محاولة السلطات القبض عليه
کان القبض عليه، احد الاهداف الکبري للدولة، من حيث انها تعلم
[ صفحه 550]
ما في کيانها من ضعف و انحراف و تسيب. و تعلم ان المهدي عليه السلام هو المذخور لرفع الظلم و الجور عن بني البشر، اذن فهو يناقض باساس وجوده و عمق هدفه، کيان هذه الدولة من الصميم، و يشکل ضدها الخطر الاصيل.
و لم تکن الدولة لتعلم انه سيتأخر ظهوره، ما حصل له من التأخر بعد ذلک. فان من مميزات ظهور الامام المهدي (ع) کونه محتمل الظهور في کل وقت، لکي يخافه کل ظالم و يخشاه کل منحرف.
وقد سبق ان دللنا علي ان الخلفاء کانوا عالمين بوجوده و هدفه و لا اقل من احتمالهم لذلک. و هو يکفي لتصديهم الي تحصين دولتهم ضد خطره و تجريد الحملات للقبض عليه.
و قد جردت السلطات ثلاث حملات للقبض عليه، احداهما قام بها المعتمد في الفترة القليلة المتأخرة عن وفاة الامام العسکري عليه السلام و الاخريان قام بهما المعتضد الذي تولي الحکم بعده. و اما الخلفاء المتأخرون فلم ينقل عنهم ذلک، و لعلهم کانوا قد أيسوا من ذلک يأسا تاما.
اما محاولة المعتمد، فقد سبق ان سمعناها في القسم الاول من هذا التاريخ، عند استعراض ما قام به جعفر بن علي من محاولات و اعمال فلا نعيد.
و قد عرفنا ما تلا ذلک من انشغال الدولة بحرب صاحب الزنج و غيره، مما اوجب انحراف السلطات ذهنيا عن ان تجرد حملات اخري للکبس و التفتيش، اثناء خلافة المعتمد، و هي التسعة عشر عاما
[ صفحه 551]
التي قضاها في الحکم بعد وفاة الامام العسکري (ع).
الا أن التجسس المستمر و التلفت الدائم من قبل السلطات، کان قائما علي قدم و ساق، و مستمرا خلال الزمان، و کان يجابه، کما عرفنا، بأساليب السرية و الکتمان المضاعفة التي کان يقوم السفيران الأولان في هذه الفترة الصعبة من الغيبة الصغري. بما في ذلک تحريم التصريح باسمه و الدلالة علي مکانه، الا لمن امتحن الله قلبه للايمان.
و في خلال هذه الأعوام التسعة عشر، يکون التجسس قد أنتج شيئا مهما بالنسبة الي الدولة. و هو ثبوت فکرة السفارة لديها، و أن هناک من يدعي السفارة عن الامام المهدي (ع) و يقبض المال بالوکالة عنه [1] اذن فهو موجود. ليس هذا فقط، بل يحاول قيادة قواعده الشعبية و قبض الأموال منهم. و من ثم کانت من أعظم مهام المعتضد عند توليه للخلافة أن يجدد الحملات لمحاولة القبض علي المهدي (ع).
و من ثم يبادر، فيبعث علي ثلاث نفر، فيهم أمرهم رشيق صاحب المادراي. و يأمرهم أن يخرجوا الي سامراء مخففين لا يکون معهم قليل و لا کثير، الا أن يرکب کل واحد منهم فرسا و يجنب معه آخر. و وصف لهم محلة ودارا. و قال: اذا أتيتموها تجدون علي الباب خادما أسود، فاکسبوا الدار و من رأيتم فيها فأتوني برأسه. [2] .
انظر لمقدار ما أتت به أخبار التجسس..انه يعلم بدار المهدي (ع)
[ صفحه 552]
و هي دار أبيه..انها دار معروفة في سامراء، لها تاريخ مجيد. و ليس في هذا ما يلفت النظر.. و لکنه يعلم بالعبد الجالس علي باب الدار. فانه من الأخبار المتأخرة، اذ لم تکن الحالة في حياة الامام العسکري (ع) بهذا الشکل بالتعيين.
کما أنه يعلم بوجود شخص آخر غير هذا العبد، في داخل الدار.و هو الامام المهدي (ع) لا محالة. و علي الأقل يعلم انها دار سکناه، و ان کان يحتمل عدم وجوده فيها ساعة الکبس. و لکن لا أقل من احتمال وجوده، و الکبس دائما مغامرة و مقامرة.
و هو لا يحاول أن يري المهدي (ع) أو أن يکلمه، و انما يأمر بقتله رأسا و حمل رأسه اليه. و بذلک يتحقق الهدف الأعلي لکيان الدولة الزائف.
و هو لا يعين لهم شخصا أو اسما معينا.بل يغمض من هذه الناحية انه يريد أن يبقي هذا الأمر خفيا حتي علي هولاء القائمين بالجملة، و لا يهمه بعد ذلک أن يقتلوا غير المهدي و يأتوه برأسه. فحسبه أنه قام بالمحاولة، علي أي حال.
و يتوخي المعتضد من هذا الاغماض أهدافا:
الأول: عدم اثارة مسألة المهدي (ع) امام هولاء الجلاوزة، و عدم تنبيههم الي ذلک، مهما أمکن. لکي لا يکون ذلک رأس الخيط بالنسبة اليهم أو الي أحدهم للبحث عن الحق في خط الامام المهدي (ع) أو الميل اليه.
الثاني: عدم کشف مهمتهم الحقيقية أمامهم،محافظة علي سمعته
[ صفحه 553]
وسمعة الدولة. فانهم ان عرفوا ان المعتضد يکلفهم القبض علي المهدي (ع). أمکن تسرب الخبر الي المجتمع، فيترتب علي ذلک، ما لا يحمد للمعتضد عقباه.
الثالث: عدم کشف مهمتهم الحقيقية أمامهم للمحافظة علي سرية المطلب، حتي عن خاصة الدولة، و جهاز استخباراتها، فان الأمر أهم و أدق من أن يعرفه الناس. وقد کان أشخاص الخلفاء وحدهم يعرفون ذلک في الغالب، و قد عرفنا وجه مصلحتهم في الحرص علي سرية المطلب و ابهامه.
و بدأت الحملة کما أمر المعتضد، و توجه الثلاثة الي سامراء، و بحثوا عن الدار، فوجدوها، کما وصفها لهم المعتضد، و رأوا في الدهليز خادما أسود و في يده تکة ينسجها. فسألوه عن الدار و من فيها. فقال: صاحبها. قال رشيق:فوالله ما التفت الينا و قل اکتراثه بنا.
ثم انهم استمروا علي مهمتهم، فکبسوا الدار و جاسوا خلالها فوجدوا غرفة سرية و عليها ستر جميل جديد. قال رشيق: ما نظرت قط الي أنبل منه، کأن الأيدي رفعت عنه في ذلک الوقت.
و لم يکن في الدار أحد، فرفعوا الستر، فرأوابيتا کبيرا کأنه بحر فيه ماء. وفي أقصي البيت حصير يبدو کأنه علي الماء. و فوقه رجل من أحسن الناس هيئة، قائم يصلي. و بقي مشتغلا بصلاته متوجها الي ربه لم يلتفت اليهم، کأنه لم يرهم و لم يسمعهم.
فسبق أحد الرجلين اللذين کانا مع رشيق ليتخطي البيت، فغرق
[ صفحه 554]
في الماء، و ما زال يضطرب، حتي انقذوه و اخرجوه. و غشي عليه و بقي ساعة. ثم هم الرجل الآخران يتخطي البيت فغرق في الماء ايضا فاصابه ما اصاب صاحبه.
فبقي رشيق و هو قائد الحملة، مبهوتا واجما، و أيس من نيل الغرض، و اراد ان يلطف من خاطر هذا المصلي و يزيل ما قد يکون قد علق بذهنه من هذه الحملة. فتوجه اليه قائلا: المعذرة الي الله و اليک فوالله ما علمت کيف الخبر و لا الي من اجي ء. و انا تائب الي الله. قال رشيق: فوالله ما التفت الي شي ء مما قلنا. و ما انتقل عما کان فيه فهالنا ذلک، و انصرفنا عنه.
انظر کيف انتصر المهدي (ع) علي هولاء، الجلاوزة المنحرفين و کيف استطاع ان يوثر علي اعصابهم هذا التأثير الرهيب. فقد کان يمکنه ان يدبر امره بحيث يختفي منهم کما لا يراهم و لا يرون..بأن يکون خارج تلک الدار ساعة الکبس. و لکنه دبرالامر بحيث يتحدي السلطات يقيم عليها الحجة، في اثبات حقه.
فقد ملأ مکانه، باسلوب طبيعي او اعجازي بالماء. و بقي آمنا لا حاجة له ان يلتفت الي هذه الحملة، او ان يعيرها اي اهمية، حتي خادمه الاسود، کان مطمئنا من تدابير مولاه و امامه، و حفظ الله تعالي اياه، فلا حاجة له الي الخوف و الاهتمام.
و المهدي عليه السلام،يعلم سلفا ان لن يکون مع هولاء الجلاوزه سلاح يقذف به کالسهم، ليصل اليه و هو علي مصلاه في نهاية الغرفة.
[ صفحه 555]
و انما يستصحبون معهم السيف، لقطع رأسه، و هو لا يمکن ان يعمل مع هذه التدابير.
و العلم بساعة ورودهم و نوع سلاحهم،و نحو ذلک. ليس بدعا علي علم الامامة. و ليس اعجب من هذا التدبير الذي ارهب به السلطات وانتصر عليهم.
و کأن الجلاوزه ظنوا انهم متوهمون في حسبان المکان مملوءا بالماء و انه شي ء من خداع النظر. حيث حاول اثنان منهم اقتحام المکان.و نفس کلام رشيق يوحي بهذا الظن حيث يقول: کأن بحرا فيه ماء. و في أقصي البيت حصير قد علمنا أنه علي الماء. أي أنهم ظنوا و لم يتأکدوا بحسب ما يدل عليه السياق. الا أن التجربة الفعلية المکررة، في غرق اثنين منهم جعلتهم يقطعون الشک باليقين. فانه سواء کان حصول الماء طبيعيا أو اعجازيا، فانه يوجب الغرق. و لا يعني بحال کونه وهميا غير واقعي.
و أما وقوف الامام عليه السلام علي الماء، فان کان حقيقيا، فهو اعجازي لا محالة، لا يکون الا بقدرة الله عزوجل، لاقامة الحجة علي المنحرفين و الظالمين. و المعجزة عند اقامة الحجة ممکنة بل ضرورية کما برهنا عليه في بحوث أخري، و عليها قامت الدعوة الالهية في خط الأنبياء الطويل.
علي أننا يمکن أن نتصور أن المهدي (ع) قد أعد لنفسه في آخر هذا الماء قطعة صغيرة من الأرض، بمقدار الحصير لکي يصلي عليها، و کان
[ صفحه 556]
الماء يغمرها فلم يبد منها شي ء، فتوهموا أن الحصير علي الماء.
و حين أيس رشيق من بلوغ الغرض، و ذاق صاحباه الغرق و العذاب، اضطر الي الانصياع للتحدي و الاعتراف بالعجز. انه لم يکن يتوقع شيئا مما رآه، فضلا عن کل ما رآه. لم يعلم الا أن المعتضد أرسله علي شخص ما ليقبض عليه و يأخذ برأسه. و اما مثل هذا التدبير الحاسم فهو لم يواجه مثله من قبل أي شخص آخر حاول القبض عليه. انه يواجه الهول و التحدي الصريح لأول في حياته، بشکل لا يجد له حيلة، و لا يعرف الي تذليله طريقا.
اذن، فلصاحب هذا البيت شأن غير اعتيادي، شأن أعلي من القوي الاعتيادية التي يعرفها رشيق. و المعتضد انما أغمض له الشک لسبب في نفسه..اذن لعله يعرف شأن صاحب هذا البيت علي الاجمال. انه هو الذي أوقعه في هذا الهول و التحدي. بالرغم ان التحدي في واقعه متوجه الي المعتضد نفسه أکثر مما هو متوجه اليه.
و علي أي حال، فينبغي التملص من المسألة، و القاء المسوولية کلها علي کاهل المعتضد، و الاعتذار من صاحب الدار، ذي الشأن المجهول الرهيب.
و لکن ماذا يجدي لديه الاعتذار. انه اعتذار المتلبس بالجرم. انه قبل لحظات،بل و حتي بعد الاعتذار، لو استطاع أن يقبض عليه و يقطع رأسه لفعل. اذن فليس لاعتذاره أي قيمة ولا أهمية..و لا ينبغي الاعتناء به بحال.
[ صفحه 557]
و صحب هولاء الجلاوزة هو لهم في داخل قلوبهم، و توجهوا توا الي بغداد، ليحملوا هذا الخبر العجيب الرهيب الي المعتضد. و کان المعتضد ينتظرهم، و قد أمر الحجاب و الحرس علي أن يدخل هذا الوفد عليه في أي وقت کان، ليلا أو نهارا. فان مهمتهم أعمق و أعقد من أن تحتمل التأجيل.
و دخل عليه الوفد يحمل هولة بين جنبيه، وصب أمامه الحکاية کما وقعت. فقال:و يحکم لقيکم أحد قبلي و جري منکم الي أحد سبب أو قول؟!. فقالوا: لا!. فقال: انا نفي من جدي - أي ليس من بني العباس-،و حلف بأشد ايمان له، انه رجل أن بلغه انهم أخبروا بهذا الخبر ليضربن أعناقهم. قال رشيق: فما جسرنا أن نحدث به الا بعد موته.
ان المعتضد،لم يجد فيما رووه له، هولا أو أمرا غريبا. فانه يعرف ان من حاول القبض عليه، من العمق و السمو، بحيث لا يکون مثل هذا الأمر غريبا منه. و قد سبقت من آبائه عليهم السلام الي أسلاف المعتضد أمور کثيرة من هذا القبيل.
انه يعرف ذلک جيدا، و لکنه يخاف منه علي قواعده الشعبية و أساس ملکه. ان هولاء الثلاثة بالرغم من أنه حاول الاغماض لهم في کلامه، قد اطلعوا علي الحقيقة و واجهوا الحق، حتي اضطر رشيق الي التنازل و التوبة. الا أنه لا ينبغي أن يکون الناس الآخرون کرشيق عارفين بالحق أو منصاعين له. و من ثم نراه يحلف لهم بأغلظ الأيمان
[ صفحه 558]
و يهددهم بالقتل، ان بلغه أخبروا أحدا بذلک. فلم يجسروا أن يخبروا به الا بعد موته. فان ايمانه و تهديده انما يکون رسميا في حال حياته و بطشه لا بعد موته و فوته.
يبقي احتمال واحد، و هو أن لا يکون هذا الذي وجدوه هو المهدي بل شخص آخر غيره. فان اسمه لم يرد في الرواية، بل لعل رشيق قائد الحملة لم يعين في ذهنه، من بعد رجوعه أنه المهدي (ع) بالتعيين.
و لکننا نستطيع الجزم بکونه هو المهدي بعدة قرائن:
الأولي: اقامة الحجة بالمعجزة أمام أعضاء الحملة و السلطات المتمثلة بالخليفة نفسه.
فان الحادثة تحتوي علي عنصر غيبي لا محالة، فلأن استطعنا أن نفهم الماء الذي شاهدوه و غرقوا فيه و الحصير الذي عليه بنحو طبيعي اعتيادي..فلا يمکن أن نفهم علمه بموعد مجيئهم و نوع سلاحهم علي الطريق الاعتيادي. مع انصرافه عن المجتمع في تلک الأيام و سرية هذه الحملة سرية تامة، يهتم المعتضد باخفائها اهتماما بالغا.
و قد التفت المعتضد نفسه الي هذه الحجة الواضحة، و من هنا زاد اهتمامه بالاخفاء حفاظا علي الخط العام للدولة بين قواعدها الشعبية.
و قد علمنا بالبرهان الدال علي امامة المهدي عليه السلام، انه ليس هناک في ذلک العصر، من يقيم المعجزة باعداد من الله عزوجل سواه. تعين القول بأن هذا الشخص الذي وجدوه هو المهدي (ع) لا سواه.
الثانية: انه مع غض النظر عن الجانب الاعجازي، تستطيع
[ صفحه 559]
الجزم بأنه لم يکن في العالم في ذلک العصر، فضلا عن سامراء التي کانت مهجورة و غامرة بعد انتقال الخلافة عنها الي بغداد..ليس هناک من يستطيع القيام بهذا التدبير الدقيق لتحدي السلطات و التخطيط لارعابهم غير الامام المهدي (ع).فانه لم يکمن التکتيک دقيقا علي أي المستويات الاعتيادية في ذلک العصر، حتي لدي السلطات نفسها. ما عدا ما کان من المهدي نفسه من انقاذ سفرائه و قيادة قواعده الشعبية کما عرفنا مفصلا. فليس عجيبا ان يضع مثل هذا التخطيط،مثل هذا العقل القيادي.
الثالثة: قول المعتضد-برواية الراوندي - [3] حين أمرهم بالتوجه الي سامراء: الحقوا و اکبسوا دار الحسن بن علي، فانه توفي، و من رأيتم في داره فاتوني برأسه.
و من يکون في تلک الدار يومئذ الا ابنه الامام المهدي عليه السلام؟ ومن يمکن أن يخطر في ذهن المعتضد ممن يحتمل أن يسکن في تلک الدار أو يستجير بها و يکون خطرا علي الدولة و الکيان القائم غيره؟
و ظن المعتضد، ان هذه الحملة، انما فشلت باعتبار قلة العدد و سرية التوجيه و التنفيذ.و لا أقل من احتمال نجاح الحملة لو کثر العدد و انکشف الغرض. و لم يستطع أو لم يرد أن يفهم أن هذا العقل الذي تحداه مرة واحدة، يمکنه أن يتحداه عشرات المرات. و لن تستطيع
[ صفحه 560]
أي قوة في البشر أن تسيطر عليه أو تقضي عليه.
و من هنا جرد حملة أکبر، و بعث عددا أکثر، و أتبعه بجيش کبير. فانظر الي هذا الجبن من الفرد الواحد، و الفزع الذي تتصف به الدولة تجاه هذا الامر العظيم.
و أود في هذا الصدد أن أذکر الرواية بنصها [4] قال الراوي: ثم بعثوا عسکرا أکثر، فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا علي بابه و حفظوه حتي لا يصعد و لا يخرج. و أميرهم - يعني قائد الحملة- قائم حتي يصل [5] العسکر کلهم. فخرج من السکة التي علي باب السرداب، و مر عليهم. فلما غاب، قال الأمير: انزلوا عليه. فقال: أليس هو مر عليک. فقال: ما رأيت. قال: ولم ترکتموه. قالوا: انا حسبنا أنک تراه.
انظر لهذا التحدي الجديد من قبل المهدي عليه السلام للسلطات انه تحد أبسط، و لکنه أعمق في نفس الوقت. فان ذلک التحدي علي تعقيده، لم يکن الا لدفع ثلاثة أنفار. و أما هذا التحدي علي بساطته، فهو لدفع جيش کبير من جلاوزة السلطان، و تسجيل الفشل علي مهمتهم.
انه يقرأ القرآن، و هل في قراءة القرآن أي ضمير حتي في نظر السلطات؟. ان القرآن الکريم هو حلقة الوصل بين جميع الفئات
[ صفحه 561]
الاسلامية. و العلامة الرئيسية لتمسک الفرد بالاسلام. فالمهدي (ع) يريد أن يفهمهم ضمنا- لو کانوا يفهمون - حرمة الاعتداء عليه و قتله، باعتباره مومنا بالقرآن الذي تعترف السلطات بقدسيته.
و هو في حين الوقت يتحداهم، بقراءته. انه لا يخافهم و لا يخشاهم. فانه يعلم بوجودهم و يسمع ضوضاءهم و لکنه لا يسکت عن القراءة و لا يخفي نفسه. بل انه ليغرق في التحدي فيخرج أمامهم، بحيث يراهم و يرونه، و لکنهم لا يقبضون عليه، مع أنهم قادمون لأجل ذلک بالذات.
و هو يقرأ القرآن بالسرداب. و السرداب دائما هو المقر الطبيعي للفارين، الذين لا ينسجمون مع الحياة الاجتماعية، اما لانحرافها أو لحصول حرب أو غير ذلک.
و من طريف حال هولاء الجلاوزة، انهم لم يبادروا للقبض عليه. بل وقفوا علي باب السرداب يحافظون عليه، و يتجنبون عن اقتحامه. انهم يخافون مواجهة المهدي (ع) و يحتاجون الي مدد أکبر و عددا أکثر. فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد الي سامراء.
و في هذه الأثناء استغل الامام المهدي (ع) أروع لحظة من لحظات ذلک الحصار، لحظة اقترنت بالدقة بالتوقيت و الضبط في التدبير و العناية الالهية. انها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصد و الانتباه. لحظة لم يأت فيها المدد، و لم تصدر الأوامر بعد الي اقتحام المکان. و لو کان المهدي (ع) قد تأخر لحظة أخري لقبضوا عليه لا محالة.
استغل المهدي تلک الفرصة السانحة، و خرج أمامهم من السرداب،
[ صفحه 562]
و اختفي حيث لا يمکن أن يصل اليه و هم هذا الجيش المهاجم.
و لم يلتفت قائدهم الي خروجه، کان ذهنه سارحا الي الخارج حيث يقبل المدد الکبير. کان في حالة انتظار، و هي حالة تحطم الأعصاب و تأخذ بالافکار، و خاصة في مثل ذلک الموقف الصعب الدقيق.
ثم کأنه يستبطي ء مجي ء المدد فيفکر بالاقتحام بما لديه من الرجال لعله يستطيع تحقيق الهدف. فتتد حرج الکلمات علي شفتيه: انزلوا اليه. و دهش الحاضرون أن يأمرهم قائدهم باقتحام السرداب الفارغ! بعد أن شاهدوا المهدي (ع) يخرج أمامهم و يختفي.
ثم فکر قليلا! کان ينبغي أن يقبضوا عليه..فلئن کان هو غافلا فانهم انتبهوا له، و کلهم يعلمون أن مهمتهم هي القبض عليه. فلماذا لم يقبضوا عليه حين رأوه. و من هنا توجه اليهم معاتبا: و لم ترکتموه.
و کان جوابهم واضحا صريحا: انا حسبنا أنک تراه. فان الجيش ليس له أن يتصرف قبل قائده و من دون أمره. هکذا اعتادت الجيوش علي مدي التاريخ. و بالأولي حين يرون القائد ملتفتا الي الشخص المطلوب. و يأمر بشي ء بصدده. انهم حسبوه ملتفتا- ولم يکن لحسن القدر و جمال التوفيق -ملتفتا.
و هکذا تظافرت هذه الأمور الصغيرة، لکي تنتج النتيجة الکبيرة لکي ينفذ المخطط الالهي العظيم لانقاذ مستقبل البشرية بالمهدي (ع) من الظلم و الجور الي القسط و العدل.
[ صفحه 563]
و اريد، في هذا الصدد، أن أهمس لک بکلمة قليلة المونه کبيرة الأهمية.
و هو ان هذا السرداب الذي عرفنا، بنص هذه الرواية، في دار الامام العسکري (ع) التي يسکنها الامام المهدي (ع) في الفترة الأولي من غيبته الصغري.
هذا السرداب، هو الذي أصبح سببا للحملات الضخمة المرکزة علي مذهب الاعتقاد بالغيبة، من قبل عدد ليس بالقليل من علماء الاسلام و مفکريهم. باعتبار تصوير المسألة علي أن المهدي عليه السلام غائب في السرداب. و قد أضافوا علي ذلک اضافات غربية، رواياتنا منها براء. فمن ذلک: انه دخل السرداب و امه تنظر اليه، و انه يسکن السرداب طيلة مدة غيبته.
اذن فکيف يأکل و يشرب حتي أصبح اسم المهدي عندهم: صاحب السرداب. و زعم ابن جبير أن هذا السرداب کان في الحلة و لم يکن في سامراء. و نظم آخر من ذلک شعرا:
ما آن للسرداب أن يلد الذي
غيبتموه بجهلکم ما آنا
فعلي عقولکم العفاء فانکم
تلثتم العنقاء والغيلانا [6] .
[ صفحه 564]
حتي ان أمثلهم طريقة، و هو الکنجي في البيان [7] حاول الاعتذار عن ذلک و تقريب امکان بقائه في السرداب هذه المدة الطويلة بدون طعام و شراب بقدرة الله تعالي.
و تصبح هذه الحملة المرکزة، هواء في شبک، بعد کل الذي قدمناه و بسطناه و حللناه من رواياتنا و تاريخنا الخاص. و يتضح أن هذه الکلمات انما قيلت نتيجة للجهل المطلق برواياتنا و البعد الکبير عن مصادرنا و کتبنا. و امساکهم للقلم و القرطاس دون مراجعة و تثبت و تدقيق.
فالمرکز الأول، کان هو سامراء بلد الامامين العسکريين عليهما السلام. و ليس هو الحلة، کما زعم ابن جبير. وليس المهدي محبوسا في السرداب. و ليس هناک علي وجه الارض من يعتقد ذلک بحق. بل هو يحضر الحج و يکلم الناس و ينصب السفراء و يقبض الأموال و يکتب التوقيعات، و يواکب الأحداث عن کثب، و يقف بوجه الانحراف و التزوير. و لديه فرص کبيرة لان يعيش کما يعيش اي فرد من الناس.
و اما هذه الرواية التي ورد فيها ذکر السرداب فقد عرفنا تفاصيل مدلولها. فالسرداب مکان طبيعي للاختفاء من الهجوم أو الحرب أو الوباء أو نحو ذلک علي مدي التاريخ. وليس أمرا خاصا بالمهدي (ع). وقد کان المهدي (ع) طبقا لذلک، يتخذ سرداب داره مخبا للطواري ء في أثناء الفترة الأولي من غيبته الصغري، التي تمثل أصعب الفترات بالنسبة اليه.
[ صفحه 565]
و ليس لامه ذکر في الرواية، علي أنها تنص کما سمعنا أنه لم يبق في السرداب بل خرج أمام أعين المهاجمين، فمن أين عرفوا بقاءه في السرداب، فحملوا هم طعامه و شرابه؟!. و سيأتيک في البحوث الآتية تفاصيل عديدة، تزيد ذلک ايضاحا و تفصيلا.
کما ان اعتبار هذه الحادثة هي مبدأ غيبة الامام المهدي عليهما السلام. کما يظهر من قولهم:دخل السرداب و امه تنظر اليه. فکأنه غاب منذ ذلک الحين. و کما يظهر أيضا من هامش کتاب البحار، حيث أضاف الکاتب عبارة تدل علي ذلک. [8] .
الا أن هذا في غاية السخف و الافتراء. فقد أوضحنا فيما سبق أن الغيبة ليس لها مبدأ معين، بل کان المهدي (ع) مختفيا من أول ولادته. و قد زاد اختفاوه شيئا فشيئا. وقد مثلت الغيبة الصغري و تعيين السفراء مرحلة من مراحل غيبته.و حيث بدأت امامته عليهما السلام و نصب السفراء بوفاة أبيه عليهما السلام کانت الغيبة الصغري بادثة منذ ذلک الحين و منتهية بوفاة السفير الرابع.
و معني ذلک: ان الغيبة الصغري بدأت قبل خلافة المعتضد بتسعة عشر عاما. اذ توفي الامام العسکري عام 260 و استخلف المعتضد عام 279. فلو کان قد جرد هذه الحملات في العام الأول من خلافته، کانت هذه الحملات متأخرة عن مبدأ الغيبة بنفس هذا المقدار من الأعوام.
و صاحب البحار قدس الله روحه، لا يرضي بأي حال عن العنوان
[ صفحه 566]
الذي کتبه کاتب النسخة الحجرية من کتابه. حيث نراه قدس سره يوکد ان ابتداء الغيبة الصغري من وفاة الامام العسکري عليهما السلام، و يستنتج انها أقل من سبعين عاما بقليل. ثم يذکر احتمال ان يکون مبدوها ولادة الامام المهدي (ع) نفسها. [9] و معه تزيد مدتها علي السبعين عاما بقليل. و لم يذکر أي احتمال أو و هم في أنها تبدأ عند حدوث حملة المعتضد في القبض عليه. و ليس في اي شي ء من رواياتنا ما يدل علي ذلک. و نسبته الي المذهب زوروبهتان.
علي انه علي هذا التقدير تکون مدة الغيبة الصغري، ستون عاما. و هو مما لم يحتمله احد، و غير مناسب مع شي ء من تواريخ السفراء التي ذکرناها. يکفينا من ذلک أنه في ذلک العام الذي حدثت فيه حملة المعتضد، کان السفير الأول قد توفي و قد مضت من سفارة السفير الثاني حوالي الأربعة عشر سنة. کما يظهر من التواريخ التي ضبطناها فيما سبق.
پاورقي
[1] أعلام الوري ص 421.
[2] انظر تفصيل الرواية في الغيبة ص 149 و ما بعدها و الخرايج ص 67 و البحار ج 13 ص 118.
[3] انظر الخرايج و الجرايح ص 67.
[4] انظر البحار ص 118 ج 13.
[5] في المصدر: يصلي. و هو غلط مطبعي لا محالة.
[6] أنظر بهذا الصدد المصادر التالية: الصواعق المحرقة ص 100. و وفيات الأعيان ج 1 ص 372. و الکامل ج 5 ص 373. و تاريخ ابن الوردي ج 1 ص 234. و شذرات الذهب ج 2 ص 141. و العبر في خبر من غير ج 3 ص 40. و تاريخ ابي الفداء ج 1 ص 47. و مصادر أخري عقائدية و تاريخية.
[7] أنظر ص 112 و ما بعدها.
[8] قال في الهامش ما لفظه: في بيان اول الغيبة ص 118 ج 13.
[9] انظر ج 13 ص 100.