بازگشت

في تمحيص هذه الأخبار و تشخيص حاجتنا في الاستدلال بها


الجهة الاولي:

فاننا اذ نريد أن نعرف المستوي الديني، لأي مجتمع، في أي عصر، نرجع - عادة - الي تاريخ ذلک العصر لاستعراض ما فيه من حوادث و آثار تدل علي ما کان عليه المجتمع من مستوي ديني و شعور بالمسؤؤلية الدينية. و هذا طريق صحيح، لو استطاع التاريخ ان يسعفنا بما نحتاجه من حقائق و مستمسکات.

ولکن ما نعرفه - عادة - من تأريخ، يتصف بالنقص - حتما - بما لا يقل عن ثلاث جهات:

الجهة الأولي:

اسقاطه لبعض الحوادث التاريخية، و عدم التعرض لها، بأي دافع من الدوافع... و تاريخنا الاسلامي ملي ء بمثل هذه الفجوات.

الجهة الثانية:

عدم الموضوعية في شرح الحادثة. و وجود الاحتمال علي أقل تقدير - في أن



[ صفحه 176]



يکون المؤرخ قد غير منها شيئا لکونه يميل عقائديا او عاطفيا مع أحد الاشخاص التاريخيين دون الأخر.

الجهة الثالثة:

عدم التعرض لحوادث المستقبل. و هذا ضروري الوقوع في کل تاريخ، لأن المستقبل مجهول، الا بنحو الحدس أو علم الغيب.

أما الجهتين الأولي و الثانية، فيمکن دفع تاثيرهما و الحد من ضررهما، الي حد کبير، لدي المقارنة بين مصادر التواريخ و أقوال المورخين، حتي يحصل للفرد الباحث وثوق و قناعة بحصول الحادثة أو عدم حصولها.و خاصة بعد استيعاب سائر و جهات نظر المورخين و مذاهبهم.

و اما الجهة الثالثة: فيستحيل - عادة - ملؤها في التاريخ الاعتيادي للبشر أيا کانوا... فيبقي المستقبل المجهول، فجوة تاريخية شاغرة أمام الناظر يحار في تشخيصها و ترتيبها.

و هنا ينفتح وجه الحاجة الي الروايات التي نحن بصددها، فانها تتنبا عن حوادث المستقبل مروية عمن لاينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي، و عن خلفائه المعصومين عليهم السلام... بطرق متواترة لا يقبل مجموعها التشکيک... و ان کانت کل رواية منهخا ظنية علي اي حال، و قابلة للمناقشة احيانا. کما سمعنا مثل ذلک في أخبار المشاهدة، مع فرق مهم هو أن الروايات الواردة في المقام أضعاف روايات المشاهدة، علي ما سنعرف صورة منه في الفصل الاتي.

علي أن جملة منها يحتوي علي التنبؤ بحوادث ثد حدثت فعلا خلال الزمان، علي ما سنعرف، و قد صدر التنبؤ بها قبل حدوثها بزمن طويل... و هوشاهد علي صدقها و صدق قائلها و علي ارتباط القائل بالله عزوجل بشکل و آخر، فان کل علم غيب لا بد أن يکون مستقي من علام الغيوب.

ومعه فتکون هذه الروايات، صالحة لمل ء الفجوات التاريخية التي اهملهها التاريخ، او لم يکن موضوعيا تجاهها.



[ صفحه 177]



ولکنها - علي اي حال - تحتوي علي بعض المصاعب، لابد من استعراضها، و استعراض ما يمکن أن يکون منهجا لتذليل تلکم المصاعب.

مصاعبها:

تتلخص المصاعب في نقطتين رئيسيتين، من حيث أن الطعن تارة يتوجه الي السند أي الي وثاقة الرواة و صدقهم. و يتوجه الي الدلالة، اي الي ما نفهمه من النص المروي تارة أخري.

النقطة الأولي:

فيما يرجع الي السند. ولئن کانت القاعدة العامة في الرايات هي التأکد من وثاقة الراوي و التزامه الصدق في المقال قبل قبول روايته... فان الروايات التي نحن بصددها اشد خطرا في هذا المجال، من أشکال الروايات الاخري. من حيث أن احتمال الوضع و التحريف أکثر بکثير مما هو في سائر الروايات. و ذلک باعتبار عدة امور:

الأمر الأول:

احتمال الوضع. فان الکاذب قد يخشي الوضع عندما يخاف الافتضاح، عند وضوح عدم مطابقة روايته للواقع. و خشية الافتضاح متوفرة - عادة - في سائر موارد الروايات، الا أنها في روايات التنبؤ أقل منها في غيرها من عدة نواح:

الناحية الأولي:

ان هذه الروايات تتنبا عن حوادث مغرقة في المستقبل السحيق الذي لايمکن أن تتاکد من صدقه الأجيال. و معه تبقي الرواية محتملة الصدق دهرا طويلا جدا، أکثر مما يطمع به الکاذب. وفي کل جيل ان لم تحدث الحادثة الموعودة يقال: لعلها في الأجيال القادمة، و معه يبقي کذب الراوي سرا غير قابل للکشف.

الناحية الثانية:

ان جملة من هذه الروايات- علي ما سنسمع - ذو بيان رمزي و عبارات ذات درجة کبيرة من السعة و الابهام، بحيث يمکن أن تنطبق العبارة علي عدة حوادث محتملة. و معه فيقول کل جيل: لعل المقصود هذه الحادثة ولعل المقصود حادثة



[ صفحه 178]



اخري آتية... و يبقي الکذب سرا غير قابل للکشف.

الناحية الثالثة:

ان جملة من هذه الروايات، يحتمل - علي أقل تقدير - أن تکون قد وضعت بعد حدوث الحوادث، و نسبت الي قائل سابق علي الحدوث. و معه قد يجدها الفرد الباحث مطابقة للواقع، مع أنها مکذوبة. و من الطبيعي أن يکون شعور الکاذب بمطابقة روايته للواقع ما يهون لديه خوف الافتضاح الي حد کثير.

الأمر الثاني:

النقل بالمعني. و هذا ليس محتملا فحسب، بل هو معلوم التحقق في کثير من الأخبار.

و النقل بالمعني، لايکاد يکون مضرا في الروايات الاعتيادية، کالروايات المتعرضة الي الفقه و الفلسفة... فان اللفظ أو مرادفه، و الجملة و مثيلتها، يعطيان معني متشابها الي حد کبير... و احتمال اختلاف المعني يکون ملغي و مدفوعا اذا کان الراوي معلوم الضبط والوثاقة.

و أما في روايات التنبؤ بالمستقبل، فليس الأمر فيها علي هذا الغرار. فأنها تصدر في الأعم الأغلب عن قائلها: النبي (ص) او غيره رمزية غير واضحة المعني، بحيث يحتاج فهمها الي تدقيق. و من المعلوم أن التعبير عن اللفظ الرامز بلفظ آخر يمسخه مسخا و يغير معناه تغييرا کليا او يکاد.

و هذا الاحتمال لا يدفعه العلم بالوثاقة و الضبط في الراوي، بعد جواز النقل بالمعني شرعا،و احتمال عدم فهم الراوي للمعني المرموز اليه، کي يختار المرادف الصحيح لألفاظ الرواية.

اللأمر الثالث:

احتمال الاسقاط من ألفاظ الرواية في اثناء تناقلها من قبل الرواة.

فان القواعد العامة في سائر الروايات، تقتضي الغاء هذا الاحتمال، باستظهار کون الراوي ناقلا لجميع الألفاظ، أو لجميع ما يتعلق بالمضمون الواحد من قرائن و خصوصيات. اذا کان الراوي ثقة، اذ لو کان قد اسقط بعض ذلک



[ صفحه 179]



لکان قد أخل بنقله وبوثاقته في نهاية المطاف. و معه تکون و ثاقته دليلا علي أنه نقل الينا کل ما يتعلق بالمضمون المعطي في الرواية.

الا أن ذلک ليس بذي فائدة في روايات التنبؤ بالمستقبل، و ذلک من ناحيتين:

الناحية الأولي:

اذا احتملنا وجود قرينة لفظية او غيرها، لم يفهم الراوي کونها قرينة مغيرة لمعني أو موثرة فيه، فحذفها. و الراوي الثقة انما يتعهد نقل ما يفهم تاثيره من القرائن بطبيعة الحال، دون غيرها. و معه لا تکون وثاقة الراوي نافية لهذا الاحتمال.

و مثل هذا الاحتمال، لا يکاد يکون موجودا في الروايات الاعتيادية ولکنه موجود بکل وضوح في الروايات الرمزية، التي قد تخفي معاني ألفاظها، فضلا عن قرائنها الدقيقة.

الناحية الثانية:

اذا احتملنا أن الرواية کانت متضمنة لنقل أکثر من حادثة واحدة، و احتملنا أن نقل الحادثتين معا، له تاثير في الفهم الدقيق و الصحيح لاحداهما او لکليهما. في حين لم تکن الرواية التي وصلتنا حاوية الا لحادثة واحدة.

و هذا الاحتمال لايمکن الغاؤة بالعلم بوثاقة الراوي، فان غاية ما يتعهد به الراوي الثقة هو أن ينقل کل ما له ارتباط بالمضمون الواحد، و اما اذا کان الامام (ع) او النبي (ص) قد أعرب عن مضمونين، فقد يختار الراوي نقل احدهما دون الاخر، و لا يکون في ذلک اختلال في وثاقته.

و احتمال أن يکون لنقل المضمونين أو الحادثتين معا دخلا في المعني... غير موجود عادة في سائر الروايات. ولکنه موجود في الروايات التي نحن بصددها... بل هو ليس احتمالا فقط، و انما نحن نعلم بذلک لعدة اسباب، اهمها: اننا نحتاج في بحثنا الي الربط بين الحوادث و تشخيص تسلسلها الزمني، و معرفة اتجاهات اصحابها، و معرفة التخطيط الالهي الذي يقتضي کلا منها. فاذا اطلعنا علي الحادثة وحدها لم يکن الي فهم شي ء من ذلک سبيل. و اما اذا اطلعنا عليها منضمة الي غيرها، أمکننا أن نتوصل الي ذلک.



[ صفحه 180]



اذن فلابد لنا ان نضع منهجا لتمحيص هذه الجهات السندية و تذليل مصاعبها، و ذلک ما سنعرضه فيما يلي:

منهج التمحيص السندي:

و هو يتضمن جانبين: جانب ايجابي و جانب سلبي. فالجانب الايجابي يقتضي الأخذ ببعض الروايات و الجانب السليي يقتضي رفض الأخذ بالبعض الاخر منها.

اما الجانب الايجابي، فهو الأخذ من الروايات بکل مضمون متواتر لفظا أو معني، بحيث يوجب العلم من تجمع الروايات بوقوع الحادثة و صحة النقل. و بکل مضمون مستفيض لفظا او معنا، بحيث يوجب الاطمئنان من تجمع الروايات بصحة النقل و وقوع الحادثة. و بکل مضمون اقترنت به القرائن العامة أو الخاصة، التي توجب العلم أو الاطمئنان بالصدق. و هذا يستدعي - في کثير من الاحيان - تجميع العديد من الروايات و القرائن علي صحة مطلب أو وقوع واقعة. و هذا ما سنعمله في ما يلي من هذا التاريخ.

و أما الجانب السلبي: فيتلخص بضرورة رفض کل رواية لم تکن من ذاک القبيل، و ان کانت مما يؤخذ بها عادة بحسب الموازين العامة في سائر الروايات، کما لو کانت الرواية ذات سند موثوق... فاننا لانقبلها ما لم تقم القرائن علي صحتها أو تؤيدها غيرها من الروايات.

و بهذا التشدد السندي نستطيع أن نتلافي کل الصعوبات السابقة. اذ مع العلم أو الاطمئنان بصدق المضمون، لايبقي لاحتمال الوضع أثر، کما لا يبقي لاحتمال النقيصة في المعني أو اللفظ أو لاحتمال تغير المعني عند تغير اللفظ، أي أثر. فان کل ذلک انما هو حديث عن رواية واحدة لو لوحظت باستقلالها، و أما لو انضمت الي غيرها فلا معني لهذا الاحتمال.

کما أن هذا الانضمام يرفع الناحية الأخيرة التي أشرنا اليها، و هو الجهل بترابط الحوادث. فان الانضمام يجعلنا عالمين بهذا الترابط کما هو واضح.

النقطة الثانية:

من مصاعب هذه الروايات: مصاعب الدلالة.



[ صفحه 181]



تتصف روايات التنبؤ بحوادث المستقبل، بشکل عام، بصعوبات في الدلالة والمضمون، بعد الغض عن السند... تلک الصعوبات الناشئة من عدة مناشي ء رئيسية، يحتمل وجود واحد منها أو أکثر في کل روايد مروية في هذا الصدد، علي ما سنري.

و ينبغي أن نتحدث اولا، عن السبب الذي اوجب صدور هذه الروايات عن قائليها بشکل رمزي صعب الفهم الي حد کبير. ثم نتحخدث ثانيا عن اسباب الصعوبة بالنسبة الي فهمنا الخاص بعد أن تکون الرويات قد وصلت الينا. و من هنا يقع الحديث في ناحيتين:

الناحية الأولي:

في التحدث عن الأسباب التي دعت النبي (ص) و الائمة (ع) للتکلم عن حوادث المستقبل بشکل اقرب الي الغموض و الابهام. و ترک السير - بتعمد واضح - في طريق التوضيح و التفصيل.

و ما يمکن أن نتصوره من اسباب ذلک، بحسب ما نستطيع تشخيصه الان، يمکن ايراده ضمن عدة امور:

الأمر الأول:

قانون: خاطب الناس علي قدر عقولهم.. هذا القانون الذي سبق أن ذکرنا انه عرفي و صحيح، و قد مشي عليه النبي (ص) و الأئمة (ع) في سائر کلماتهم.

فلئن کان النبي (ص) أو الامام (ع) علي مستوي ادراک الواقع التاريخي المتحقق بعد الف عام او عدة آلاف من السنين، بحيث يري المستقبل ببعد نظره و توفيق ربه، کما يري الحاضر.. فان البشر لم يکونوا في أي عصر من العصور علي هذا المستوي من الفهم علي الاطلاق. و غاية ما نري الحکومات الحاضرة - علي کثرة مفکريها و دقة سياساتها، انها تستطيع أن تخطط لخمس سنوات أو عشر سنوات، عل نحو محتمل غير مضمون التطبيق الکامل، في الأغلب.

و اما التخطيط و بعد النظر الي مئات و آلاف السنين، فهو خاص بالله عزوجل من ارتضي من رسول و من علمه الرسول (ص) من هذا العلم. و هو علم ضروري للائمة المعصومين (ع)، کي يستطيعوا ان ياخذوا بالتخطيط الالهي الي



[ صفحه 182]



حيز التنفيذ، کما سمعنا طرفا منه، و سنسمع طرفه الاخر فيما ياتي و علي اي حال، فالناس قاصرون دائما عن ادراک مثل هذا العلم و تقبل مثل هذه الاخبار، اذن فلا بد للامام اخذا بقانون التفاهم العرفي ان يبرز للناس من الحقيقة ما لا ينافر افهامهم و ما يتناسب مع واقع حياتهم. و حيث أن الواقع المعبر عنه، أوسع و أعمق مما يستطيعون فهمه، اذن فلا بد من اللجوء الي الرمز و الغموض في التعبير، حفظا لمستوي التفاهم العام.

الأمر الثاني:

ان هناک مصلحة مهمة في جعل الفرد المسلم منتظرا لظهور المهدي (ع) في کل حين، و مستعدا نفسيا لتلقي هذا النبأ الکبير... و من المعلوم أن النبي (ص) او الامام (ع)، لو أخبر عن الحوادث بشکل واضح و مفصل، فان هذا الجو النفسي يتغير الي حد کبير. فان الناس سوف يصبحون عالمين بعدم قيام المهدي (ع) و ظهوره ما دامت تلک الحوادث لم تحدث.

و ينحصر المحافظة علي مستوي الانتظار المطلوب، اذا کان الأخبار بالحوادث مشوبا بالغموض و التعميم و اهمال تحديد التاريخ. بحيث يحتمل حدوث الحادثة الموعودة في اي عصر، فيحتمل حينئذ ظهورالمهدي (ع) بعدها في ذلک العصر.

الأمر الثالث:

اننا نحتمل - علي الأقل - أن الحوادث لو کانت قد عرضت مفصلة، لأوجبت فشل التخطيط الالهي للاعداد لظهور المهدي (ع)، لامکان استغلال المستغلين لها قبل حدوثها، و امکان تلافي ما يتوقع أن تنتجه من الظلم، و استدرار ما يمکن أن تدره من ربح. و هذا ليس فيه مصلحة. بل انما يکون التخطيط ناجحا اذا جاءت الحادثة عفوية و علي طبق التطور الطبيعي للتاريخ.

اذن فالاغماض عند عرض الحوادث، يعتبر مشارکة فعلية من قبل النبي (ص) و الامام (ع) في انجاح المخطط الالهي، لايجاد شرائط الظهور.

الأمر الرابع:

ان النبي (ص) أو الامام (ع) انما يذکر بعض حوادث المستقبل لمحل استشهاد



[ صفحه 183]



او عبرة او موعظة او نحو ذلک. اذن فلا بد له ان يقتصر علي المقدار الذي يوفي المطلوب، و يکون من المستهجن - عادة - الاستمرار في سرد تفاصيل الحوادث أکثر من ذلک. شانه شان القران الکريم نفسه، الذي اقتصر من تفاصيل القصص علي موضع العبرة و مورد التربية للسامعين، و ترک سائر التفاصيل. فکذلک الحال بالنسبة الي النبي (ص) أو الامام (ع) حين يعرب عن حادثة من حوادث المستقبل.

يسثني من هذا الوجه، الروايات التي تکون بصدد بيان حوادث المستقبل مباشرة کذکر اشراط الساعة أو علامات الظهور. فانه لايکون من المستهجن في مثلها الاستمرار في بيان الحوادث. و معه يکون الغموض مستندا الي الوجوه الاخري.

الأمر الخامس:

امر فلسفي عقائدي، يعود الي النبي (ص) او الامام (ع) بان يخبر بما لا يدخله المحو و الاثبات، و يهمل ما يحتمل أن يدخله ذلک، لاحتمال ظهور عدم مطابقته للواقع.. علي تفصيل و تحقيق ليس له مجال في المقام.

فاذا عرفنا هذه الاسباب الرئيسية للغموض و الاجمال في مداليل الروايات التي نتکلم عنها.. نستطيع ان ندخل، و نحن علي بينة من أمرنا، في البحث عن تشخيص ما يمکن ان يکون ميزانا لتلافي هذه المناشي ء، و الخروج عن مصاعبها، و فهم الروايات فهما مستقيما صحيحا.

مناشي ء الغموض:

و يمکن عرض اهم هذه المناشي ء، فيما يلي:

المنشأ الأول:

الرمزية. و المراد بها استعمال المعني الترکيبي او الجملي، و ارادة معني آخر، غير ما يفصح عنه اللفظ بوضوح.

و هذا هو الذي يميز الرمز عن الکناية و المجاز، فانها لاتکون الا في مفردات



[ صفحه 184]



الألفاظ أو النسب الکلامية، بخلاف الرمز فانه يکون - عادة - في الجمل الترکيبية. ومن هنا يمکن أن يکتب الفرد صفحة أو عدة صفحات من الکلام ذات معان معينة، ولکن لايريد الکاتب اي واحد من المعاني علي التحديد، و انما يرمز بها الي معان اخري، لا يمکن التوصل اليها الا عن طريق قرائن خاصة او قرائن عامة متفق عليها.

و هذا النحو من الرمز وجد في الکلام العربي القديم. و هو شائع في هذا العصر في الادب 7 و خاصة في مدرسة (الشعر الحر). و هو الذي يفسر لنا عددا من موارد الغموض في تلکالروايات.

مثاله: التعبير في الروايات بمثل قوله: تفقا عين الدنيا او قوله: تخرج من اليمن نار تضي ء لها اعناق الابل في بصري. فان کل ذلک ليس علي وجه الحقيقة، و انما هو رمز عن حوادث أو حرکات تاريخية معينة لايراد التصريح بها أو عرضها بشکل تفصيلي.

و من المؤسف أن الناس حين غفلوا عن هذا المنشأ، حملوا مثل هذه التعبيرات علي معانيها المباشرة الحقيقية. و بعدها انقسموا الي قسمين: فهناک من الناس من يصدق بما يسمعه و يفهمه من هذه الروايات، و يحملها علي المعجزات و خوارق العادات و ان کان يجهل مناشئها و مصالحها. و هناک من الناس من هو مکذب لهذه المعاني ساخط عليها، بل علي کل روايات التنبؤ بالمستقبل.

مع ان کلا المسلکين، مما لا حاجة الي الالتزام به. اما المسلک الأول: فلأن المعجزات لا تکون الا بقانون - کما سبق أن عرفنا - فلا بد من تطبيق الروايات عليه، قبل الالتزام بمضمونها جملة و تفصيلا. علي اننا لايمکن أن نحمل مضمون الرواية علي المعجزة ما لم نتأکد من فهمها اولا. و قد عرفنا انه من المحتمل - علي أقل تقدير - أن يراد بها معان أخري غير ما هو ظاهرها، و قد يکون ذلک معني لا يمت الي المعجزة بصلة. و لعل استبعاد الفهم الاعجازي في عدد من الحالات، يکون قرينة علي الرمزية، و امکان حملها علي ذلک.

و اما المسلک الثاني: فهو باطل ايضا، باعتباره منطلقا من الاعتقاد بتشويش هذه الروايات و غرابة مضامينها، و نحن بعد أن نثبت تنظيمها و صحة مداليلها، لا



[ صفحه 185]



يکون لهذا المسلک أي موجب. مضافا الي أن کثرة هذه الروايات الي حد تفوق حد التواتر، يمنع من انکارها جملة و تفصيلا کما هو واضح.

نعم، يبقي البحث عن الأمر المرموز اليه بهذا الرمز أو ذاک. ما هو؟ و کيف نعرفه؟ فهذا ما سنبحثه بعد قليل.

المنشأ الثاني:

استعمال مفاهيم معينة ذات مداليل و مصاديق خاصة، بحسب ما يعيشه الناس في عصر صدور الرواية. و من المؤکد أنهم لم يفهموا منه الا ذلک. الا أن النبي (ص) أو الامام (ع) أراد منها مصاديق اخري، هي المصاديق و التطبيقات التي تکون لهذا المفهوم في عصر حدوث الحادثة التي يخبر عنها.

مثال ذلک: قولهم عليهم السلام: ان المهدي (ع) يقوم بالسيف.و المراد به قوة السلاح المناسب لعصر الظهور. علي حين لم يفهم المعاصرون للنبي أو الامام الا السيف نفسه... و لعلهم اضافوا اليه في مخيلتهم الدرع و الرمح ايضا...!

و مثاله الاخر: اخبارهم عن جيش يخسف به في البيداء، فانه من الموکد أنه لم يفهم الناس، حين سماعهم هذاالخبر الأول و هلة، الا کونه جيشا محاربا بالسيف علي الغرار القديم. مع أن مثل هذاالتخيل مما لاموجب له، بل ان الجيش محارب بسلاح عصره لا محالة.

المنشؤ الثالث:

الحذف و عدم التعرض الي التاريخ المحدد تارة و الي المکان أخري و الي أسماء الأشخاص ثالثة... والي أهداف و مناهج و ايديو لوجيات الحرکات الموعودة في التاريخ، رابعة... و غير ذلک من الأمور. مما يجعل العلم المفصل بالحوادث متعذرا الي حد کبير.

مثاله: التعبير بالنفس الزکية و بالسفياني، و عدم التعرض الي اسمائهم صراحة. و الأخبار بخروج رايات سود من خراسان، أو بوجود طائفتين متحاربتين و دعوتهما واحدة... مع عدم التصري بأن دعوة هولاء الناس قائمة علي حق أو علي باطل... الي غير ذلک من الأمثلة.



[ صفحه 186]



المنشأ الرابع:

سبب نفسي من المطلعين علي هذه الروايات من الباحثين، يحمل الفرد علي عدم الاذعان و التصديق او صعوبته يتحقق الحادثة او صدق الرواية 7 و ان توفرت فيها شرائط السند، وزالت المناشي ء الثلاثة الأولي لغموض الدلالة.

و هذا الاتجاه النفسي له عدة مناشي ء.. أهمها ما يلي:

أولا: احتمال الحذف أو التغيير خلال النقل. فان اختلال الحرف الواحد بل النقطة الواحدة، فضلا عن الکلمة والأکثر، مما يخل بالمقصود و يغير المعني... و بخاصة في مثل هذا الحقل من المعرفة الانسانية.

ثانيا: استبعاد وقوع کل الحوادث المخبر بها في مجموع الروايات. فان کثرة هذه الروايات،کما تجعلها متواترة نعلم بصدق عدد مهم منها... کذلک تجعلنا نعلم أو نظن - علي الأقل - بکذب عدد آخر منها.و من المعلوم اننا لانستطيع ان نشخص المعلوم الصدق من معلوم الکذب. فان کل رواية لو اخذناها لرايناها محتملة الصدق و الکذب.

ثالثا: عدم التاکد من مطابقة عدد من المعجزات المروية في هذه الروايات، مع قانون المعجزات الذي ذکرناه... اي عدم التاکد من أن هذه المعجزات واقعة في طريق اقامة الحجة. و من المعلوم انها لو لم تکن و اقعة في هذا الطريق، فمقتضي القاعدة نفيها و تکذيب راويها.

و علي اي حال فهذه هي المناشي ء المهمة للغموض و التشکيک في دلالة هذه الروايات. و هناک مناشي ء اخري تکون في مورد دون مورد... لاحاجة الي التعرض لها.

منه التمحيص الدلالي:

بعد أن عرفنا هذه المناشي ء المهمة للغموض و التشکيک في دلالة هذه الروايات. و هناک مناشي ء اخري تکون في مورد دون مورد... لاحاجة الي التعرض لها.

منهج التميص الدلالي:

بعد أن عرفنا هذه المناشي ء الرئيسية للغموض و الابهام في روايات التنبو عن المستقبل، لابد لنا ان نعرض منهجا يذللها و اسلوبا من الفهم يبسط محتواها و يربط بين اجزائها، لکي نتلافي الصعوبات الي أکبر حد ممکن.

و نبدأ أولا بمناقشة المنشأ الرابع، لکونه خاصا بالسامع، اي باسلوب وصول



[ صفحه 187]



تلک الروايات الينا... لکي تتوفر بعدها، الي ناقشة باقي المناشي ء باعتبارها خاصة بالمتکلم الذي صدرت منه هذه الروايات.

و المنشأ الرابع، بعد أن حللناه الي مصاعب ثلاثة، يزول بطبيعة الحال، بزوال هذه المصاعب و تذليلها، فيرتفع الاستبعاد النفسي عن هذه الروايات، و يکون الأخذ بها قريبا الي النفس.

و ننطلق الي تذليل هذه المصاعب من التشدد السندي الذي اسسناه برفض کل رواية لاتعضدها القرائن و القواعد، و انکار کل حادثة لم تتوف فيها الروايات. فاننا عندئذ سوف لن نشعر بشي ء من هذه المصاعب.

اما احتمال الحذف و التغيير، فيرتفع بکل وضوح، لأن المطلوب هو اثبات الحادثة من مجموع القرائن و الروايات العديدة. و هذا ما لا يخل به احتمال التغيير کما هو واضح. و ان کان يودي بنا الي خسارة من جهة اخري، و هي احتمال أن تکون هذه الرواية - مثلا - من القرائن المؤيدة لو کانت مروية علي شکلها الواقعي، ولکننا لانجدها الان مندرجة في هذه القرائن. و هذه خسارة لابد منها نتيجة للأخذ بمنهج التشدد السندي. و سنستغني عن أمثال هذه الرواية بروايات أخري.

و أما العلم بعدم صدور بعض الروايات عن النبي (ص) أو الأئمة المعصومين (ع).فهو لن يوثر شيئا بعد تعاضد الروايات و القرائن علي الحوادث التاريخية. فحتي لو فرض أن من جملة الروايات التي تشارک في اثبات هذه الحادثة التاريخية أو تلک، هي رواية موضوعة مکذوبة... فان ذلک لايضر اصلا باعتبار أمرين: أولهما: الاعتماد علي الروايات و القرائن الأخري المثبتة للحادثة. و ثانيهما: اننا لانستطيع أن نشير الي أي رواية بعينها لنقول انها مکذوبة، ما لم تبلغ الي درجة الانحراف في الاسلام و تکون مخالفة للقواعد الاسلامية، و المفروض ان مثل هذه الرواية سوف لن تندرج في الاستدلال علي وجود اي حادثة تاريخية. اذن، فکل رواية نستدل بها هي محتملة الصدق علي اي حال، فتصلح أن تکون قرينة علي الحادثة.

و اما مسالة عدم مطابقة المعجزة المروية لقانون المعجزات، فلا بد و أن ننظر في



[ صفحه 188]



کل رواية، فان کانت مرفوضة عن طريق التشدد السندي... اذن فهي ساقطة سلفا، و لا حاجة الي التعب في التفکير بشانها.

و اما اذا کانت مروية بالطرق الثابتة بالتشدد السندي، فان المعجزات المروية عن هذاالطريق، في الأعم الأغلب مطابقة لقانون المعجزات، و لا اقل من أنها محتملة الانطباق عليه، بحيث لايکون هناک يقين بالتنافي بين اثبات هذه الرواية و بين قانون المعجزات. و سنقدم لأمثال هذه الروايات فهما جديدا يجعل معجزاتها مطابقة للقانون المطلوب.

و ان فرض - نادرا - ان صدور الرواية و صدقها کان ثابتا بالتشدد السندي، و کان عدم انطباق المعجزة علي القانون معلوما ايضا... فهذا مما لايمکن أن يحدث في الواقع. انما ينبئنا ذلک عن وجود غموض في الرواية أو نقص في الحادثة، يکون هو الکفيل - لو ارتفع - بايضاح المطلوب. و الله هو الموفق للسداد.

و أما المناشي ء الثلاثة الأولي، فالمنشأ الثالث منها، و هو احتمال الحذف و التغيير،يرتفع تماما بالتشدد السندي،کما هو واضح. لأن المطلوب الأساسي هو تحصيل القرائن علي وقوع الحادثة، لا اثبات صحة رواية معينة يحتمل فيها الحذف أو التغيير.

و أما المنشأين الأول و الثاني: فقد عرفنا خلال مناقشتهما انهما يشکلان خطوة بناءة، لا سببا من أسباب الفشل. اذ نستفيد من کليهما قاعدة عامة.

أمخا المنشأ الأول: فالقاعدة المستفادة منه: اننا ان وجدنا الرواية مما يمکن الأخذ بنصحها و صراحتها، بمقتضي القواعد العامة و القرائن التاريخيد و الدينية، اذن فهي ليست، رواية رمزية علي اي حال، و اما اذا وجدنا الواية مما لايمکن الأخذ بنصها و صراحتها بمقتضي القواعد، اذن فهي رمزية، و لا بد أن نفهم من النص معني منطقيا منظما منسجما مع سائر الأدلة و الروايات و القواعد و ان خالف هذا المعني،ما تعطيه الرواية بحسب الظاهر.

و يتم تعيين المعني طبقا لاحدي خطوات ثلاث:

الخطوة الأولي:

ان الرواية لا يمکن أن تحمل علي الرمز ما لم يثبت عدم امکان حملها علي المجاز



[ صفحه 189]



أو الکناية. لأن رفع اليد عن المعني الظاهر من اللفظ المفرد أولي من رفع اليد عن المعني الظاهر من الجملة الترکيبية. فان لم يمکن في الرواية هذا الحمل، تعين الحمل علي الرمزية في المعني الترکيبي.

الخطوة الثانية:

ان الرمز أو المجاز،ان کان محتملا لأکثر من معني،فلا بد من الحمل علي اقرب المعاني المحتملة الي المدلول المطابقي او الظاهر. بحيث يکون منسجما معه علي اي حال.و معه فلا بد من الاعراض عن المعاني الاخري و اهمالها.

الخطوة الثالثة:

يتعين المعني - کما علمنا - طبقا لانسجامه مع القواعد العامة و القرائن المتجمعة، فانها هي الفيصل النهائي في ذلک علي کل تقدير.

و اما المنشأ الثاني، فالقاعدة العامة المستفادة منه هي: عدم امکان حمل الألفاظ علي مصاديقها القديمة التي فهمت منها عند صدور النص. بل لا بد لنا من أن نفهم النص في حدود دلالته علي الحادثة التي تقع في المستقبل. اذ من المعلوم أن الزمن کفيل بتطوير المصاديق جيلا بعد جيل.

کما لا ينبغي ان نفهم الروايات بمفاهيم جيلنا الحاضر، علي وجه التحديد، بل لابد لنا أن نتصور لها مفاهيمها الخاصة و مصاديقها حين حدوثها، متي تحقق وقته. و لعل وقتها لن يحصل الا بعد مئات السنين.

فهذا تمام الکلام في المصاعب الدلالية. و به تنتهي الجهة الأولي من هذا الفصل.