بازگشت

في الخصائص العامة و المضمون الاجتماعي للسفارة


ويقع الحديث حول ذلک ضمن عدة أمور:

الأمر الأول: ان ما أشرنا اليه قبل قليل من کون السفراء علي العموم متماثلين في الأسلوب و الأهداف، لم يوثر علي بحثنا فحسب، بل أثر فعلا علي النقل التاريخي لأعمالهم و للتوقيعات التي تخرج علي يدهم. ففي عدد مهم من الموارد يهمل أسم السفير اهمالا، و انما يقال مثلا: کتبت الي الناحية. و جاء الجواب. و لا يکون هناک أي تعرض للسفير المتوسط في الأمر.

و السر في ذلک غير خفي، فان المدبر الحقيقي للامور، و من يتکفل حل المشکلات، هو الامام المهدي (ع) نفسه من دون دخل لشخص السفير في ذلک، سوي کونه ناقلا للسوال و واردا بالجواب.

فليس المهم في نظر السائل حين يروي سواله أن يذکر الواسطة فيه و انما المهم أن يذکر حل المشکلة الذي صدر عن الامام المهدي (ع) فحسب.

مضافا الي ما في اهمال ذکر السفير، من الأخذ بالحيطة و الحذر له لاحتمال تسرب اسمه الي السلطات. و انما يذکر اسم السفير في المحافل الخاصة عند ارتفاع الخطر و اطمئنان النفوس.

و من هنا نکون نحن أمام هذا النقل التاريخي، في اجمال من ناحية



[ صفحه 421]



نسبته الي أي سفير من السفراء. بل يعتبر هذا النقل نقلا عن الامام (ع) نفسه بواسطة أحد سفرائه في الجملة. و ان کان لا يبعد وجود الظن و الترجيح في نسبة جل هذه التوقيعات الي السفيرين الثاني و الثالث لاستغراق سفارتهما أکثر فترة الغيبة الصغري، و انفتاح فرص العمل في عهدهما أکثر نسبيا من الآخرين. و ان کان هذا الترجيح لا يصل -بطبيعة الحال -الي حد الاثبات التاريخي.

نعم، وجد في عدد آخر مهم من النقول التاريخية تسمية السفير بشخصه، أما تبرعا من الراوي أو لخصوصية في الحادثة تقتضي الاشارة اليه. ففي مثل ذلک تکون نسبته الي السفير المعين اثباتا تاريخيا کافيا.

الأمر الثاني: ان السفارة صرفت عن العلويين صرفا تاما، وانيطت بغيرهم. مع ان في العلويين يومئذ من يعلو شأنه في العلم و الفقه و العبادة.

و السر في ذلک واضح جدا، يبرزه التاريخ الذي عاشه العلويون من حين ثورة الحسين (ع) الي العصر الذي نورخ له. و هو تأريخ الثورات و التمرد علي الواقع الفاسد، و الاحتجاج علي الظلم و الطغيان فکانت الصورة الرئيسية التي تحملها الدولة علي کل علوي، هو کونه مواليا للائمة عليهم السلام، من ناحية، و ثائرا علي الظلم الفساد من ناحية اخري او بتعبير آخر: انه ثائر علي کيانها القائم بشکل لاتستره تقية و لا يجدي في تغييره حذر.

و اذا کانت النظرة تجاه الفرد هي تلک، فاخلق به ان يکون عاجزا عن النفع العام و العمل الاجتماعي، لدي المراقبة و المطاردة و التنکيل



[ صفحه 422]



الذي يحيط به..و من ثم يکون عاجزا عن مهام السفارة المهدوية التي لم توسس الا للنفع العام و العمل الاجتماعي.

و هذا بخلاف الحال في غير العلويين، ممن لا تکون هذه النظرة تجاههم متحققة، فانهم مهما کانوا خاصين بالأئمة عليهم السلام و مقربين منهم، الا انه في مستطاعهم علي طول المدة ان يغطوا اختصاصهم هذا بالحذر و الکتمان، في القول و العمل، و يکون العمل-في حدود ذلک -ممکنا لهم، علي اي حال.

و من هنا يکون الفرد منهم، اذا کان علي المستوي الرفيع من الاخلاص و قوة الارادة، اکثر تسلطا علي القيام بمهام السفارة وافسح مجالا لها، من اي شخص علوي.

الامر الثالث: ان جميع السفراء الاربعة، مارسوا اعمالهم في بغداد و لم يرد قيامهم باي عمل اجتماعي في خارجها يدل علي ذلک عدة امور:

احدها: ما قاله الامام المهدي عليه السلام، لوفد القميين في اليوم الاول من وفاة ابيه (ع) کما سبق ان سمعنا، من انه ينصب لهم ببغداد رجلا تحمل اليه الاموال و تخرج من عنده التوقيعات.

ثانيهما: ما سمعناه ايضا من انه کان لابي جعفر العلوي، رضي الله عنه، من يتعرف له في بغداد عشرة انفس، کلهم اخص به منا ابن روح. مما يدل علي ان محل تجارته و محل عمله منحصر في هذه المدينة.

کما انه يدل علي ان العمل التجاري لابن روح کان في بغداد ايضا فاخلق بان يکون عمله الاجتماعي هناک ايضا، علي ما نشير اليه.



[ صفحه 423]



ثالثهما: ما عرفناه ايضا من ان قبورهم جميعا في بغداد. اذن فقد قضوا حياتهم جميعا في بغداد، وماتوا فيها و دفنوا في ارضها.

و السر في ذلک واضح، فان عملهم التجاري حيث کان موجودا في بغداد، فان عملهم الاجتماعي لا يمکن ان يکون خارجا عن هذا النطاق. لما عرفناه من ان نشاطهم و سفارتهم کنت مبتنية علي مضاعفة الکتمان و التخفي. فکان ذلک يمنع عن ان يقوموا بعمل ليس له مبرر من واقع حياتهم او تجاراتهم..بحيث يکون ملفتا للنظر و جالبا للانتباه. و انما هم يقتصرون، بحسب ظاهر حالهم علي تجاراتهم و اعمالهم الاعتيادية، غير الملفتة للنظر کما سبقنا ان اشرنا.

و من هنا نعرف، ان السفير اذا اقتضي عمله التجاري البقاء في بغداد، لم يتطلب منه الخروج الي محل آخر، لم يکن من المصلحة ان يخرج بقصد تنفيذ اعمال سفارته محضا. لأنه بذلک لا يمکنه ان يعطي التبرير المقنع للسلطات و عيونها و من يدور في فلکها تبريرا مستمدا من واقع حياته او تجارته. و ان هو اعطي التبرير الواقعي، خرج عن مسلک الکتمان و الحذر.

الا ان عدم النقل لذلک، لايعني بحال ان السفير قد يحتاج الي الخروج من بغداد لغرض حياتي او تجاري مشروع من ناحية الدولة او غرض عبادي کالحج فيستطيع ان يقوم-ضمنا-بعمله المهم بصفته سفيرا للامام المهدي (ع).

کما ان انحصار وجود هولاء السفراء في بغداد لا يعني انحصار



[ صفحه 424]



توجيهات و توقيعات الامام المهدي بهذا البلد. لما سنعرف من اتصال السفراء بالوافدين الي بغداد من الاطراف، و لما سنراه من وجود وکلاء عددين لهولاء السفراء في مختلف البلاد الأسلامية. و کانوا ينشرون تعاليم الامام المهدي (ع) عن طريقهم. و کان الاتصال بينهم و بين السفراء قائما علي قدم و ساق، علي ما سنسمع.

الامر الثالث: انه لم يرد الينا في النقل التاريخي الخاص، قيام السفراء باعمال اجتماعية واسعة و موسسات مهمة، حتي علي النطاق الخاص..الا اقل القليل.

و السر في ذلک يکمن في احد امور اربعة، تتضح مما قلناه في غضون البحوث السابقة من هذا القسم من التاريخ.

الامر الاول: احتمال عدم قيامهم اساسا بمثل هذا النشاط باعتباره مخالفا لمسلک الکتمان الذي کانوا يسيرون عليه. و النشاط الواسع، مهما حاولوا اخفاءه، فان اثره يظهر لا محالة، و لو بالوسائط للسلطات، مما يوجب تسليط خطرها عليهم، و من ثم علي خط المهدي (ع) کله.

فوجود مثل هذا التحذر في اذهانههم، کان يحد من نشاطهم بطبيعة الحال.

الامر الثاني: انه يصح ان نفترض انهم قاموا بنشاط اجتماعي کبير و لو علي النطاق الخاص، مع امکان عرضه امام السلطات و الآخرين علي انه عمل لشخص السفير بصفته تاجرا متدينا لابصفته سفيرا عن الامام المهدي (ع).

الا ان نفس تلک الظروف الصعبة التي عاشوها کانت تمنع من



[ صفحه 425]



روايتها و نقلها، لئلا يتسرب سرها الي السلطات. و هذا بنفسه اوجب عدم وصول اخبار نشاطهم الينا في النقول التاريخية.

الامر الثالث: احتمال ان خبر النشاط الذي کانوا يقومون به کان مما يتناقله الخاصة في ذلک العصر. الا ان المورخين و اصحاب المجاميع من اصحابنا، اهملوا التعرض اليها، لالشي ء الا لانهم يقتصرون في النقل علي موارد فضائل الأئمة و معاجزهم، فما خرج عن ذلک من الحوادث مهما کان مهما و موثرا فانهم لا يعيرونه الاهمية المطلوبة، و يندر ان يکون مرويا في مجاميعهم.

الامر الرابع: احتمال ان يکون النشاط مرويا في بعض المجاميع التاريخية، و لکنه تلف في عشرات الالآف من الکتب التي تلفت في حملات اعداء الاسلام علي البلاد الاسلامية، کالمغول و الصليبيين و غيرهم.

و علي أي حال، فکل واحد من هذه الامور الأربعة، و ان کان لا يزيد علي الاحتمال، الا ان واحدا منها أو أکثر متحقق جزما و لکننا -في النتيجة-نبقي مفتقرين الي النقل التاريخي الذي يوصل لنا قيام السفراء بنشاط واسع مهم.

الأمر الرابع: -من هذا الحقل الأول-: اننا يجب ان لا نبالغ في التوقيع من السفير، ان يقوم بعمل اجتماعي فعال. و انما الميزان الأساسي الصحيح لقياس قيمة العمل الذي قام به کل سفير، هو ان يکون متضمنا للقيام بمسووليته علي الوجه الذي کلف به و طلب منه. و هذا ما قام به کل واحد منهم خير قيام.



[ صفحه 426]



و الغرض الاساسي من السفارة امران:

الغرض الأول: تهيئة الأذهان للغيبة الکبري، و تعويد الناس تدريجا علي الاحتجاب، و عدم مفاجأتهم بذلک. فانه ينتج نتيجة سيئة لا محالة، اذ قد يودي الي الانکار المطلق لوجود المهدي عليه السلام.

و من ثم رأينا کيف ان الامامين العسکريين عليهما السلام بدءا الاحتجاب عن الناس تدريجا، و ضاعفه الامام العسکري (ع) علي نفسه کما ان الامام نفسه تدرج في عمق الاحتجاب کما سمعنا..فکانت فترة السفارة أيضا، احدي الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان لهذا التدرج.

و من المعلوم ان هذا الغرض من السفارة يتحقق بنفس تحقق فکرة السفارة، و وجود السفير في المجتمع و لو باقل ما يقوم به من عمل فضلا عن اضطلاعه بالمسوولية بالنحو المطلوب.

الغرض الثاني: القيام بمصالح المجتمع، و خاصة القواعد الشعبية الموالية للأئمة عليهم السلام..تلک المصالح التي تفوت بطبيعه الحال بانعزال الامام و اختفائه عن مسرح الحياة..شأن أي مصلحة للمجموع تفوت بفوات القائد و الموجه.

و من ثم جعلت السفارة، لکي يقود الامام المهدي عليه السلام برأيه ان فاتت قيادته بشخصه، و يکون التطبيق بين السفراء في حدود الامکان، و بحسب المصالح و التصرفات التي يراها و يخططها المهدي عليه السلام نفسه.

و هذا الغرض، قد قام به کل واحد من السفراء خير قيام، حيث



[ صفحه 427]



اضطلع بحفظ مصالح المجتمع، في حدود الجو المکهرب و المراقبة الشديدة و التحفظ. و هذا الجو مما لا ينتج أکثر من ذلک.

الأمر الخامس: تدل کثير من النقول، علي ما سيأتي تفصيله، علي کون السفراء عالمين بالغيب، بنحو و آخر. فنري مثلا: ان الحسين بن روح يتکلم باللسان الآبي [1] من دون سبق تعليم، و انه يفهم ما في خاطر الآخر، فيجيب عنه ابتداء. [2] و محمد بن عثمان العمري يعين عام و شهر و يوم وفاته. [3] و علي بن محمد السمري يترحم علي الشيخ علي بن الحسين بن بايويه القمي. فيکتب المشايخ تأريخ ذلک اليوم فيرد الخبر بعد ذلک انه توفي في ذلک اليوم. [4] الي غير ذلک من الحوادث.

و قد سبق ان اشرنا مجملا الي الجواب عن شبهة استحالة ذلک، بغض النظر عن الاسس الفلسفية النظرية لهذه المسألة.

و تفصيلة: ان ما نومن باختصاص الله عزوجل به من علم الغيب هو العلم الابتدائي، الذي يکون ازليا لا بتعليم من أحد فانه سبحانه يکون عالما بما يکون غائبا و مجهولا لنا، من اجزاء الکون، و بما کان و ما يکون من الازل الي الابد. و هذا العلم يستحيل ثبوته لغير ذاته المقدسة جل و علا.



[ صفحه 428]



و أما علم الغيب الذي ننسبه الي الانبياء و الأئمة عليهم السلام اجمعين فهو تعليم من قبل العالم بالغيب جل و علا. و البشر قابل للتعليم، و لا يکون الانبياء و الأئمة (ع) أسوأ تعلما من غيرهم، و هم في مراق کبيرة من الکمال.

الا ان انحاء هذا التعليم تختلف، فهو في الانبياء بالمباشرة و المشافعة -لو صح هذا التعبير-عن طريق الوحي و نحوه. و هو في الأئمة عليهم السلام بالتلقي عن النبي (ص) جيلا بعد جيل حتي الامام الثاني عشر: المهدي (ع). بل ان الروايات اثبتت للامام شيئا أکثر من ذلک و هو ان الامام حتي ما أراد أن يعلم فانه يعلم، الراجع الي ان الامام (ع) و هو القائد للامة الاسلامية جميعا، بل لوجه البسيطة باعتبار عالمية الدعوة الاسلامية والدولة الاسلامية..قد أعطي القابلية من الله عزوجل علي ذلک، اذ جاء لمصلحة تمکينه من القيادة العامة..انه متي احتاج شي ء أخطره الله في ذهنه و صار ذلک معلوما له بعد ان کان مجهولا.

و من هنا کان علم الغيب -بهذا المعني- ممکنا من الأئمة عليهم السلام، بل واقعا بتواتر الروايات و النقل عنهم عليهم السلام، بما فيهم الامام الثاني عشر المهدي (ع) علي ما سيأتي.

و أما بالنسبة الي غير الأئمة من الناس، فيکون بالتعلم من الأئمة (ع). فمثلا يخبر الامام المهدي سفيره الرابع بموعد وفاة ابن بابويه القمي أو يخبر سفيره الثاني بموعد وفاة نفسه. أو يعلم سفيره الثالث



[ صفحه 429]



اللسان الآبي، ولو بمقدار حاجته في تلک الواقعة، الي غير ذلک من الأمثلة.

و هناک امران آخران، يمکن ان ننسبهما الي السفراء في علة ما يخبرون به من علم الغيب.

احدهما: الحدس الاجتماعي، الذي يحصل لمن يعيش في معمعة المجتمع، اذا کان ذکريا و بعيد النظر..فانه يستطيع أن يحدس بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها، بلحاظ ما يعرف من مجموع الملابسات و السفراء ليسوا بأدني من هذا المستوي في الذکاء و بعد النظر علي أي حال، و کانوا يعيشون الحوادث بکل احساسهم..ففي الامکان أن يحدسوا بأمور عديدة قبل وقوعها.

ثانيهما: الحدس الايماني: و هو ما يعبر عنه فيقال: المومن ينظر بنورالله تعالي. فان الايمان و عمق الاخلاص لله عزوجل يعطي - بمقدار درجته - نحوا من الصفاء الذهبي و الکمال النفسي يستطيع الانسان بواسطته استشمام الحوادث قبل وقوعها، و الحديث عنها قبل حدوثها.

و هذا في واقعه،درجة ضعيفة جدا، من درجات العلم الذي قلنا بامکانه للامام المعصوم (ع). و الفرق بينهما انما هو في درجة الايمان و الاخلاص بين الامام و غيره. فالامام يبلغ به کماله النفسي الي ان يصيب الواقع بعلمه بوضوح. و اما غيره، فقد لا يحدس..کما قد يصيب حدسه الواقع و قد يخطي ء.



[ صفحه 430]



و علي اي حال، فبالمقدار الذي نثبته من الحدس لسائر المومنين المخلصين بالدرجة العليا، يمکن ان نصدق بثبوته للسفراء ايضا. فانهم في هذه المرتبة من الايمان و الاخلاص، بطبيعة الحال.

الا ان کلا من الحدس الاجتماعي و الحدس الايماني، لا يمکن ان ايصل الي بعض ما اخبر به السفرا، کتحديد وفاة شخص مع بعد المکان او الزمان. فينحصر تفسير مثل هذا المستوي من العلم عند السفراء بالتعلم من الامام المهدي (ع) و معه يکون من الواضح، ان اي شي ء قالوه، في هذا الصدد کما يکون فضيلة من فضائل السفير، کذلک يکون -بالأولي -فضيلة للامام المهدي نفسه باعتباره الموجه و المعلم لذلک.

الامر الخامس: کان الخط الذي يستعمله الامام المهدي عليه السلام في توقيعاته و بياناته، خطا موحدا يعرفه الناس المتتبعون لذلک. فهو لا يختلف باختلاف اشخاص السفراء و اختلاف خطوطهم، مما يحصل القطع بصدوره عنه عليه السلام کما سبق ان اشرنا و قلنا بان استعمال الخط في معرفة صاحبه أمر عقلائي متسالم عليه بين الامم. و لئن کان يمکن افتراض ان احد السفراء ذو فن في مضاهات الخط و تزويره، فهو بالنسبة الي مجموعهم، يکون -عادة- من المحالات.

و قد توخي الامام المهدي عليه السلام، ان تصدر بياناته، بنفس الخط الذي کانت تصدر به بيانات عليه السلام. فاننا عرفنا ان الامام العسکري عليه السلام، استعمل مسلک الاحتجاب تعويدا للناس علي فکرة الغيبة، و کان يتصل بقواعده الشعبية عن طريق التوقيعات



[ صفحه 431]



و البيانات المکتوبة. فقد کان خط الامام العسکري (ع) معروفا لدي جملة من قواعده الشعبية و خاصة من کان من خاصتهم و مبرزيهم و قد سمعنا کيف طلب احدهم من الامام العسکري عليه السلام عند مقابلته ان يکتب شيئا في ورقه، حتي يطابقه مع التوقيعات الصادرة منه لاجل ان يأمن من التزوير فقد استعمل الامام المهدي عليه السلام نفس الخط طيلة مدة الغيبة الصغري، فقد کانت الاجوبة تخرج من ناحيته المقدسة باخط الذي يخرج في حياة الحسن (ع). [5] لسبق معروفية هذا الخط عند الاصحاب، مع جهالة خط الامام المهدي (ع) لو کان خطا مستقلا ذو شکل جديد، فقد يتدخل فيه احتمال التزوير.

و بذلک تکون شهادة الخط اوسع واعلي من شهادة السفير، بکون هذا البيان صادرا عن الامام المهدي عليه السلام. فاذا انضمت الشهادتان و تصادقتا علي ذلک، کان في ذلک الکفاية لمن کان له قلب او القي السمع و هو شهيد.

و قد يعترض: بانه کيف يمکن ان يکون الوالد و الولد علي شکل واحد في الخط؟ مع ان العادة بين الناس تقضي بخلاف ذلک. و جوابه يکون من وجوه:

أولا: امکان ذلک في نفسه..و ان کان لا يحدث الا نادرا. الا ان حدوثه بين الوالد و الولد، أقرب من الحالات الاخري کما هو واضح. فان شکل الخط منوط بعوامل عضلية في اليد و البدن و نفسية و فکرية



[ صفحه 432]



وراثية و اجتماعية، متعددة و انحفاظ هذه العوامل و تشابهها في الوالد و الولد، من الناحيتين الوراثية و الاجتماعية قريب الي حد کبير.

ثانيا: ان فرض ان خط الامام المهدي عليه السلام، يختلف في نفسه عن خط والده، فهو اختلاف ليس بالکثير، فان الخط ينحفظ فيه التسلسل الوراثي، کما ينحفظ في خلق الوجه و البدن، فکما يحمل الابن بعض الملامح العامة من ابيه في خلقه، کشکل وجهه و يده و طريقة مشيه و تکلمه.. کذلک تنحفظ المعالم العامة للخط بنفس المقدار.

فاذا اضيف الي ذلک، ان هناک تعمدا خاصا و عناية معينة قام به الوالد و الولد، لتطبيق خط احدهما علي الآخر، لمصلحة من المصالح المطلوبة لهما. فبالامکان ان يکون خط الولد قريبا من خط الاب الي حد کبير.

فاما ان يکون هذا القرب هو المقصود من النقل التاريخي بتشابه الخطين: أو ان الامام المهدي عليه السلام، لاجل حفظ المصالح العامة کان قادرا أن يمثل خط ابيه عليهما السلام، لمدي القرب بينهما. وان کان لو خلي و نفسه، و لم تتوفر تلک المصالح لکان الفرق بينهما واضحا.

ثالثا: انه مع غض النظر عن هذه الطرق الطبيعية. فان المصالح ما دامت مهمة، يتوقف عليها حفظ المجتمع طيلة زمان الغيبة الصغري اذ مع اختلاف الخط يقع احتمال التزوير، و مع وقوعه ينفتح للشبهات مجال کبير.



[ صفحه 433]



فما دامت المصلحة مهمة تمس العقيدة و المجتمع المسلم و اقامة الحجة علي الحق، و هي مصالح ملحوظة لله عزوجل، في هدايته لخلقه فکان من مقتضي حکمته الازلية، أن يعطي المهدي (ع) قدرة في تکييف خطه علي شکل خط ابيه، متي احتاج الأمر الي ذلک.و لو کانت هذه القدرة بسبب اعجازي، خارج عن مجري القوانين الطبيعية.

اذن نعرف باحد هذه الوجوه، امکان مشابهة خط الامام المهدي لخط ابيه عليهما السلام.

فکانت التوقيعات و البيانات تخرج علي يد السفير الأول باخط الذي کانت تخرج علي يده أو علي يد غيره من الوکلاء في زمن الامام العسکري عنه عليه السلام.

و حين مضي السفير الأول الي ربه عزوجل، واضطلع الثاني بمهامه، کانت الکتب تخرج عنه بنفس الخط الذي کانت تخرج أيام سلفه. [6] الي حد أصبح هذا معروفا واضحا، فيعبر و يقال: ان هذا التوقيع بخط مولانا صاحب الدار [7] يعني الامام المهدي عليه السلام.

و بقي الخط محفوظا في عهد السفيرين الاخيرين أيضا..الي نهاية الغيبة الصغري. و التاريخ و ان لم ينص علي ذلک بوضوح الا ان السبب في ذلک هو وضوح هذا المعني في اذهان الرواة المعاصرين لتلک الفترة. اذ ان الاربعين عاما التي قضاها السفير الثاني



[ صفحه 434]



في سفارته.. و التوقيعات التي خرجت علي يده بخط واحد، کافيه في ترسيخ هذه الفکرة في اذهان کل من اطلع علي ذلک من القريب و البعيد..الي حد يکون من القول المستأنف تکرار التأکيد عليه بالنسبة الي السفيرين الاخيرين.فما سکت عنه في النقل، الا لان ذلک متيقن الوجود علي أي حال.

الأمر السادس: بقيت في التوقيعات التي کان يصدرها المهدي (ع) جهات هامة لا بد من بحثها في هذا الصدد.

الجهة الأولي: في معني التوقيع:

يطلق التوقيع في لسان رواياتنا، مطابقا مع العرف السائد آنئذ علي الکلمات القصار التي تمليها اقلام الکبراء في ذيل الرسائل و العرائض و نحوها، لأجل جواب السوال الذي تتضمنه أو حل المشکلة التي تحتويها أو التعبير عن وجهة نظر معينة فيها.

اذن فتوقيعات الامام المهدي عليه السلام،ما کان يذکره عليه السلام بخطه في جواب الاسئلة و العرائض بواسطة سفرائه من الکلمات القصار، في مختلف ميادين المعرفة..من الناحية العقائدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو غيرها.

الجهة الثانية: في احتياج التوقيع الي سوال.

لم تکن التوقيعات الصادرة عنه عليه السلام، مقتصرة علي الجواب علي الاسئلة فقط، و ان کان الأغلب هو ذلک. بل کانت التوقيعات و البيانات المهدوية، تتخذ احيانا شکل بيان ابتدائي يطول و يقصر



[ صفحه 435]



حين تقتضي المصلحة ذلک، بدون سوال يقتضيه و يتطلبه. و من أمثلته التوقيع الذي أصدره عليه السلام مترحما علي سفيره الاول، و البيان الذي أعلن فيه انتها السفارة بموت السفير الرابع..و قد سمعناهما.و الرسالة التي رويت عنه عليه السلام للشيخ المفيد رحمه الله. و سيأتي التعرض لها في الفصل الثالث من هذا القسم من التاريخ.

الجهة الثالثة: ان التوقيع کما يعتبر عملا للامام المهدي عليه السلام باعتبار معناه و خطه، فانه هو الذي کتبه حلا لمشکلة أو جوابا علي سوال أو بيانا لمصلحة..کذلک يعتبر عملا من اعمال السفير، باعتبار ان للسفير يدا في اظهاره الي النور و اطلاع أصحابه و قواعده الشعبية عليه. بل ان السفير أيضا واسطة في ايجاده بنحو من الأنحاء، اذ لو لا ان المهدي عليه السلام يعلم بوجود السفير الامين لنقطه، لما کتبه.

و من هنا فکما يمکن ان تندرج التوقيعات في هذا الفصل الذي نحن بصدده و هو نشاط السفراء. کذلک يمکن ان تندرج في فصل آت نعقده لأعمال المهدي (ع) و نشاطه الخاص، و سندرج ذلک في کلا الفصلين بهذا الاعتبار، بنحو لا يلزم منه التکرار جهد الامکان.

الجهة الرابعة: في مدة خروج التوقيع.

يحتاج خروج التوقيع: جوابا علي سوال معين الي حوالي اليومين أو الثلاثة..کما هو ظاهر عدد من الروايات. کقول الراوي في أحداها: فلما کان بعد أيام. قال لي صاحبي الا نعود الي ابي جعفر



[ صفحه 436]



فتسأله عن حوائجنا التي کنا سألناه [8] و قوله في رواية اخري: ثم اخبرني -أي السفير اخبره بالجواب -بعد ذلک بثلاثة أيام. [9] .

کما ان الجواب قد يأتي شفويا، يبلغه السفير نفسه، کقول ابن روح لبعضهم: انکم أمرتم بالخروج الي الحائر. [10] وقد لا يرد الرد علي السوال أصلا، لبعض المصالح التي يراها المهدي عليه السلام. وقد تکرر ذلک في عدة موارد، مثاله: ذلک الراوي الذي سأل الامام (ع) ان يدعو له أن يرزق ولدا ذکرا. فلم يجبني اليه. [11] لأنه يعلم بعدم کونه من الرزق المقسوم. و مثله ذلک الرجل الذي کان من الاصحاب فقدم سوالا، فلم يرد جوابه. قال الراوي: فنظرنا في العلة، فوجدنا الرجل قد تحول قرمطيا. [12] و ما دام قد انحرف و تبع القرامطة. اذن، فمقتضي الدعوة المهدوية ان لا يجاب، فانهاو المنحرفين علي طرفي نقيض.

و علي أي حال، فمدة الثلاثة ايام او نحوها، مدة معقولة في رد الجواب، و عليه تحمل سائر الروايات التي تعرضت الي خروج الرد من دون ذکر المدة..باعتبار وضوح ذلک في الاذهان، و تکرره الي حد اصبح متسالما عليه، لا يحتاج الي تکرار و تأکيد.



[ صفحه 437]



و في خلال هذه المدة يمکن افتراض ان السفير حصل علي الجواب حصولا اعتياديا، غير اعجازي.فقد کان السفير عادة يجمع عدة اسئلة في ورقة واحدة، کما يظهر من عدد من الروايات [13] و يرد الجواب عنها دفعة واحدة في درج واحد.

و من هنا يمکننا ان نتصور-اعتياديا- ان السفير في هذه المدة يحمل الاسئلة معه الي الامام المهدي (ع) فانه المطلع الوحيد علي مکانه فيقابله فيه و يعرض عليه الاسئلة. فيقروها الأمام ثم يجيب علي واحد واحد منها..ان شاء کتابة و ان شاء شفويا.و ان شاء لم يجب بحسب ما يري من المصالح التي يتوخاها.

الا ان بعض الروايات، تدل علي خلاف ذلک. فبعضها تنيط ورود الجواب بعدة ساعات، من الصبح الي ما بعد صلاة الظهر [14] وفي بعضها انه يرد الجواب و المداد رطب لم يجف. [15] و هناک رواية تنيط الجواب بنفس الآن. حيث يخطر السوال علي ذهن الشخص، فيري الجواب مکتوبا علي الورقة في ذلک الحين. و قد وجد الراوي ذلک غريبا علي الأذهان. فاقسم عليه قائلا: فوالذي بعث محمدا (ص) بالحق بشيرا. [16] .

فلو صحت هذه الرواية، امکننا أن نفترض ان السفير يتلقي



[ صفحه 438]



الاجوبة بهذا الأسلوب أيضا، من دون ان يذهب الي مقابلة الامام المهدي عليه السلام.

و يمکن ان يرجح ذلک بمرجحات: احدهما: کون هذا الاسلوب طريقة سرية للغاية لا تخطر في ذهن السلطات علي الاطلاق. و من هنا کانت انسب بکثير بمسلک التکتم و الحذر الذي کان يسير عليه السفراء و هو أولي جدا من أي يري السفير ذاهبا الي مکان المهدي عليه السلام و عائدا منه علي أنه قد تعرض للامام المهدي عليه السلام مصلحة في تغيير مکانه في بعض الأيام من دون علم السفير، فيترتب علي ذلک انقطاع الجواب الي حين اللقاء.

و المهدي (ع) قد يضطر الي السفر البعيد، زيادة في الحيطة، أو لا جل الذهاب الي الحج. [17] فينفصل عن السفير - و هو في بغداد-انفصالا تاما.و لا يمکن للسفير متابعته، بالخروج من بغداد و الرجوع اليها، لأن ذلک، مما يثير عليه الاستفهام و الانتباه.

ثانيهما: انه يظهر من جملة من الروايات، أن المهدي عليه السلام، کان يمضي الوقت في أل الغيبة الصغري الي عدة سنوات في سامراء علي ما سوف يأتي. و معه کيف يمکن للسفيرين الأول و الثاني مقابلته..و هما لا يستطيعان الخروج من بغداد بشکل ملفت للنظر.علي أن الخروج من بغداد الي سامراء کان يستدعي السفر أياما متعددة، مما يوقف



[ صفحه 439]



تجاراتهم و يحس الناس بغيابهم و هذا غير وارد في تواريخنا علي الاطلاق.

ثالثهما:ان کل من شاهد المهدي (ع) في فترة غيبته الصغري، لم يجد معه احد سفرائه و لا في مرة واحدة..لاداخلا اليه و لا خارجا عنه و لا باقيا عنده.بل ان علي بن مهزيار بقي عند المهدي (ع) عدة أيام [18] فلم يجده الا منفردا، لم يدخل عليه أي شخص آخر.

رابعهما: قول محمد بن عثمان العمري السفير الثاني، و هو يتحدث عن لقائه مع المهدي (ع): آخر عهدي به عند بيت الله الحرام و هو يقول: اللهم انجز لي ماوعدتني. [19] و هذا يستلزم بکل وضوح عدم وقوع المقابلة ما بين موسم الحج الي زمان هذا الکلام. فبهذه المرجحات قد يستنتج استحصال السفراء علي الاجوبة و التوقيعات، بطريق اعجازي،، بدون مقابلة، أو بالمقابلة بسبب اعجازي. و هذا يناسب مع کون المهدي عليه السلام في أي مکان من الارض، و يکون بعيدا عن الفات النظر و قريبا من مسلک الحذر. و نحن نقول بامکان المعجزة عقلا اذا توقفت عليها مصلحة الدعوة الالهية. کما أثبتناه في محله. الا أن کل هذه المرجحات لا توجب الا الظن، و مجرد امکان الشي ء لا يعني وقوعه في الخارج..فاننا ننکر توقف الدعوة الألهية علي خروج التوقيع الاعجازي دائما، و ان کان ثبوته أحيانا محتملا، کما في الرواية التي أشرنا اليها.

و مناقشات جملة من هذه المرجحات واضحة، و بعضها يحتاج الي عمق في العرض، نحمل به فکره عن اتجاه المهدي عليه السلام في اسلوب مقابلته لسفرائه.



[ صفحه 440]



فاننا سبق أن عرفنا أن اسلوب و کيفية استحصال السفير علي الجواب مجمل جدا في الروايات، حتي يکاد أن يکون مجهولا مطلقا. و لم يصرح و لم يلوح به أي سفير من السفراء لشخص من الخاصة فضلا عن سائر الناس. و لم يتصد شخص لسوال اي سفير عن ذلک بحسب ماوردنا من نقول.

و معني ذلک، أن المقابلات التي کانت تحدث مع السفراء هي من السرية و الحذر بمنزلة عظيمة حتي لا يمکن أن يخطر في ذهن بشر مکان ذلک أو زمانه. و الله وحده هو العالم به. و معه تکون سائر مرجحات الطريقة الاعجازية مندفعة و غير صحيحة:

أما المرجح الأول، و هو کون الطريقة الأعجازية أنسب بالکتمان و الحذر، فهو و ان کان صحيحا، الا أنه يمکن الدقة اتخاذ مکان و زمان خفيين للمقابلة، لا يفطن اليهما أحد. و المهدي بعمق نظره هو الذي کان يدبر ذلک. و من المعلوم أن الدولة في ذلک الحين لم يکن لها من شبکات الأستخبار و التجسس ما عليه الدول فعلا. بل کانت دون ذلک بکثير، مما يسهل المهمة، و يجعل اخفاءها ايسر.

و لا نريد باتخاذ المکان الخفي للقاء: انه لا يتم الا في سراديب بعيدة أو أماکن شاذة. و انما قد يکون ذلک متحققا و ان لم يکن قابلا للبقاء مدة طويلة علي غفلة من الناس. و قد يکون -و هو الأرجح و الاشد خفاء ابقاء علي السرية-أن تکون العلاقة بين المهدي (ع) و سفيره علي صعيد المجتمع الواضح علاقة بائع و مشتري أو دائن و مدين أو عامل و صاحب عمل و هکذا. و يکون المهدي (ع) قد اتخذ اسما آخر و شخصية أخري تختلف عن واقعه تماما. و يکون له بعض العلاقة مع السفير



[ صفحه 441]



بصفته شخصا من التجار.فيدس له السفير الأسئلة و الطلبات بشکل غير ملفت للنظر، فيأخذها المهدي و يجيب عليها بصفته الحقيقية. و هذه الطريقة محتملة علي أي حال، و سيأتي ايضاح تفاصيلها في التاريخ القادم ان شاء الله.

و أما مسألة اضطرار المهدي (ع) الي السفر بعيدا عن بغداد أو ذهابه الي الحج..فهو أمر قديتحقق الا أنه لا يمنع عن خروج التوقيعات في الوقت المناسب. و لادليل لنا علي تتابع خروج التوقيعات عنه بشکل منظم، في کل أسبوع أو في کل شهر بحيث اعتلا الناس علي ذلک بل المظنون أن المسافات الزمنية، ما بين التوقيعات مختلفة بنحو مشوش حتي لا يکون تأخرها احيانا موجبا لألفات النظر أو اثارة التساول.

و من ثم يمکن أن نتصور أن المهدي عليه السلام، يذهب الي الحج أو الي أي مکان أراد، ثم يرجع الي بغداد أو الي بعض المناطق القربية منها، لأجل تمکين سفيره من مقابلته.

و أما المرجح الثاني، و هو سکني المهدي (ع) في أول الغيبة الصغري في دار أبيه في سامراء..فان نفس الروايات الدالة علي ذلک، تدلنا علي عدم حصول المقابلة أحيانا بينه و بين السفير، بل کان السفير في تلک الفترة يحول من جاء بالاموال الي بغداد، و يأمره بحملها الي سامراء، علي ما سوف يأتي في الفصل الرابع من هذا التاريخ.

و هذا هو الذي يفسر أيضا ندرة صدور التوقيعات و البيانات علي يد السفير الأول، و کثرتها علي يد السفيرين اللذين بعده.



[ صفحه 442]



و أما المرجح الثالث: و هو أن من شاهد الامام عليه السلام لم يجد عنده أحدا من سفرائه..فهو واضح بعد الذي عرفناه من توخي اخفاء المقابلة عن کل بشر، حتي عن الخاصة الذين يشاهدون الامام المهدي عليه السلام.فمن الممکن بل لا بد أن نفترض، کون المقابلة تقع في أوقات غير أزمنة تلک اللقاءات و مقابلة علي بن مهزيار له عدة أيام ليست بدعا من ذلک. و قد عرفنا أنه لم تکن ثمة ضرورة الي خروج التوقيع يوميا أو اسبوعيا، بل من الممکن تأخر خروجه خلال هذه الأيام.

و أما المرجح الرابع، و هو عدم مقابلة السفير الثاني له عليه السلام منذ موسم الحج..فبالامکان أن نفترض، ان لم يکن راجحا فعلا، قرب هذا الحديث من موسم الحج، بمدة معتادة لتأخر التوقيعات.

اذن فالطريق الأعجازي لخروج التوقيع، و ان کان ممکنا عقلا الا أنه لم يدل عليه دليل خارجا، و مما لا تتوقف عليه مصلحة الدعوة الالهية المتمثلة بالمهدي (ع) و سفرائه، بعد امکان ما قلناه في هذه المناقشات. نعم، نحن لا ننکره بل نقول بضرورته عند وجود هذا التوقف..و لعل تلک الرواية التي أشرنا اليها من هذا القبيل، علي تقدير صدق نقلها و صحة سندها.

اذن فالراجح، ان لم يکن المتيقن، أن أتصال السفير بالأمام و استحصاله التوقيعات و التوجيهات منه، يکون عادة بطريق طبيعي غاية في الخفاء و الستر و الحذر. و مما يويد ذلک، و جهان:



[ صفحه 443]



الوجه الاول:ان الغالب، کما الغالب، تأخر التوقيعات لعدة ايام بعد توجيه السوال. و معني ذلک حصول مقابلة الامام المهدي (ع) في الاثناء. و لو کان البناء علي حصول الطريق الاعجازي، لا مکن استحصال الجواب بمجرد کتابه السوال، أو بمجرد أطلاع السفير عليه مما يوفر المصالح و يقلص الجهود.أو علي الأقل، کان في امکان السفير -زيادة في الحيطة-تاخير الرد عدة ساعات أو يوما واحدا، و لم يکن مضطرا للتأخير لعدة أيام.

الوجه الثاني: ان المهدي (ع) -کما تدل عليه الروايات -کان ينيل سفراءه المطالب العقائدية و الثقافة الاسلامية، کما کان يحملهم الجواب علي عدد من الاسئلة شفويا کما سمعنا فهل کان ذلک عن طريق المعجزة؟! و کيف؟ و نحن نسمع السفير الثالث يوکد قائلا: لأن اخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مکان سحيق أحب الي من أن أقول في دين الله برأيي، و من عند نفسي. بل عند نفسي.بل ذلک من الأصل و مسموع من الحجة. [20] .

فهذه أربع جهات من مهم الحديث عن شوون التوقيع المهدوي و خصائصه. و بها تم الکلام عن الأمر السادس في هذا الحقل.

الأمر السابع:في خفاء السفراء علي السلطات:

ان مسلک التستر و الحذر الذي سلکه السفراء، انتج تماما ما هو المقصود، و هو الخفاء علي القواعد الشعبية السائرة في رکاب السلطات، و عيون الدولة، و علي المنتفعين منها و الضالعين برکابها.



[ صفحه 444]



و ليس أدل علي ذلک، مما سمعناه من موقف السفير الثالث في تفضيل الخلفاء الثلاثة جميعا علي أمير المومنين علي بن ابي طالب، في مجلس للعامة..فرفعه العامة علي روسهم و کثر الدعاء له و الطعن علي من يرميه بالرفض. [21] .

و ان دل هذا علي شي ء، فانما يدل علي جهلهم التام بسفارته و انهم غاية ما يحملون عنه من فکرة..انه متهم بالرفض.. و هذا القول منه ماح لهذه التهمة و دليل علي کذبها في نظرهم..و اذ لم يکن رافضيا فکيف يکون سفيرا لامام الرافضة!؟.

و هذا هو الذي کان يتوخاه ابن روح من کلامه ذلک..ابعاد احتمال السفارة عن اذهانهم ابعادا تاما. و جعلنا بشکل لا يمکن ان تخطر في ذهنهم، فضلا عن أن يصدقوا بها.

و اذ کانوا لا يعلمون به، فهم لا يعلمون باسلافه أيضا، و لا بخلفه بطريق أولي. يندرج في هذه القائمة، سائر السائرين علي هذا الخط من حکام و محکومين، غير شخص الخليفة.

فان حول بعض أشخاص الخلفاء قرائن تاريخية تدلنا علي انه کان عارفا بالحق و بموضعه. کما صرح به الشيخ الصدوق في اکمال الدين [22] و قد فصلنا القول فيه في تاريخ الفترة السابقة.

فکان ان سمعنا موقف المعتمد من الامام العسکري عليه السلام



[ صفحه 445]



حين طلب منه الدعاء له بالبقاء في الحکم. و رأينا موقفه نفسه من جعفر بن علي حين ادعي الامامة بعد اخيه، حاول التوسط الي الدولة لنيل ذلک.

و نسمع في هذه الفترة..بالنسبة الي المقتدر انه کان للشيخ ابن روح محل عظيم عنده. [23] و هذا و ان کان يمکن تفسيره باعتبار جهل المقتدر بتشيعه فضلا عن سفارته، لما سمعناه من التزامه بالتقية و الحذر. فکان المقتدر يقربه لأجل علمه وسعة اطلاعه و حضور خاطره، جاهلا بواقعه و حقيقته.

و هذا الاحتمال، و ان کان لا يخلو من قوة في الذهن الا ان له مضعفات تاريخية و قرائن موهنة له. منها: ان المقتدر نفسه حبسه مدة يسيرة منها و ان الشيخ ابن روح استتر مدة من الزمن. [24] و لو کان بالمنزلة التي سمعناها مع غض النظر عن سفارته لما کان هناک موجب لذلک کما هو واضح. و انما يحدث ذلک، لما قد يبلغ السلطات بشکل غامض و غير مباشر، ما قد يقوم به ابن روح من أعمال بصفته سفيرا عن الامام المهدي عليه السلام.و اذ لا يکون لها أي مستمسک ضده فانها تغض النظر عنه و تطلع سراحه و علي أي حال، يکون مسبوقا في الجملة بذلک.

و منها: ما اذا ضمنا هذا الموقف من المقتدر، الي موقف المعتمد قبله و موقف الراضي بعده، فاننا قد نحصل علي سلسلة من الخلفاء



[ صفحه 446]



العارفين بالامر، الي بعض الحدود، و ان لم يجدوا أي أسلوب معين للوقوف ضده أو لحيلولة دونه، ثم نسمع بالنسبة الي الراضي، في حادثة يأتي التعرض لها في الفصل الآتي، انه ذکر ابن روح في مجلسه، ذکره احد مويدي الشلمغاني المدعي للسفارة زورا..فقال عن صاحبه الشلمغاني، انه لم يدع الالهية، و انما ادعي انه الباب الي الامام المنتظر مکان ابن روح. [25] .

فلم يسأله الراضي عن ابن روح هذا، و لم يستفصله عن خبره، و من أين يعرف انه کان سفيرا؟. و لو کان الراضي جاهلا بذلک و محاولا التنکيل بالسفير لا حفي السوال عن ذلک، و لکان بيده أول مستمسک يدله علي الامام المهدي عليه السلام. فيدل ذلک علي انه کان عالما به الي حد ما، بل و عالما بسفارته عن الامام المنتظر (ع) الذي أشار الرجل في کلامه.

اذن فالمعتمد و الراضي، بل و المقتدر أيضا علي احتمال کبير، کانوا يعلمون بالاتجاه الذي يسير فيه خط الأئمة عليهم السلام، و بمثليه الي حد کبير.

و تنفتح امامنا ثلاثة اسئلة لا بد التصدي للجواب عنها.

السوال الأول: هل کان الخلفاء الآخرون بذلک أيضا، أم ان هذا العلم خاص بهولاء.



[ صفحه 447]



السوال الثاني: ان هولاء الخلفاء من أين علموا بذلک، و من أي طريق وصلهم الخبر.

السوال الثالث: و هو الاهم، انهم اذ عرفوا ذلک، فلماذا غضوا النظر عن السفراء، و لم يلقوا القبض عليهم، لأجل فصلهم عن قواعدهم الشعبية أولا و استجوابهم عن الامام المهدي ثانيا. تمشيا مع الخط العام للدولة في محاربة الخط العام للائمة عليهم السلام.

و توخيا لتقسيم الکلام، يقع الجواب ضمن بيانات ثلاثة لک سوال بيان:

البيان الاول: اننا حيث عرفنا الجهل التام بحال السفراء، من سائر القواعد الشعبية الموالية للدولة؛ بمختلف طبقاتها فانه لا يبقي أي دليل علي اطلاع جميع الخلفاء بذلک.

فان الخلفاء لم يکونوا يتقابلون اثناء انتهاء خلافة أحدهم و بدأ عهد الآخر..لکي نفترض انه أسر له بهذا الأمر. بل ان الخليفة منهم يتولي منصبه أما بعد موت الآخر، أو بعد أن يشارک في عزل سلفه و قتله. وفي کلا الحالين لم يکن الظرف يسمح بمثل تلک المقابلة.

کما ان الخليفة الجديد دائما غير مسبوق بتوليه للخلافة قبل أن يتولاها فعلا، تحت ظروف و تأثيرات معينة. فهو لم يکن يستعد لجعل نفسه اهلا للخلافة قبل ذلک، حتي يسأل سلفه عن بعض الأمور التي قد تخفي عليه.

و من ثم يستحيل عادة ان نفترض ان الخبر بحال السفراء تسلسل



[ صفحه 448]



بين أشخاص الخلفاء و اقتصر عليهم. بل ان افتراض ذلک يعني ان هذا الخبر موجود بين الطبقات العليا من رجال الدولة يتناقلون فيما بينهم لکي يکون کل خليفة مسبوقا بالحال من قبل خلافته.

و شيوع الخبر بهذا النحو غير محتمل اساسا. فاننا اذا افترضناه لم يکن بد من تجديد الحملات الشعواء علي السفير و علي قواعده الشعبية. بل لعل المهدي (ع) نفسه يکون في خطر و لم يکن لابن روح و لا لغيره أي مجال للتقية و المداراة. و لکننا عرفنا انه کان متمکنا من مدارات الطبقات العليا فضلا عن الدنيا، و هذا معناه -بکل وضوح -جهل تلک الطبقات بالأمر. اذن فمن أين يصل خبر السفراء الي سائر الخلفاء؟.

و معه فيتعين أن يکون هولاء الخلفاء العالمين بخبر السفراء، هم وحدهم المطلعون علي ذلک..الا أن يکون غيرهم قد سلک نفس سبيلهم في الاطلاع علي الخبر، علي ما سنذکره في البيان الثاني..و هذا لم يرد في التاريخ ما يدل عليه.

کما يتعين أيضا أن يکون الخليفة العالم بالخبر حريصا علي عدم التصريح به امام أي شخص. اذ لو صرح به أمام بطانته و خاصته لانتشر الخبر، و لبدأت الحملات القوية ضد السفراء من حيث ان القواد و الموالي کانوا أشد تطرفا من أشخاص الخلفاء في ذلک. و لکان هذا القول من الخليفة أحسن مستمسک ضده من قبل مواليه و معارضيه علي حد سواء.



[ صفحه 449]



البيان الثاني:اننا بعد ان عرفنا أن أي خليفة من خلفاء هذه الفترة، لا يمکنه أخذ الخبر، من سلفه و لا من خاصته. کما لا يمکن أن نفترض انه حصل عليه بعد توليه الخلافة من قبل بعض الموالين للسفراء، لأن شخص الخليفة، و هو علي قمة الدولة، أولي من يجب الحذر منه، واخص من ينبغي التکتم امامه. و وصول الخبر اليه بالواسطة غير محتمل أيضا لعدم اطلاع أحد علي سفارة السفير ما لم يکن قوي الارادة صلب الايمان قابلا للصمود أمام المطاردة و التعذيب.

اذن فيتعين، ان يکون هولاء الخلفاء الاثنين أو الثلاثة، قد عرفوا حال السفراء قبل توليهم للخلافة، و تصيدوا اخبارهم عن طريق اتصالهم ببعض القواعد الشعبية للسفير، من عامتهم أو خاصتهم، ممن يکون مسبوقا بالخبر.

و ايضاح ذلک: اننا عرفنا ان الفرد من الخلفاء لم يکن عالما بانه سيتولي الخلافة، و قد لا يخطر في ذهنه ان ذلک سيحدث له في يوم من الأيام؛ لکثرة رجال بني العباس الصالحين لها في نظره، و عدم ابتناء الخلافة علي أساس قانوني مضبوط. و انما ينصب الخيلفة عجالة بعد موت سلفه تحت ظروف غير معينة و برأي جماعة غير معينين. فاحتمال تولي الفرد العباسي للخلافة کان ضعيفا، بل قد يکون في غاية الوهن لدي الکثرة الکاثرة منهم.. الا بمجرد الصدفة و تجمع الظروف المقتضية لذلک، عند موت أحد الخلفاء..تلک الظروف المشوشة التي لا يمکن ان يحسب لها حساب قبل أيام فضلا عن أعوام.



[ صفحه 450]



و اذ کان الفرد بنفسه جاهلا بخلافته، قبل حدوثها. فبالاولي ان يجهلها الناس، بل ان يغفلوا عنها غفلة مطلقة.

اذا عرفنا ذلک، فهمنا بوضوح، کيف يتسني لجماعة من علماء العامة و أهل السنة، بما فيهم بعض بني العباس، الاتصال بالخاصة و غير الخاصة من الموالين لخط الأئمة عليهم السلام. و عقد المجالس العلمية المتعددة معهم، بل وعقد أوثق الصلاة القائمة علي تبادل حسن النية في جملة من الأحيان بينهم. فقد کان هذا هو ديدن الأئمة عليهم السلام مع علماء العامة، و لا زال هذا الديدن محفوظا و متبعا بين أصحابهم الي هذه الفترة التي نورخ لها.

و يکفينا أن نسمع حضور السفير ابن روح نفسه لمجالسهم، کما ان ابا سهل النوبختي کان يعرب عن مناظراته و محاججاته [26] الي غير ذلک مما يطول تعداده. و بالجملة.. کان الارتباط بين علماء المذاهب الاسلامية کبيرا في بغداد في تلک الفترة.

و کان الخاصة الموالون، اذا وجدوا من شخص انفتاحا و تقبلا و ذهنا واسعا و صدرا رحبا، ازادوه ثقافة و معرفة و اطلاعا. و اذا اطمأنوا بشخص واحسوا منه الميل اليهم و القناعة باتجاههم، زرقوا له بعض ما يعرفون مما هو أعلي من المستوي العام المعروف من الاسلام.

و من ثم يکون المظنون، بل المتعين جزما، بعد سد سائر الاحتمالات الاخري، کما سبق..ان يکون الراضي و المقتدر قد استقيا معرفتهما



[ صفحه 451]



عن هذا الطريق..حيث کانا قبل خلافتهما يعيشان العقيدة علي البساطة و الصفاء بعيدا عن جو الدولة الصاخب، فامتزجا بعلماء الخاصة فاحسوا منهما الانفتاح و الميل الي حد ما، فزرقوا اليهما بعض ما يعتبر سرا عن الآخرين کاسم السفير و عمله.

و من ثم لم يندهش الراضي من ايراد اسم الحسين ابن روح و لم يستفسر من المتکلم عن حاله و لم يسأله عن سفارته و مکانه.فان الحسين بن روح کان تولي السفارة قبل خلافة الراضي بعدة سنوات عام 305 و استخلف الراضي عام 322، وتوفي ابن روح عام 326 کما عرفناه. فيمکن للراضي ان يکون قد عرف بسفارته قبل خلافته بزمن ليس باليسير.

کما أن الراجح أن المقتدر، انما يبدي الاحترام المتزايد لابن روح باعتبار ذلک.

و هذا البيان يشمل أي خليفة يفترض أنه يحمل فکرة عن السفراء من خلفاء تلک الفترة. ما عدا المعتمد الذي بدأت تلک الفترة أثناء خلافته. فانه لا ضرورة الي افتراض کونه مسبوقا بالاتصال بعلماء الخاصة قبل خلافته.

بل يکفي فيه ما علمناه من احترام الامام العسکري عليه السلام و الايمان بقدسيته و صدق سجيته..الي حد طلب منه ان يدعو له. فان مسلک الامام في العلم و التقوي، کاف لاخذ مثل هذه النتائج المهمة.

و لم يعلم من المعتمد انه کان عالما بالسفراء بقليل و لا بکثير. و خاصة



[ صفحه 452]



و أن خبر السفارة في أول وجودها، و هو محاط بالکتمان و الحذر، أقل انتشارا من أزمنتها المتأخرة.علما أن شخص الخليفة و خاصته، هم أولي من يکتم عنه و يتقي منه. فلم يکن يصل اليهم الخبر بحال من الأحوال و انما حصل بعض الخلفاء المتأخرين علي الخبر، قبل خلافتهم، بصفتهم أفرادا من علماء العامة المنفتحين.

البيان الثالث: اننا نستطيع أن نجيب عن السوال الثالث بوجهين الوجه الاول: و هو مترتب علي البيان الثاني الذي ذکرناه. و ذلک: ان الخليفة العالم بأمر السفراء، لما لم يصبح عالما بأمرهم الا بعد کونه منفتحا علي خطهم و مطمئنا اليه بقليل أو بکثير. فهو لا يستطيع التخلص نفسيا و فکريا من هذا الاطمئنان، بعد توليه للخلافة.

اذن فبالرغم من کونه يجد نفسه عالما بحقيقة السفراء، و مسوولا عن حماية خط الخلافة العباسي. الا انه يحس بالمسوولية أيضا تجاه السفراء، في حفظهم والستر عليهم، وفاء للخط الذي انفتح عليه قبل خلافته. وفي الحدود التي لا تنافي الامن العام في الدولة.

و معه فهو لا يصرح برأيه لاحد من خاصته، حفاظا علي السفراء و علي نفسه أيضا. اما محافظته علي السفراء فباعتبار علمه انه لو صرح بذلک لخرج الأمر من يده و لبدأت الحملات علي السفراء و قواعدهم الشعبية من دون الرجوع الي رأيه..من قبل قواده و وزرائه، فانهم لم ينفتحوا انفتاحه و لم يروا رأيه. و أما محافظته علي نفسه فلعلمه أنهم لو علموا بحاله لما انتخبوه، و انهم علي استعداد لازالته بمجرد تهمته



[ صفحه 453]



بذلک فضلا عن العلم به منه. و علي أي حال، نري الخليفة يلوذ بالصمت تکتما و حذرا.

و من هنا يتضح: ان هذا الشأن خاص بالخليفة وحده، و لا يشمل الآخرين. و من هنا نجا السفراء من المطاردة الفعلية، و استطاعوا التکتم، في عهد المقتدر و الراضي العارفين بشأنهم. لأن من يعلم بهم و هو شخص الخليفة، غير عازم علي مطاردتهم، و من هو عازم علي مطاردتهم، و هم الاخرون، غير عالمين بشأنهم.

کما يتضح: ان القواعد الشعبية العامة الموالية للدولة، بمختلف طبقاتها، کانت خالية الذهن عن اتصالات الخليفة قبل خلافته. أو أنهم -علي الاقل -علموا بها و لکنهم لم يطلعوا علي ميله و انفتاحه و من هنا وقع عليه الاختيار للخلافة. فانه کان يتکتم جزما بذلک قبل خلافته و بعدها، بحيث يخفي حاله علي الاخرين و علي التاريخ العام المدون ايضا.

کما يتضح من ذلک، انه يمکن القول: بأن قتل المقتدر للحسين بن منصور الحلاج عام 309، و قتل الراضي لابن ابي العزاقر الشلمغاني عام 322، کما سبق ان عرفنا-و کلاهما ادعي السفارة زورا-. قد کان مستندا الي انفتاحهما ايضا. اي ان ما قلناه سابقا من ان قتلهما لهذين الرجلين المنحرفين، عمل مشترک في مصلحة خط السفراء..هذا المعني کان ملحوظا للخليفة فعلا، و ان البسه بلباس آخر، تکتما و تحذرا.



[ صفحه 454]



يبقي سوال واحد، و هو أن الخليفة علي فرض انفتاحه علي خط السفراء و ميله اليه، کيف رضي بأن يتولي الخلافة، و لماذا لم يسلمها الي من يري انها حقه بعد أن تولاها.

و مختصر الجواب: اننا ان فرضنا ان الخليفة کان قد اصبح قبل خلافته شيعيا مخلصا تماما..اذن فقد يصبح معرضا للقتل علي تقرير تصريحه برأيه و رفضه للخلافة. علي انه - لو کان کذلک -لعلم انه ليس هناک من يدفع الخلافة اليه، فان المهدي (ع) غائب و السفير غير مأمور بتولي الخلافة..کما انه ليس هناک من يقبل تنازله عنها فانه لو تنازل يعود الحکم الي شخص عباسي آخر، لا الي من يعتقده أهلا لذلک. و لعله يکون أسوأ تجاها ضد السفراء منه فيما اذا تولاها.

و ان لم نفرض في مثل هذا الخليفة ذلک، ولا حاجة الي مثل هذا الافتراض بطبيعة الحال، بل يکفي فيه افتراض کونه وفيا للصحبة السابقة مع الخاصة، محترما لعلمهم و تقواهم.. و هذا هو الذي اکدنا عليه في البيان الثاني. فاذا کان الحال کذلک، فانه لا يحتمل في حقه رفض الخلافة حين تعرض عليه، بما فيما من ملک و قوة و اغراء. فانها مما تنال بالسيف و تهرق في سبيلها الدماء، فکيف اذا حصل عليها بطريق سهل بسيط.

الوجه الثاني: ان نغض النظر عن الوجه الاول فنفترض الخليفة عالما بسفارة السفراء، و غير حريص علي الوفاء معهم، بل يري السير



[ صفحه 455]



علي خط الدولة الزم و المحافظة علي أمنها و صيانتها أرجح.

الا اننا نقول: انه کان عاجزا عن تجريد الحملات علي السفراء للقبض عليهم و استجوابهم و تعذيبهم. أو علي الأقل، لم يکن يري من مصلحة الدولة حدوث ذلک.

و ذلک: لما يراه الخليفة عيانا و يعيشه من التصدع في ارکان الدولة و الحروب في أطرافها عن قرب و عن بعد..فصاحب الزنج أولا و القرامطة ثانيا و الخوارج ثالثا و قواد الأطراف رابعا، و مشاکل الوزراء و الحرس و تمرداتهم و احتجاجاتهم علي کثير من الأوضاع خامسا..کل ذلک مما يشتت قوي الدولة و يدعها تحارب في عدة جبهات و تضطر لصرف الأموال في مختلف الجهات.

مضافا الي ان نجم الخلافة کان لازال مستمرا بالافول، ولم تواجه الامة بعد المعتضد-خلال هذه الفترة-خليفة قويا يوبه به و يرکن اليه.

فالخليفة لم يکن يجد القدرة: أو لم يکن يجد المصلحة، في أن تفتح الدولة جبهة جديدة للحرب، بتجديد الحملات ضد السفراء، و ما يحتمله من استتباع ذلک من تحرکات و اراقة دماء في نفس العاصمة بغداد..مسکن الخلافة و السفراء. وما قد يستتبعه من ثورات في الأطراف من قبل المخلصين الداعين الي الرضا من آل محمد. و قد عرفنا مقدار حذر الدولة من هذه الثورات و فرقها من حدوثها.

و ما قلناه من قلة خلال هذه الفترة..انما هو أمر



[ صفحه 456]



ندرکه بعد نجاز الحوادث و تمخض النتائج خلال التاريخ. ولم تکن الدولة يومئذ. بمدرکة لذلک، و هي تعيش تلک الاحداث مباشرة و قريبة العهد من کثير من هذه الثورات، و معاصرة لبعضها بالفعل و التي من اهمها دولة طبرستان. فکل ذلک مانع لا محالة للدولة عن ان تجرد الحملات ضد السفراء، حفاظا علي البقية الباقية من قوي الدولة، في جبهاتها المختلفة.

و هذا هو الذي يوضح لنا..کيف ان الخليفة لا يصرح للاخرين بما يعلمه من امر السفراء. فانه يعلم انه لو صرح بذلک لخرج الامر من يده، و لبدء الاخرون الحملات التي لم يکن مقتنعا بکونها صحيحة و ذات مصلحة بالنسبة الي الدولة.

يضاف الي ذلک: امکان افتراض ان الخليفة العام بأمر السفراء کان يعلم ايضا بعدم عزمهم علي القيام باي حرکة اجتماعية عامة. و من ثم فهو لا يشکل خطرا مباشرا علي الدولة. و من هنا کان يري الخليفة بوضوح ان الوقوف في وجه الاعداء المحاربين عن قرب في البلاد او عن بعد، اولي من صرف المال و الجهد ضد امر لا ضرر منه. خاصة و هو يحتمل ان السفراء و قواعدهم الشعبية لوجوبهوا بالتحدي لا مکن ان يصبحوا له جبهة قتال اخري لا تقل ضررا عن اي جبهة اخري بل قد تزيد.

الامر الثامن: في مقدار ارتباط السفراء، بقواعدهم الشعبية ذکرنا فيما سبق، انه لم يکن يعرف باسم السفير الا من عرف فيه الاخلاص



[ صفحه 457]



العظيم و الاستعداد للتضحية و الفداء. و هم الخاصة الاقلون بطبيعة الحال.

الا ان المفهوم من مجموع النقل التاريخي في رواياتنا، ان القواعد الشعبية الموالية في بغداد خاصة و في العراق عامة، کانت تعرف-علي العموم-فکرة السفارة و کيفية الاتصال بالسفير و لو بوسائط. و ان عددا مهما من خاصتهم و علمائهم و مبرزيهم، کانوا علي اتصال مباشربهم و علم بمسوولياتهم. و قد يقوم جملة منهم بالوساطة بين السفير و المجتمع لا بلاغ توقيعات المهدي و توجيهاته الي الناس. قال الشيخ الطوسي: و قد کان في زمان السفراء الممدوحين اقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الاصل. [27] .

و قد يرتبط الفرد العادي من القواعد الشعبية الموالية، بواحد من هولاء الخاصة، لقضاء مقصوده عن طريق السفير، من دون معرفته بشخص السفير و لا مکانه و لا عمله الاجتماعي الظاهر. ولا يکون هذا الواسطة علي استعداد للتصريح بذلک باعتبار کون الفرد العادي، غير قادر علي الکتمان، و لا علي مستوي المسوولية و الاخلاص. و سنسمع اسماء جماعة من هولاء الوسطاء في الفصل الاخير من هذا القسم من التاريخ.

و علي اي حال فقد سمعنا فيما سبق انه کان لابي جعفر العمري في بغداد نحوا من عشرة انفس، منهم ابوالقاسم ابن روح رضي الله عنه کانوا وکلاء علي الاموال و التجارات. الا ان استعمالهم علي ذلک انما



[ صفحه 458]



کان للتغطية علي الامر و زيادة الحذر و الکتمان. کما هو الحال في السفير نفسه. و في الواقع کانوا وکلاء في المال و في قيادة قواعدهم الشعبية..و قد سمعنا کيف ان الحسين بن روح يلقي بأسراره الي الروساء من الشيعة. [28] .

کما نسمع ان ابن روح رضي الله عنه، کان له الوکلاء، منهم الشلمغاني قبل انحرافه. [29] و آخرين. وفي بعض الروايات يعبر بقول الراوي: کتبت الي الشيخ ابي القاسم الحسين بن روح، و هو ظاهر بوجود واسطة بينه وبين الراوي..لعدم وجود البريد يومئذ بالنحو المعروف الان.

فکان الامر في بغداد و الاطراف يجري علي هذا النسق، فکانت توزع تعاليم الامام المهدي عليه السلام و تجبي الضرائب الاسلامية و الحقوق الشرعية، بشکل هرمي، يکون السفير قمته، و الوکلاء الخاصون وسطه، و القواعد الشعبية الموالية قاعدته، و ذلک مبالغة في الخفاء و الحذر و التستر.

و اما في الاطراف البعيدة، فالامر في مبدأ الغيبة الصغري و تحقق فکرة السفراء، کان مختلفا عن ذلک الي حد کبير. فقد کان الامر عند الکثيرين غامضا مجملا.

صحيح، ان المهدي (ع) نفسه اسس الاساس الرئيسي لارتفاع



[ صفحه 459]



هذا الغموض، منذ اليوم الاول للغيبة الصغري، حين ذکر لوفد القسميين انه سيعين لهم رجلا في بغداد تدفع اليه الاموال و تخرج عنه التوقيعات. فکان لهذا الوفد اثره الکبير في ايضاح الفکرة في العراق وفي قم و اطرافها الي حد کبير.

الا ان الانتشار المطلوب لهذه الفکرة، يحتاج الي عدة سنوات خاصة و هو يعيش جو التکتم و الحذر، في کل أصقاع البلاد الاسلامية و من هنا کان الأمر في مبدأ الغيبة الصغري غامضا لدي الکثيرين و مبهما مجملا.

فهذا محمد بن ابراهيم بن مهزيار الأهوازي، يرد العراق شاکا بعد وفاة الامام العسکري عليه السلام، باحثا عن خلفه. [30] وفي الدينور حين أراد أهلها بعد وفاة الامام بسنة أو سنين، أن يسلموا أموالهم الي أحمد بن محمد الدينوري ليحملها الي حيث يجب تسليمها..فاجابهم: يا قوم هذه حيرة و لا نعرف الباب في هذا الوقت.

انظر..انه يعرف السفارة و کونها مطبقة في ذلک الحين، و يعرف کونها في بغداد، لکونه قصد بغداد بعد ذلک باحثا عن السفير، کما جاء به النقل. [31] و لکنه يعترف بجهله باسم و شخص السفير (الباب) في ذلک الوقت.

و في مصر، خرج أبو الرجاء المصري، و کان من الصالحين، بعد



[ صفحه 460]



مضي الامام العسکري عليه السلام بثلاث سنين، خرج في طلب خلفه [32] و التعرف علي وظيفته و تکليفه في تلک الفترة.

و من الطبيعي ان يثور مثل هذا الغبار في أول فترة الغيبة الصغري في المناطق النائية عن المرکز. و لکنه ينجلي تدريجا بعد أن يستطيع هولاء الباحثون عن الامر ان يحصلوا علي المراد، فيعرفوا شخص السفير أو يقابلوا الامام (ع) نفسه أحيانا. فيرتفع شکهم و يرجعون الي بلدانهم لکي يبلغوا مارأوا من الحق، مضافا الي تبليغ وفد القميين و ما يقوم به من جهود. فيستتب اليقين و تهدأ النفوس.

و اذ تتضح جلية الأمر يصبح نفس النظام الهرمي مطبقا في الاطراف أيضا، حيث يرجع الناس هناک الي الوکلاء المبثوثين في البلدان و يرجع هولاء بالمراسلة الي السفير في بغداد.

فهذه هي أهم الامور التي تحدد الخصائص العامة و المضمون الاجتماعي للسفارة، الذي عقدنا من أجله هذا الحقل الأول.


پاورقي

[1] الغيبة للشيخ الطوسي ص 195.

[2] المصدر ص 199.

[3] المصدر ص 222.

[4] المصدر السابق ص 242.

[5] الغيبة للشيخ الطوسي ص 216.

[6] انظر الغيبة ص 226.

[7] المصدر و الصفحة.

[8] غيبة الشيخ الطوسي ص 184.

[9] المصدر ص 195.

[10] المصدر نفسه ص 188.

[11] المصدر ص 195.

[12] الارشاد للشيخ المفيد ص 232.

[13] انظر غيبة الشيخ الطوسي ص 184. و ص 190 او غيرها.

[14] الغيبة للشيخ الطوسي ص 192.

[15] المصدر ص 252.

[16] الاحتجاج ج 2 ص 300.

[17] انظر غيبة للشيخ الطوسي ص 221.

[18] غيبة الشيخ الطوسي ص 161.

[19] المصدر السابق ص 222.

[20] الغيبة للشيخ الطوسي ص 199.

[21] المصدر نفسه ص 237.

[22] انظر المصدر المخطوط.

[23] انظر غيبة الشيخ ص 252 و ص 187.

[24] نفس المصدر ص 183.

[25] الکامل ج 6 ص 241.

[26] غيبة الشيخ الطوسي ص 240.

[27] غيبة الشيخ الطوسي ص 257.

[28] الغيبة ص 227.

[29] المصدر ص 183.

[30] انظر الغيبة ص 159 و المنتخب ص 383.

[31] انظر البحار ج 13 ص 79.

[32] انظر اکمال الدين المخطوط و غيره.