف المستويات في سبيل الأطروحة الکاملة التي يومنون بها... و الاحساس المباشر بلزوم الصبر و المثابرة و الصمود أمام القوي الظالمة تمسکا بالحق.
و بالرغم من صحة العاملين کليهما و أثرهما الأکيد في تربية الأمة. الا أننا اذا فرضنا کلا منهما معزولا عن الاخر، نجد أن العامل الثاني أهم من الأول من جهتين أساسيتين:
أولا: ان محبة الأطروحة العادلة و الاخلاص لها عند تطبيقها، أمر موافق للهوي و المصالح الشخصية، لأنها تضمن للانسان سعادته و رفاهه الفردي و الاجتماعي.
و اما محبة الأطروحة العادلة في ظروف الظلم و التضحية، فهي محبة واعية عميقة تدفع الانسان الي المکافحة و الجهاد في سبيل ايجاد الواقع الاجتماعي العادل.
و من المعلوم أن المحب المخلص علي الشکل الأول، اذا لم يمر بتجارب التضحية، يکون مهددا بالأنحراف و الارتداد عند مواجهة أول صعوبة يجابهها، يشعر خلالها بالتنافي بين مصالحه الخاصة و المصالح العامة. فاذا کانت هذه الظاهرة عامة بين الأفراد... لم يکن ذلک التطبيق قابلا للاستمرار و البقاء. و لا يمکن أن تکون هذه الظاهرة عامة بأي حال لو کان الاخلاص ناتجا عن تضحية و صمود.
[ صفحه 212]
ثانيا: نعرف مما تقدم ان العالم الثاني يجب أن يکون متقدما زمانا علي العامل الأول، باعتبار توقف التطبيق الحقيقي عليه. فان العدل لايکون عميقا و اساسيا في المجتمع، ما لم يکمن کل الافراد او جلهم - علي اقل تقدير - ممن شحذت اخلاصه التجارب و رفعت ايمانه و ارادته التضحيات، فانهم يکونون اقدر علي العمل و اسرع انتاجا و اکثر تحملا للصعوبات، مما يجعل العدل اعمق اثرا و اضمن للبقاء و الاستمرار.
اذن فالغرض الالهي في ايجاد البشرية، يتوقف وجوده علي الاخلاص المنصقل بالتجارب کو التضحيات. و من المعلوم أن هذا الصقل لا يمکن حصوله الا بالمرور في تيار التجارب والتضحيات نفسه. و هذا التيار ليس الا الظروف الصعبة و الأزمنة المظلمة الظالمة التي تمر بها البشرية خلال اللأجيال.
اذن يتبرهن بکل وضوح توقف الغرض الالهي في هداية البشر و ايجاد مجتمع العبادة الکاملة... علي مرور البشرية في ظروف صعبة ظالمة، ليکونوا عند ابتداء التطبيق علي مستوي المسؤولية المطلوبة للعدل، و يستطيعون بجدارة القيام به و بسهولة الانسجام معه.
النقطة الثامنة:
انه من هذا المنطلق بالذات نعرف اهمية التمحيص و الاختبار الذي دلت عليه الأخبار، کما سوف نسمع، و ارتباطه الأساسي بالتقديم للهدف الالهي الکبير.
باعتبار ان ما تعيشه البشرية من ظروف ظالمة من ناحية و امور مغرية من ناحية اخري... و کم للخوف و الاغراء من قوة في الاندفاع و من تاثير علي النفس... فيکون ذلک حاملا للفرد علي الانحراف عن الله تعالي و الخروج علي تعاليمه العادلة. و يصبح تطبيق هذه التعاليم علي نفسه و غيره من أصعب الأمور، کما قد وصف في بعض الاخبار، بانه کالقبض علي الجمر.
و من هنا تکون هذه الظروف و محاولة هذا التطبيق محکا اساسيا لمدي الاخلاص و قوة الارادة لدي الأفراد. فينهار العدد الأغلب من البشر في أحضان الظلم والاغراء، تبعا لضعف ارادتهم، و تقديم مصالحهم الشخصية و راحتهم القريبة علي الأهداف الکبري و الغايات القصوي. و يبقي العدد الأقل صامدين
[ صفحه 213]
مکافحين، تشتد ارادتهم و تقوي عزيمتهم، و يشعرون باللذة و الفخر في مکافحة تيارات الانحراف و الفساد. و لا يزالون في تکامل و صمود حتي يبلغوا مستوي المسؤولية الکبري في مواجهة العالم بالعدل المطلق في اليوم الموعود.
و يکون العالم عند تمخض قانون التمحيص هذا عن نتائجه کما نطقت به الاخبار... متکونا من فسطاطين او معسکرين: فسطاط کفر لا ايمان فيه و فسطاط ايمان لا کفر فيه. علي ما سنسمع في الناحية الثانية من هذا الفصل.
فان قال قائل: کيف يمکن التوفيق بين ما قلناه قبل قليل من لزوم کون الأمة بشکل عام، المتمثلة في أکثر أفرادها، مخلصة اخلاصا حقيقيا نتيجة للتجربة و التمحيص. و بين ما قلناه الان من أن أغلب الناس سوف ينهارون تجاه الظلم و الاغراء و لا يبقي من ذوي الاخلاص الحقيقي الا القليل.
نقول في جواب ذلک: انه يمکن القول أن النتائج الصالحة للتمحيص لا تختص بالقليل من البشر، و ان اختص هولاء بدرجات رفيعة من الاخلاص لا يضارعهم بها غيرهم من الناس.
فاننا يمکن ان نرتفع بنتائج التمحيص، من الزاوية التي نتوخاها الان، الي اربع درجات:
الدرجة الأولي:
الاخلاص التام و الوعي الکامل. الذي يتمثل باستعداد الفرد بالتضحية بکل غال و رخيص علي الاطلاق في سبيل العدل الالهي و تطبيق تعاليم الرب العظيم و اهدافه الکبري.
و يکون مثل هذا الفرد موهلا لنيل بعض درجات القيادة و السلطة العسکرية او المدنية في اليوم الموعود.
الدرجة الثانية:
الاخلاص الثابت المهم الذي يتمثل في قدرة الفرد علي السيطرة بارادته علي کل صعوبة و اغراء مر به في حياته، من درجات الخوف و الطمع المعروفة. بغض النظر عن أنه لو مر في حياته بدرجة أعلي من التمحيص و المصاعب فهل يستطيع
[ صفحه 214]
النجاح ايضا او لا. و هذا هو الذي يفرق هذه الدرجة عن سابقتها.
و هذه الدرجة هي التي توهل الفرد لان يکون واحدا من القواعد الشعبية الصالحد لدولة الحق في اليوم الموعود. أو أن يکون جنديا محاربا خلال الفتح العالمي في ذلک اليوم ن.
الدرجة الثالثة:
الاخلاص الاقتضائي: و هو أن يکون الفرد محبا للحق و العدل الالهي في دخيلة نفسه و مسايرا لظروف الظلم أو الاغراء الي حد ما ايضا.
فاننا نجد في کثير من الأفراد انفکاکا بين العقيدة و السلوک. فبينما نجد عقيدته صالحة نجد سلوکه منحرفا نتيجة لاضطراره و ظروفه الشاذة و احتياجه الي لقمة العيش. و هو في ذات الوقت من الممکن أن يکون مدرکا لمعني الظلم و فظاعته، و للمسؤولية تجاه تعاليم الله العادلة. ولکنه يشعر بالقصور عن تطبيقها نتيجة لظروف الضغط و الظلم التي يعيشها. و من ثم فهو يدفن عقيدته و وعيه في قلبه و يساير الظلم و الاغراء الي بعض الخطوات.
و يمکن في حق مثل هذا الفرد، أنه بمجرد أن ترتفع ظروف الظلم و يبدا التطبيق العادل... فانه سوف ينطلق اخلاصه الاقتضائي الکامن، بعد أن ارتفع عنه المانع، و يکون له حرکة فعالة في المشارکة و التعاون في ظروف التطبيق الجديد.
الدرجة الرابعة:
أن لا يوجد الاخلاص بأي درجة من درجاته السابقة. ولکن يکون الفرد قد شعر بوضوح نتيجة لظروف التمحيص العالمي، بفشل التجارب التي عاشتها المبادي و الفلسفات التي ادعت حل مشاکل العالم و تذليل مصاعبه و نشر العدالة و الرفاه في ربوعه. فان هذه المبادي ء بعد أن تعيش التجربة و التطبيق، و تتمخص عن نتائجها الرئيسية، سوف يبدو بوضوح للأعم الأغلب من البشر أنها لم تتمخض الا عن الفساد و الضياع نتيجة لقصورها الذاتي، کما سبق أن أشرنا، و قد أضافت الي مشکلات العالم لا أنها قد ذللت منها شيئا.
عندئذ ينبثق شعور خفي، في اللاشعور، بالحاجة العالمية الماسة الي الحل الناجز الذي ينقذ العالم من ورطته و يخزجه من وهدته و يوقظه من رقدته.
[ صفحه 215]
و هذا الحل، و ان لم يکن ملتفتا اليه بوضوح أو معروفا بتفاصيله. ولکنه علي أي حال، توقع نفسي غامض يمکن انطباقه علي أول دعوة رئيسية جديدة تدعي حل مشاکل العالم و تذليل مصاعبه. و من هنا تفوز مثل هذه الدعوة بتاييد کل من يمثل هذه الدرجة من نتائج التمحيص ريثما کانت هذه الدعوة محتملة الصدق علي أي حال.
فاذا کانت هذه الدعوة هي دعوة الحق، في يومها الموعود، فسيکون لهذا الجو النفسي العالمي اثره الکبير في دعم التطبيق العادل، في ذلک اليوم.
فهذه هي الدرجات الاربع التي يتمخض عنها التمحيص الالهي الکبير في عصر ما قبل الظهور. و التي تشارک، بشکل و آخر في بناء العدل في اليوم الموعود.
و نحن نستطيع أن نلاحظ بوضوح أن هذه الدرجات کلما ارتفعت قل الأفراد المتصفون بها من البشر، و کلما نزلت کثر الأفراد المتصفون بها بطبيعة الحال. و من هنا کان المتصفون بالدرجة الأولي من الاخلاص قليلين في البشر. و هم الذين سبق أن برهنا علي أن الامام المهدي (ع) يمکن أن لا يحتجب عنهم خلال غيبته الکبري. کما کان المتصفون بالدرجة الرابعة، هم أکثر البشرية في العصر المباشر لما قبل الظهور. و تختلف الدرجتان الثانية و الثالثة فيما بين هذين الحدين من العدد.
و من هنا نستطيع أن نقلو لمن يوجه السؤال السابق: أن الدرجات الصالحة الناتجة عن التمحيص الالهي تمثل بمجموعها عددا کبيرا من البشر، بل الأعم الأغلب منهم. و ليس العدد قليلا کما تخيله السائل. و انما العدد القليل منحصر بالدرجة العليا من الاخلاص، و هو مما لايوثر علي التطبيق العادل الموعود شيئا، باعتبار ان الأفراد الذين بمثلون هذه الدرجة، سيکونون بالمقدار الکافي الذي يقومون خلاله بمسؤولية القيادة الناجحة في اليوم الموعود. و ليس من المتوقع من کل البشر أن يکونوا قوادا، بطبيعة الحال!...
و علي أي حال، فقد اتضحت من هذه النقاط الثمان، المناشي ء الحقيقية للتخطيط الالهي لهداية البشر و تحقيق العبادة التامة في ربوعهم. کما اتضح البرهان علي وجود هذا التخطيط، حيث يحتاج الأمر الي مقدمات طويلة طبيعية غير اعجازية. کما اتضحت جملة من ملامح هذا التخطيط، و ما يلعبه الظلم
[ صفحه 216]
و الانحراف الذي تعانيه البشرية علي مدي التاريخ، من دور في هذا التخطيط الالهي الکبير.
و يقي علينا ان نعرف تفاصيل اعمق و اکثر عن هذا التخطيط، خلال الجهات الاتية، شروعا بما قبل الاسلام و انتهاء بالعصر الحاضر.
پاورقي
[1] الذاريات 56:51.
[2] سورة النور 55:24.
[3] آل عمران 9:3 و الرعد 31:13 و غيرهما بالفاظ مشابهة.
[4] التوبة: 33:9 والصف: 9:61 و انظر سورة الفتح: 28:48.