وفاة الامام العسکري
و اذ يودي هذا الامام الممتحن الصابر مسووليته التامة تجاه دينه و مجتمعه و ولده، يريد الله تعالي أن يلحقه بالرفيق الأعلي..و ذلک عام 260 للهجرة..حيث اعتل عليه السلام في أول يوم من شهر ربيع الأول من ذلک العام [1] و لا زالت العلة تزيد فيه و المرض يثقل عليه حتي توفي في الثامن من الشهر.
[ صفحه 289]
و يتوفي سلام الله عليه، عن تسع و عشرين سنة من العمر. و قد سبق ان ذکرنا ان الغالب في البشر ان يکون الفرد في مثل هذا العمر في أوج الصحة، و القوة، فما الذي أودي بهذا الامام الممتحن الصابر في زهرة شبابه، غير العمل التخريبي من قبل الجهاز الحاکم. ولم يکن ينقل عنه ضعف في المزاج أو اعتلال سابق في الصحة أو مرض وراثي، و لا أي شي ء غيره.
و بمجرد ان يعتل الامام عليه السلام يصل الخبر الي الوزير عبيدالله بن يحيي بن خاقان، الذي رأينا الامام (ع) يزوره في بعض الايام فيحتفي به حفاوة بالغة. و يقول لولده أحمد حين سأله عنه: يا بني لو زالت الامامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره.
و هنا تنتصب امامنا همزة استفهام کبيرة..في سبب الوصول السريع لهذا الخبر الي الوزير. ربما کان ذلک لا نتشار الخبر في المجتمع باعتبار شعور المجتمع بالاسف تجاه مرض الامام عليه السلام.و ربما کان عن طريق مالديهم من العيون و المخبر المنتشرين بين أفراد الشعب المطاردين للامام و مواليه. و ربما کان لاطلاع الوزير علي سبب مرضه باعتباره ناشئا من الجهاز الحاکم نفسه، و هو القاء السم اليه من قبل بعض المجرمين من محسوبي الدولة. و الذي يبعد الاحتمالين الأولين ما عرفناه من انعزال الامام و احتجابه حتي من مواليه و جمله من أصحابه فضلا عن عيون الدولة و مخبريها..فکيف يصل الخبر بمثل هذه السرعة الي
[ صفحه 290]
الوزير، ما لم يتحقق الاحتمال الثالث..و هو علم الوزير بالسبب. ومن هنا نراه يعرف و يجزم ان الاما مشرف علي الموت، و لا يبدي احتمالات في شفائه، و انما يعين له الجماعة التي تلازمه و ترقب ساعة موته. فلو لم يکن يعرف السبب لفکر باحتمال شفائه و لو باعتباره شابا قوي البنية لا توثر في مثله الأمراض عادة.
و علي أي حال، فهو يرکب من ساعته الي البلاط..دار الخلافة.. لکي يخبر الخليفة بمرض الامام (ع) و يستصدر منه الأمر بتعيين جماعة من خدمه الثقاة لديه للاشراف علي حال الامام و مراقبته في صورة القيام بخدمته و تنفيذ حاجاته. و هکذا کانت السياسة العباسية تجاه الامامين العسکريين، کان الاکرام و الاعظام يستبطن دائما قصد المراقبة و المطاردة و التنکيل. و قد رأينا ذلک من المتوکل تجاه الامام الهادي عليه السلام، بکل وضوح، و نراه الآن بوضوح أيضا.
ثم يرجع الوزير مستعجلا، و معه خمسة من خدم المعتمد، کلهم من ثقاته و خاصته، منهم نحرير الخادم. و من نحرير هذا؟! انه الذي تولي سجن الامام عليه السلام في يوم من الأيام..و کان يضيق عليه و يوذيه، و حلف: والله لارمينه الي السباع. [2] .
و يأمرهم الوزير بلزوم دار الحسن عليه السلام و تعرف خبره و حاله، فان الامام في مثل هذه الحال يحتاج الي الرعاية الدائمة و الدولة تحتاج الي الاتصال الدائم باخباره، و معرفة ساعة وفاته. و تحتاج الي معرفة أمر آخر...اعمق من ذلک و اعقد..و هو السر العميق الذي لا زال الامام
[ صفحه 291]
(ع) يحافظ علي کتمانه خمسة أعوام متطاولة..و هو وجود ولده المهدي (ع). فلعل بقاء الخدم الخمسة في الدار و مرابطتهم الدائمة فيها..تنتج -ولو صدفة- اطلاع أحدهم علي أي تصرف مريب أو علي أي همزة للاستفهام تدل الطريق علي الامام المهدي عليه السلام.
و الدولة کما عرفنا، لم تکن مطلعة الي ذلک الحين علي ولادته.. و لکننا قلنا انها کانت تعرف الحق، و تعترف في دخيلة ضميرها بصدق الامام..فهي تتوقع -بکل وضوح -انجاب الامام العسکري (ع) للمهدي. وها قد أو شکت حياته علي الانتهاء، و لم يبلغها وجوده ولده..اذن فهي تحاول جاهدة، أن تعرف..و ان تتنسم الهواء.. وان تتشم الانباء عن ذلک بکل طريق.
و بعث الوزير الي نفر من المتطببين، فأمرهم بزيارته و تعهده صباحا و مساء. الا ان طبهم لم يکن مجديا و رأيهم لم يکن حصيفا.. و لعلهم لم يباشروا العلاج بشکل حقيقي يتوقع معه الشفاء..فأنه لم يمر الا يومين أو ثلاثة حتي أوصلوا الخبر الي الوزير بأن الامام قد ضعف و ان حاله قد ثقل..فأمر هولاء الاطباء بملازمة داره و عدم مغادرته.
و بعث الي قاضي القضاة، و هو في ذلک الحين: الحسين بن ابي الشوارب، الذي تولي هذا المنصب منذ عام 252 [3] فاحضره الي مجلسه فجاءه ابن ابي الشوارب، فأمره الوزير ان يختار عشرة عشرة ممن يوثق بدينه و ورعه و امانته..فاختارههم له و أحضرهم. فأرسلهم الوزير الي دار
[ صفحه 292]
ابي محمد الحسن عليه السلام..حيث الامام المريض (ع). و أمرهم بملازمته ليلا و نهارا. اذن فقد أصبح عدد الملازمين له -سوي الاطباء-خمسة عشر نفرا من قبل الدولة. وکلهم في حالة مراقبة وانصاف و تأهب، و يبقون ملازمين له حتي يتوفي عليه السلام. [4] .
و لکن وجود هولاء القوم في الدار، لم يمنع الامام من ان يتفرغ في ليلة وفاته في احدي غرف الدار، لأجل کتابه عدد کبير من الکتب الي المدينة..و ان يرسل رسولا الي المدائن بکتبه..کل ذلک لأجل حفظ عدد من المصالح الاجتماعية و التخطيط لها الي ما بعد وفاته عليه السلام.
و اذ يطلع الفجر من اليوم الثامن من ربيع الأول، لا يکون ساعتئذ معه في الغرفة الا سقيل الجارية، و هي نرجس أم المهدي عليه السلام، و عقيد الخادم، و هو من خدم الامام عليه السلام -تقول الرواية-: و من علم الله عزوجل غيرهما. تشير الي وجود ولده المهدي عليه السلام أيضا معهم.
فيأمر الامام عليه السلام ان يوتي له بماء مغلي بالمسطي، فجاوا به في قدح. فيقرر الامام (ع) البدء بأداء صلاة الصبح أولا..و يأمرهم بان يساعدوه. فجاءوا له بمنديل و بسطوه في حجره، لأجل الوضوء. فيأخذ عليه السلام من صقيل الماء و يتوضأ و يصلي صلاة الصبح علي فراشه..و اذ ينتهي من الصلاة، يأخذ القدح لکي يشرب، فيستولي
[ صفحه 293]
عليه ضعف المرض، فترتجف يده، و يضرب القدح ثناياه مع حرکة اليد الرتبية..ولم يستطع ان يستمر بالشرب. فتأخذ صقيل القدح من يده. فيستلقي و يلسم الروح من ساعته صلوات الله عليه. [5] .
و بذلک نفهم ان الامام استطاع بطريقته في الاخفاء و الرمزية، و بلباقته الاجتماعيه..ان يقصي الرجال الخمسة عشر، عن مجاورته و يحجبهم عن أموره الخاصة. فيکمل ما ينبغي ان يقوم به من أعمال قبل أن تدرکه المنية، ثم يتوفي بمعزل عنهم.
و اذا کان هذا النشاط الذي قام به، قد خفي عليهم، فمن الأولي و الأوضح أن يخفقوا في مهمتهم الاساسية..و يبقي ما هو أهم في الاخفاء و اعمق في غور الابهام عليهم..و هو وجود المهدي عليه السلام..يبقي في حجابه و خفائه..لم يستطيعوا ان يجدوا له أي أثر أو يقعوا علي ما يودي اليه أو يدل عليه.
و بمجرد أن يذاع خبر وفاته عليه السلام في سامراء، و هي البلدة التي يومن کل من فيها بان الامام خير من فيها علما و زهدا و عبادة و نسبا، لا يختلفون في ذلک باختلاف مناصبهم و أعمالهم و باختلاف ولائهم و عدائهم. فمن الطبيعي لهذه البلدة و هي تفقد هذا الرجل العظيم أن تضج ضجة واحدة، و ان تعطل أسواقها، و ان يجتمع الناس للشهادة و السير في جنازة الامام عليه السلام. حتي کان ذلک اليوم شبيها
[ صفحه 294]
بيوم القيامة. و رکب بنو هاشم و الکتاب و القضاة و المعدلون الي جنازته و تجهيره.
و اذ يفرغون من تهيئته و تجهيزه، يبعث الخليفة المعتمد الي اخيه ابي عيسي بن المتوکل، فيأمر بالصلاة عليه. فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه. دني أبو عيسي منه، فکشف عن وجهه، فعرضه علي الحاضرين من بني هاشم من العلويين و العباسيين و القواد و الکتاب و القضاة و المعدلين و قال -و ما اطراف ما قال!!-:هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا عليهم السلام. مات حتف انفه علي فراشه. و حضره من خدم أميرالمومنين و ثقاته فلان و فلان، و من القضاة فلان و فلان و من المتطببين فلان و فلان. ثم غطي وجهه و صلي عليه و أمر بحمله. [6] .
ان ذهن الجهاز الحاکم، المتمثل الآن بابي عيسي بن المتوکل، مشحون بالتوجس و الحذر، مما يرونه مرتسما في اذهان الناس بوضوح، و ان لم تصرح به الأفواه، و هو التهمة للجهاز الحاکم بانه هو الذي سبب موت الامام عليه السلام بشکل أو آخر، لأنه کان يمثل دور المعارضة الصامدة الصامتة ضده. و لعلنا نستطيع الآن أن نلمس اللاعج الکبير الذي يختلج في ذهن الجهاز الحاکم بعد أن اجهز علي الامام فعلا و تسبب الي موته حقيقة..انه يريد-بأي طريق -ان يبقي هذا الأمر في غاية الخفاء، و ان يبقي ثوبه، علي المستوي العام.. ابيض نقيا من دم
[ صفحه 295]
الامام عليه السلام حتي لا يبوء بلعنة التاريخ و انتقام الامة، و المثل يقول: يکاد المجرم أن يقول خذوني!.
انظر الي الاسلوب الطريف الذي نفيت به هذه التهمة! ان الدولة تستخدم شخصيتها وقوتها في (الفتوي!) بنزاهتها، أمام هذا الجمع الغفير، و تتخذ من سکوت الجمع دليلا علي الموافقة. متغاضية عن أن شخصا من هولاء لا يمکنه، بأي حال، ان يفتح فاه بأي اعتراض أو استنکار، و الا فيسکون مصيره معروفا لدي الجميع.
والاطرف من ذلک، ان جميع الحاضرين، و کل المجتمع متسالمون علي ذلک في نفوسهم، و يعلمون شأن هذه (الفتوي!). الا انها الاسلوب الغريب الذي تلجأ اليه السلطات رغم کل ذلک.
و کانت هناک صلاة اخري..خاصة..قد صليت علي الامام قبل ذلک في داره..بعيدا عن المستوي الرسمي العام الذي سمعناه..بين أصحابه و مواليه.
و هنا تبرز شخصية جديدة لم تکن قد برزت في التاريخ لحد الآن، هي شخصية (جعفر بن علي) اخو الامام العسکري و عم الامام المهدي عليهما السلام..و هو الذي سيکون له الأثر السي ء في اثارة السلطة علي عائلة الامام عليه السلام علي ما سوف نسمع في مستقبل الحديث.
يري جعفر ان الامام العسکري (ع) سوف لن يکون له خلف ظاهر و وريث واضح. اذن فهناک فرصة موسعة للاصطياد بالماء
[ صفحه 296]
العکر. ولا بد -في نظره-من استغلال هذه الفرصة للوصول الي التزعم علي القواعد الشعبية الموالية لأخيه، واستقطاب الأموال التي کانت و لا تزال تحمل اليه من سائر أطراف البلاد الاسلامية، و الحصول علي أرث اخيه العسکري عليه السلام. ويتم کل ذلک بادعاء الامامة بعد أخيه.. و أول مستلزمات ذلک و أقربها هو أن يباشر الآن الصلاة عليه.
و من ثم نجد الامام العسکري (ع) بعد وفاته، و قبل اخراجهه للجمهور، مسيحي في داره. و جعفر بن علي واقف علي باب الدار يتلقي من موالي اخيه التعزية بالوفاة و التهنئة بالامامة، و هو مرتاح له کانه هو الوضع الطبيعي. و لا يخفي ان اجمال الفکرة في اذهان هولاء من حيث وجود ولد عند الامام و عدم وجوده..ساعد علي هذه الابهام الي حد کبير. و قد عرفنا ان الظروف القاسية التي عاشها الامام عليه السلام لم تکن مساعدة بأي حال علي ايضاح الفکرة و ابلاغ المفهوم الي سائر القواعد الشعبية في العاصمة و غير العاصمة.
و لکننا سنسمع بعد قليل ان مخطط جعفر بن علي قد مات في مهده و لم يکتب له النجاح. و استطاع الامام المهدي ان يستقطب عواطف و قيادة مواليه..أما مباشرة أو عن طريق نوابه و سفرائه علي ما سنعرف.
و بعد قليل يخرج عقيد الخادم، الذي سمعنا اسمه في حادثة الوفاه.ويقول له: ياسيدي قد کفن أخوک، فقم للصلاة عليه. فيدخل
[ صفحه 297]
جعفر و يدخل جماعة من الشيعة يقدمهم عثمان بن سعيد العمري المعرفو بالسمان، الذي سيصبح النائب الأول للامام الغائب. فيرون الامام العسکري صلوات الله عليه علي نعشه مکفنا. فتقدم جعفر بن علي ليصلي علي أخيه.
و اذا صلي جعفر، فقد اکتسب في نظر المجتمع بعض الحق، و وضع لبنه أساسية في مخططه، و حصل علي (سابقة قانونية) يمکنه ان ينطلق منها للتغرير بجماهير الموالين. و هو ما لا يمکن ان يحدث مع وجود الامام المهدي (ع) و قدرته علي الأخذ بزمام المبادرة لدفع هذه الشبهة، و رفع البدعة، و انقاذ مواليه من التورط بغير الحق من حيث لا يعلمون.
اذن فلا بد أن يبادر الامام المهدي (ع) الي منع عمه عن الصلاة علي الامام (ع) و يحرمه من هذه (السابقة القانونية)، و يحوز هذه السابقة لنفسه، و هو احق بذلک..لکونه الامام بعد ابيه و الوريث الشرعي له.و من ثم يشاهد الواقفون صبيا يخرج بوجهه سمرة بشعرة قطط باسنانه تفليج، فيجذب رداء جعفر بن علي و يقول له: تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة علي أبي. فيتأخر جعفر، من دون مناقشة، و قد أربد وجهه و علته صفرة.و يتقدم الصبي عليه السلام و يصلي علي ابيه. [7] .
لا حظ معي...انه کان في امکان المهدي (ع) ان يصلي علي جثمان
[ صفحه 298]
ابيه في الخفاء قبل ان يدعي جعفر للصلاة عليه... لکي تبقي صلاة جعفر بن علي هي الصلاة الرسمية علي المستوي الخاص..الا ان هذا هو الذي لا يريده المهدي، و يحاول علي نفيه و اقامة الحجة) ضده.
انظر الآن..ان من جملة الواقفين ان لم يکن أکثرهم، هو ممن هني جعفر بالامامة قبل لحظات..يري الآن بام عينه فشل جعفر، و تتضح أمامه بدعته و مغالطته.و سوف يکون کل فرد لسانا في نقل ما رأي من الحق الي الآخرين..فقد کان ذلک بمنزلة الاعلان العام من قبل الامام المهدي (ع) في فضح مخطط عمه و احباط مقصوده.
و کان جعفر لينا في تأخره عن الصلاة..بالرغم من اصفرار وجهه، أسفا علي فشل مخططه، و خجلا من هولاء الحاضرين الذين تقبل منهم التهنئة بالامامة، من دون أن ينفيها عن نفسه...انه علي أي حال، لا يستطيع مکافحة الحق الراسخ في ضمير الامة، بسنة رسول الله (ص) و جهود الامام العسکري (ع)..فانه سيفتضح ان فعل ذلک..أکثر مما هو عليه..و سوف لن يري الا الاشمئزاز والازورار من القواعد الشعبية التي يتوقع منها التأييد.
و علي أي حال، فبعد أن تنتهي هذه الصلاة الخاصة، يحمل جثمان الامام عليه السلام للجمهور لکي تصلي عليه صلاة اخري (رسمية!) و يتم تشييعه و حمله الي مثواه الاخير. وقد دفن الي جنب ابيه الهادي عليهما السلام.
[ صفحه 299]
پاورقي
[1] انظر الارشاد ص 325 و المناقب ص 524 ج 3.
[2] انظر اعلام الوري ص 360 و الارشاد ص 324.
[3] الکامل ج 5 ص 334.
[4] انظر الارشاد ص 319.
[5] انظر الاکمال (المخطوط).
[6] انظر الارشاد ص 320.
[7] اکمال الدين (المخطوط).