بازگشت

في عصرهما


لابد، لنا و نحن في صدد الکلام عن تاريخ الامامين العسکريين، ابتداء من أول سکني الامام الهادي عليه السلام، في سامراء عام 234 ه حين اشخصه المتوکل اليها،و انتهاء بوفاة الامام العسکري عليه السلام 260 ه لابد لنا أن نلم المامة کافية، بالحوادث الجارية في عصر هما و الأفکار السائدة فيه، حتي نکون علي بصيرة من أمرنا حين نواجه تاريخ هذين الامامين عليهما السلام، و نسمع ما يصدر منهما من أقوال و ما يقومان به من أفعال.

و سيکون هذا العرض -في واقعه - عرضا لعصر خلافة سامراء ابتداء من العام المشار اليه الي قبيل آخره. و سيکون هذا العرض، تحليليا، لا تاريخيا صرفا، اذا لا معني لسرد الحوادث بشکل تفصيلي، مع وجود المصادر الکثيرة للتاريخ العام. و انما الذي نحن بصدده، هو اعطاء صورة کافية عن اتجاهات الحوادث و اسبابها و نتائجها، بشکل تحليلي منظم.



[ صفحه 56]



و علي ذلک، فالذي يظهر أو يستنتج من التاريخ الاسلامي العام:

ان المعتصم بالله العباسي، حين رأي ازدحام الموالي في جيشه و قواده من الاتراک و المغاربة و الفراغنة، في العاصمة بغداد، و تعرضهم الي الأهالي بالأذي و عدم عنايتهم بالسلوک الحميد تجاه الناس، [1] قرر بناء سامراء و نقل مرکز الخلافة اليها، لنقل هذا الجيش اليها. وانتقل اليها فعلا عام 220 للهجرة. [2] واستقل هولاء القواد بالعاصمة الجديدة و سيطروا شيئا فشيئا علي دفة الحوادث و مجريات الأمور، حتي وصلوا الي السيطرة علي مرکز الخلافة نفسها، فاصبحوا يزعجون الخليفة، و يشغبون عليه تارة، و يقتلونه اخري، و يتحکمون في تنصيب خليفة، ثالثة.و ذاق منهم الخلفاء الثمانية الذين تتابعوا علي عرش سامراء الامرين، حتي خرج منها المعتضد خلافته في عام 279 [3] الي حيث مات، و استهل خلفه المعتضد خلافته ببغداد في نفس العام [4] .

ومن هنا نري ان سامراء، کانت عاصمة الخلافة العباسية، أکثر من نصف قرن أصبحت خلالها زهرة البلدان و درة التيجان، لا أجمل



[ صفحه 57]



و لا أعظم و لا آنس و لا أوسع ملکا منها، [5] و أصبح طول البناء فيها أکثر من ثمانية فراسخ. [6] و لکنها أصبحت خرابا بمجرد انتقال الخلافة عنها، و غار نبعها دفعة واحدة، حتي لم يبق منها الا موضع غيبة الامام المنتظر المهدي (ع)، و محلة اخري بعيدة عنها يقال لها: کرخ سامراء. و سائر ذلک خراب، يستوحش الناظر اليه. [7] .

و قد تعاقب علي سامراء من خلفاء بني العباس، ثماينة، هم: المعتصم، منذ انتقاله اليها الي عام 227 ه حيث بويع بعده للواثق حتي عام 232 ه حيث بويع بعده للمتوکل حتي عام 247 ه يوم قتله الأتراک بعد ليلة حمراء زاخرة باللهو و الشرب [8] فبويع بعده للمنتصر حيث بقي في الخلافة ستة أشهر و يومين. [9] و بايع الأتراک بعده المستعين عام 248 ه حتي خلع نفسه عام 252 و بايع للمعتز بالله [10] حتي خلعه الأتراک عام 255، و بويع للمهتدي بالله حتي قتله الأتراک أيضا عام 256 ه. و بويع للمعتمد علي الله حتي عام 279 ه. و بويع بعده للمعتضد بالله في بغداد و به کانت نهاية العاصمة (سامراء).



[ صفحه 58]



وقد اتصف هذا العصر بعدة خصائص، يشترک بعضها مع بعض ما سبقه من عصور الخلافة، و يستقل بالبعض الآخر. فکان جملة ما يلاحظ علي هذا العصر من خصائص، هي:

أولا: ضعف الخلافة، و سقوط هيبتها من أعين الناس الي حد کبير. نتيجة لعدة عوامل؛ منها: استيلاء الأتراک علي العاصمة، و استيلاء العمال و الأمراء علي الأطراف، و انعزال الخليفة انعزالا يکاد يکون تاما عن ممارسة الحکم، حتي قال المعتمد، بعد التجربة التي قاساها:



أليس من العجائب أن مثلي

يري ما قل ممتنعا عليه



و توخذ باسمه الدنيا جميعا

و ما من ذاک شي ء في يديه



اليه تحمل الأموال طرا

و يمنع بعض ما يجبي اليه [11] .



ومنها: الليالي الحمراء و اللهو و المجون، الذي کان ينغمس فيه الخليفة بعد استلامه کرسي الحکم، و ينصرف به جزئيا أو کليا عن النظر في شوون الناس. يستثني من ذلک المهتدي بالله الذي کان أحسنهم مذهبا و أجملهم طريقة، حاول أن يکون في بني العباس ما کان عمر بن عبدالعزيز في بني أمية. [12] الا ان ذلک کان بنفسه نقطة ضعف في نظر أصحابه الأتراک و المغاربة و الفراغنة، فقاتلوه



[ صفحه 59]



حتي قتلوه. [13] .

أما حوادث اللهو و الخمر و المنادمة، فهذا أوضح من أن يستشهد له، و کتب التاريخ زاخرة به. و لعل خير ما يذکر في المقام، موقف المتوکل من الامام الهادي عليه السلام، حيث أرسل جماعة من الأتراک لکبس بيته و القبض عليه في جوف الليل. فألقوا عليه القبض و هو يقرأ القرآن، و حمل الي المتوکل، فمثل بين يديه، و المتوکل يشرب و في يده کأس. فلما رآه أعظمه و أجلسه الي جانبه، و ناوله الکأس الذي في يده. فقال: يا أميرالمومنين، ما خامر لحمي و دمي قط، فاعفني، فأعفاه، [14] الي آخر الحادثة التي سوف تأتي في مقبل البحث.

ثانيا: استيلاء الموالي علي دفة السياسية العليا، في العاصمة و الأطراف، و أکثرهم من الأتراک و عزل الخليفة جزئيا أو کليا عن النظر في شوون الدولة.

فمن هولاء: بغا الکبير و ابنه موسي بن بغاء و أخوه محمد بن بغاء و کيغلغ و بابکيال و اسارتکين و سيما الطويل و يار کوج و طبايغو و اذکوتکين و بغا الصغير الشرابي و وصيف بن باغر الترکي، و قد



[ صفحه 60]



تفر دهذان الاخيران بالأمور [15] وفيهما قيل:



خليفة في قفص

بين وصيف و بغا



يقول ما قالا له

کما تقول الببغا [16] .



و کان هولاء القواد الموالي تارة ضد الخليفة و اخري ضد أعدائه، بحسب ما يرون من المصلحة، فهم في الوقت الذي لا يجد الخليفة سواهم من يرسله الي الأطراف لقتال العصاة و الخارجين عن الطاعة؛ فانهم يکونون خارجين عليه في کثير من الأحيان، و يقومون بقتل الخلفاء، واحدا بعد الآخر، أما لتهديد الخليفة بعض قوادهم [17] أو لتأخر أرزاقهم و رواتبهم. [18] .

و قد ذکرنا قتلهم للمتوکل و المهتدي، و نجد لهم حوادث جمة، کخلعهم المعتز و المويد ابني المتوکل من ولاية العهد [19] و استخلافهم للمستعين [20] و استيلائهم علي الأموال في عهده [21] و مقاتلتهم اياه عندما غضب عليهم و اعتصم ببغداد، و مبايعتهم للمعتز و ما رافق ذلک من القتال و الجهد و البلاء علي أهل بغداد حتي أکلو الجيف، [22] وقد تقع



[ صفحه 61]



الفتنة بينهم حتي يودي الحال الي القتال، حين احتج المغاربة علي الأتراک و قالوا لهم: کل يوم تقتلون خليفة و تخلعون آخر و تعملون وزيرا. [23] .

و بقي الأتراک و سائر الموالي هم المتنفذين، حتي ظهر صاحب الزنج، بثورته العارمة، علي ما سنذکره، فتحول ثقل التفکير و القتال و الأموال الي مواجهته و مدافعته، و نسيت النعرات الشخصية الي حد کبير.

ثالثا: الشغب و الفتن في بغداد. فانها لم تکن -و هي يومئذ خالية من الخلافة-خالية من المتاعب بالنسبة الي سامراء. فکان فيها عدة فتن متتالية:

احداها: ما کان عام 249 فقد شغب الجنود الشاکرية ببغداد، و نادوا بالنفير و فتحوا السجون و أخرجوا من فيها، و احرقوا أحد الجسرين و قطعوا الآخر. و کان أحد الأسباب لذلک احتجاجهم علي الأتراک و استعظامهم قتلهم للمتوکل و استيلائهم علي أمور المسلمين، يقتلون من يريدون من الخلفاء و يستخلفون من أحبوا من غير ديانة و لا نظر للمسلمين. [24] .

ثانيها: ما کان في أيام المستعين، حين سار الي بغداد غاضبا من شغب الاتراک و الموالي، و استيلائهم علي دفة الأمور، فوجهوا وفدا



[ صفحه 62]



يعتذر اليه و يسأله الرجوع فلم يصغ الي ذلک. فبايعوا المعتز في سامراء فعقد لأخيه أبي أحمد الموافق بن المتوکل القيادة لحرب المستعين، و جعل اليه الأمور کلها. و جعل التدبير الي کلباتکين الترکي، فسار في خمسين ألفا من الأتراک و الفراعنة و الفين من المغاربة. [25] و حاصر بغداد، و دام الحصار أشهرا، و اشتد البلاء و کثر القتل، و جهد أهل بغداد حتي أکلوا الجيف، و جرت عدة وقعات بين الفريقين، قتل في وقعة منها؛ نحو الفين من البغاددة، الي أن أکلوا و ضعف أمرهم و قوي أمر المعتز. [26] و انتهي الأمر الي تنازل المستعين عن الخلافة و خلعه لنفسه. [27] .

فنري من هذا المشهد، کيف وقع العداء الفعلي و القتال الشديد بين خليفتين رسميين، معترف بهما من قبل الجمهور، بسبب هولاء الأتراک.

ثالثها: ما کان عام 252 اذ شغب الجند في بغداد مطالبين بالأرزاق، و الا دوا أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز. و کان لمحمد بن عبدالله بن طاهر، موقف في محاربتهم و تفريقهم.حتي ما اذا رأي الجند قد غلبوا علي أصحابه، أمر بالحوانيت التي علي باب الجسر ان تحرق، فاحترق للتجار متاع کثيرة، فحالت النار بين الفريقين. [28] .



[ صفحه 63]



رابعها: ما کان للجند ببغداد من الشعب عام 252 [29] بسبب مطالبتهم بمبايعة الموفق أبي أحمد بن المتوکل، بعد المعتز. و لکنهم أرغموا، بعد لأي، علي مبايعة المهتدي، بعد ان کانت سامراء قد بايعته.

الرابع: من خصائص هذا العصر، و ربما کان من أبرز سماته. و قد نشأ من ضعف الخلافة، و عدم امتلاکها زمام الأمور، و صرف سائر الطاقات و النشاطات في الحروب و المناوشات و العداوات الداخلية، مع الانصراف عن الاطراف و ما يقوم به العمال من الأعمال. فصار أي واحد من أمراء الأطراف في الدولة الاسلامية الواسعة، غير مقيد بالارتباط الوثيق بالعاصمة، ان شاء کان مواليا و ان شاء أصبح مستقلا، و ناجزوا الآخرين القتال، بحسب أطماعه في ترسيخ ملکه و توسيع بلاده.

فکانت الحروب تدور في الأطراف، بين الأمراء و الولادة. و تستقبل المدن الاسلامية، في کل فترة، وجها جديدا يحکمها و يدير شوونها و يجي خراجها و لم يکن لأي حاکم، بما فيه الخليفة نفسه، من شفيع الأسيفه، و ما يملک من قوة و عتاد.

فمن أوضح تلک الموارد: الأندلس التي کانت في تلک الفترة مستقلة بالخلافة تحت حکم عبدالرحمن الناصر الأموي. [30] .



[ صفحه 64]



و کان الشمال الافريقي مستقلا-الي حد کبير- تحت أمرة آل الأغلب، ابتداء بزيادة الله بن ابراهيم بن الأغلب، و بعده أخوه الأغلب، [31] و انتهاء بزيادة الله بن أبي العباس بن عبدالله [32] الذي زال ملکه بسيف أبي عبدالله الشيعي الذي مهد لسلطان المهدي الافريقي جد الفاطميين، علي ما يأتي في تاريخ القسم الثاني من هذا الکتاب. وفي کل ذلک لا تکاد تجد للخلافة في سامراء أو في بغداد أي رأي أو تصرف.

و أما بلاد فارس و ما وراءالنهر، فقد کانت في عهد المعتصم مسرحا للقتال، ففي منطقة زنجان و أردبيل و اذربايجان، حصل صدام مسلح بين بابک الخرمي من ناحية و بين حيدر بن کاوس و بغا الکبير من ناحية أخري عن السلطان. و ذلک من عام 221 حتي عام 223 حيث قدم الافشين الي سامراء و معه بابک و أخوه عبدالله، فقتله المعتصم، و أرسل رأسه الي خراسان و صلب بدنه بسامراء. [33] .

و في سنة 224 أظهر مازيار بن قادن الخلاف علي المغتصم بطبرستان، [34] و کان قد اصطنعه المأمون [35] .



[ صفحه 65]



و في سنة 223، کان باذربيجان قلاقل و حروب، استمرت ثمانية أشهر، قادها محمد بن البعيث بن الجليس و جماعته. حتي اخضعهم بغا الشرابي من قبل السلطان، و فتح المدينة. [36] ثم استقدم ابن البعيث الي سامراء و حبس فيها و جعل في عنقه مئة رطل، فلم يزل علي وجهه حتي مات. [37] .

و في عام 238، کان قتال في تفليس بين بغا و قواده الأتراک من ناحية و بين اسحاق بن اسماعيل من ناحية اخري.و أحرق بغا المدينة، فاحترق فيها نحو خمسين الف انسان، و اسروا من سلم من النار و سلبوا الموتي. [38] .

وفي عام 253 في عهد المعتز، حدث قتال في همدان، بين عبد العزيز بن ابي دلف، في أکثر من عشرين الف من الصعاليک و غيرهم، و بين جيش الخليفة، بقيادة موسي بن بغا. [39] .

و کانت بلاد فارس، و العراق احيانا، [40] مسرحا خصبا لجيوش يعقوب بن الليث الصفار و حروبه، من سنة 253 الي ان توفي عام 265 و خلفه اخوه عمرو بن الليث، الا انه أصبح مواليا للخلافة. [41] .



[ صفحه 66]



علي أن يعقوب کان يجد من مصلحته اظهار الولاء للدولة، و ان کان بمنزلة لا تقوي الدولة علي قمعه؛فکان الخليفة يستميله و يترضاه [42] اتقاء لشره و لم يبرز مکنونه الا في فراش الموت حيث قال لرسول الخليفة اليه: قل للخليفة انني عليل، فان مت، فقد استرحت منک و استرحت منک و استرحت مني، و ان عوفيت فليس بيني و بينک الا هذا السيف. [43] .

و منذ عام 261 استقل -الي حد کبير- نصر بن احمد الساماني.ببلاد ما وراء النهر، و هي تتمثل بمناطق بخاري و سمرقند الي خراسان. [44] حتي توفي عام 279، وولي بعده اخوه اسماعيل بن أحمد. [45] .

و أما مصر فقد استقل بها أحمد بن طولون -و هو من الاتراک -استخلفه عليها بابکيال الترکي عام 254 في عهد المعتز، [46] و حين ولي المهتدي و قتل بابکيال صارت مصر ليارکوج الترکي، و کان بينه و بين أحمد بن طولون مودة متأکدة، فوسع ولايته علي الديار المصرية کلها، فقوي أمره و دامت ايامه. [47] حتي توفي مبطونا عام 270 [48] و کان قد استغني من ملکه عن الارتباط بالخلافة [49] و ان لم يناجزها



[ صفحه 67]



العداء فعلا.

ولم تکن الأطراف القريبة من العاصمة، باحسن حالا من الأطراف البعيدة. فقد کانت أيضا مسرحا لمصالح العمال و القواد من ناحية، و مسرحا لنشاط الخوارج و الزنج ثم القرامطة علي ما نشير اليه، من ناحية ثانية.

فمکة و المدينة، کانت تتعرض أحيانا للمصطادين بالماء العکر. فقد أصبحت المدينة عام 230 و ما بعده، مسرحا لغارات الأعراب المجاورين، حتي ناجزهم بغا الکبير القتال. [50] و قتل عام 251 ثلثمائة رجل من مکة و غلت الأسعار فيها بسبب شغب مشابه. [51] .

و أما لو راقبنا سوريا في تلک الفترة، بما فيها حمص و حلب و دمشق، لو جدناها مسرحا للاطماع و ساحة للاطماع و ساحة للقتال. ففي عام 227 في أول خلافة الواثق، کانت دمشق مسرحا لعصيان مسلح، انتج قتل ما يقارب الألفي شخص، من جيش الخليفة و الثائرين. [52] وفي عام 240 و ما بعده، کانت حمص مجالا لسوء تصرف العمال و الولادة، مما أوجب ثورة الأهالي و اضطرابهم. [53] و تکررت عين المشکلة عام 250،



[ صفحه 68]



الا ان هذا العصيان کان أکبر من سابقه، فوجه المستعين اليها موسي بن بغا فحاربها، و قتل من أهلها مقتلة عظيمة، و أحرقها و اسر جماعة من أعيان أهلها. [54] .

و لم تسلم سوريا حتي بعد ان احتلها احمد بن طولون، عام 264 [55] من الحروب. اذ بمجرد ان توفي ابن طولون عام 270 [56] تحرکت نحوها الاطماع، استضعافا و استصغارا لخلفه ابنه خمارويه. فسير اليها ابو طلحة الموفق بن المتوکل، قائدين من قواده الموالي، و هما: اسحاق بن کنداجيق و ابن ابي الساج، لا حتلالها، فدخلوها و فتحوا دمشق بعد قتال عظيم. [57] فسار اليها خمارويه بنفسه من مصر واحتلها مرة اخري بقتال جديد. [58] و تکرر القتال عام 274 و 275. [59] .

و اذ نظرنا الي الموصل و ما حواليها من البلدان، و من في تلک المنطقة من الأکراد، لم نجدهم أقل بلاء من سائر بلاد الاسلام. فقد تعرضت عام 253 لقتال ونهب [60] وفي عام 260 تعرضت لتعسف العامل عليها من قبل الخليفة، و هو اذکوتکين الترکي، فانه اظهر الفسوق و أخذ الأموال، فقاتلوه قتالا شديدا حتي اخرجوه عن



[ صفحه 69]



الموصل و نهبوا داره [61] و تعرضت في العام الذي يليه لحروب أيضا بسبب رفضهم لعاملين عينهما اساتکين الترکي عن الخليفة، و اختاروا لهم عاملا آخر. [62] .

و تعرضت الأکراد لهجوم وصيف الترکي عام 231، و حبس منهم نحو خمسمائة، و حصل و صيف علي هذا العمل، جائزة مقدارها خمس و سبعون الف دينار. و تعرضوا ايضا لقتال موسي بن اتامش الترکي عام 266. [63] و في عام 281 حاربهم الخليفة المعتضد بنفسه. [64] .

و لعلنا نستطيع أن نعتبر هذه القلاقل جميعا، هدوا نسبيا، و بردا و سلاما، اذا قسناه الي الجحيم الذي اوجده صاحب الزنج علي العراق في عهد سامراء، و القرامطة في العهد الذي يليه، علي ما سنذکره.

الخامس: من خصائص هذا العصر، و ليست من مختصاته علي کل حال، هو وجود الخوارج، و ما يسببونه باستمرار من شغب و حوادث. فکان وجودهم شجي في حلق الدولة و حجر عثره أمام اطمئنان الأئمة.



[ صفحه 70]



و يبدأ نشاطهم الملحوظ في هذه الفترة، عام 252 حين قيام مساور بن عبدالحميد بن مساور الشاري البجلي الموصلي، قائد الشراة، و هم الخوارج الذين يدعون انهم شروا الآخرة بالدنيا.

و استولي مساور علي أکثر اعمال الموصل و قوي امره. فقاتله و الي الخليفة علي الموصل قتالا شديدا،فاندحر، فاشتد أمر مساور و عظم شأنه و خافه الناس. [65] و ذلک عام 254. و کان ان صلي بالمسجد الجامع بالموصل صلاة الجمعة بالناس و خطبهم. [66] وفي عام 255 قاتله عسکر الخليفة فانتصر مساور أيضا و انهزم عسکر الخليفة. [67] .

وفي عام 256، ثار بوجه مساور الشاري أحد الخوارج، بسبب اختلاف بينهما في بعض المسائل الکلامية، فاقتتلوا اقتتالا شديدا أدي الي فوز مساور و انهزم الخارجي الآخر، و قتل أکثر جيشه. [68] .

و بلغ مساور من السيطرة و القوة ان استولي علي کثير من العراق و منع الأموال عن الخليفة فضاقت علي الجند الرزاقهم. [69] و بقي علي مثل هذه الحال الي ان مات عام 263. [70] و اختلف الخوارج الي من



[ صفحه 71]



يرجعوا بعده، و حدث لذلک بينهم قتال، حتي تم أمرهم علي هارون بن عبدالله البجلي الشاري. [71] .

السادس: من خصائص هذا العصر و لعله أبعدها خطرا و أعمقها أثرا، و يختص بالقسم الثاني من خلافة سامراء، عند ازدياد ضعفها و تفسبخها، و ذلک في عهد المهتدي و المعتمد. و هو ظهورصاحب الزنج الذي قتل الالوف من النفوس وهتک الآلاف من الآعراض، احرق عشرات المدن و سبب بشکل غيرمباشر الي أمرين مهمين:

احدهما: ضعف الخلافة في عهد المعتمد، و بقاء الخليفة صورة بلا و اقع لا حل له و لا عقد.

ثانيهما: ترسخ قوة الخلافة في عهد المعتضد، و ذلک بعد انهيار الزنج و زوال سامراء کعاصمة للخلافة.

و صاحب الزنج هو الرجل الذي ثار في البصرة عام 255 [72] اسمه علي بن محمد، وزعم أنه علوي، يتصل نسبه بزيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام. ولم يکن کذلک، علي ما يذکر التاريخ، فان نسبه في عبد قيس، و امه من بني اسد بن خزيمة. [73] .

و استمر يعيث في المجتمع فسادا خمسة عشر عاما، الي أن قتل عام 270. [74] .



[ صفحه 72]



و عمدة ما ارتکز عليه في ثورته - مضافا الي دعواه الانتساب بالنسب العلوي - انه وجه دعوته بشکل رئيسي الي العمال و الطبقة الکادحة من الشعب، و خاصة العبيد المماليک منهم؛ تلک الطبقة التي تلاقي من ارهاق مستخدميها و مالکيها ومن ضغط الدولة أنواع الذل و الشقاء. و من ثم سمي صاحب الزنج أي قائد العبيد. فبدا بعبيد أهل البصرة و دعاهم للاقبال اليه للخلاص من الرق و التعب، فاجتمع عنده منهم خلق کثير، فخطبهم و وعدهم أن يقودهم و يملکهم الأموال و حلف لهم بالايمان ان لا يغدر بهم و لا يخذلهم. فأتاه مواليهم و بذلوا له علي کل عبد خمسة دنانير ليسلم اليه عبده، فأمر من عنده من العبيد فضربوا مواليهم أو وکلاءهم، کلا سيد خمسمئة سوط. [75] و کان هذا أول الشر. و اکتسب العبيد بذلک قوة و اندفاعا و حماسا مضاعفا، استطاعوا أن يکتسحوا بها منطقة ضخمة من البلاد.

و اتسع شرهم من البصرة الي عبادان و الي الأهواز [76] و دستميسان [77] و واسط [78] ورامهرمز [79] و ما بينهما من البلدان و المناطق. و حين احتلوا البصرة، حاربوا أهلها بجيش من الزنج و الاعراب ثلاث أيام.

ثم أنه امنهم استجابة لابراهيم بن يحيي المهلبي، و نادي مناديه من أراد



[ صفحه 73]



الأمان فليحضر الي دار ابراهيم. فحضر أهل البصرة قاطبة حتي ملوا الرحاب. فلما رأي صاحب الزنج اجتماعهم، انتهز الفرصة لئلا يتفرقوا، فغدر بهم و أمر اصحابه بقتلهم، فکان السيف يعمل فيهم و أصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلک الجمع کله ولم يسلم الا النادر منهم.و احرق الجامع، و احترقت البصرة في عدة مواضع منها، و عظم الخطر، و عمها القتل و النهب و الاحراق، فمن کان غنيا اخذوا ماله و قتلوه، و من کان فقيرا قتلوه لوقته. [80] و مثل ذلک عمل الزنج بعبادان الاهواز والابله [81] وابي الخصيب. [82] .

و حين رأت الدولة ذلک منه، ناجزته القتال ببعض قوادها کسعيد الحاجب [83] و محمد المولد [84] و موسي بن بغا [85] الا انهم لم يوثروا شيئا، و کان يستظهر عليهم صاحب الزنج، و کانت اليد الطولي في محاربته و مصابرته و القضاء عليه في النتيجة، لابي احمد الموفق طلحة بن المتوکل، [86] بمعونة ولده ابي العباس المعتضد الذي أصبح أول خلفاء بغداد بعد افول نجم سامراء. والتحق لمعونته اخيرا عام 269



[ صفحه 74]



لولو غلام أحمد بن طولون الذي انشق علي مولاه، و سار الي الموفق و هو يقاتل الزنج [87] و کان له يد طولي في آخر ايامها [88] حتي قيل في عسکر الموفق: [89] .



کيفما شئتم فقولوا

انما الفتح للولو



و لم يکن لجيش الموفق تجاه الزنج رحمة، و انما کانت الحرب معهم حرب ابادة، و قد اعمل معهم سائر انحاء القتل من الاحراق والاغراق و المطاردة و غير ذلک. [90] و استنقذوا ما لا يحصي من النساء و الصبيان و المساجين. [91] .

و استأمن الي الموفق عددا من قواد الزنج قبل قتله و بعده [92] و قد کان لقتله و القضاء علي حرکته أثر کبير علي سائر الناس بالشعور بالسرور و الامن، و قيلت في ذلک اشعار کثيرة. [93] .

وقد اثرت مواقف الموفق هذه علي سيطرته التامة علي الأمور کلها في الدولة، علي الجيش و التعامل مع ولاة الاطراف و جباية الأموال و عزل و تنصيب الوزراء، [94] حتي لم يبق لاخيه المعتمد من



[ صفحه 75]



الخلافة الا اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليل و لا في کثير [95] حتي قال:



اليس من العجائب ان مثلي

يري ما قل ممتنعا عليه



في ثلاث ابيات، سبقت.

وبقي الموفق علي ذلک حتي مات عام 278. [96] فاجتمع القواد و بايعوا ابنه ابا العباس بولاية العهد، و لقب المعتضد بالله [97] و يخفي ما في اکتسابه القوة و السيطرة اثناء حربه للزنج، و تمرسه علي انحاء القتال و القيادة، في تولي الخلافة في العام الذي يلي، أي عام 279، بعد المعتمد، فکان أول خلفاء بغداد، بعد افول نجم سامراء.

السابع: من خصائص هذا العصر. و ليست من مختصاته، حصول ثورات متعددة في الأطراف داعين الي الرضا من آل محمد (ص)، أو متمردين علي الظلم و العسف الذي کان ينال المجتمع بشکل عام، و ينالهم بشکل خاص.

و الفکرة الاساسية التي کانت تقوم عليها الدولة، وقتئذ بجميع اجهزتها و طبقاتها، هو النفرة من العلويين، و مطاردعهم و الضغط عليهم



[ صفحه 76]



لا يختلف في ذلک الخليفة عن القواد عن الوزراء عن العامة انفسهم. ولما کانت الدولة تعاني التفکک و الضعف، کان مجرد و جود أي شبح للحرکة العلوية أو تهمة في ذلک، يثير الرعب لدي الخليفة و اتباعه و يتصدي القواد الاتراک و من اليهم بانزال اقصي العقوبات بالثائرين.

و نستطيع ان نستشهد من تاريخنا العام لهذا الحقد، بعدة أمور:

منها: ما کان المتوکل يستشعره من الکراهية تجاه علي (ع) و العلويين، و کان آل ابي طالب -علي ما ينص التاريخ -في أيامه في محنة عظيمة، قد منعوا من زيارة قبر الحسين عليه السلام و الغري من أرض الکوفة. و کذلک منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، و أمربهدم قبر الحسين عليه السلام و محو أرضه و ازالة اثره و ان يعاقب من وجد به [98] وحدث به وزرع فيه، و کان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولي عليا و أهله، باخذ المال و الدم [99] و لم تزل الأمور کذلک الي ان استخلف المنتصر، فامن الناس و أمر بالکف عن آل ابي طالب و ترک البحث عن اخبارهم. و اطلق حرية زيارة قبر الحسين عليه السلام، و غيره من آل ابي طالب. [100] .

و سنذکر ما فعله المتوکل من ازعاج الامام علي بن محمد الهادي (ع) و اشخاصه الي سامراء من المدينة. لکي يکون تحت رقابته وفي



[ صفحه 77]



قبضته. و کان يستدعيه الي عصره بين الفينة و الفينة، معدا له موامرة القتل فتفشل، و تضطره هيبة الامام عليه السلام الي احترامه و اکرامه [101] .

و منها: قتل المعتمد للامام الهادي عليه السلام، علي ما ذکره ابن بابويه الصدوق. [102] .

و منها: مراقبة الخلفاء للأئمة (ع) علي ما سنذکر، وقضائهم علي کل ثورة علوية.

و لم يکن القواد الاتراک باحسن من الخلفاء حالا من هذه الناحية. بل هم أقل منهم ضبطا و أکثر تهورا کموسي بن بغا الذي قضي علي ثورة الحسن بن اسماعيل العلوي [103] و علي بن اوتامش [104] و صالح بن وصيف [105] و احمد بن عبيدالله بن خاقان [106] و سعيد الحاجب، [107] و نحوهم ممن يمت الي الدولة بخوف أو طمع أو حاجة.

في هذا الجو المکهرب العاصف، کان يري بعض العلويين الذين يتوسمون في أنفسهم القوة و الاصحاب، و جوب الثورة علي الظلم و الفساد، و اظهار کامة الحق أمام المجتمع السادر في غفلته البعيد عن



[ صفحه 78]



وح الاسلام و تعاليم القرآن. لعل ذلک يکون سببا من أسباب توعية لأمة و ايقاظ ضميرها، و التفاتها الي واقع حياتها و واجبات دينها.

و کان الغالب منهم يدعو الي (الرضا من آل محمد)، و يعنون لذلک: الشخص الذي هو أفضل آل محمد (ص) في ذلک العصر.و ليس ذلک الا أحد أئمتنا عليهم السلام الذين کان يعتقد هولاء الثوار بامامتهم.

وانها لالتفاتة بارعة: ان يدعو الثائر الي الرضا من آل محمد (ص) بعذا العنوان العام، و لا يدعو الي امام زمانه بالخصوص. و ذلک: لئلا يوقف الثائر امامه الذي يدعو اليه، مواقف الحرج تجاه السلطات الحاکمة، و هو يعلم ان الامام عليه السلام، أمام سمع الدولة و بصرها، وليس اسهل عليها من ان تتهمه باثارة الحرکة و العصيان، مما يودي الي قتله و خسارة المجتمع المسلم لوجوده. و معه، فيفکر هذا الثائر انه ان نجحت ثورته نجاحا کبيرا يجعلها أهلا لمناصرة امامه عليه السلام، فهو المطلوب، و الا کان و صحبه فداء لامامه و لدينه.

و أئمتنا عليهم السلام -في عصورهم المتأخر- کانوا لا يعيشون في الحياة الا قليلا، و يصعدون الي بارئهم في ريعان الشباب. فالامام الجواد محمد بن علي عليه السلام عاش خمسا و عشرين سنة [108] و الامام الهادي علي بن محمد عليه السلام عاش احدي و اربعين [109] و الامام العسکري الحسن بن علي عليه السلام عاش ثمانيا و عشرين عاما. [110] مما



[ صفحه 79]



يدل علي سعي الخلفاء في القضاء عليهم و کتم انفاسهم، ولو بالطريق غير المباشر، مع انهم لم يستطيعوا ان يحصلوا منهم علي أي مستند أو دلالة علي مشارکتهم في أي حرکة و قيامهم بأي نشاط. فکيف اذا عرفوا منهم ذلک، و حصلوا منهم علي شک في ثورة أو تمرد.

لکن، لعلنا نستطيع القول، بان الائمة عليهما السلام، شارکوا من قريب أو بعيد، بقيام بعض هذه الثورات أو قسم مهم منها، أما مباشرة أو بحسب عموم تعاليمهم و روح ارشاداتهم التي کانت توثر في نفوس مواليهم أثر النار في الحطب و النور في الديجور، مما يودي بهم الي اعلان العصيان المسلح علي الدولة، و لکن الائمة (ع) استطاعوا بلباقة تامة و حذر عظيم، اخفاء أي نوع من المستندات و الدلالات علي مثل هذا التأثير علي الدولة القائمة. و کانوا يستعملون الرموز و المعاني البعيدة و الأعمال غير المللفتة للنظر، في قضاء بعض الحاجات الخطرة في منطق الدولة. کما هو غير خفي علي من راجع رواياتهم، و سنعرف بعض ذلک فيما يلي من البحث.

و لعل هناک سببا آخر، في عدم دعوة ثوار العلويين الي شخص الامام عليه السلام، و هو ان التأثر منهم، ان لم يکن علي اتصال مسبق بالامام عليه السلام، فانه يحتمل ان لا يکون الامام موافقا علي ثورته، لأنه لا يجد فيها المصلحة الکافية و الاهلية الکاملة للتأييد. أما لسوء توقيت الزمان، أو لسوء اختيار المکان، أو لضعف نيات هذا الثائر و أصحابه و قلة اخلاصهم، أو لضعف الثورة في نفسها،بحيث لا أمل



[ صفحه 80]



فيها للبقاء. و غير ذلک من المحتملات التي يأخذها التأثر بعين الاعتبار من رأي امامه عليه السلام، فلا يدعو الي شخصه، و انما يدعو الي عنوان عام ينطبق عليه: الرضا من آل محمد (ص).

و نحن -لا جل الدقة و الموضوعية في البحث -لا نستطيع ان ان نقول: ان کل الثوار العلويين، کان ثائرا بالمعني الذي يقوم علي أساس الوعي الاسلامي، و هو: الدعوة الي تطبيق احکام الاسلام برئاسة الامام المعصوم عليه السلام. فأنه و ان کان المعتقد ان غرض أکثر الثوار هو ذلک، الا ان افرادا منهم ربما کان منحرفا عن ذلک أو غير واع له. فکانت ثورته اما للدعوة الي امامة نفسه، أو امامة شخص آخر غير الامام المعصوم عليه السلام، أو لمجرد التمرد علي الظلم، أو لحب الظهور و السيطرة و نحو ذلک من الاهداف.

و لعلنا نستطيع ان نضع الحد الفاصل في فهم اخلاص الثائر و عليه، في کونه داعيا الي الرضا من آل محمد (ص). فان عرفناانه دعي الي ذلک، فثوزته مخلصة واعية، و ان لم يدع الي ذلک، ينفتح امامنا فيه احتمال الانحراف و عدم الاخلاص.

و قد احصينا من الثوار العلويين في العصر الذي نورخه، من خلافة المعتصم الي نهاية خلافة المعتمد، و هو مايزيد علي نصف قرن، ثمانية عشر ثائرا.

اولهم: محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، و يکني أبا جعفر، و کانت العامة تلقبه بالصوفي،



[ صفحه 81]



لأنه کان يدمن لباس الثياب من الصوف الأبيض، و کان من أهل العلم و الفقه و الدين و الزهد و حسن المذهب. و کان يذهب الي القول بالعدل و التوحيد، و يري رأي الزيدية الجارودية.

خرج في أيام المعتصم بالطالقان، فاخذه عبدالله بن طاهر و وجه به الي المعتصم، بعد وقائع کانت بينه و بينه. [111] و ذلک عام 219، و دعا الي الرضا من آل محمد، و لکن اغراه شخص من خراسان الي الدعوة الي نفسه. [112] و هناک قوم اعتقدوا بانه لم يمت و انه يخرج فيملوها عدلا کما ملئت جورا، و انه مهدي هذه الامة. [113] أقول: و سيأتي في بعض بحوثنا ان شأءالله تعالي مناقشة هذه الدعوي و أمثالها.

ثانيهم: يحيي بن عمر بن يحيي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن ابي طالب، المکني بابي الحسين، [114] و کانت ثورته لذل نزل به و جفوة لحقته و محنة نالته من المتوکل و غيره من الاتراک. و کان ذا زهد و ورع و نسک و علم. [115] .

ثار عام 250 في الکوفة، و جمع جمعا کثيرا، و مضي الي بيت



[ صفحه 82]



المال فيها ليأخذ ما فيه، و فتح السجون و اخرج من فيها و اخرج عنها عمال السلطان. اجتمعت اليه الزيدية، و دعا الي الرضا من آل محمد، فاجتمع الناس اليه و احبوه. و تولاه العامة من أهل بغداد، ولا يعلم انهم تولوا أحدا من بيته سواه. و بايعه من الکوفة من له تدبير و بصيرة في تشيعهم.

حاربه الحسين بن اسماعيل بن ابراهيم بن مصعب، و قتل هذا العلوي في المعرکة. [116] و حمل رأسه الي بغداد وصلب، فضج الناس من ذلک، لما في نفوسهم من المحبة له، لامر استفتح به اموره، بالکف عن الدماء و التورع عن أخذ شي ء من أموال الناس، و اظهر العدل و الانصاف. [117] و انشدوا في رثائه شعرا کثيرا حتي قال أبوالفرج: و ما بلغني ان أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل ابي طالب، رثي باکثر مما رثي به يحيي، و لا قيل فيه الشعر باکثر مما قيل فيه.

اشهرها قصيدة علي بن العباس بن الرومي التي أو لها:



امامک فانظر أي نهجيک تنهج

طريقان شتي مستقيم و أعوج



و قد ذکرها أبو الفرج بطولها في المقاتل. [118] .

ثالثهم:الحسن بن زيد بن محمد بن اسماعيل بن الحسن بن زيد الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب. بدأت ثورته عام 250 أيضا بطبرستان، فغلب



[ صفحه 83]



عليها، و علي جرجان بعد حروب کثيرة و قتال شديد. و ما زالت في يده الي ان مات سنة 270 [119] و خلفه اخوه محمد بن زيد فيها. و کان هذان الاخوان يدعوان الي الرضا من آل محمد.

و استولي الحسن بن زيد علي آمل و علي الري [120] و قاتله مفلح و موسي بن بغا عن الدولة [121] و محمد بن طاهر [122] حاکمها علي خراسان. و قاتله يعقوب بن الليث الصفار الذي سبق ان سمعنا عنه.

و کان الحسن هذا عالما بالفقه و العربية، و فيه يقول الشاعر:



لا تقل بشري و لکن بشريان

غرة الداعي وعيد المهرجان



رابعهم: الحسن بن علي الحسني المعروف بالاطروش، حکم طبرستان بعد محمد بن زيد الحسني، و خلفه ولده. ثم الداعي الحسن بن القاسم الذي قتله أسفار بطبرستان. [123] .

خامسهم: محمد بن جعفر بن احمد بن عيسي بن الحسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب. ثار في خراسان، عام 251. فحاربه حاکمها محمد بن طاهر و اسره [124] و کان يدعو للحسن بن زيد



[ صفحه 84]



صاحب طبرستان. [125] .

سادسهم: ادريس بن موسي بن عبدالله بن موسي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب.ثار بالري مع محمد بن جعفر السابق الذکر، عام 251. [126] .

سابعهم: احمد بن عيسي بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب. دعا للرضا من آل محمد، ثار بعد محمد بن جعفر و حارب محمد بن طاهر، و استولي علي الري. [127] .

ثامنهم: الحسن بن اسماعيل بن محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب. الملقب بالکرکي. و قيل هو الحسن بن احمد بن محمد بن اسماعيل...الخ. [128] کانت ثورته بقزوين، فحاربه موسي بن بغا، و صار الکرکي الي الديلم. [129] .

تاسعهم: الحسين بن محمد بن حمزة بن عبدالله بن الحسن بن علي بن ابي طالب [130] أو الحسين بن احمد بن حمزة بن عبدالله بن الحسين بن علي بن ابي طالب. [131] .



[ صفحه 85]



ثار بالکوفة عام 251، واجلي عنها عامل الخليفة؛ فسير اليه المستعين مزاحم بن خاقان فقاتله، و اطبق علي أصحابه فلم يفلت منهم أحد، و دخل الکوفة فرماه أهلها بالحجارة فاحرقها بالنار، فاحترق منها سبعة أسواق. [132] و قال المسعودي: انه اختفي لترک اصحابه له و تخلفهم عنه. [133] .

عاشرهم: محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب کان خليفة الحسين بن محمد الحرون السابق الذکر. ثار بعده بالکوفة، فکتب اليه ابن طاهر بتولية الکوفة، و خدعه بذلک، فلما تمکن بها اخذه خليفة ابي الساج، فحمله الي سر من رأي، فحبس بها حتي مات. [134] .

الحادي عشر: اسماعيل بن يوسف بن ابراهيم بن عبدالله بن موسي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب. ثار في المدينة عام 252، و أصاب أهلها في أيامها الجهد و الضيق. و خلفه بعد وفاته اخوه محمد بن يوسف، حاربه ابوالساج و لما انکشف من بين يديه، سار الي اليمامه و البحرين و استولي عليها. [135] .

الثاني عشر: علي بن عبدالله الطالبي المسمي بالمرعشي. ثار في



[ صفحه 86]



مدينة آمل عام 251، و حاربه اسد بن جندان. [136] .

الثالث عشر: انسان علوي، حصلت ثورته بنينوي عام 251 من أرض العراق. فحاربه هشام بن ابي دلف، في شهر رمضان، فقتل من أصحابه جماعة، و هرب فدخل الکوفة. [137] .

الرابع عشر: الحسين بن احمد بن اسماعيل بن محمد بن اسماعيل الارقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي المعروف بالکوکبي. ثار بناحية قزوين و زنجان، فطرد عمال السلطات، عنها. عام 251. [138] .

وبقي حاکما علي هذه المنطقة حتي عام 252، حيث شارک في الهجوم الري مع جستان، صاحب الديلم و عيسي بن احمد العلوي. فقتلوا و سبوا و طردوا و اليها المثل للسلطة. فصالحهم أهل الري علي ان يدفعوا لهم مليوني درهم، و يرتحلوا عنها، ففعلوا. [139] .

وفي سنة 253 حاربه موسي بن بغا و قضي علي حرکته باشعال النار في عسکره بحيلة حربية، و دخل موسي بن بغا قزوين فاتحا. [140] .

الخامس عشر: ابراهيم بن محمد بن يحيي بن عبدالله بن محمد بن علي بن ابي طالب. و يعرف بابن الصوفي. ثار عام 256 في مصر، و استولي



[ صفحه 87]



علي مدينة استا ونهبها، و عم شره البلاد، فسير اليه احمد بن طولون جيشا، فهزمه العلوي، و اسر المقدم علي الجيش، فقطع يديه و رجليه و صلبه. فسير اليه ابن طولون جيشا آخر، و اقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العلوي و قتل کثير من رجاله، و سار حتي دخل الواحات. [141] و بقي مختفيا فيها الي عام 259، حيث ظهر ثانيا و دعا الي نفسه فتبعه خلق کثير، و سار بهم الي الاشمونين. فحاربه احمد بن طولون في وقعتين حتي هرب العلوي الصوفي الي مکة، فقبض عليه و اليها، و ارجعه الي ابن طولون، فطيف به في البلد ثم سجنه و اطلقه ثم رجع الي المدينة، فأقام بها حتي مات. [142] .

السادس عشر: علي بن زيد العلوي. کانت ثورته بالکوفة عام 256. فاستولي عليها، و ازال عنها نائب الخليفة و استقر فيها، فناجزته السلطة القتال عدة مرات، مرتين بقيادة الشاه بن ميکال، و ثالثة بقياده کيجور الترکي، حتي قتل بعکبرا سنة 257. [143] .

السابع عشر: عيسي بن جعفر العلوي، ثار مع علي بن زيد في الکوفة. قال المسعودي انه عام 255، فسرح اليهما المعتز سعيد بن صالح المعروف بالحاجب في جيش عظيم. فانهزم الطالبيين، لتفرق أصحابهما عنهما. [144] .



[ صفحه 88]



الثامن عشر: ابن موسي بن عبدالله بن موسي بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب. ظهر بالمدينة بعد اسماعيل بن يوسف السابق الذکر. [145] .

فهولاء هم من يعرف بحمل السيف في هذه الفترة، في وجه السلطات الحاکمة. و اما الذين قتلوا أو طردوا أو سجنوا فهم أضعاف هذا العدد، يشير الي جملة منهم المسعودي في مروجه [146] و الاصبهاني في مقاتله. [147] .

و نستطيع ان نستنتج من ذلک امورا:

الأمر الأول: هو مدي الظلم و العسف الذي کانت تنزله السلطات الحاکمة علي العلويين نسبا و عقيدة. و الا لم يجد هذا العدد الکبير خلال نصف قرن، حاجة الي هذه التضحيات الکبيرة؛ فانه من المعلوم ان ازدياد الثورة تتناسب تناسبا طرديا مع ازدياد الظلم و الضغط، و کلما خف الظلم و هان الضغط، قلت الثورة و خف اوارها.

و من هنا نجد- مثلا-انه في عهد الخليفة المنتصر، الذي کان يميل الي أهل البيت، خلافا لابيه و سلفه المتوکل؛ لم تحصل ثورة



[ صفحه 89]



ولم يجر منه علي أحد من العلويين قتل أو حبس أو مکروه. [148] و لکنه بقي في الخلافة ستة أشهر فقط!!

الأمر الثاني: ان الخلافة علي ضعفها و عجزها في هذا العهد، و تفاقم هذا العجز کلما طال الزمان عليها في سامراء. الا ان هذا لم يکن بمانع لها عن قمع الثورات العلوية مهما بعدت عن المرکز، و مهما قويت، و ذلک: لأن الخليفة بنفسه، و ان کان عاجزا عن تدبير الأمور العامة، منصرفا اني لهوه و قصفه، الا ان مناوأة الفکرة العلوية، ليست خاصة به، و انما هي عامة علي کثير من القواد- و بخاصة الأتراک و الموالي و العباسيين - ومن الوزراء و حکام الاطراف، حتي المستقلين منهم، کاحمد بن طولون في مصر و السامانية فيما وراء النهر و آل الأغلب في شمال افريقيا، و التاريخ العام و الخاص ملي ء بالشواهد علي ذلک.

الأمر الثالث: ان بعض هولاء الثوار کانوا صحية تخلف الوعي و سيطرة المصلحة علي اتباعهم و افراد جيشهم. فان درجة الوعي عند الامة کان منخفضا جدا، بمعني ان ما کان يعيش في اذهانهم دائما هو الشعور بالظلم تردي الحال اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا و اقتصاديا، و هو ما يدرکه کل شخص من زاوية مصلحته و حياته الخاصة. دون شعور واضح و احساس عميق، بالمسوولية الکبري الملقاة عليه کفرد من الامة، في الدعوة الي تطبيق ما هو البديل العادل لهذا الظلم و الطغيان.



[ صفحه 90]



و من هنا کان هولاء الثوار يجمعون من الاتباع العدد الکبير نتيجة طبيعية لشعور الناس بالظلم و أملهم في الثائر الجديد. الا ان هذا العدد الکبير کان ينقسم دائما الي قسمين:

احدهما: و هم الخاصة الاقلون، الواعون لأهدافهم الاسلامية، الهادفون الي خدمة امتهم واداء رسالتهم و الباذلون مهجهم في سبيل عقيدتهم و ربهم.

ثانيهما: و هم الأکثر عددا، الذين مثلوا المجتمع الذي عاشوه بدرجة وعيه و احساسه فهم يحسون بالظلم من زاوية شخصية مصلحية، و حين ظنوا بالثائر خيرا لمصالحهم اتبعواه ذبوا عنه، و لکنهم حين احسوا بالموت أو النوم في سجون السلطات،وايسوا من صاحبهم الثائر، ولوا منهزمين و تفرقوا عنه و خذلوه کما سمعنا في عدد من الثوار العلويين.

الثامن: من خصائص هذا العصر، و ان لم يکن من مختصاته، قيام الميزان الاساسي و المعيار الغالب، في تقييم الخلفاء و الوزراء و القواد و القضاة و غيرهم، ممن بيده السياسة العليا للدولة، و تحديد علاقات الصداقة و الحرب، کلها بميزان مادي مالي خالص.لا يختلف في ذلک من يعيش في العاصمة و ما حواليها ممن هو بعيد في الاطراف، الا من شد و ندر.

و يتضح بجلاء، من استعراض التاريخ، قيام المجتمع، بعد انحرافه عن الأسلام و تناسيه لمسووليته الکبري؛ قيامه علي اساس الطبقية



[ صفحه 91]



الملموسة، فالأموال تترکز بيد الأقوياء و المتنفذين في السلطة، و يحضي الأتراک و القواد الموالي بقسط کبير منها، علي حين يعيش سائر الناس بالمستوي المتوسط فما دونه، الي حال الفقر المدقع، من دون ضمان عيش أو أمل حياة.

و اذا أردنا ان نستعرض تفاصيل ذلک لطال بنا المقام، و خرجنا عن الغرض، لکن يکفي ان تعرف طرفا من ذلک:

فالواثق عام 229 حبس کتاب دولته، و الزمهم أموالا عظيمة.اخذ من احمد بن اسرائيل ثمانين الف دينار، و من سليمان بن وهب -کاتب ايتاخ -اربعمائة الف دينار، و من الحسن بن وهب اربعة عشر الف دينار. ومن ابراهيم بن رباح و کتابه مائة الف دينار. ومن احمد بن الخصيب مليونا من الدنانير، و من نجاح ستين الف دينار، و من ابي الوزير مائة و اربعين الف دينار. [149] .

فمن الطبيعي للانسان ان يتصور ان هولاء الکتاب، کم کان مجموع ثرواتهم بحيث امکنهم دفع تلک الضرائب. و اذا کان الکاتب العادي لدي الوزير حاصل علي مثل هذه الثروات فکيف بالوزير نفسه ومن في منزلته من القواد و القضاة و الولادة. و لعل من نافلة القول و واضحة؛ ان هذه الأموال انما تحصل في أيدي هولاء، علي حساب الامة الاسلامية، وفقر الفقراء، و المصالح الکبري التي تفوت بذلک.



[ صفحه 92]



و أخذ المتوکل من أبي الوليد حين قبض علي ابيه احمد بن داود، قاضي القضاة يومئذ، أخذ منه مئة و عشرون الف دينار و جواهر قيمتها عشرون الف دينار. حملها الي المتوکل اختيارا. ثم صولح بعد ذلک علي دفع ستة عشر مليون درهم. و أما أبوه الذي کان قاضيا للقضاة، فصادر جميع أملاکه و ضياعه. [150] .

ثم عين المتوکل لقضاء القضاة يحيي بن أکثم، و ذلک سنة 237، [151] الا انه عزله عام 240 و غرمه خمسة و سبعون الف دينار، و أربعة آلاف جريب في البصرة. [152] فکم کان هذا الرجل قد حصل عليه من الاموال، خلال هذه السنوات الثلاث؟!.

و من المستطاع القول ان مقتل المتوکل [153] و خلع المستعين [154] و المعتز [155] و المهتدي و قتلهم، کان بسبب اقتصادي، يعود الي اطماع الاتراک، و عجز الخليفة عن ايفاء مطالب الدولة من الناحية المالية. و لا يبقي من خلفاء سامراء من مات -في هذه الفترة- حتف أنفه، الا المنتصر [156] و المعتمد. [157] .



[ صفحه 93]



و من المستطاع القول، بان الحرب المستعمرة التي وقعت في بغداد بين المستعين و المعتز عام 251، تعود الي سبب اقتصادي، مرجعه الي سوء تصرف الاتراک بالأموال بعد تسليطهم الکامل عليها. فان المستعين کان قد أطلق يد والدته ويد اتامش و شاهک الخادم في بيوت الاموال، و أباح لهم ان يفعلوا ما أرادوا؟!. فکانت الاموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها الي هولاء الثلاثة. فأخذ أتامش أکثر ما في بيوت الاموال. و کان وصيف و بغا- و هما من الاتراک المتنفذين - بمعزل عن ذلک، فشغبوا عليه و قتلوه و قتلوا کاتبه و نهبوا دوره. [158] .

ثم کان لهذين موامرة في قتل المستعين، فشلت وانکشفت له، فقال المستعين لهما: أنتما جعلتماني خليفة تريدون قتلي [159] و کان باغر الترکي مشترکا معهما في الموامرة، فتآمرا ضده و قتلاه. [160] و قد کان قتل باغر الشرارة الأولي التي أشعلت الحرب في بغداد، تلک الحرب التي أدت الي قتل المستعين عام 252. [161] .

و قد کان لام المعتز تسبيبا الي قتله. فان الاتراک طلبوا منه المال، فلم يکن لديه ما يعطيهم، فنزلوا معه الي خمسين الف دينار، فلم يکن يمکنه الدفع. فأرسل الي امه يسألها مالا ليعطيهم، فزعمت ان ليس عندها شي ء، فقتله الاتراک شر قتلة. [162] .



[ صفحه 94]



و قد وجدوا عندها، بعد مقتل ابنها من الاموال مالا يقدر بثمن. فمن النقد مليون و ثلثمائة الف دينار. ووجدوا في سفط قدر مکوک زمردلم ير الناس مثله، وفي سفط آخر مقدار مکوم من اللولو الکبار. وفي سفط آخر قدر کيلجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله. فحمل ذلک کله الي صالح بن وصيف، فسبها و قال: عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار، و عندها هذه الاموال کلها.

التاسع: من خصائص هذا العصر، و ليست من مختصاته أيضا: استمرار الفتح الاسلامي الذي أوجد بذرته الاولي ورکيزته العظمي و روحه الدافقة، نبي الاسلام (ص).

الا ان النبي (ص) أعطي الفکرة الصحيحة الداعية للفتح الاسلامي، فالفتح ليس للقتل و لا الانتقام، و انما هو رحمة و شفقة علي البلاد المفتوحة، و تخليصها من نير العبودية و الظلم، و تطبيق النظام الاسلامي الامثل عليها.

و اذا کان هذا هو المعني الواعي للفتح، فانه يترتب عليه أمور:

أولا: ان تقع المنطقة المفتوحة تحت سيطرة الدولة الاسلامية، و اشرافها من حيث الناحيتين العقائدية و السياسية، امنا للدولة الجديدة عن الانحراف و اطمئنانا من حدوث شغب أو اضطراب أو انحراف عن تعاليم الاسلام.



[ صفحه 95]



ثانيا: ان الفتح لايکون الا باشراف رئيس الدولة الاسلامية، و هو النبي (ص) في حياته، أو خليفته الشرعي العادل بعد وفاته. فان هذا الرئيس هو المطلع علي المصالح بشکل أعمق و أدق و المسک بيده زمام السياسة العليا، و المستشعر بشکل اوضح و أوعي، المعني العظيم للفتح الاسلامي البعيد عن المصالح الشخصية و المنافع الذاتية. و من ثم لم تکن الفتوح الاسلامية، في زمن النبي (ص) و الخلافة الراشدة منطلقة الا باذن الحاکم الاسلامي الاعلي.

ثالثا: ان الغنائم ليس لها أهمية تذکر. فان المقصود اذا کان هو رفع الظلم عن البلد المفتوح، فهو حاصل، سواء غنم الجيش الاسلامي أو لم يغنم. و انما تکون الغنيمة من قبيل جوائز التشجيع توزع علي الجيش الاسلامي المنتصر، رفعا لمعنوياته و ترغيبا له علي التکرار.

رابعا: ان الوعي اذا کان علي هذا المستوي الرفيع، کان الجيش الاسلامي هو المندفع و المنتصر دائما و الکاسح لعروش الظلم و الفساد، عروش کسري و قيصر.

بل أن الشعب المظلوم المتخلف، و هو يحس بظلامته، بمجرد ان يفهم ان الغزاة المسلمين ليسوا طامعين و لا ناقمين، و انما قدموا ليطبقوا النظام العادل و يکفلوا لمجتمعهم السعادة و الرفاه، فانهم سوف يکونون قلبيا بل عمليا مع الجيش الفاتح ضد سلطاتهم و حکامهم، و عونا للجيش الاسلامي ضدهم. و من هنا وجب علي الجيش الاسلامي



[ صفحه 96]



ان يدعو الي الاسلام و يعرض محاسنه علي أهل البلاد قبل ان يناجزهم القتال.

فهذه أمور أربعة يقتضيها الجهاد الواعي الذي أسس أساسه النبي (ص). و کلها کانت ضئيلة أو منعدمة في الفتح الجاري أثناء العصر الذي نورخ له.

فنحن نسمع مثلا: ان العباس بن الفضل بن يعقوب، خرج عام 237 الي قلعة ابن ثور فغنم و أسر و عاد، فقتل الاسري. و توجه الي مدينة قصريانه، فنهب و أحرق و خرب. [163] .

وفي سنة 238 خرج حتي بلغ قصريانه، و معه جمع عظيم، فغنم و خرب. و أتي قطانية و سرقوسه و نوطس و رخوس، فغنم من جميع هذه البلاد و أحرق. وفي سنة 42، سارالعباس في جيش کثيف، ففتح حصونا جمة.

و في سنة 243 سار الي قصريانة فخرج أهلها فلقوه و قاتلوه فهزمهم، و قتل فيهم فأکثر. وقصد سر قوسة و غير هما فنهب و خرب و أحرق. و نزل علي القصر الحديد و حصره و ضيق علي من به من الروم، فبذلوا له خمسة عشر الف دينار، فلم يقبل و أطال الحصر، فسلموا اليه الحصن علي شرط أن يطلق مأتي نفس، فاجابهم الي ذلک و ملکه و باع کل من فيه سوي مأتي نفس، و هدم الحصن. [164] .



[ صفحه 97]



و نسمع انه في عام 246 غزا عمرو بن الله الا قطع الصائفة، فاخرج سبعة عشر الف رأس. و غزا قريباس و اخرج خمسة آلاف رأس. وغزا الفضل بن قارن في نحو من عشرين مرکبا فافتتح حصن انطاکية. و غزا بلکاجور فغنم و سبي، و غزا علي بن يحيي الارمني، فغنم خمسة الآف رأس و من الدواب و الرمک و الحمير نحوا من عشر الآف رأس. [165] .

و لعل من أعظم الغنائم في ذلک العصر ما غنمه بازمار عام 270، بعد ان قتل من الروم -فيما يقال - سبعين الفا و عددا من قوادهم. وغنم منهم: سبع صلبان من ذهب و فضة، و صليبهم الاعظم من ذهب مکلل بالجوهر، و أربع کراسي من ذهب و مائتي کرسي من فضة و آنية کثيرة،و نحوا من عشرة الآف علم ديباج، و ديباجا کثيرا و بزيون و غير ذلک. [166] .

و نسمع انه في سنة 248 أغزا المنتصر وصيفا الترکي الي بلاد الروم. و کان سبب ذلک: انه کان بينه و بين احمد بن الخصيب شحناء و تباغض، فحرض ابن الخصيب المنتصر و اشار عليه باخراجه من عسکره للغزو، [167] فنفذ المنتصر ذلک و امره بالمقام بالثغر أربع سنين يغزو في أوقات الغزو، الي أن يأتيه رأيه.



[ صفحه 98]



و لم يکن محور حرکة الفتح الاسلامي واحدا؛ بل کانت محاوره متعددة، فالخلافة العباسية بقوادها الاتراک و غيرهم کانت تشارک فيه، و الدولة الاموية في الاندلس، کانت دائمة المناوشة مع الافرنج. و کان احمد بن طولون ممن يتولي الغزو أيضا. [168] و دولة افريقية برئاسة محمد بن الاغلب و اسرته کانت تتولاه أيضا. [169] .

و بهذا نري ان حوادث الفتح، مختلفة اختلافا اسياسيا عن مفاهيم الفتح الاسلامي الواعي الاصيل، فالغزو اصبح للتجارة و الحصول علي الغنائم، حتي ان القائد الغانم کان يساوم عليه بخمسة عشر الف دينار فلا يقبل. و لم تکن الدعوة الي الاسلام قبل البدء بالقتال موجودة و لا متبعه، مع ان وجوبها من واضحات الشريعة. کما ان الاسري کانت تقتل، خلافا لتعاليم الاسلام. کما ان البلاد المفتوحة لم تکن تدخل علي اثر الفتح في مجموعة البلاد الاسلامية، بل کان القواد بمجرد ان يحصلوا علي أرباحهم يترکون البلاد تنادي بالويل و الثبور، و يرجعهون، من دون ان يجعلوا عليها واليا اسلاميا، أو يطلبوا من أهلها الدخول في دين الاسلام أو دفع الجزية.

کما ان الروم، و هم عبارة عن الافرنج عامة و البزنطيين خاصة؛ حين کانوا يرون ان الفکرة الاساسية للجهاد في ذلک الحين هو النفعية، کانوا هم أيضا يقومون بنفس العمل، فيغزون البلاد الاسلامية و يقتلون



[ صفحه 99]



جملة من أهلها، و يکسبون الربح التجاري و يرجعون. فهم کالمسلمين، من حيث العدة و العدد، فلماذا يمتنعون عن ذلک؟! و ماذا يميز المسلمين عنهم من الوعي المقدس الذي کان قد تبخر وانتفي. و من ثم نجد ان الجيش الاسلامي ليس هو الغالب دائما في هذا العصر الذي نورخه، بل هناک انتصارت يحرزها الروم، کما سبق ان سمعنا.

کما ان الفتح کان، في الأغلب مستقلا عن خلافة بغداد، و عن رأيها و اذنها، و انما کان القواد و حکام الاطراف يقومون به کل حسب رأيه و مصلحته. و لم نسمع أرسال الخليفة أحدا للغزو الا فيما سمعناه من المنتصر حين أغزي وصيفا الترکي، علي ان هذه الحادثة الوحيدة، لم تکن في سبيل الله، و انما کانت ايفاء للاحقاد و التباغض الذي کان بين وصيف و احمد بن الخصيب، کما سمعناه.



[ صفحه 101]




پاورقي

[1] المروج ص 465 ج 3 و الکامل ص 236 ج 5 و تاريخ سامراء ص 101.

[2] الکامل: نفس الصفحة، و تاريخ سامراء عن الطبري ص 101 و عن معجم الحموي ص 19.

[3] الکامل ص 73 ج 6 و العبر ج 2 ص 24 و تاريخ سامراء ص 221.

[4] الکامل ج 6 ص 73 و المروج ص 143 ج 4 و ابن الوردي ج 1 ص 242.

[5] تاريخ سامراء ص 56، عن الحموي.

[6] نفس المصدر و الصفحة.

[7] تاريخ سامراء ص 96 عن الحموي.

[8] الکامل ص 302 ج 5. وما بعدها.

[9] المصدر ص 310 و انظر المروج ص 46 ج 4.

[10] انظر المروج ص 60 ج 4.

[11] الکامل ص 73 ج 6.

[12] الکامل ج 5 ص 358 و المروج ج 4 ص 103 و ابن الوردي ج 1 ص 234.

[13] الکامل ص 355 من نفس الجزء.

[14] المروج ج 4 ص 11 و ابن خلکان ج 2 ص 434 و ابن الوردي ج 1 ص 232 و غيرها من التواريخ.

[15] العبر ص 5 ج 2.

[16] المروج ج 4 ص 61.

[17] المروج ج 4 ص 92.

[18] الکامل ج 5 ص 341.

[19] المصدر ص 309.

[20] المصدر ص 311.

[21] المصدر ص 313.

[22] الکامل ص 320 و العبر ج 2 ص 2.

[23] الکامل ص 333 ج 5.

[24] الکامل ج 5 ص 313.

[25] الکامل ج 5 ص 321.

[26] العبر ج 2 ص 252.

[27] الکامل ج 5 ص 331.

[28] الکامل ج 5 ص 332.

[29] المصدر ص 343.

[30] الکامل ص 232 ج 5.

[31] الکامل ج 5 ص 252.

[32] المصدر ص 123 ج 6.

[33] المصدر ج 5 ص 246.

[34] الکامل ج 5 ص 253.

[35] المروج ج 3 ص 473.

[36] الکامل ج 5 ص 281.

[37] المصدر ص 284.

[38] المصدر ص 292.

[39] المصدر ص 335.

[40] المروج ج 4 ص 112 و ما بعدها.

[41] الکامل ج 6 ص 24.

[42] المصدر ص 21.

[43] نفس المصدر و الصفحة.

[44] المصدر ص 21.

[45] المصدر ص 74.

[46] الکامل ج 5 ص 339.

[47] المصدر و الصفحة.

[48] الکامل ج 6 ص 55.

[49] انظر مثلا المصدر ص 13.

[50] الکامل ج 5 ص 270.

[51] المصدر ص 330.

[52] الکامل ج 6 ص 56.

[53] الکامل ج 5 ص 293 و 294.

[54] المصدر ص 318.

[55] المروج ج 4 ص 123.

[56] المصدر ج 6 ص 56.

[57] المصدر و الصفحة.

[58] المصدر ص 58.

[59] المصدر ص 62.

[60] الکامل ج 5 ص 336.

[61] المصدر ص 371.

[62] المصدر ص 274.

[63] الکامل ج 5 ص 372.

[64] الکامل ج 6 ص 24.

[65] الکامل ج 5 ص 339.

[66] المصدر ص 246.

[67] المصدر ص 350.

[68] المصدر ص 354 و ما بعدها.

[69] المصدر 355.

[70] المصدر ج 6 ص 15.

[71] الکامل ج 6 ص 15.

[72] المصدر ص 346 ج 5 و ابن الوردي ج 1 ص 233.

[73] نفس المصدر و الصفحة.

[74] المصدر ج 6 ص 51.

[75] الکامل ج 5 ص 374.

[76] المصدر ص 359.

[77] المصدر ج 6 ص 8.

[78] المصدر ص 16.

[79] المصدر ص 23.

[80] الکامل ج 5 ص 362.

[81] المصدر ص 359.

[82] المصدر ص 358.

[83] المصدر ص 361.

[84] المصدر ص 363.

[85] المصدر ص 367.

[86] الکامل ج 5 ص 395، و انظر العبر ج 2 ص 15.

[87] الکامل ج 6 ص 49.

[88] المصدر ص 51.

[89] المروج ج 4 ص 124.

[90] انظر مثلا ص 46 ج 6 من الکامل و غيرها.

[91] انظر المصدر ص 47.

[92] المصدر ص 53.

[93] المصدر ص 54-53.

[94] المصدر ص 17.

[95] المصدر ص 49.

[96] المصدر ص 67 و ما بعدها.

[97] المصدر ص 69.

[98] المروج ج 4 ص 51.

[99] الکامل ج 5 ص 287 و انظر المقاتل للاصبهاني ص 424.

[100] المروج ج 4 ص 51 و انظر المقاتل ص 450.

[101] انظر المروج ج 4 ص 10.

[102] مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 506.

[103] المروج ج 4 ص 69.

[104] اعلام الوري 359.

[105] المصدر ص 360.

[106] المصدر ص 357.

[107] المصدر ص 345 و انظر المروج.

[108] انظر الارشاد ص 307.

[109] المصدر ص 314.

[110] المصدر ص 325.

[111] المقاتل للاصبهاني ص 411.

[112] الکامل ج 5 ص 232.

[113] المروج ج 3 ص 465.

[114] الکامل ج 5 ص 314.

[115] المروج ج 4 ص 63.

[116] الکامل ج 5 ص 315.

[117] المروج ج 4 ص 63.

[118] المقاتل ص 457.

[119] الکامل ج 6 ص 55.

[120] الکامل ج 5 ص 317.

[121] المصدر ص 345.

[122] المصدر ص 329.

[123] المروج ج 4 ص 68.

[124] الکامل ج 5 ص 329.

[125] المروج ج 4 ص 69.

[126] الکامل ج 5 ص 329.

[127] المروج ج 4 ص 69.

[128] المروج ج 4 ص 69. و نسبه ابو الفرج بالنحو الاول و قال: المکني بالحرون. انظر المقاتل ص 469.

[129] المروج، الجزء و الصفحة السابقين.

[130] کما في المروج ج 4 ص 69.

[131] کما في الکامل ج 5 ص 330.

[132] المصدر و الصفحة.

[133] ج 4 ص 69.

[134] المقاتل لابي الفرج ص 470.

[135] المروج ص 94 ج 4. و انظر الکامل ج 5 ص 335.

[136] الکامل ج 5 ص 329.

[137] المصدر ص 330.

[138] المصدر و الصفحة.

[139] المصدر 335.

[140] الکامل ج 5 ص 337.

[141] الکامل ج 5 ص 359 و ص 360.

[142] المصدر ص 369.

[143] المصدر ص 360.

[144] المروج ج 4 ص 94.

[145] المصدر و الصفحة.

[146] المصدر ص 95.

[147] انظر ص 506 و ما بعدها و ما قبلها أيضا.

[148] المقاتل ص 450.

[149] الکامل ج 5 ص 269.

[150] الکامل ج 5 ص 289.

[151] المصدر ص 237.

[152] المصدر ص 294.

[153] المصدر ص 301.

[154] المصدر ص 331.

[155] المصدر ص 341.

[156] المصدر ص 355.

[157] المصدر ص 310.

[158] الکامل ج 5 ص 313.

[159] المصدر ص 319.

[160] المصدر ص 318.

[161] المصدر ص 333.

[162] المصدر ص 241 و ما بعدها.

[163] الکامل ج 5 ص 289.

[164] کل ذلک في الکامل ج 5 ص 289.

[165] المصدر ص 300.

[166] الکامل ج 6 ص 55.

[167] الکامل ج 5 ص 307.

[168] المصدر ج 6 ص 14 و ما بعدها.

[169] المصدر ج 5 ص 289.