اعلانه انتهاء السفارة و يده الغيبة الکبري
و هو آخر جزء من التخطيط العام الذي سار عليه الأئمة عليهم السلام و أصحابهم للوصول الي الغيبة الکبري، ليکون الامام المهدي (ع) مذخورا لليوم الموعود.
و قد کانت الغيبة الصغري کافية لاثبات وجود المهدي (ع) بما يصل الي الناس عن طريق سفرائه و غيرهم علي البينات و البيانات. کما أوجبت بکل وضوح أن يعتاد الناس علي غيبة الامام و يسيغون فکرة اختفائه؛ بعد أن کانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمة، و امکان الوصول الي مقابلة الامام.
و قد رأينا کيف أن الامام المهدي (ع) کان متدرجا في الاحتجاب فهو أقل احتجابا في أول هذه الفترة. و کلما مشي بها الزمان زاد احتجابه، حتي لا يکاد ينقل عنه المشاهدة في زمن السفير الرابع لغير السفير نفسه.
و حينما کانت هذه الفترة مشارفة علي الانتهاء، کان الجيل المعاصر
[ صفحه 631]
لزمان ظهور الأئمة (ع) قد انتهي. و بدأ أجيال جديدة الي الوجود قد اعتادت غيبة الامام (ع) و فکرة القيادة وراء حجاب، و أصبحت معدة ذهنيا بشکل کامل لتقبل فکرة انقطاع السفارة أساسا و احتجاب الامام عن قواعده الشعبية تماما.
و هذا هو الذي يفسر لنا السبب الرئيسي الاول من أسباب ثلاثة لانتهاء السفارة و الغيبة الصغري، نلخصها فيما يلي:
السبب الاول: استيفاء الغيبة الصغري لأغراضها. و هو واضح بعد الذي ذکرناه من کون الغرض الأساسي هو تهيئة الذهنية العامة لغيبة الامام (ع)، و هو مما قد حصل بالفعل خلال هذه الفترة..فانها فترة کافية لحصول ذلک، و خاصة بعد أن تزايد احتجاب الامام بالتدريج حتي انحصرت رويته بشخص واحد هو السفير نفسه، ولم يبق بعد ذلک الا أن يحتجب الامام (ع) عن کل أحد علي الاطلاق.
السبب الثاني: ما ذکرناه في ترجمة السفير الرابع، و کنا قد حملنا قبل ذلک فکرة تفصيلية عن مناشئه و أسبابه. و هو صعوبة الزمان و ازدياد المطاردة و المراقبة من قبل الجهاز الحاکم و من اليه، للقواعد الشعبية المواليه للامام المهدي (ع) بل لکبرائهم و علمائهم؛ ولم ينج من هذا الضيق حتي السفير نفسه، الي حد يستطع السفير الرابع أن يقوم بعلم اجتماعي ذي بال، و لم يرولنا من أعماله الا ما هو قليل و بسيط.
ولم يکن من المتوقع زوال ذلک الحال في زمان قريب، و في عدد
[ صفحه 632]
من السنين قليل. لأن کيان الدولة و أساس الخلافة قائم علي ذلک. و خط الأئمة (ع) و أصحابهم يمثل علي طول الخط المعارضه الصامدة الواعيه ضد الحکام و اتحاد الظلم الساري في المجتمع.
اذن فلو وجد سفير جديد، فاما أن يکون عارفا بموقفه شاعرا بمسووليته عازما علي العمل المخلص في سبيل خطه، و اما أن لا يکون. فان لم يکن کذلک، فهو غير صالح للسفارة سلفا. و ان کان کذلک لم يستطع العمل، و لم يکن حاله بأحسن من حال السفير الرابع ان لم يکن أسوأ وأردأ. و لو أراد السفير أن يضحي تضحية کبيرة فينجز عملا کبيرا، لکان بذلک خارجا علي السرية و التکتم المطلوبة من السفير.
اذن فکل سفير جديد يعين، لا بد أن يفشل في مهمته جزما بالنظر الي ظروف المجتمع في ذلک الحين. و معه الي داعي الي استمرار السفارة، بل لا بد من رفع اليد عنها، و الوصول الي نهايتها.
السبب الثالث: عدم امکان المحافظة علي السرية الملتزمة في خط السفاره، لو طال بها الزمان أکثر من ذلک، و انکشاف أمرها شيئا فشيئا.
و هذا واضح جدا في التسلسل الطبيعي لتطور الحوادث، فانه لو صار عزم الامام المهدي (ع) أن يديم أحد السفارة و يسلسلها بين الأشخاص علي مدي الزمان، فان ذلک سوف ينتج حتما انکشاف أمر السفارة و السفير، و اشتهار ذکرهما في المجتمع علي لسان المومن
[ صفحه 633]
و المنحرف و الحکام و المحکومين. مهما حاول السفير أن يخفي أمره و يستر عمله. نعم! اذا تسلسلت السفارة بين الاشخاص من دون القيام بأي عمل، أمکن الاخفاء التام الا أن هذا خلاف الهدف من السفارة و المطلوب من السفير.
و لئن استطاع السفراء أن يخفوا سفارتهم لمدة سبعين عاما، فانه لن يکون ذلک مستطاعا الي الأبد. و سوف ينکشف - بحسب طبيعة الأشياء -أمر السفير. و معه يتعذر عليه العمل، ان لم يود به الي التنکيل به تحت سياط السلطات، و قد يودي الي جعل المهدي (ع) نفسه في مورد الخطر.
اذن فلا بد من قطع السفارة، تلافيا لما قد يحدث من مضاعفات. فلکل هذه الاسباب، و لأسباب أخري يضيق المجال عن ذکرها أعلن الامام المهدي عليه السلام، في توقيعه الذي أصدره الي السفير الرابع قبل موته، انتهاء عهد السفارة و انقطاع الغيبة الصغري وصلة الناس بامامهم و قائدهم. و بدأ الغيبة الکبري حتي يأذن الله تعالي في اليوم الموعود الذي يتحقق به الغد الاسلامي الکبير.
و قد سمعنا نص البيان عند التعرض الي ترجمة السفير الرابع الشيخ السمري؛و لکن ينبغي أن نستذکره هنا، لنستطيع أن نستلهم منه أمورا جديدة:
قال الامام المهدي (ع) في توقيعه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي ابن محمد السمري، أعظم الله أجر اخوانک فيک. فانک ميت ما بينک
[ صفحه 634]
و بين ستة أيام؛ فاجمع أمرک و لا توص الي أحد، فيقوم مقامک بعد وفاتک. فقد وقعت الغيبة التامة. فلا ظهور الا باذن الله تعالي ذکره. و ذلک بعد طول الامد و قسوة القلوب و امتلاء الارض جورا.
و سيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، الا فمن ادعي المشاهدة قبل خروج السفياني و الصيحة، فهو کذاب مفتر، و لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم.
فنري الامام المهدي (ع) قد أکد في هذا البيان علي امور:
الأمر الاول: اخباره بموت الشيخ السمري في غضون ستة أيام. و هو من الاخبار بالغيب الذي نقول بامکانه للامام، کما سبق أن قلنا. و لم يشک أحد يومئذ في صدق هذا الخبر، و قد غدا عليه اصحابه بعد ستة أيام فوجدوه محتضرا يجود بنفسه، کما سمعنا فيما سبق.
الامر الثاني:نهيه عن أن يوصي الي أحد، ليقوم مقامه و يضطلع بمهام السفارة بعد وفاته، و بذلک يکون هو آخر السفراء، و لا سفير بعده، و يکون خط السفارة قد انقطع. و عهد الغيبة الصغري قد انتهي.
الأمر الثالث: أنه لا ظهور الا باذن الله تعالي ذکره. و هذا معناه الاغماض في تاريخ الظهور، و ايکال علمه الي الله وحده و ارتباطه باذنه عزوجل.
و لهذا الاغماض عدة فوائد، أهمها اثنان:
الأولي: بقاء قواعده الشعبية منتظرة له في کل حين، متوقعة ظهوره في أي يوم. و هذا الشعور اذا وجد لدي الفرد فانه يحمله علي
[ صفحه 635]
السلوک الصالح و تقويم النفس و دراسة واقعه المعاش و معرفة تفاصيل دينه جهد الامکان. ليحظي في لحظة الظهور بالزلفي لدي المهدي (ع) و القرب منه، و لا يکون من المغضوب عليهم لديه، أو المبعدين عن شرف ساحته.
بل ان الفرد ليشعر، و هو في حالة انتظار امامه في أي يوم، ان انحرافه و فسقه قد يودي به الي الهلاک، و الابعاد کليا عن العدل الاسلامي العظيم الذي يسود العالم تحت قيادة الامام المهدي عليه السلام. فان الامام المهدي (ع) بعد ظهوره سوف يکون حديا في تطبيق العدل الاسلامي، و سيذيق کل منحرف عقائديا أو سلوکيا أشد الوبال، فانه لا مکانه للانحراف في مجتمع العدل المطلق.
الثانية: حماية المهدي (ع) من أعدائه بعد ظهوره. فان الاغماض في التاريخ يوفر محض المفاجئة و المباغتة للعدو علي حين غرة منه، و هو من أقوي عناصر النصر و أسبابه، ان لم يکن أهمها و أقواها علي الاطلاق، علي حين لو کان الموعد معينا لکان بامکان الأعداء أن يجمعوا أمرهم و يهيئوا أسلحتهم، قبيل الموعد المحدد حتي اذا ما آن أوان ظهوره قاتلوه و استأصلواه قبل أن يفهم به الناس، و يجتمع حوله الأعوان.
لا يفرق في أعداء المهدي (ع) بين من يعتقد بظهوره و بين من لا يعتقد. فان الموعد لو کان محددا طيلة هذا الزمان لکان أمرا مشهورا و لا وجد في أذهان الأعداء احتمالا علي الأقل بظهوره، و هو مساوق مع احتمال استئصال الأعداء و اجتثاثهم، و هذا بنفسه يکفي للتألب عليه
[ صفحه 636]
و اعلان التعبئة العامة و حالة الطواري ء ضد الامام المهدي.
اذن فاللازم لهذه المصالح و غيرها، بقاء الموعد غامضا مجهولا منوطا باذن الله عزوجل و علمه وحده.
الأمر الرابع: الاشارة الي ان أمد الغيبة التامة الکبري سوف يکون طويلا مديدا.
و انما ينص المهدي (ع) علي ذلک ليجعل الفرد المومن من قواعده الشعبية، مسبوقا ذهنيا بطول الغيبة و متوقعا لتماديها، فلا يأخذه اليأس أو يتلبسه الشک مهما طالت أو تمادت، و ان أصبحت آلاف السنين. فانه ما دام عارفا بأنها ستطول و انها منوطة باذن الله عزوجل عند تحقق المصلحة للظهور و تهيي ء البشرية لتلقي الدعوة الاسلامية الکبري. فان الفرد يعرف عند تأخر الظهور أن المصلحة بعد لم تتحقق، و ان الاذن الالهي لم يصدر.
و هذا السبق الذهني، يعني احتمال طول المدة، و هو لا ينافي حال الانتظار و توقع الظهور في کل يوم و کل شهر و کل عام. فان طول الأمد الموعود به في کلام المهدي عليه السلام، لفظ عام ينطبق علي السنين القليلة و علي السنين الطويلة. بل لو الامام المهدي (ع) قد ظهر بعد الغيبة الصغري بقليل لکان قد ظهر بعد طول الأمد، لان السبعين عاما مع الشعور بالظلم و حالة الانتظار تکون أمدا طويلا بحسب الجو النفسي للفرد و المجتمع لا محالة.
هذا، فضلا عما اذا تأخر الامام المهدي (ع) في ظهوره. عشرات
[ صفحه 637]
السنين أو مئاتها-کما حدث بالفعل - أو آلافها. فان طول الامد يکون قد تحقق بأوضح صورة واصعب انحائه. و معه يکون الفرد متوقعا انتهاء هذا الامد الطويل في کل ساعة و في کل يوم، و صدور الاذن الالهي بالظهور.
الأمر الخامس: الاشارة الي قسوة القلوب. و المراد به ضعف الدافع الايماني، و الشعور بالمسوولية، و المشارفة علي الانحراف، بل سقوط أغلب أفراد المجتمع المسلم به.
و ذلک لان الفرد يواجه امتحانا الهيا صعبا خلال الغيبة الکبري من جهات ثلاث، يکون عليه أن يخرج منه ناجحا ظافرا. و الخروج منه بنجاح يحتاج الي عمق في الايمان و الاخلاص و الارادة لا يتوفر الا في القليل من الأفراد.
الجهة الأولي: موقف الفرد تجاه شهوات نفسه و نوازعه الغريزية التي تتطلب الاشباع بأي شکل و حال. و کما قالوا، ان الغرائز لا عقل لها. فعلي الفرد أن يلاحظ ذلک فيکفکف من غلواء شهواته و يزعها بعقله و ايمانه عن الحرام الي الحلال.
الجهة الثانية: موقف الفرد تجاه الضغط الخارجي الذي يعيشه و ما يتطلبه من تضحيات في سبيل دينه و ايمانه، ضد الفقر و المرض و السلاح و الحرج الاجتماعي، و نحو ذلک من المصاعب التي تصادف الفرد في طريقه الايماني الطويل.
فان کان الفرد شاعرا بالمسوولية قوي الارادة استطاع تذليل هذه
[ صفحه 638]
الصعوبة و التضحية في سبيل الايمان. و اما اذا لم يکن قوي الارادة و کان غير شاعر بالمسوولية، فانه سوف يعطي الدنية من نفسه بقليل أو بکثير، و يتعرض للانحراف في کثير من مناطق طريقه الطويل.
الجهة الثالثة: موقف الفرد تجاه الاعتقاد بوجود امامه الغائب و قائده المحتجب؛ فانه بعد ان عرفه بالدليل القطعي، لا ينبغي أن تثبطه الشکوک و لا ان تزعزعه الأوهام،و لا أن يوثر في زحزحة اعتقاده طول الأمد.
فاذا کان الفرد ناجحا من سائر الجهات، کان من الاقلين عددا المرتفعين شأنا، الواعين لدينهم، و سوف لن يبتلي بقسوة القلب التي أشار لها المهدي (ع) في کلامه. تلک القسوة التي يتلي بها الأکثرون الذين لا يکونون علي المستوي المطلوب من الايمان و الاخلاص.
الأمر السادس: الاشادة الي امتلاء الأرض جورا.
و فيه تطبيق واضح الکلام النبوي الشريف القائل بأن المهدي يظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و هو الحديث المستفيض الذي رواه عدد من علماء الاسلام و المحدثين العظام من مختلف المذاهب.
و السر في امتلاء الأرض بالظلم و الجور، واضح بعد الذي قدمناه في الأمر السابق، من فشل أکثر البشر في الامتحان الالهي خلال الغيبة الکبري. و سيطرة المادة و اشباع الشهوات عليهم و ضعف الوازع الديني و الاخلاقي الي حد کبير. جدا في المسلمين. اما غيرالمسلمين
[ صفحه 639]
فحدث عنهم و لا حرج من حيث انکارهم لاصل الدين الاسلامي و أساس التوحيد. و من حيث موقفهم المخرب تجاه الاسلام و المسلمين، و ذلک الموقف الذي ذاق منه المسلمون خلال التاريخ أشد العذاب و التنکيل.
فاذا لم يکن لدي الدين الحق، قائد عظيم کالامام المهدي عليه السلام، لکونه غائبا غير مواجه للمجتمع بصفته الحقيقية، ليجمع شمل الدين و يلم شعثه و يرأب صدعه و يدفع عدوه؛ فان الغلبة تکون لا محالة للسلاح الأقوي و العدد الاکبر، و هو جيش الکفر من ناحية و جيش الشهوات و الانحراف من ناحية أخري. فتمتلأ الأرض جورا و ظلما بطبيعة الحال، و سيأتي في بحوثنا عن الغيبة الکبري [1] مزيد توضيح لذلک.
الأمر السابع: من الأمور التي يشير اليها المهدي عليه السلام في التوقيع: اثبات حدوث السفياني و الصيحة، و انه أمر حق لا محيص عنه قبيل خروج المهدي (ع) و ظهوره.
و هذا ما نطقت به کثير من الاخبار، رواها محدثوا کلا الفريقين. و لا يبعد أن تکون أخبار السفياني متواترة أو قريبة من التواتر. و سنعرض الي ذلک و الي مغزاها الاجتماعي و أسبابها و نتائجها، في التاريخ القادم عن الغيبة الکبري ان شاءالله تعالي.
الامر الثامن: ان من ادعي المشاهدة قبل خروج السفياني و الصيحة فهو مفتر کذاب.
و هو واضح في مدلوله. فان المراد بيان احتجاب الامام المهدي (ع)
[ صفحه 640]
عن الناس حتي زمان تحقق هاتين العلامتين. فمن الواجب تکذيب کل من ادعي روية المهدي (ع) قبل تحقق ذلک. و انما ينفتح المجال لاحتمال صدقه بعد تحقق العلامتين، بمعني أن ذلک الحين هو موعد الظهور. فمن ادعي روية المهدي (ع) يومئذ فهو صادق أو محتمل الصدق علي الاقل. و اما قبل ذلک فلا.
و قد اصطدم ذلک -في نظر عدد من العلماء- بالاخبار القطعية المتواترة التي وردتنا عن مقابلة الکثيرين للامام المهدي عليه السلام خلال غيبته الکبري، من بعد صدور هذا البيان الذي سمعناه الي الآن، بنحو لا يمکن الطعن فيه أو احتمال الخلاف. و مقتضاها لزوم تصديق المخبرين في الجملة، مع ان هذا التوقيع المهدوي يوجب علينا تکذيبه. فکيف يتم ذلک، و ما هو وجه الجمع بينه و بين تلک الاخبار.
و ما قيل أو يمکن أن يقال من وجوه الجمع -لو حصلت المعارضة-عدة وجوه:
الوجه الاول: الطعن في سند التوقيع الشريف ورواته. حيث قالوا: انه خبر واحد مرسل ضعيف، لم يعمل به ناقله و هو الشيخ في الکتاب المذکور، و اعرض الاصحاب عنه. فلا يعرض تلک الوقائع و القصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل من بعضها المتضمن لکرامات و مفاخر لا يمکن صدورها عن غيره عليه السلام. [2] .
الا أن هذا الوجه لا يمکن قبوله:
[ صفحه 641]
اما کونه خبر واحد فهو ليس نقصا فيه، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية خبر الواحد الثقة. و اما القول بعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به الا القليل النادر من العلماء.
و اما کونه خبرا مرسلا، فهو غير صحيح، اذ رواه الشيخ في الغيبة [3] فقال: أخبرنا جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال حدثني أبو محمد أحمد بن الحسن المکتب. قال: کنت بمدينة السلام في السنة التي توفر فيها الشيخ أبوالحسن علي بن محمد السمري قدس سره. الي آخر الخبر. کما رواه الصدوق ابن بابويه في اکمال الدين عن أبو محمد المکتب نفسه، فأين الارسال؟. و الزمن بحسب العادة مناسب مع وجود الواسطة الواحدة.
و اما کونه ضعيفا، فهو علي تقدير تسليمه، يکفي للاثبات التاريخي، کما قلنا في مقدمة هذا التاريخ، و ان لم يکن کافيا لاثبات الحکم الشرعي، کما حقق في محله.
و اما اعراض الشيخ الطوسي و الاصحاب عن العمل به، فانما تخيله صاحب الاشکال باعتبار اثبات الشيخ و غيره روية الامام المهدي (ع) في غيبته الکبري. و هذا مما لا شک فيه، الا أنه انما يصلح دليلا علي اعراضهم لو کانت هناک معارضة و منافات بين التوقيع و اثبات الروية و اما مع عدم المعارضة -علي ما سيأتي -فيمکن أن يکون العلماء: الشيخ الطوسي و غيره قد التزموا بکلا الناحيتين، من دون تکاذب
[ صفحه 642]
بينهما. و معه لا دليل علي هذا الاعراض منهم.
علي ان الاعراض لو کان حاصلا لما أضر بحجية الحديث، لما هو الثابت المحقق في علم الاصول، بان اعراض العلماء عن الرواية لا يوجب و هنا في الرواية سندا و لا دلالة.
الوجه الثاني: الطعن في الاخبار الناقلة لمشاهدة الامام المهدي عليه السلام في غيبته الکبري سندا، أي من ناحية رواتها، و الشطب عليها جملة و تفصيلا. کما قد يميل اليه المفکرين المحدثين.
الا أن هذا مما لا سبيل الي تصديقه. فانها طائفة ضخمة من الاخبار قد يصل عددها الي عدة مئات. علي ان بعضها مروي بطرق معتبرة و قريبة الاسناد فلا يمکن رفضها بحال. و هذا کله واضح لمن استقرأ تلک الاخبار و عاش أجواءها. و سيأتي الکلام عنها في التاريخ القادم عن الغيبة الکبري ان شاء الله تعالي.
الوجه الثالث: الطعن في الاخبار الناقلة للمشاهدة، بحسب الدلالة و المضمون. بأحد نحوين:
النحو الأول: ان تحمل هذه الاخبار علي الوهم، و ان هولاء الذين زعموا رأوا و سمعوا..لم يرو و لم يسمعوا. و انما کان کلامهم کذبا متعمدا أو اضغاث أحلام و لو من قبيل أحلام اليقظة. و هذا هو الوجه الذي قد يميل اليه المفکرون المتأثرون بالمبادي ء المادية الحديثة.
الا أن هذا أيضا مما لا يمکن الاعتراف به. فان کثرتها مانعة عن کلا الأمرين: اما تعمد الکذب فهو مما ينفيه التواتر، فضلا عما زاد عن
[ صفحه 643]
ذلک بکثير. مضافا الي وثاقة و تقوي عدد مهم من الناقلين، و عدم احتمال تعمدهم للکذب أساسا.
و أما کونها من قبيل الأوهام و الأحلام، فهو مما ينفيه تکاثر النقل أيضا، بل يجعل الاعتراف به في عداد المستحيل. و تستطيع أن تجد أثر ذلک في نفسک. فلو أخبرک واحد لکان احتمال الوهم موجودا و ان کان موهونا، الا أنه لو أخبرک ثلاثة أو أربعة بحادثة معينة لحصل لک الاطمئنان، أو العلم بصدق الخبر و حصول الحادثة، فضلا عما اذا أخبرک بها عشرة، فکيف اذا أخبرک به العشرات بل المئات. و هل تستطيع أن تحملهم کلهم علي الوهم أو أحلام اليقظة، الا اذا کنت تعيش الوهم أو أحلام اليقظة.
النحو الثاني: أن يقول قائل: ان الناقلين للمشاهدة و ان کانوا صادقين و غير واهمين، فانهم قد عاشوا حسية معينة. الا أنهم في الحقيقة، لم يشاهدوا المهدي (ع)، بل شاهدوا غيره و توهموا أنه هو علي غير الواقع.
الا أن هذا غير صحيح أيضا لامرين:
أولا: انه مما ينفيه التواتر، فضلا عما زاد عليه من أعداد الروايات و النقول ان يحصل القطع بان المجموع لم يکونوا مغفلين بهذا الشکل، بل أن بعضهم -ان لم يکن کلهم - قد شاهدوا المهدي (ع) نفسه.
ثانيا: انه مما تنفيه الدلائل الواضحة و البراهين اللائحة التي يقيمها المهدي عليه السلام أثناء المقابلة، و ينقلها هولاء الناقلون مما لا يمکن
[ صفحه 644]
صدورها من أحد سواه. فيتعين أن يکون هو الامام المهدي (ع) دون غيره. و سيأتي التعرض الي هذه الدلائل في التاريخ القادم.
الوجه الرابع: ان نعترف بصدقها و مطابقتها للواقع، لکن يلتزم بوجوب تکذيبها تعبدا، اطاعة للأمر الوارد في التوقيع. و قد احتمل هذا الوجه بعضهم.
الا انه مما لا يکاد يصح..فانه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه. حيث يقول: فهو کذاب مفتر الدال علي عدم مطابقة قوله للواقع. و لم يقل فکذبوه، ليکون من قبيل الأمر الصادر من الامام ليطاع تعبدا. علي انه لا يمکن للامام المهدي (ع) أن يأمر بالتکذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر.
الوجه الخامس: حمل التوقيع الشريف علي دعوي المشاهدة مع ادعاء الوکالة أو السفارة عنه عليه السلام، و ايصال الاخبار من جانبه الي الشيعة علي مثال السفراء في الغيبة الصغري. قالوا: و هذا الوجه قريب جدا. و قد نقل عن البحار و غيره. [4] .
الا أنه في الواقع بعيد جدا، بمعني أنه خلاف الظاهر من عبارة الامام المهدي (ع) في بيانه. فانه يحتاج الي ضم قيد أو لفظ الي عبارته لم تقم قرينة علي وجودها..کما لو کان قد قال: الا فمن ادعي المشاهدة مع الوکالة فهو کذاب مفتر. الا أن المهدي (ع) لم يقل ذلک کما هو واضح، و مقتضاه عموم التکذيب لمن ادعي السفارة و غيره.
[ صفحه 645]
نعم، من ادعي السفارة أو الوکالة يجب تکذيبه. الا أن هذا غير ادعاء المشاهدة. اذ بالامکان تصديق الفرد علي المشاهدة و تکذيبه علي الوکالة.الا أن الدليل علي تکذيب الوکالة ليس هو قوله: فهو کذاب مفتر. و انما هو قوله: و لا توص الي أحد فيقوم مقامک بعد وفاتک. فانه دال علي انتفاء السفارة بعد السمري، فکل من يدعيها علي مدي التاريخ فهو کاذب لا محالة، الي عصر الظهور.و لذا قال الواعون من معاصري الغيبة الصغري، انه (عندنا ان کل من ادعي الأمر بعد السمري فهو کافر منمس ضال مضل) [5] و بذلک کانوا يستدلون علي کذب دعاوي السفارات بعد السفير الرابع.
و اما ايصال الاخبار من جانبه الي الشيعة، فان کانت محتفة بقرائن توجب العلم أو الاطمئنان بمطابقتها للواقع، فلا ينبغي تکذيبها. و انما يجب التکذيب - لو ثبت الأمر به- مع احتمال الخطأ و عدم وجود الدلالة علي الصواب.
اذن فلا يتم شي ء من هذه الوجوه الخمسة للجمع بين التوقيع الشريف و اخباره المشاهدة، علي تقدير صحة التعارض بينهما.
الا أن الصحيح هو عدم وجود التعارض بينهما بالمقدار الذي يثبت الحق و تقتنص منه النتيجة الاسلامية المطلوبة علي ما سنري. من مقابلات الامام المهدي (ع)، من حيث مطابقتها للواقع و عدمها، و من حيث الاعراب عن المقابلة أو السکوت عنها..تنقسم الي عدة أقسام.
[ صفحه 646]
فيقع الکلام فيها علي سبعة مستويات:
المستوي الأول: اننا سبق ان عرفنا ان الامام المهدي (ع) ليس مختفيا بشخصه عن الناس، و انما يراهم و يرونه، و لکنه يعرفهم و لا يعرفونه. فما هو الواقع خارجا هو الجهل بعنوانه کامام مهدي، لا اختفاء جسمه، کما تقول به بعض الافکار غير المبرهنة.
و قد عرفنا ان جهالة عنوان کافية في نجاته من السلطات الظالمة خاصة بعد أن تنمو أجيال جديدة لا تعرف شکله و سحنته. اذن فالمهدي (ع) يستطيع أن يعيش في المجتمع کأي فرد من أفراده لا يلفت النظر و لا يثير الانتباه، بصفته عاملا أو رجل دين، أو يتخذ في کل فترة زمنية عملا معينا، و هکذا. کما سنعرض له مفصلا في التاريخ القادم.
و علي ذلک، فروية الناس للمهدي (ع) ثابتة في کل يوم و علي الدوام کلما مشي في الطريق أو ذهب الي السوق أو الي الحج أو الي الحج أو الي زيارة أحد أجداده الأئمة عليهم السلام. غاية الأمر أن الناس يرون فيه شخصا عاديا و يجهلون بالکلية کونه هو المهدي (ع)، بل من المعذر حتي مجرد الالتفات الي ذلک أو احتماله، کما هو واضح.
و مثل هذه الروية أو المقابلة للمهدي (ع)، لا ينفيها التوقيع الشريف بحال، فانها لا تقترن أبدا بادعاء المشاهدة. بسبب جهل المشاهد بحقيقة من رآه و کونه هو المهدي. فهو لا يدعي أنه رأي المهدي ليلزم تکذيبه. و اذا أعرب عن ذلک، فانما يقول: رأيت فلانا..و يذکر العنوان
[ صفحه 647]
الظاهر الذي اتخذه المهدي (ع) في ذلک المجتمع، لا العنوان الواقعي للمهدي البتة. و ظاهر بيان انتهاء السفارة ان ما هو کاذب أو ما يجب تکذيبه هو ادعاء مشاهدة المهدي بصفته اماما مهديا أو الالتفات الي ذلک و لو بالنتيجة، أي بعد انتهاء المقابلة. و هو مما لا يمکن أن يحدث في المقابلات الاعتيادية للمهدي (ع).
اذن فخبر التکذيب بعيد عن تکذيب هذا النوع من المشاهدة. کما ان الاخبار الدالة علي مشاهدة المهدي (ع) بعيدة عنه أيضا. لما عرفناه من عدم الامکان الاعراب عن مشاهدة المهدي (ع) علي هذا المستوي من المشاهدة. و انما تضمنت تلک الاخبار الاعراب عن مشاهدة المهدي بصفته مهديا، و لو من حيث النتيجة، بالدلائل التي يقيمها المهدي (ع) علي نفسه أثناء المقابلة.
اذن فهذا المستوي من المقابلة، خارج عن نطاق کلا الطرفين المدعي تعارضهما..لا ينفيه التوقيع و لا تثبته الاخبار الأخري. و معه فلا معارضة بينهما علي هذا المستوي، فان المعارضة انما تتحقق فيما لو اجتمع النفي و الاثبات علي مورد واحد، و ليس في المقام کذلک.
المستوي الثاني: ان الفرد يري المهدي بصفته مهديا، و لکنه لا يعرب عن ذلک الي الأبد.
و هذا المستوي مما لا يمکن الاستدلال علي بطلانه أو نفيه، ان لم ندع أنه هو الأغلب مقابلات المهدي (ع). و ان المقابلات التي أعرب عنها الناس و وصلنا خبرها-علي کثرتها-أقل بکثير من المقابلات التي لم
[ صفحه 648]
يعرب عنها أصحابها و لم يصلنا خبرها. خاصة بعد أن نعرف أن العلماء و الصالحين من سلفنا الصالح، کانوا يرون عدم جواز الاعراب عن المقابلة لاحد، بدوافع مختلفة. اما لکونهم تخيلوا أن التوقيع الشريف الذي نتحدث عنه دال علي عدم الجواز، و اما لکونهم تخيلوا ان الاعراب عن المقابلة بما فيها من ملابسات قد تودي الي خطر علي المهدي نفسه. و اما لکونهم تخيلوا ان مقتضي الأخلاق و التواضع هو السکوت، و اما لانهم تلقوا أمرا من المهدي (ع) حين المقابلة باکتمان.أو لغير ذلک من الدوافع. و بذلک ضاعت علي التاريخ أکثر مقابلات الامام المهدي (ع) في غيبته الکبري.
و هذا المستوي من المقابلات، مما لا يمکن الاستدلال علي بطلانه، الا برفض التصور الامامي (ع) و غيبته. و هو خلاف المفروض من هذا التاريخ، حيث بنيناه علي التسليم بصحة هذا التصور، و أوکلنا البرهنة عليه الي بحث آخر. کما قلنا في المقدمة، و مع الاعتراف بهذا التصور تکون مقابلته علي هذا المستوي محتملة علي أقل تقدير. و لا يدل التوقيع الشريف علي نفيه و بطلانه لفرض عدم اقترانها بدعوي المشاهدة. کما لا معني لتکذيبها، بعد أن سکت عنها أصحابها، کما لا يدل عدم نقلها علي عدم تحققها، لکون أصحابها قد تعمدوا اخفاءها و السکوت عنها.
و هذا المستوي أيضا خارج عن اخبار المشاهدة، لکونها جميعا من المشاهدات المنقولة کما هو واضح. و معه يکون هذا المستوي خارجا
[ صفحه 649]
عن طرفي النفي و الاثبات للطرفين من الاخبار المدعي تعارضهما: اذن فلا تعارض علي هذا المستوي أيضا.
المستوي الثالث: ان الفرد يري الامام المهدي (ع) بصفته مهديا و لو بحسب النتيجة، و لکنه لا يخبر بالصراحة و الوضوح، بکونه قد شاهد المهدي (ع). و انما ينقل ما وقع له من الحادثة و يکون المستنتج له و لغيره، من مجموع ما حدثت من دلائل هو أن ذاک الشخص الذي أقامها هو المهدي عليه السلام.و المخبر من ناحيته يجعل المجال للتفلسف و الاستنتاج للسامع مفتوحا. و ان کان يعتقد بنفسه ان من رآه هو الامام المهدي (ع) بعينه.
ففي مثل ذلک، اذا استظهرنا من التوقيع الشريف،کما هو غير بعيد من قوله: ادعي المشاهدة، ما اذا ادعي المتکلم رأسا أنه رأي المهدي (ع) و تعهد بذلک للسامع. فهذا هو المنفي بلسان التوقيع و اما اذا لم يخبر بذلک صراحة و انما أو کل الجزم بذلک الي وجدان السامع.. فهو مما لا ينفيه التوقيع الشريف.
و من المعلوم لمن استعرض أخبار المشاهدة التي ادعي معارضتها مع التوقيع، ان أکثرها يتضمن نقلا للحادث مع ايکال الجزم بکون المرئي هو الامام المهدي (ع) الي وجدان السامع، و عدم تعهد المتکلم بذلک، و ان کان معتقدا به. اذن فمثلا هذه الأخبار تکون مداليلها ثابتة بدون أن ينفيها التوقيع بحال.
نعم، لو فرض وجود خبر يقول لک: بأنه شاهد المهدي عليه
[ صفحه 650]
السلام، و تعهد لک بالصراحة بذلک فانه يخرج عن هذا المستوي الثالث.
و اما کونه هل يقع طرفا للمعارضة مع التوقيع أو لا يقع، فهو مما سيتضح علي المستويات الآتية.
المستوي الرابع: کون الفرد يري الامام المهدي عليه السلام. و يخبر صراحة انه رأي المهدي، متعهدا باثبات بذلک. الا أنه يذکره مدعما بالبراهين و الأدلة التي تورث القطع للسامع بأن الشخص المرئي هو المهدي نفسه. لاستحالة أن يقوم بذلک شخص سواه عادة.
ففي مثل ذلک، و ان اقتضي الفهم الابتدائي للتوقيع نفي المشاهدة علي هذا المستوي، الا أنه بحسب الدقة، يستحيل دلالة التوقيع علي ذلک، لفرض کوننا قاطعين بکون المرئي هو الامام المهدي (ع) و القاطع يستحيل عقلا أن يحتمل الخلاف أو يکلف بالتکذيب. و معه يکون الحکم بکون مدعي المشاهدة مفتر کذاب، مختصا بصورة الشک بما اذا کان المرئي هو المهدي (ع) أو غيره. و لا يشمل صورة العلم بکونه هو المهدي (ع). فکأن المهدي (ع) من توقيعه الشريف يريد أن يقول: انه اذا أخبرک شخص بأنه رأي المهدي و شککت بقوله فاحمله علي انه کاذب؛بمعني ان القاعدة العامة في دعوي المشاهدة هو الکذب و عدم المطابقة مع الواقع، الا مع القطع بالثبوت و المطابقة. و المفروض علي هذا المستوي القطع بذلک. فلا يکون منفيا بالتوقيع کما هو واضح.
و نحن اذا استعرضنا أخبار المشاهدة، نجدها جميعا مدعمة بالشواهد
[ صفحه 651]
القطيعة الدالة علي کون الشخص المرئي هو الامام المهدي (ع) فان هذه الشواهد هي السبيل الوحيد الي معرفة ذلک. الا أننا الآن حيث لم نعش هذه الشواهد و لم نعاصرها و کان کل خبر مستقلا، ظنيا بالنسبة الينا، فما عندنا من العلم فعلا، هو العلم الناشي ء من التواتر، حيث قلنا بأن هذه الاخبار تفوق التواتر. اذن فنحن نعلم أن أشخاصا اخبروا عن مشاهدة المهدي و عاشوا شواهد قطعية عن ذلک، و معه لا يمکن أن تکون مثل هذه الاخبارات مشمولة للتوقيع الشريف بحال.
فعلي هذه المستويات الأربعة، التي تنتظم فيها سائر الاخبار، و لا يکاد يشذ منها شي ء ترتفع المعارضة المتخيلة بين التوقيع الشريف و اخبار المشاهدة. و لا يکاد يکون التوقيع نافيا لها بحال.
المستوي الخامس: ان الفرد يخبر عن مشاهدة الامام المهدي عليه السلام، من دون أن يقترن خبره بدليل يوجب القطع أو الاطمئنان بأن المرئي هو المهدي عليه السلام نفسه.
و هذا المستوي لا يکاد يوجد في أخبار المشاهدة، فانها کلها أو الأعم الأغلب منها علي الأقل، تحتوي علي الدلائل القطعية علي ذلک کما قلنا، و سنري ذلک حين نعرض لها بالتفصيل في التاريخ القادم.
نعم، لو فرض وجود مثل هذا الخبر أو سمعت شيئا من ذلک من أحد بدون أن يقترن بدليل واضح، فاعرف انه کذاب مفتر. فانه يکون مشمولا للتوقيع الشريف، لو اقتصرنا علي قسم من عبارته. و لا ضمير في ذلک، فان المنفي هو أقل القليل. و هو يحملنا علي التنزه
[ صفحه 652]
عن الدعاوي الفارغة و الاستغلالات الخرافية المتعمدة.
نعم لو أخذنا بقوله (ع): و سيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة و فهمنا منه التنبيه علي الدعوات المنحرفة بالخصوص، علي ما سيأتي علي المستوي الآتي..کان ذلک قرينة عليان دعوي المشاهدة المقترنة بالدعوة المنحرفة، هي الکاذبة دائما. و معه يکون ادعاء المشاهدة المجرد عن الدعوة المنحرفة، غير منصوص علي کذبه في التوقيع، و ان تجرد عن الدليل الواضح، بل يبقي محتمل الصدق علي أقل تقدير.
المستوي السادس: ان يدعي شخص مشاهدة الامام المهدي عليه السلام، بدون برهان واضح، کالمستوي السابق، و لکنه يدعي أن المهدي عليه السلام قد قال له أمورا أو أمره بتبليغ أشياء نعرفها بکونها باطلة و منحرفة. فيحاول هذا الفرد أن يتزعم باسم المهدي (ع) مسلکا منحرفا أو حرکة ضالة في داخل نطاق القواعد الشعبية المومنة بالمهدي (ع)..من أي نوع من أنواع الانحراف کان.
و الادعاء علي هذا المستوي کاذب و مزور جزما للعلم بعدم صدور ما هو باطل من الامام الحق المذخور لدولة الحق.
و المطمأن به هو أن هذا المستوي من الادعاء هو المقصود من التکذيب في التوقيع الشريف. فان المستظهر من قوله (ع): و سيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة. کون المراد منه الارشادة الي حدوث دعوات منحرفة و حرکات غير محدودة في داخل القواعد الشعبية الامامية، تقوم علي دعوي المشاهدة، خلال الغيبة الکبري. مع الفات نظر المومنين
[ صفحه 653]
و تحذيرهم من تلک الدعوات، و تنبيههم علي خطرها علي الاسلام و المجتمع الاسلامي.
اذن فمدعي المشاهدة کاذب مزور في خصوص ما اذا کان منحرفا ينقل أمورا باطلة عن الامام المهدي عليه السلام. و اما فيما سوي ذلک فلا يکون التوقيع الشريف دالا علي بطلانه، سواء نقل الفرد عن المهدي (ع) أمورا صحيحة بحسب القواعد الاسلامية، أو محتملة الصحة علي أقل تقدير، أو لم ينقل شيئا علي الاطلاق.
المستوي السابع: أن يومن شخص بانسان أنه هو المهدي المنتظر کما حدث في التاريخ خلال الدعوات المهدوية المتعددة. فيخبر-اذا رآه -أنه رأي المهدي.
و هذا يکون کاذبا جزما، لانه و ان کان رأي مدعي المهدوية، الا أنه لم ير المهدي الحقيقي المعين من قبل الله تعالي لانقاذ العالم من الظلمن في اليوم الموعود. فاخباره بروية المهدي (ع) لا يکون مطابقا للواقع، و ان اعتقد المخبر صدفه. فيکون المراد من التوقيع الشريف هو التحذير من هذه الدعوات المهدوية الباطلة.
و المعارضة-علي هذا المستوي - غير موجودة بين التوقيع الشريف و اخبار المشاهدة. فان التوقيع و ان کان مکذبا لهذه المشاهدة، الا أن أخبار المشاهدة المقصودة لا تثبتها، فانها جميعا تدور حول مشاهدة المهدي الغائب محمد بن الحسن العسکري عليهما السلام، دون غيره. و هو المهدي الحقيقي بالفهم الامامي، و عند من يعترف بصحة هذا
[ صفحه 654]
التوقيع الشريف و نفوذه. و معه لا معني لهذه المعارضة المدعاة.
الا أنه يمکن المناقشة علي أي حال في تعرض التوقيع لهذا المستوي السابع. باننا و ان جزمنا بکذب المخبر بروية المهدي، اذا کان قد رأي مدعي المهدوية. الا أن هذا الاعتقاد ناشي ء عن الدليل الخاص الدال علي انحصار المهدي و انطباقه علي محمد بن الحسن عليه السلام دون غيره کما عليه الفهم الامامي المفروض صحته في هذا التاريخ. و اما استفاده ذلک من التوقيع الشريف، فغير ممکن. لان المستفاد من قوله: و سيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة. انه تحذير من الدعوات المنحرفة التي تقوم في داخل نطاق شيعة المهدي (ع) و قواعده الشعبية. و بذلک تخرج الدعوات المهدوية الخارجة عن هذا النطاق، لانهم ليسوا من شيعة المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، کما دل عليهم قوله: و سيأتي لشيعتي.
و معه يکون هذا التوقيع ساکتا عن التعرض الي تکذيب الدعوات المهدوية الأخري، و ان علمنا کذبها بدليل آخر.
اذن فقد تحصل من کل ذلک، ان الاشکال الذي ذکروه غير وارد علي التوقيع و لا علي أخبار المشاهدة، و انه بالامکان الأخذ به وباخبار المشاهدة، و لا يجب تکذيبها الا ما کان قائما علي الانحراف و الخروج عن الحق.
و بهذا ينتهي الحق السابع في اعلان الامام المهدي عليه السلام انتهاء السفارة و بدأ الغيبة الکبري.
و بانتهائه ينتهي المهم من أعمال المهدي عليه السلام اتجاه سياسته
[ صفحه 655]
العامة و الخاصة خلال غيبته الصغري. و بقيت هناک تفاصيل قليلة من الأنسب تحويلها علي تاريخ الغيبة الکبري القادم.
و بهذا ينتهي ما أردنا بيانه من تاريخ الغيبة الصغري بما فيها من ملابسات و حقائق.
و الحمد لله علي حسن التوفيق و صلي الله علي سيد رسله و خاتم أنبيائه رسول الاسلام ورائد الحق، و علي آله الطيبين الطاهرين. نبتهل الي الله أن يمن علي البشرية المظلومة بقرب الفرج و لقاء اليوم الموعود، يوم العدل المطلق، علي يد قائده الکبير المهدي القائم عليه السلام.
وقع الفراغ من تسويد هذه الصفحات بيد المحتاج الي رحمة ربه الکريم محمد بن محمد صادق الصدر بتاريخ يوم الجمعة الثامن من ربيع الثاني عام 1390 للهجرة النبوية المبارکة. الموافق 12 حزيران لعام 1970 الميلادي.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
محمد الصدر
النجف الأشرف -العراق
پاورقي
[1] في الکتاب الثاني من هذه الموسوعة.
[2] منتخب الأثير ص 40.
[3] منتخب الأثر ص 399 و غيبة الشيخ ص 242.
[4] انظر منتخب الاثر ص 400 و البحار ج 13 ص 142.
[5] غيبة الشيخ الطوسي ص 255.