قتل النفس الزکية
و قد اختصت بذلک المصادر الامامية أو کادت، و لم يذکر في صحاح العامة ما يدل علي ذلک.
فمن ذلک: ما رواه النعماني [1] عن أبي عبدالله عليه السلام، أنه قال: «للقائم خمس علامات... وعد منها: قتل النفس الزکية».
و أخرج النعماني أيضا [2] و المفيد في الارشاد [3] و الشيخ في الغيبة [4] عنه عليه السلام، في تعداد أمور محتومة. منها: قتل النفس الزکية.
و روي النعماني أيضا [5] عنه عليه السلام، قال الراوي:
[ صفحه 504]
«قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: بلي.
«قلت: و ما هي؟ قال: هلاک العباسي... و قتل النفس الزکية».
و أخرج المفيد في الارشاد [6] عن أبي جعفر الباقر (ع) و الشيخ في الغيبة [7] و الصدوق في اکمال الدين [8] عن أبي عبدالله الصادق (ع) بلفظ متقارب - و اللفظ للمفيد -: أنه قال: «ليس بين قيام القائم عليه السلام و قتل النفس الزکية أکثر من خمس عشرة ليلة».
وعد في الارشاد [9] مما جاءت به الاثار من العلامات لزمان قيام القائم، قال: «و قتل نفس زکية بظهر الکوفة في سبعين من الصالحين. کو ذبح رجل هاشمي بين الرکن و المقام».
و روي الصدوق أيضا [10] عن الامام الصادق (ع)، قال:«خمس قبل قيام القائم... وعد منها قتل النفس الزکية». و عنه (ع) أيضا:«قبل قيام القائم خمس علامات محتومات، وعد منها: قتل النفس الزکية». و في رواية أخري في تعداد أمور محتومة عن الامام الباقر (ع) قال:«و قتل النفس الزکية من المحتوم».
الي غير ذلک من الأخبار.
و لا بد أن نتکلم عن النفس الزکية، ضمن عدة أمور:
الأمر الأول:
يراد بالنفس الزکية: النفس الکاملة الطيبة، من زکا اذا نما وطاب. و يراد بالنمو في منطق الاسلام التکامل بالعلم و الاخلاص و التضحية.
و يمکن أن يراد - بالدقة - من الکمال أحد معنيين:
[ صفحه 505]
المعني الأول:
ما هو المطلوب اسلاميا من الفرد المسلم من قوة الايمان و الارادة و اندفاع الاخلاص و التضحية. و معه يکون المراد بالنفس الزکية مع غض النظر عما يأتي في الامر الثالث - شخصا من المخلصين الممحصين في الغيبة الکبري، و أنه يقتل نتيجة للفتن و الانحراف.
المعني الثاني:
أن يکون المراد من الکمال - في هذا الصدد -: البراءة من القتل. فيکون مساويا لقوله عزوجل:(أقتلت نفسا زکية بغير نفس، لقد جئت شيئا نکرا). [11] و لعل التعبير بالنفس الزکية بالقرآن يوحي تماما بأن المراد من الأخبار نفس ذاک المعني، و هو البراءة من القتل.
غير أن الذي يقرب المعني الأول، و يکون قرينة عليه، هو أن المنساق و المتبادر من کل واحدة من هذه الروايات، ان المراد بالنفس الزکية رجل معين يکتسب مقتله أهمية خاصة. و لا شک أن هذا منسجم مع المعني الأول. لأن مقتل الروجل المخلص الممحص، لايکون - عادة - الا علي صعيد عال من مستويات العمل الاسلامي، فيکون ملقتا للنظر اجتماعيا، و مثيرا أسفا اسلاميا عميقا. بخلافه علي المعني الثاني، اذ مجرد کون المقتول بريئا من القتل لا يکسبه أهمية خاصة و لا يکون مقتله ملفتا للنظر، علي حين ينبغي أن تکون العلامة مما يعرف - عادة - بين الناس، و الا سقطت فائدة دلالتها علي الظهور.
علي انه علي هذا المعني الثاني، يمکن حمله علي معني کلي واسع. و يکون المراد: أن من آثار عصر الفتن و الانحراف أن يقتل عدد من الناس بدون ذنب. و هذا ما حدث فعلا علي أعداد ضخمة من البشر علي مر التاريخ.
فان کان المعني الأول منسجما مع ما هو المنساق و المفهوم من هذه الروايات، دون المعني الثاني، تعين الحمل عليه. و لا تکون الاية قرينة عليه. لامکان أن يکون المراد من النفس الزکية من الاية المعني أيضا، أو أن يختلف معني الاية عن معني الرواية.
[ صفحه 506]
الأمر الثاني:
هل تقتل النفس الزکية بين الرکن و المقام.
لا شک ؤن المرکوز في الأذهان و المتناقل علي الألسن هو ذلک. حتي اعتبره صاحب «منتخب الاثر» من المسلمات فقال: [12] و قتل النفس الزکية: قتل محمد بن الحسن الذي يقتل بين الرکن و المقام.
الا أن ذلک لا يکماد يثبت بعد التشدد السندي الذي التزمناه، فقد أورد صاحب البحار حديثين لا يکادان يثبتان بعد هذا التشدد. و أما الارتکاز الذهني فلا يکفي للاثبات التاريخي أيضا. فان حدث ذلک في مستقبل الزمان، کان دليلا علي صدقه، و ان لم يحدث لم يکن علينا أن ننتظره، فانه مما لا دليل لنا عليه.
مضافا الي معارضته، بما رواه الشيخ المفيد في الارشاد من حدوث: قتل نفس زکية بظهر الکوفة في سبعين من الصالحين [13] و قد سمعناه. و هذا الخبر و ان لم يکن له قابلية الاثبات، الا أنه ليس بأسوا حالا من خبر مقتله بين الرکن و المقام، فيصلح لمعارضته، و مع المعارضة يتساقطان معا عن امکان الاثبات التاريخي.
و أما ما ذکره في الارشاد [14] أيضا من حدوث: ذبح رجل هاشمي بين الرکن و المقام، کما سمعنا. فهو لا يدل علي المقصود. اذ قد لا يکون هذا الرجل الهاشمي ذکيا ممحصا. مضافا الي ضعف الخبر و عدم کفايته للاثبات التاريخي.
الأمر الثالث:
انطباق هذه الروايات علي محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب، أبي عبدالله، الملقب النفس الزکية، الثائر في زمن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي.و
و لعمري أن هناک ما يدل علي هذا الانطباق، فلو استطعنا أن ننفي القرائن الدالة علي نفيه تعين الالتزام باثباته و ان النفس الزکية المقصودة، هو هذا الثائر العلوي. و من هنا يقع الکلام علي مستويين:
[ صفحه 507]
المستوي الأول:
في القرائن الدالة علي نفي هذا الانطباق. و ان النفس الزکية الموعودة هو غر هذا الثائر العلوي.
و هي عدة قرائن محتملة.
القرينة الأولي:
ان النفس الزکيد لا بد أن تقتل بين الرکن و المقام. و هذاالثائر العلوي لم يقتل هناک.
و هذا علي تقدير ثبوته قرينة کافية، علي نفي هذا الانطباق، الا انه مما لم يثبت کما أسلفنا.
القرينة الثانية:
تأخر اخبار الأئمة عليهم السلام بهذه العلامة من علامات الظهور عن مقتل هذا الثائر العلوي. مما يدل علي أن مقتل النفس الزکية يبقي متوقعا و منتظرا بعد مقتل النفس الزکية: الثائر.
و هذا علي تقدير ثبوته قرينة کافية أيضا علي نفي الانطباق. الا أنه لم يثبت. فان کل ما وجدناه من الروايات الدلالة علي هذه العلامة، مروية عن الامامين الباقر و الصادق عليهماالسلام. أما الامام الباقر () فعصره سابق علي عصر العلوي الثائر. و أما الامام الصادق (ع) فهو معاصر للمنصور العباسي و للنفس الزکية الثائر. و کان عليه السلام ينفي لعبد الله بن الحسن والد النفس الزکية - نجاح ثورته و ثورة ولديه، و يقطع أمله في نيل الخلافة، و يقول له: «ان هذا الأمر، و الله المنصور - ثم لولده من بعده، لا يزال فيهم حتي يومورا الصبيان و يشاوروا النساء.
«فقال عبدالله: و الله يا جعفر، ما أطلعک الله علي غيبة، و ما قلت هذا الا حسدا لا بني. فقال: لا والله، ما حسدت ابنک. و ان هذا - يعني المنصور - يقتله علي أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف، و قوائم فرسه في الماء». [15] .
[ صفحه 508]
و علي أي حال، فليس هناک أي دليل علي صدور مثل هذه الروايات بعد هذا الثائر العلوي. ان لم يکن المظنون خلافه.
القرينة الثالثة:
ان هذا الثائر العلوي لم يکن زکيا ممحصا، اذن، فلا بد ان نتوقع مقتل مخلص ممحص بعد ذلک، غير هذا الثائر.
و الدليل علي انحرافه ادعاوه المهدوية، فيما يروي عنه في مقاتل الطالبيين. و قد قدمه أبوه علي أنه هو المهدي، بعد زوال الدولة الأموية و قبل تأسيس الدولة العباسية، قائلا في خطبة له في بني هاشم: [16] «و قد علمتم أنا لم نزل نسمع أن هولاء القوم اذا قتل بعضهم بعضا خرج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم - يعني الوليد بن يزيد - فهلم نبايع محمدا، فقد علمتم أنه المهدي.
فقال له الامام الصادق (ع):«أنها والله، ما هي اليک و لا الي بنيک، ولکنها لهولاء، و ان ابنيک لمقتولان». [17] .
و کان محمد بن عبدالله بن الحسن، منذ کان صبيا، يتواري و يراسل الناس بالدعوة الي نفسه، و يسمي بالمهدي [18] .
و لسنا نريد أن ندخل في مناقشة ذلک، ويکفينا اليقين بأنه قتل قبل أن يملک العالم، و هو دليل کاف علي کذب المدعي، کما قلنا. ولکن المقصود أنه علي هذا المسلک لا يکون زکيا بل کذابا منحرفا. اذن فلا بد أن نتوقع مقتل شخص آخر يکون زکيا ممحصا غير هذا الثائر.
و الالتزام بانحراف هذا الثائر، لو صح هذا النقل التاريخي، أمر لا مناص منه. ولکنه لا ينفي کونه هو المقصود بالتنبو، في علامات الظهور.
و أما تسميته بالنفس الزکية، فقد سماه بذلک من کان يعتقد بکونه زکيا، حتي اشتهر به، و قد استعمل لقبه في الروايات طبقا لشهرته.
[ صفحه 509]
القرينة الرابعة:
تقدم مقتل هذا الثائر العلوي علي ولادة المهدي المنتظر عليه السلام. و معه لا يصح جعله علامة علي ظهوره. و معه لابد أن ننتظر مقتل شخص آخر يسمي أو يوصف بالنفس الزکية.
الا أن هذه القرينة لا تصح، لوضوح امکان جعل العلامة سابقة علي ولادة المهدي (ع). بعد أن کان التخطيط الالهي لليوم الموعود، لا يبدأ ببدء الاسلام فحسب، بل ببدء البشرية من أولها. اذن فکل الارهاصات تشير اليه. و قد سمعنا جعل هلاک الدولة الأموية و قيام الدولة العباسية و خروج الرايات السود من العلامات... و کل ذلک مما حدث قبل ولادة المهدي عليه السلام.
القرينة الخامسة:
ان التنبو بمقتل النفس الزکية جاء في الروايات، مقترنا أو متاخرا عن بعض ما يعلم بعدم حدوثه الي الان. اذن فيکون مقتضي الفهم العام من السياق أنه أيضا لم يتحقق الي الان. و معه يتبين أن لا يکون مشارا به الي قتل ذلک الثائر العلوي، بل الي مقتل رجل آخر، يقتل في مستقبل الدهر.
فمن ذلک: رواية الخمس علامات، کقول الامام الصادق عليه السلام: «للقائم خمس علامات، السفياني و اليماني و الصيحة من السماء، و قتل النفس الزکية و الخسف بالبيداء» [19] و رواية تعدد الأمور المحتومة کقوله عليه السلام: «النداء من المحتوم و السفياني من المحتوم و اليماني من المحتوم و قتل النفس الزکية من المحتوم...» الحديث. [20] .
ومن المعلوم أن خروج السفياني و اليماني و الصيحة مما لم يحدث، اذن فقتل النفس الزکية، مما لم يحدث أيضا.
و هذا الکلام غير صحيح، فان ما يقتضيه السياق هو عدم حدوث کل هذه الأمور عند صدور الرواية. و هذا صحيح. ثم أن بعضها يسرع بالحدوث و بعضها
[ صفحه 510]
يتأخر. و هذا لا ربط له بظهور الکلام و سياقه. و بخاصة ان العطف في الرواية بين العلامات بالواو، و هي ليست دالة علي الترتيب، مثل «أو» أو ثم، کما ينص النحاة.
القرينة السادسة:
ما سبق أن سمعناه من الخبر القائل: «ليس بين قيام القائم و بين قتل النفس الزکية الا خمس عشرة ليلة». و حيث نعلم بالقطع و اليقين تأخرالظهور عن مقتل ذلک اثائر العلوي لا بخمس عشرة ليلة، بل بأکثر من ألف عام. اذن فيتعين أن لا يکون التنبؤ منصبا علي ذلک، بل علي مقتل رجل آخر.
الا أن هذه القرينة غير صحيحة، فان هذا الخبر و ان تعدد في المصادر، فقد رواه المفيد في الارشاد و الشيخ في الغيبة و الصدوق في اکمال الدين و غيرهم الا أن ذلک يعود الي راو واحد.فأنه مروي عن ثعلبة عن شعيب عن صالح. و قد وصف ثعلبة في الارشاد و الاکمال بابن ميمون و وصف شعيب في الغيبة و الارشاد بالحداد، و وصف في الاکمال بالحذاء. و وصف صالح في الارشاد بابن ميثم و في الاکمال بابن مولي بني العذراء.
و علي أي حال، فان هذا الخبر علي أحسن تقدير خبر واحد، و قد رفضنا التمسک بمثله في تشددنا السندي.
اذن فلم يثبت نفي هذه الفکرة و هي أن النفس الزکية الموعود ليس هو النفس الزکية الثائر العلوي. بل يبقي ذلک محتملا علي أي حال،و سنذکر في المستوي الثاني مثبتاته و القرائن الدالة علي صحته.
المستوي الثاني:
فيما يدل من القرائن علي ثبوت هذا الانطباق... و ان التنبؤ منصب علي ثورة ذلک العلوي، ليس الا.
فمن ذلک: ما رواه الاصبهاني في المقاتل [21] بسنده عن محمد بن علي - الباقر عليه السلام - عن آبائه، قال: «النفس من ولد الحسن».
[ صفحه 511]
و هذا الحديث واضح الدلالة في الاشارة الي النفس الزکية المعهود التنبو بها في الأخبار. و هو لم ينطبق الا علي هذا الثائر العلوي، بل قد قيل فيه خصيصا، کما هو ظاهره حيث أورده الأصفهاني في ترجمته.
و من ذلک: ما رواه أيضا [22] بسند الي عبدالله بن موسي:«ان جماعة من علماء أهل المدينة أتوا عليا بن الحسن، فذکروا له هذا الأمر - يعني المطالبة بالحکم - فقال: محمد بن عبدالله أولي بهذا مني. فذکر حديثا طويلا. قال: ثم أوقفني علي أحجار الزيت فقال: ههنا تقتل النفس الزکية. قال: فرأيناه في ذلک الموضع المشار اليه مقتولا».
و ما رواه أيضا بسنده عن مسلم بن بشار، قال: «کنت مع محمد بن عبدالله، عند غنائم خشرم. فقال لي: ها هنا تقتل النفس الزکية - أقول: يعني نفسه -. قال: فقتل هناک».
اذن فالنفس الزکية ليست الا ذلک الثائر العلوي، و لعمري أنها علامة مهمة و ملفتة للنظر، حيث اتسعت ثورته، حتي خاف منهاالمنصور، کما يتضح لمن راجع المقاتل و لا نريد أن ندخل في تفاصيله.
پاورقي
[1] انظر غيبة النعماني، ص 133.
[2] المصدر، ص 134.
[3] ص 338.
[4] ص 266.
[5] الغيبة، ص 139.
[6] ص 339.
[7] ص 271.
[8] انظر المخطوط.
[9] ص 336.
[10] انظر هذا الحديث و ما يليه من الاحاديث في النسخه المخطوطة من اکمال الدين.
[11] الکهف: 74:18.
[12] انظر المصدر، ص 454.
[13] ص 336.
[14] نفس الصفحة.
[15] مقاتل الطالبيين، ص 189.
[16] المصدر، ص 188.
[17] المصدر، ص 189.
[18] المصدر، ص 177.
[19] غيبة النعماني، ص 133.
[20] المصدر، ص 134.
[21] ص 184.
[22] المصدر و الصفحة.