بازگشت

ادعاوه انه الوريث الشرعي لترکة الامام العسکري


وقد انطلق جعفر بن علي في ادعائه هذا من فکرتين ادعائيتين أيضا:

احداهما: عدم وجود ولد للامام العسکري (ع)، ليکون هو الوريث الشرعي. ومن هنا کان هو الوريث، باعتباره أخا للموروث.

ثانيتهما: کونه الامام بعد اخيه. اذن فهو-علي أقل تقدير-المشرف الأساسي و الولي الأعلي علي هذه الأموال الموروثة.



[ صفحه 311]



وکلا هذين الأمرين، قد علمنا زيفهما بکل وضوح، بعد وجود الحجة المهدي (ع) ولدا للامام العسکري (ع) و کونه هو الامام بعده، دون عمه.

و لکن جعفر انطلق من هذه المدعيات الي الحجز علي ميراث الامام (ع) کله، و الاستيلاء عليه و منع سائر الورثة منه. و ساعدته السلطات علي ذلک، فانها بعد ان بحثت و بذلت جهدها في الفحص و المطاردة، و لم تقع للمهدي علي أثر،لم تجد وريثا غير جعفر. ولم تجد في دعوي جعفر للوارثة الشرعية کذبا واضحا-في مرتبة الاثبات القانوني علي الأقل -فسمحت له بالاستيلاء علي مجموع الترکة.

و لئن کانت عاجزة عن تنفيذ مطلبه الأول، حتي لقد انصرفت عنه وهي آسفة..فمطلبه هذا علي أي حال ممکن التنفيذ، و تمکينه من التصرف في الأموال أمر ميسور.

و هذا هو الذي يشير اليه عثمان بن سعيد في بعض مجالسه مع أصحابه -علي ما سمعنا- قائلا: فان الأمر عند السلطان ان ابا محمد عليه السلام مضي و لم يخلف ولدا و قسم ميراثه، و اخذه من لا حق له. وصبر علي ذلک.وهو ذا عياله يجولون و ليس أحد يجسر أن يتعرف عليهم أو ينيلهم شيئا. [1] .

انظر الي الأثر الاجتماعي التخريبي الذي انتجه مخطط جعفر، فانه و ان فشل في الامامة، الا انه لم يفشل في الاستيلاء علي الميراث.



[ صفحه 312]



و لم يکتف بصحته من الأرث، بحسب ما هو المشروع في الاسلام، لو کان وارثا..بل استولي علي المجموع. فنتج عن ذلک بطبيعة الحال، ان أفراد العائلة الآخرين لم يبق لهم مأوي و لا ملبس و لا مطعم. فبقوا يجولون في الطرقات..لا يستطيع أحد أن يلتفت اليهم أو يدعي معرفته بهم أو يمدهم بشي ء من الخير، لأنه بذلک يعرض نفسه للتنکيل من قبل الدولة.

يبقي اعتراض واحد قد يخطر علي الذهن، و هو: ان المهدي (ع) نفسه کان يتمکن من أن يظهر و يسيطر علي العالم، و يمد عائلته بما تحتاج اليه من أسباب المعاش. فلماذا لم يفعل؟.

و جواب ذلک واضح کل الوضوح، و هو: انه لو کان يظهر في ذلک الحين، لکان يقتل لا محالة، بعد ما عرفنا و سنعرف الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في البحث عنه، و لفشل مخططه في هداية العالم و السيطرة عليه، اذ لا يطيعه يومئذ و لا يسير في امرته الا أقل القليل من أصحابه ممن لا يغني لفتح شبر من الأرض، فضلا عن البسيطة کلها. و أما المجتمع المنحرف فلن يستمع الي ندائه، و سيکون عونا للدولة عليه.

و انما أعدالله تعالي ظهوره عند وجود عدد مهم من ذوي النفوس القوية و القلوب المومنة و العقول الواعية، بحيث يستطيع أن يفتح بهم العالم، کما سوف يأتي برهانه في الکتاب الثاني من هذه الموسوعة. و حيث لا يکون الوقت ملائما للظهور، و کانت هداية العالم لا تتحقق الا



[ صفحه 313]



بالتأخير، اذن فمن المنطقي جدا بل الضروري حقيقة، التضحية بمصالح عائلة الخاصة في سبيل ذلک الهدف الالهي الأعلي.

و ربما يعترض هنا فيقال: انه و ان لم يمکنه الظهور، الا انه يمکنه مساعدة أهله حال غيبته. فانه يمکن ارسال الأموال اليهم بالطريق الذي کانت تخريج به التوقيعات و المراسلات عنه عليه السلام.

و جوابه أيضا واضح، بعد العلم ان التوقيعات و المراسلات. انما کانت تصدر عن المهدي (ع) في النطاق السري الخاص الذي لا يتجاوز مواليه، الي أي شخص يشک بارتباطه بالسلطة أو ضعفه تجاهها، اذ من الواضح ان السلطة لو کانت تطلع علي هذه المراسلات، لکانت المستمسک الرئيسي الذي تأخذ به ضده عليه السلام.

اذ عرفنا ذلک نعلم ان دفع المهدي (ع) للأموال الي عائلة بشکل يغنيهم و ييسر حالهم، يکون ملفتا للنظر و مثيرا للتساول في ذهن السلطة، و خاصة وان هذه العائلة لا زالت تحت المراقبة و الترکيز..فيکون له من المضاعفات ما لا يخفي. و أما مواصلتهم سرا بالمال اليسير عن طريق سفرائه...فهو أمر محتمل، لا يمکن نفيه.

و قبل ان ننطلق الي النشاط الثالث لجعفر بن علي، يحسن بنا أن نتميز بوضوح موقف الامام المهدي عليه السلام من عمه تجاه ذلک، بحسب ما هو المروي في تاريخنا الخاص.

حيث نجد الامام عليه السلام، يقف أمام عمه وجها لوجه،



[ صفحه 314]



و يصارحه بالحق، توخيا الي کفکفة اندفاعه و التخفيف من النتائج الموسفة التي ترتبت علي أعماله..لو کان جعفر. ممن يمکن أن يوثر فيه النصح و التوجيه.

فنراه عليه السلام،حينما ينازع جعفو أهله في الميراث، و يحاول الاستيلاء عليه، يخرج عليه السلام علي عمه من موضع لم يعلم به ويجابهه بالقول: يا جعفر مالک تعرض في حقوقي. ثم يغيب عنه، و يذهب (ع) الي حيث لا يعلم به عمه. فيتحير جعفر و يبهت، و يطلبه بعد ذلک في الناس و يحاول ان يقع له علي أثر فلم يستطع.

و في حادثة اخري بعد ذلک، نجد المهدي عليه السلام يقف من عمه مثل هذا الموقف الحاسم. و ذلک: ان الجدة ام الامام العسکري عليه السلام، توفيت، و کانت قد أوصت ان تدفن في الدار..الي جنب زوجها و ولدها الامامين العسکريين عليهماالسلام. و نازع جعفر، محتجا بمزاعمه القديمة و قال: هي داري لا تدفن فيها.

و هنا..تکتسب القضية شأنا أکبر من الميراث..انه ضرورة احترام هذه الجدة المقدسة، و تنفيذ وصيتها، طبقا لتعاليم القرآن الکريم. و الدار و ان کانت لجعفر، بحسب قانون السلطات الحاکمة، ولکنها في الواقع، ملک للوريث الشرعي الحقيقي، و هو الولد، و ليس للاخ أي حصة من المال مع وجود الولد، في قانون الاسلام. و من لا يملک ليس له حق في أن يأذن و ان يتصرف.

و من هنا بادر الامام المهدي عليه السلام، الي مجابهة عمه بالقول



[ صفحه 315]



- بنحو الاستفهام الاستنکاري -: يا جعفر، دارک هي؟. ثم لم يستطع جعفر أن يراه بعد ذلک. [2] .

و سنبقي جاهلين -باعتبار غموض النقل التاريخي- بما اذا کان لهذا القول أثره في نفس جعفر و ضميره، فسمح بدفن الجدة في الدار... أو لم يسمح..و کان سبيل هذا القول هو سبيل القول الأول، و هو التسامح به و العصيان له.

و علي أي حال، يکون المهدي (ع) قد أدي ما يشعر به من المسوولية تجاه اعمال جعفر، من ضرورة افحامه في دعاواه الباطلة و التوصل -جهد الامکان-الي التخفيف من نتائجها السيئة.

کشفه ما أوجب الله تعالي عليه ستره:

و هو الافصاح عن وجود المهدي عليه السلام، بنحو أو بآخر، أمام السلطة، مما أجب شدتها في المراقبة و المطاردة.

و نحن في هذا الصدد، لا بد أن نعود بالکلام عن تاريخ الامام عليه السلام، من حيث ترکناه، لنعرف -بالتفصيل-الترابط بين الحوادث التاريخية التي انتجت أن يقوم جعفر بمثل هذا العمل.

ترکنا جثمان الامام العسکري مسجمي في الدار و قد انتهي ولده المهدي (ع) من الصلاة عليه..بعد أن سحب عمه عنها فتأخر وقد علا وجهه الاصفرار. ولکننا نجده مع ذلک، لا يترک موقفه، بل يبقي مستمرا في مخططه ممثلا دور الامام بعد اخيه.



[ صفحه 316]



و اذ ينتهي الامام المهدي عليه السلام من الصلاة، و يذهب، وقد اتضح لجميع الحاضرين وجه الحق..يتوجه أحدهم الي جعفر بالسوال عن هذا الصبي الذي أقام الصلاة، لکي يقيم الحجة علي جعفر و يفهم ما اذا بقي مستمرا علي مخططه بعد اتضاح الحق أولا. فيقول له: يا سيدي من الصبي؟. فيجيب جعفر: و الله ما رأيته قط و لا أعرفه.

و لعله صادق في انه لم يره، فانه -بفسقه- لم يکن أهلا لأن يريه الامام العسکري (ع) أياه. و لکنه کاذب في نفي معرفته، بعد ان سمع هذا الصبي يقول: تأخر ياعم فأنا أحق بالصلاة علي أبي. وهلا لو کان قد بقي جاهلا بمعرفته، ان يصمد علي موقفه و يکذب الصبي في دعواه...أو يعيد الصلاة مرة ثانية..مع ان شيئا من هذا لم يحدث. مما يدل علي اتضاح الحق لکل الحاضرين، و تسالمهم علي انه هو الامام المهدي (ع).

و بعد فترة من الوقت، يرد وفد من الوفود التي کانت تتواتر علي الامام العسکري (ع) من أطراف العالم الاسلامي، فتصل اليه و تسلمه ما تحمله من الأموال من مختلف من دفعوا الحقوق الاسلامية في تلک البلاد. و تسأله ما تشاء من المسائل الشخصية و الاجتماعية، فتنهل منه مختلف التعاليم و التوجيهات.

و يکون هذا الوفد من قم، يدخل سامراء و هو لا يعلم بوفاة الامام العسکري (ع)..فيسأل عنه الناس فيقول لهم الناس: انه قد فقد. قالوا: فمن وراثه؟..فيشير الناس الي أخيه جعفر بن علي.فيسأل



[ صفحه 317]



الوفد عنه، فيقال لهم: انه خرج متنزها و رکب زورقا في دجله يشرب و معه المغنون. فيتشاور الوفد فيما بينهم و يقولون: هذه ليست من صفة الامام..وقال بعضهم: امضوا بنا حتي نرد هذه الأموال علي أصحابها.ثم يقررون مقابلته و اختياره.

فانتظروا رجوعه من نزهته، و دخلوا عليه و حيوه و عزوه و هنوه. و قالوا له: يا سيدنا نحن قوم من أهل قم، و معنا جماعة من الشيعة و غيرها. وکنا نحمل الي سيدنا ابي محمد الحسن بن علي الأموال. فقال: اين هي؟..قالوا:معنا!..قال: احملوها الي!..و الي هنا يري جعفر ان احدي امنياته في استيلائه علي الامامة قد تحقق، وقد کسب الربح الأول في اليوم الأول.

و لکن يقف دون ذلک حجر عثرة و عائق صعب، لم يستطع اقتحامه. و ذلک انهم قالوا له: الا ان لهذه الأموال خبرا طريفا، فقال: و ما هو؟..قالوا: ان هذه الأموال لجمع - أي: لعدد من الناس - و يکون فيها من عامة الشيعة الدينار و الديناران. ثم يجعلونها في کيس و يختمون عليه. و کنا اذا وردنا بالمال علي سيدنا أبي محمد عليه السلام، يقول: جملة المال کذا و کذا دينارا. من عند فلان کذا و کذا و من عند فلان کذا و کذا. حتي يأتي علي اسماء الناس کلهم، و يقول ما علي الخواتيم من نقش.

انظر الي أسلوبهم الذي استطاعوا به (اصطياد) جعفر و افحامه.. انهم و لا شک، لم يکونوا بحاجة لأن يسمعوا کل هذه التفاصيل من



[ صفحه 318]



الامام العسکري (ع) في کل مرة يغدون عليه. و انما کان هذا هو الأسلوب الأساسي الذي يعرفون به امامة الامام الجديد اذا تولي هذا المنصب العظيم بعد ابيه. لاجل أن يتأکدوا ان الأموال قد دفعت الي وليها الحقيقي و الامام الصادق الذي استطاع اقامة الحجة.

فکان الوفد،يطلب اقامة الحجة من الامام الجديد عن هذا الطريق.. و علي هذا الاساس طلبوا من جعفر ذکر التفاصيل، فان اجاب علموا انه هوا الامام، و دفعوا اليه عن طيب خاطر و رضاء ضمير. و ان لم يجب..فهو ليس بامام، و ليس له الصلاحية لقبض هذه الأموال في الشريعة الاسلامية.

و لکن جعفر يحاول أن يجد في کلامهم نقطة للمناقشة ليحاول النفوذ منها..فيقول لهم کذبتم. تقولون علي أخي ما لا يفعله. هذا علم الغيب..متغافلا عن قوله تعالي: «لا يطلع علي غيبه أحدا الا من ارتضي من رسول.» و انه يمکن لکل شخص أن يعلم ما يعلمه الله تعالي أياه. فليس مستبعدا أن يکون الامام، و هو الوجود الثاني للقيادة الاسلامية بعد الرسول (ص) و الامتداد الطبيعي لرسالته العالمية..ان يکون ملهما من قبل الله عزوجل بعض الحقائق ليستعملها في شوون قيادته و اقامة الحجة بها علي امامته، عند اقتضاء المصلحة لذلک.

فلما سمع القوم کلام جعفر، جعل بعضهم ينظر الي بعض..ان هذا ليس هو الامام، و ليس في الامکان دفع المال اليه..و قد فشل في نتيجة الاختيار. فقال لهم جعفر: أحملوا هذا المال الي. قالوا: أنا



[ صفحه 319]



قوم مستأجرون، وکلا لأرباب المال. لا نسلم المال الا بالعلامات التي نعرفها من سيدنا ابي محمد الحسن بن علي عليهما السلام. فان کنت الامام فبرهن لنا. و الا رددنا الأموال علي أصحابها يرون فيها رأيهم.

انه تحد صارخ لجعفر.. وهو تحد لا يستطيع الا الامام الحق أن يخرج من مأزقه. أما صاحب المخطط التخريبي فلم يعلمه الله تعالي شيئا ليقوله لأحد. و أحس جعفر بالانهيار و الضعف مرة اخري، بعد تنحيته عن الصلاة علي اخيه..ان للامامة مسووليات لا يستطيع ظهره أن ينوء بها..و لکنه لا يستطيع ان يتنازل أو يتخاذل..لا بد ان يقف صامدا علي مخططه الي آخر الخط. فانه اذا فشل في المحاولة الأولي بالحصول علي المال، فسوف يفشل في المحاولات التالية..امام الوفود الاخري. ان أقرب طريق و أقوي ضمان للاستيلاء علي هذه الأموال هو التوسط لدي السلطات، لأجل الزام هولاء القوم بدفعها.

و من هنا يبادر جعفر بالذهاب الي المعتمد، و هو يمثل أعلي سلطة في البلاد-من الناحية القانونية علي الأقل -لکي يتملق له و يشکو عنده هذا الوفد ليساعده في ابتزاز ما عندهم من المال.

و اذ يسمع المعتمد الشکوي يأمر باحضار الوفد،فيحضرون و تدور بينهم و بينه، المحاورة التالية:

قال الخليفة: احملوا هذا المال الي جعفر.

قال الوفد: اصلح الله أميرالمومنين. انا قوم مستأجرون، وکلاء



[ صفحه 320]



لارباب هذه الأموال، و هي وداعة جماعة. و أمرونا ان لا نسلمها الا بعلامة و دلالة. و قد جرت بهذا العادة مع ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام.

فقال الخليفة: و ما کانت العلامة؟

قال الوفد: کان يصف الدنانير و أصحابها، و الأموال و کم هي. فاذا فعل ذلک سلمناها اليه. و قد وفدنا عليه مرارا، فکانت هذه علامتنا معه و دلالتنا. وقد مات. فان يکن هذا الرجل صاحب هذا الأمر -يعني الامامة- فليقم لنا بما کان يقيمه لنا اخوه، و الا رددناها علي أصحابها.

وهنا بدر جعفر فقال:يا أميرالمومنين، ان هولاء قوم کذابون علي أخي.. و هذا علم الغيب.

نفس الاستدلال من القوم، و نفس الجواب من جعفر. يريد به افحام القوم أمام المعتمد، لأجل أن يکسب مساعدته ضدهم. و هم و ان لم يوافقوه علي اعتراضه، باعتبار اعتقادهم بالامامة، و اعتبروا ذلک دليلا علي عدم امامته. الا ان المفروض في المعتمد، و هو يمثل خطا لا لا يومن بالامامة، أن يوافق علي هذا الاعتراض و يلزم القوم بما لا يعتقدون. الا انه يشاءالله تعالي..و يريد المعتمد ان ينصر الحق أمام جعفر، علي طول الخط..ليبوء مخططه بالفشل. ان المعتمد غير مطلع علي نوايا جعفر و اهدافه بالتفصيل..الي حد الآن، و لکنه يعلم انه خائن لمسلک ابيه و اخيه.و الخائن يجب ترک نصرته و الوقوف



[ صفحه 321]



الي جانبه..ان المعتمد لا ينطلق في جوانبه من حيث انطلق جعفر في اعتراضه..و انما ينطلق الوفد نفسه..من الحقيقة الواضحة بان الوکيل لا يستطيع التصرف الا في حدود اذن موکله. و حيث ذکر هولاء انهم غير مأذونين بتسليم المال الا بعد الدلالة و اقامة الحجة. اذن فلا باس بعدم تسليمهم للمال.

و من هنا قال المعتمد: القوم رسل، و ما علي الرسل الي البلاغ المبين. فبهت جعفر و لم يرد جوابا. أنه يسمع من المعتمد لأول مرة ما لم يکن يتوقع..أنه قول منصف، الا ان جعفر ليأسف أن يکون قول المنصف دائما، ضد مخططه.

ثم يطلب القوم من الخليفة أن يأمر لهم شخصا يدلهم علي الطريق، حتي يخرجون من البلدة. فأمر لهم بنقيب فاخرجهم منها.

و اذ يصبحون في خارج البلدة، يحدث ما لم يکن بالحسبان..انهم جاءوا الي هذه البلدة يحملون الأموال الي الامام عليه السلام..و من غير المنطقي ان يرجعوا الي بلدهم آيسين و يعلنوا عدم وجود الامام، فتبقي الامة في حيرة و ضلال. مع ان الحجة المهدي موجود و قادر علي الاتصال بهم و افهامهم ما هو الحق. ان ذلک لن يکون بادرة حسنة في منطق الدعوة الالهية. اذن فلا بد من الاتصال بهذا الوفد، و اقامة الحجة عليه و افهامه وجود امامه..علي الطريقة المتبعة مع سائر الموالين..ليکون هذا الوفد لسانا للحق في بلاده و نقطة انطلاق الي القواعد الشعبية الموالية.و ستکون مقابلة هذا الوفد للامام المهدي



[ صفحه 322]



(ع) ثاني اتصال له بالناس في يوم وفاة ابيه..و کان الأول هو صلاته عليه سلام الله عليهما.

يرسل المهدي (ع) خادمه، الي خارج البلدة، و يعطيه المفتاح الرئيسي لافهام هذا الوفد الحائر، ما هو الحق. فيأمره بأن يتبعهم و يناديهم باسمائهم و اسماء آبائهم..و يلقنها اياه و يخرج الخادم خارج البلد، و يصيح بهم باسمائهم، قائلا لهم: اجيبوا مولاکم.

و هنا يجد القوم ان هذا الخادم قد علم الغيب!! فيخطر لهم احتمال انه هو الامام..غافلين عن امکان التعلم لأي أحد اذا وجد الفرصة المناسبة. فيبدرونه قائلين: انت مولانا؟. فقال الخادم: معاذ الله، أنا عبد مولاکم، فسيروا اليه. استصحبهم معه حتي وصلوا الي دار الامام العسکري عليه السلام، فدخلوا. فوجدوا الامام المهدي عليه السلام قائدا علي سرير کأنه قمر، عليه ثياب خضر. فسلموا عليه فرد عليهم السلام. ثم قال عليه السلام: جملة المال کذا و کذا دينارا. حمل فلان کذا و حمل فلان کذا. و لم يزل يصف، حتي وصف الجميع ثم وصف ثيابهم و رحالهم و ما کان معهم من الدواب. فخروا سجدا لله عزوجل شکرا لما عرفهم، وقبلوا الأرض بين يديه، و سألوه عما ارادوا. فاجابهم، فحملوا اليه الأموال.

و هنا، و أمام ذلک الوفد القمي، يفتح الامام المهدي عليه السلام، باب التاريخ الجديد، تاريخ الغيبة الصغري.. تاريخ الوکالة و السفارة، و هو تاريخ سوف يعيشه الناس سبعين عاما من الدهر، علي ما سنسمع..



[ صفحه 323]



فيأمر الوفد ان لا يحمل الي سر من رأي بعدها شيئا من المال. و انه ينصب لهم ببغداد رجلا تحمل اليه الأموال و تخرج منه التوقيعات.. و يخرج الوفد. [3] .

وبقي جعفر يجتر حقده.. انه يعلم من هو المقصود بهذه الأموال، فما هو بالبعيد عن بيانات ابيه و أخيه، و قد رأي المهدي (ع) في هذا اليوم و هو يدفعه عن الصلاة..اذن فهو المقصود بالاموال، و ستصل اليه حين يشاء.

و ما دام المعتمد، معتمده من أول الأمر، بعد ان باع ضميره للسلطات و تمرغ في أوحال الانحراف.. فمن المنطقي في نظره أن يشکو وفد القميين مره اخري، الي الخليفة.. انه سيقول له: انهم دفعوا المال الي المهدي. و سوف لن تکون هذه الشکوي ضد الوفد نفسه، بعد ان وقف المعتمد الي جانبهم، بل ستکون ضد المهدي نفسه، و تتضمن بکل صراحة تأليبا للسلطات عليه.

و تجد السلطات بغيتها القصوي و هدفها الأعلي الذي کانت و لا تزال تجد في طلبه فلا تقع عليه. انه الآن رهن يديها و قريب المتناول منها.. اليس عمه الآن يعرب عن وجوده و يدل علي نشاطه..انها ستقبض عليه، و بذلک تستطيع ان تتخلص من الوجود الرهيب الذي يقض مضاجعها و يملوها رعبا و فرقا. لأنه سوف يبدل ظلمها عدلا و يحول جورها قسطا.



[ صفحه 324]



يفکر المعتمد بذلک بمنطق المصلحة العليا و المهمة التي يمليها عليه الملک و الجانب الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في دولته، و يمليها عليه هذا العدد الضخم من القواد و الوزراء و القضاة و العاملين في الدولة، و يمليها عليه سائر المحسوبين و المنسوبين الي الدولة، و الموالين لها، و السائرين في خطها بشکل و آخر. فيأتي کل ذلک في ذهنه ضخما مجللا مهما لا يمکنه التخلي عنه بحال من الأحوال.. و أي فشل ذريع و فضيحة کبري سوف تناله و تنال دولته لو حصل ذلک.. ولا يمکن ان يحول احترامه للامام العسکري (ع) و الايمان بعدالة قضيته، دون ذلک، و دون المبادرة اليه بکل حزم و شدة.

و من هنا نري المعتمد حين يستمع لکلام جعفر، و وشايته بالمهدي (ع)، يرسل الخيل و الرجال الي دار الامام الحسن العسکري (ع). فيکبسونه، و يفحصون في کل غرفه و دهاليزه، فلا يجدون شيئا، و ليتهم يکتفون بذلک، و انما اشتغلوا بالنهب و السلب و الغارة علي ما رأوا من متاع الدار.

و بينما منشغلون بالنهب، يتحين الامام المهدي (ع) فرصة غفلتهم، و يخرج من الباب، تقول الرواية: و هو يومئذ ابن ست سنين -و قد عرفنا انه ابن خمس سنين-فلم يره أحد منهم حتي غاب.. [4] انهم لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون و أي شخص سوف يجدون، فالفکرة غامضة في اذهانهم بعيدة عن مخيلتهم..فلم يکن من البعيد،



[ صفحه 325]



ان لا يلتفتوا و هم في نشوة النهب و السلب، الي وجود صبي يخرج من بين ايديهم، بکل بساطة و بلا ضوضاء.

و لا يجد هولاء الرجال في الدار، بعد ان تبعثر أصحابها و تشتت شملها الا الجارية صقيل أم المهدي عليه السلام، فيقبضون عليها و يرفعونها الي الجهات الحاکمة.

و من هنا تبدأ المحنة الاساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة، تلک المحنة التي و اجهتها، بکل صمود و اخلاص و ايمان. و استطاعت برغم الضغط الحکومي ان تخرج ظافرة في المعرکة، و ان لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر، وقد أوجب الله تعالي عليه کتمانه..و ابقت ولدها محجوبا مصونا من الاعتداء.

انهم -أولا- طالبوها بالصبي، فانکرته. و معناه انها أدعت انها لم تلد،و انه لا وجود لهذا الصبي علي وجه الأرض..انها تخبر بما لا تعتقد..و لکنه کذب جائز بل واجب في الشريعة الاسلامية. فاننا نعرف ان الکذب يکون جائزا في ما اذا کان سببا في اصلاح ذات البين، و يکون واجبا فيما اذا توقف عليه انقاذ نفس محترمة من الموت أو ما دونه من أنواع التنکيل الشديد..و هو الآن کذلک بالنسبة الي ولدها المهدي (ع). فکيف اذا توقف علي هذا الکذب البسيط مستقبل الاسلام و سعادة البشرية و قيام المهدي بدولة الحق.

و تزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في اخفاء ولدها، و تأخذ الحيطة له.. فتدعي ان بها حملا. و يقع کلامها في ذهن الحکام موقعا محتملا.



[ صفحه 326]



فاننا عرفنا ان الدولة کانت تنتظر ولادة المهدي عليه السلام من الامام العسکري عليه السلام. وها قد انتهت حياته ولم تر له ولدا. فهو اذن اما موجود في الخارج أو محمول في الارحام. و حيث لا تکون الدولة مسبوقة بوجوده في الخارج، وهي قد جردت حملة التفتيش و لم تجده.. اذن فهو حمل.. ومن المحتمل ان يکون هذا الحمل الذي تدعيه هو المهدي المطلوب. فحسبهم أن يراقبوا هذه الجارية الي حين ولادتها، ليحصلوا علي الغاية المتوخاة و يقبضوا علي المهدي حين ولادته.

و من هنا وقعت هذه الجارية تحت المراقبة الشديدة المستمرة..حيث جعلوها بين نساء المعتمد و نساء الموفق و نساء القاضي ابن ابي الشوارب..و هن نساء أعلي رجال الدولة. و لا زالوا يتعاهدون أمرها في کل وقت و يرعونها و طالت المدة و لم يحصلوا علي شي ء.

و بقيت الجارية علي هذه الحال حتي و اجهت الدولة مشکلات أساسية في المجتمع، و اضطرت الي خوض الحروب في عدة جبهات، فاشتغلوا بذلک عن هذه الجارية، فخرجت عن ايديهم، و الحمدلله رب العالمين.

و تعد الرواية أربع حوادث رئيسية شغلت الدولة، [5] و کلها حقائق راهنة نسمعها في التاريخ العام:

احداها:اقتراب يعقوب بن الليث الصفار من العاصمة بعد ان



[ صفحه 327]



کان يمارس نشاطه في الأطراف. فانه بعد ان استولي علي بلاد فارس و نازل الحسن بن زيد العلوي فيها في وقعات عديدة شعر المعتمد في سنة 262 بالعجز عن يعقوب بن الليث، فکتب اليه بولادة خراسان و جرجان. فابي يعقوب ذلک حتي يوافي باب الخليفة. فخاف المعتمد. فتحول من سامراء الي بغداد. و جمع أطرافه و تهيأ للملتقي. و بذلک تحولت جبهة القتال من فارس الي بغداد.و تحول معاندوا الصفار من الحسن بن زيد و غيره من حکام الاطراف، الي الخليفة نفسه.

و جاء يعقوب في سبعين الف فارس، فنزل واسط، فتقدم المعتمد و قصده يعقوب. فقدم المعتمد اخاه الموفق بجمهرة الجيش و استطاع الموفق ان يهزم الصفار. فاستبيح عسکره و کسب أصحاب الخليفة ما لا تحد و لا يوصف. و عاد الصفار بنفسه منهزما الي فارس. [6] .

و بالرغم من ان المعتمد کان قد عقد للموفق لحرب صاحب الزنج منذ عام 258، و خرج بنفسه لتشييعه، کما سمعنا، الا اننا نري الموفق الي حين منازلته للصفار، لم ينازل الزنج منازلة فعالة، و انما کانت تلک المهمة ملقاة علي عاتق قواد آخرين في الدولة، و لم ينازله الموفق، الا بعد ان ظهر عجز الآخرين و اندحارهم، في زمن متأخر جدا.

ثانيهما: خروج هولاء الحکام: المعتمد و الموفق، من سامراء الي بغداد..کما سمعنا.

ثالثهما: موت عبيدالله بن يحيي بن خاقان، الوزير الذي استوزه



[ صفحه 328]



المعتمد من حين تسلمه للحکم عام 256. وکان له مع الامام العسکري عليه السلام و اخيه جعفر موقفا محمودا. فقد حصل موته فجأة بسبب سقوطه عن دابته في الميدان، فسال دماغه من منخريه و اذنه، فمات لوقته. و ذلک عام 263. [7] .

رابعهما: مشاکل صاحب الزنج، و قد حملنا عنه في الفصل الأول فکرة مفصلة و قد کان الي ذلک الحين، يحاول سبق الزمن في التخريب و القتل و الاحراق، و ابادة الجيوش التي تنازله و استباحة الأموال و النساء، علي ما عرفنا.

و لعلنا نستطيع ان نضع يدنا علي سبب آخر، لانشغال الدولة عن أم المهدي عليه السلام، هو موت ابن ابي الشوارب، قاضي القضاة عام 261. [8] الذي عرفنا انها سلمت الي نسائه.

و علي أي حال، فنفهم من ذلک ان ام المهدي (ع)، بقيت تحت رقابة الدولة أکثر من عام، بل أکثر من عامين. لأننا عرفنا ان القاء القبض عليها کان بعد وفاة الامام العسکري عليه السلام،بمدة غير طويلة، نتيجة لوشاية جعفر..اذن فقد تم ذلک خلال شهر ربيع الأول من عام 260.

علي حين أن هذه الحوادث اليت دهمت الدولة، وقع أولها و هو موت ابن ابي الشوارب عام 261، و کانت واقعة الصفار عام 262



[ صفحه 329]



و موت الوزير عام 263. و المظنون ان حادثة الصفار بما اوجبته من خروج المعتمد و الموفق من سامراء، کانت هي السبب الرئيسي في خروجها من الاسر. و قد وقعت بالتحديد خلال شهر جمادي الثانية من عام 262. [9] فتکون ام المهدي عليه السلام، قد بقيت في الاسر عامين و ما يزيد علي الشهرين.

و من هنا تعرف، ان المقصود الاساسي من حجزها و مراقبتها ليس هو البحث عن جنينها أو انتظار ولادتها، و الا کان يکفي للتأکد من ذلک ان تمضي عدة أشهر فقط. و انما المقصود هو اضطهادها و عزلها عن مجتمعها أولا، و احتمال اتصال ولدها بها خلال هذه المدة، لو کان موجودا..ثانيا. الا ان مخططهم باء بالفشل الذريع.


پاورقي

[1] الغيبة الشيخ الطوسي ص 147 ص 219.

[2] انظر کلا الحادثتين في اکمال الدين (المخطوط).

[3] انظر اکمال الدين (المخطوط).

[4] الخرايج و الجرايح ص 164.

[5] قالت الرواية: الي ان دهمهم أمر الصغار، و موت عبيدالله بن يحيي بن خاقان بغته، و خروجهم من سر من رأي، و أمر صاحب الزنج بالبصرة، و غير ذلک.انظر اکمال الدين، (المخطوط). مع سائر تفاصيل القبض علي ام المهدي عليه السلام.

[6] انظر الکامل ج 6 ص 8-7.و العبر في خبر من غير ج 2 ص 24.

[7] انظر الکامل ج 6 ص 15. و انظر الطبري أيضا.

[8] الکامل ج 6 ص 21.

[9] علي ما يظهر عن ابن الاثير في الکامل ج 6 ص 8.