بازگشت

ام المهدي


يحسن بنا، و قد عرفنا تفاصيل ابيه وجده عليهما السلام. ان نحمل فکرة کافية عن امه الراضية المرضية المجاهدة، کما وردت في التاريخ بشکل عام وفي مصادر الخاصة بشکل خاص.

کانت رضي الله عنها قبيل حملها بولدها المهدي (ع) امه مملوکة



[ صفحه 242]



جلبت بواسطة الفتح الاسلامي الذي کاح جاريا علي قدم و ساق في تلک العصور من بعض مدن الکفر الي سامراء، و دخلت في ملکية بعض أفراد اسرة الامام العسکري عليه السلام.

و کانت تسمي في ذلک المجتمع باسماء مختلفة، فهي: ريحانة و نرجس و سوسن و صقيل. و ان کان الغالب عليها بين أفراد العائلة:نرجس. و يعود تعدد اسمائها الي احد أسباب:

السبب الاول: صلة الحب و الرحمة بالجارية من قبل مالکها. فهو يناديها بافضل الأسماء لديه و اجملها في ذوقه. و لذا کان جملة منها من أسماء الأزهار. لکن لا علي أن يکون کل ذلک اسمها الحقيقي.. بل علي أساس ان يحتفظ بالاسم الحقيقي في نفسه و يناديها بأي اسم شاء.. توددا و استلطافا.. و هي تعتاد أن تجبيب مالکها عن أي اسم وقع اختياره عليه. و اذ تسامع الناس باختلاف النداء زعموا ان لها أسماء کثيرة، ووردنا في التاريخ ذلک.

کذلک کان حال الجواري المحضيات عند مواليهن... ولعله يکون منطبقا علي أم المهدي عليه السلام.

السبب الثاني: ان المجتمع في ذلک الحين، اذ کان يجلب العبد أو الأمة بطريق السبي من البلاد البعيدة التي لا يحمل عنها و عن لغتها أي فکرة محددة...و يکون للمالک حق التصرف فيه، يستخدمه و يبعيه و يشتريه..و لا يشعر بوجود شخصية هذا العبد أو ارادته، أو أن يکون في مستقبل الدهر علما من الاعلام..لکي يجب أن يحدد أسمه



[ صفحه 243]



و يرسم معالم شخصيته لکي تبقي واضحة المعالم في اذهان مورخيه. بل ان العبد حين يجلب، يعجز العربي عن نطق اسمه الاصلي غالبا، لقيامه علي لغة اجنبية لايقوي علي تلفظ کلماتها..و هو لا يهتم بأن يصنع لعبده أو امته أسما معينا، و انما حسبه ان يدعوه باللغة العربية بأي لفظ جري علي لسانه.

و من هنا تکونت عادة في ذلک المجتمع، باسباغ عدة اسماء علي العبيد..فکان ان اخذت اسرة الامام العسکري (ع) بهذه العادة، و اسبغت علي هذه الجارية عدة اسماء. حتي اننا رأينا الاسرة اذ وجدت ان اثر الحمل لا يظهر عليها، علي ما سنسمع، لم تتحاش عن اسباغ اسم جديد عليها، هو صقيل.

السبب الثالث: انها رضوان الله عليها عاشت تخطيطا خاصا، في تبديل اسمها بين آونة و اخري، و دعائها بعدة اسماء في وقت و احدأو في اوقات مختلفة..عاشت ذلک منذ دخلت هذه العائلة الکريمة، لأنها ستصبح أما للمهدي (ع) و ستري المطاردة و الاضطهاد من قبل السلطات و ستعيش في السجن مدة من الزمن...اذن فيجب القيام بهذا المخطط تجاها امعانا في الحذر و زيادة في التوقي عليها و علي ابنها، و لاجل أن يختلط في ذهن السلطات ان صاحبة أي من هذه الاسماء هي المسجونة و أي منها هي الحامل و أي منها هي الوالدة و هکذا...حيث يکون المفهوم لدي السلطات کون الأسماء لنساء کثيرات، و يغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة.



[ صفحه 244]



و هذا الاحتمال الثالث، هو-بلا شک -الاحتمال الراجح في ام المهدي (ع).

و اذ نريد ان نعرف أول مالک لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام..تواجهنا فرضيتان، باعتبار اختلاف الأخبار الواردة عن ذلک، احداهما: انها کانت ملکا للامام الهادي عليه السلام. و ثانيتهما: انها کانت ملکا لحکيمة اخت الهادي رضي الله عنها. ولکل من الفرضيتين خبر و قصة..

الفرضية الاولي: انها دخلت أولا في ملکية الامام علي الهادي (ع).وهو الذي قام بتزويجها لابنه العسکري عليه السلام.

و ذلک: ان الامام عليه السلام حين يريد ان يحصل علي زوجة ابنه: ام المهدي (ع). يدعو نخاسا من بائعي العبيد مواليا له قد علمه أحکام الرقيق و فقهه في تجارته، يدعي بشر بن سليمان النخاس...يدعوه فيأمره بالسفر من سامراء الي بغداد و يحدد له الزمان و المکان و البائع. ويصف له الجارية و بعض سلوکها. فمن ذلک: انها تمتنع من السفور و لمس من يحاول لمسها. و اذ يضر بها النخاس، تصرخ بالرومية صرخه. قال الامام: فاعلم انها تقول: واهتک ستراه!..ومن ذلک: انها تنطق العربية بطلاقة و يعطيه الامام عليه السلام صرة من النقود و کتابا ملصقا بخط رومي و لغة رومية و مختوم بخاتمه الخاص.

و يذهب بشر النخاس الي بغداد و يشاهد کل ما حدده له الامام، و رآها تدفع عن نفسها المشترين بضراوة، قائلة لأحدهم: لو برزت في



[ صفحه 245]



زي سليمان و علي مثل سرير ملکه ما بدت لي فيک رغبة..فاشفق علي مالک. فيقول بائعها النخاس: فما الحيلة و لا بد من بيعک. فتقول الجارية: و ما العجلة، و لا بد من اختيار مبتاع يسکن قلبي الي أمانته.

و هنا يقوم بشر الي بائعها و يقدم له الکتاب و يأمره بدفعه الي الجارية قائلا: انه لبعض الاشراف کتبه بلغة رومية و خط رومي، و وصف فيه کرمه و وفاءه و نبله و سخاءه. فناولها لتتأمل منه اخلاق صاحبه فان مالت اليه و رضيت به فانا وکيله في ابتياعها منک. وقد جري کل ذلک بحسب وصف الامام و امره و تخطيطه.

و اذ تقرأ الکتاب، ينقلب منها الحال انقلابا عجيبا، فتبکي بکاء شديدا، و تقول لبائعها: بعني من صاحب هذا الکتاب، فان امتنعت قتلت نفسي، و تحلف بالايمان المحرجة المغلظة علي ذلک. و اذ يري بائعها ذلک يطلب من بشر النخاس ثمنا کبيرا، فتطول المعاملة بينهما حتي يستقر الثمن علي مقدار ما في الصرة التي حملها من الامام، فيعطيه للبائع و يستلم الجارية. ويذهب بها الي الحجرة التي کان يأوي اليها في بغداد.

و الي هنا رأينا في هذه الجارية أربعة أوصاف يندر وجود واحد منها فضلا عن المجموع في جارية مسبية حديثة العهد بهذا المجتمع. و کل منها جار علي خلاف السلوک الاعتيادي للعبيد، فهي: أولا: تنطق العربية بطلاقة. وثانيا: تمتنع من السفور و تتحاشي يد اللامس. و ثالثا: ترفض أي مشتر يتقدم لشرائها، و تقترح علي بائعها أن تعين



[ صفحه 246]



هي مشتريها لأجل أن يسکن قلبها الي امانته. و رابعا: انها رغبت رغبة شديدة بالامام عليه السلام، و بکيت و هددت بالانتحار اذا لم يبعها منه. فماذا قرأت في الکتاب و کيف حصل لها معه هذه الرابطة القوية و الرغبة الأکيدة؟!.

کل ذلک يراقبه بشر النخاس و يعجب منه.و تتولد في ذهنه علامات استفهام کبيرة!و تتأکد هذه العلامات وضوحا حين رآها انها بمجردان استقر بها المقام في غرفته في بغداد..اخرجت کتاب الامام (ع) من جيبها و صارت تلثمه و تضعه علي خدها و تطبقه علي جفونها و تمسحه علي بدنها. فيقول لها متعجبا منها: اتلثمين کتابا لا تعرفين صاحبه؟!.

و اذ تجيبه عن سواله..نراها تعطيه بيانا ضافيا، عن تاريخها و أحوالها، يفسر کل تصرفاتها الحالية..نلخص منه المهم فيها يلي:

انها مليکة بنت يشوعاء بن قيصر ملک الروم. و امها من ولدأحد الحواريين المنتسب الي وصي المسيح شمعون.

و يحدث في يوم من الأيام ان يحاول جدها القيصر تزويجها من ابن اخيه، فيعقد لذلک أعظم مجالسه ابهة و جلالة و اکثرها من حيث عدد الحاضرين و أسخاها من حيث الذهب و الجواهر الموزعة علي أطراف المکان و علي العرش الموضوع الموضوع هناک المهمي ء للعريس الجديد..فبينما يصعد ابن اخيه علي هذا العرش تتساقط الصلبان و تنهار الاعمدة و يخر الصاعد علي العرش مغشيا عليه. و يتشائم القيصر و الاساقفة، و يبادره کبيرهم قائلا: ايها الملک اعفنا من ملاقات هذه النحوس الدالة علي زوال



[ صفحه 247]



هذا الدين المسيحي و المذهب الملکاني.

و علي أي حال..فهي تري في تلک الليلة فيما يري النائم انه انعقد في قصر جدها القيصر مجلس متکون من المسيح و شمعون وعدة من الحواريين. و يدخل محمد صلي الله عليه و آله و جماعة معه و عدد من بنيه فيخف المسيح لاستقباله معتنقا له فيقول له نبي الاسلام (ص): يا روح الله اني جئتک خاطبا من وصيک شمعون فتاته مليکه لابني هذا. تقول: و أومي بيده الي ابي محمد صاحب هذا الکتاب.فنظر المسيح الي شمعون فقال: قد اتاک الشرف، تصل رحمک برحم رسول الله صلوات الله و سلامه عليه قال: قد فعلت. فصعدوا ذلک المنبر و خطب محمد (ص) و زوجني من ابنه.. وشهد المسيح عليه السلام و شهد بنو محمد (ص) و الحواريون.

و علي اثر هذا الحلم يعحلق في نفسها حب الامام العسکري ابي محمد عليه السلام، بالرغم من انها تخاف ان تقص هذه الرويا علي ابيها وجدها مخافة القتل. ثم انها تصاب علي اثر حرمانها من حبيبها بمرض شديد، و يحضر لها جدها کل الأطباء فلا يفهمون من دائها شيئا. و يطول بها الداء.. فيقترح عليها جدها ان تقترح عليه شيئا ترغبه لکي ينفذ لها رغبتها عسي أن تحس بالسعادة في مرضها. فتقول له: يا جدي أري أبواب الفرج علي مغلقة،فلو کشفت العذاب عمن في سجنک من اساري المسلمين و فککت عنهم الاغلال و تصدقت عليهم و منيتهم بالخلاص..رجوت أن يهب المسيح و امه في عافية و شفاء. فينفذ لها جدها القيصر رغبتها.. فتتجلد في اظهار الصحة و تتناول يسيرا من



[ صفحه 248]



الطعام. فيسر جدها بتحسن حالتها و يزيد في اکرام الاساري و اعزازهم.

ثم انه يزورها في النام بعد أربع ليال: مريم بنت عمران و فاطمة محمد عليهما السلام. فتقوم العذراء بتعريف الزهراء لمليکه قائلة: هذه سيدة النساء أم زوجک ابي محمد عليه السلام. و اذ تعرفها مليکة تتعلق بها و تبکي و تشکو اليها امتناع ابي محمد (ع) من زيارتها فتجيبها الزهراء عليهما السلام: ان ابني ابي محمد لا يزورک و انت مشرکة بالله علي دين مذهب النصاري. ثم تأمرها بأن تشهد الشهادتين، فيدفعها الحب و الشوق الي امتثال هذا الأمر. و تدخل في الاسلام في عالم الرويا. و اذ تسمع منها الزهراء (ع) ذلک، تضمها الي صدرها و تعدها بزيارة ابي محمد لها.

و بعد ذلک يبدأ أبو محمد بزيارتها کل ليلة، بدون استثناء. قائلا لها: ما کان تأخيري عنک الا لشرکک، و اذ قد اسلمت فاني زائرک کل ليلة.. الي ان يجمع الله شملنا في العيان.

ثم ان أبا محمد عليه السلام يخبرها في بعض زياراته، بان جدها سيجرد جيشا لقتال المسلمين في موعد حدده لها. و أمرها أبو محمد (ع)-و هو يريد ان يخطط لها طريق الاجتماع به في العيان - أمرها ان تتنکر في زي الخدم و تخرج من طريق معين لتلحق بطلائع الجيش الأسلامي، ليأسروها و ينقلوها الي بلادهم. ففعلت ذلک حتي وصلت الي بشر النخاس. و انکرت في غضون ذلک شخصيتها، ولم تخبر أحدا بانتسابها الي قيصر الروم، و اذ يسألها مالکها عن اسمها تدعي ان اسمها: نرجس. اذن فهي التي



[ صفحه 249]



اختارت لنفسها هذا الاسم.

و اذ تنتهي الجارية في قصتها الي هذا الحد.. يستطيع بشر النخاس ان يفسر کل تصرفاتها، ما عدا معرفتها للغة العربية. فيسألها عن ذلک فتخبره بانه بلغ من ولوع جدها و حمله اياها علي تعلم الآداب ان عين لها امرأة ترجمان تزورها صباحا و مساء و تفيدها اللغة العربية، حتي استمر عليها لسانها و استقام.

و يذهب بها بشر النخاس الي سامراء و يدخلها علي الامام الهادي عليه السلام. فيقول لها: کيف أراک الله عز الاسلام و ذل النصرانية و شرف أهل بيت محمد (ص). قالت: کيف اصف يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني.

ثم يتصدي الامام عليه السلام لامتحانها و سبر اغوار ايمانها و معرفة درجة اخلاصها. فانظر کيف يخيرها بين العاجل و الآجل..بين الدنيا و الدين..اذ يقول لها: فاني اريد أن اکرمک: فأينما احب اليک عشرة آلاف درهم أم بشري لک بها شرف الابد.قالت: بل الشرف. و اذ وجدها الامام واعية لموقفها مضحية في سبيله بکل عال. و رخيص. قال لها: فابشري بولد يملک الدنيا شرقا و غربا و يملأ الأرض قسطا و عدلا کما ملئت ظلما و جورا. قالت: ممن؟. قال عليه السلام متسائلا: ممن خطبک رسول الله صلي الله عليه و آله؟-و عين لها الوقت - قالت: من المسيح و وصيه. قال: فممن زوجک المسيح وصيه؟ قالت: من ابنک ابي محمد. قال: فهل تعرفينه. قالت: فهل خلوت ليلة من



[ صفحه 250]



زيارته اياي منذ الليلة التي اسلمت فيها علي يد سيدة نساء العالمين، امه.

و عندئذ يستدعي الامام الهادي عليه السلام، اخته حکيمة و يأمرها بأن تأخذ نرجس الي منزلها و تعلمها أحکام الاسلام. و يقول: فاني قد زوجت ابي محمد الحسن عليه السلام و أم القائم عليه السلام. [1] .

و أود ان اعلق علي هذا الخبر بعدة تعليقات:

التعليق الأول: اننا نستطيع أن نعين تاريخ شراء الجارية و زواج الامام العسکري (ع) بها.فانه کان في زمان الامام الهادي عليه السلام، و قد أراد ان يزوج ابنه الحسن عليه السلام قبل ان يتوفي عام 254. ليولد من هذه المرأة الجليلة مهدي هذه الامة القائم بدولة الحق. وسيأتي ان ولادة المهدي (ع) کانت بعد وفاة جده الهادي (ع). فاذا استطعنا ان نعرف انه نعرف انه لم يمر زمان طويل بين زواجها و ولادتها، أکثر من المقدار الضروري للحمل و الولادة، عرفنا ان زواجها کان في نفس هذا العام: 254.

التعليق الثاني: انه قد يورد علي هذا الحديث بعض الاعتراضات التي يمکن الجواب عنها علي أصولنا الأعتقادية، و يبقي الجواب عنها عند من لا يومن بهذه الأصول معلقا علي التسليم بها. علي اننا سنقول اننا غير ملزمين باعتبار هذا الخبر اثباتا تاريخيا کافيا.

الاعتراض الأول: انه متضمن لعلم الامام الهادي عليه السلام بأمور



[ صفحه 251]



غائبة غير منظورة. في حين ان الغيب لا يعلمه الا الله تعالي.

و الجواب علي ذلک: انه بعد فرض ثبوت امامته، يکون ذلک ممکنا في حقه. و نحن لا ندعي علمه بالغيب مباشرة کعلم الله عزوجل. و انما ندعي ان الامام اذا أراد أن يعلم شيئا اعلمه الله تعالي اياه، کما نطقت بذلک بعض الأخبار.

و المصلحة الرئيسية من الناحية الاجتماعية، في ذلک هي ان الامام قائدا لأمة و رئيس لدولة و موکول اليه تطبيق العدل الاسلامي الالهي علي البشرية. فاحسن طريق لنجاح عمله و قيادته، من الناحيتين النظرية و العملية معا، هو ان يکون ملهما مسددا موفقا من قبل الله تعالي. و کيف لا، و هو منصوب لتطبيق أعلي أهداف الاسلام و ممثل لأحد أيام الله الکبري التي اخذها الله تعالي بنظر الاعتبار في کونه.

الاعتراض الثاني: ان الايمان بمضمون هذا الحديث، متوقف علي الايمان بالاحکام. و هو خرافة من الخرافات.

و الجواب عن ذلک: يکون باحد أمور ثلاثة:

اولا: ان ما هو الخرافة، هو الايمان المطلق بصدق جميع الاحکام، و هذا لم يقل به مفکر، و لا هو الذي ندعيه و لا يتوقف عليه صحة هذا الحديث. و انما الشي ء الذي لاشک فيه هو صحة بعض الاحکام و تحققها في الواقع. و هذا أمر ضروري لمن راجع حوادث الحياة و نظر في الکتب المولفة في ذلک کدار السلام للحاج ميرزا حسين النوري و الاحکام للدکتور علي الوردي. و غيرها.



[ صفحه 252]



اذن فمن الممکن أن يکون هذا المذکور في الحديث أحد الاحلام المطابقة للواقع، و خاصة بعد ان اتصف بحوادث و مميزات لا تعدو عالم الحياة و العيان. فلو صلحت هذه الرواية للاثبات التاريخي لم تکن هذه الجهة موجبة لضعفها أو الطعن فيها.

ثانيا: ان هناک فکرة تقول: بان روية النبي (ص) و الأئمة المعصومين (ع) في المنام لا يمکن أن تکون کاذبة.لأن المنام الکاذب من الشيطان و الشيطان لايمکن أن يتصور بصورة النبي أو الامام. و يستشهد لذلک بما نسب الي النبي (ص) من قوله: من رآنا فقد رآنا:و يقول الامام العسکري عليه السلام لأحد أصحابه في المنام أيضا: و أعلم ان کلامنا في النوم مثل کلامنا في اليقظة. [2] .

فاذا تمت هذه القاعدة- والله العالم بحقيقتها- لم يکن بالامکان ان يقال: بان ذلک الحلم الذي وجد فيه رسول الله (ص) و الأئمة عليهم السلام بما فيهم الامام العسکري (ع)، أو هو مستقلا حين کان يأتيها کل ليلة...حلم کاذب.

ثالثا: اننا غير مضطرين لأن نلتزم من هذا لاحديث بحرفيه الرويا. بل يمکننا ان نحمله علي نحو من الرمزية و نقول: ان أم المهدي عليه و عليهما السلام، کانت و هي في بلادها الأولي کانت مهملة بشکل غامض بعض خطوط مستقبلها و الحنين اليه،بمقدار -بحيث انها حين و اجهت هذا المستقبل احبتة و اخلصت له.



[ صفحه 253]



و هذه مصلحة الهية عظيمة، باعتبار ما يعلمه الله تعالي من کونها اما للمهدي عليه السلام، و ما سوف تري في سبيل ذلک من الضغط و المطاردة و العذاب. اذن فهي تحتاج الي الهام خاص -ولو بشکل لا شعوري غامض -يوجب تربيتها و توجيه عواطفها بالشکل المخلص المومن. فانها، لو کانت مجردة عن هذا الالهام و کانت مشتراة من السوق من دون اخلاص سابق و تربية داخلية، لأمکن لها ان تجزع من التعذيب فتبوح بأمر ولدها، و يودي الحال الي القاء القبض عليه و قتله. و هو ما لا يريده الله تعالي أن يکون..کيف؟. وقد ذخره الله عزوجل بقدرته الکبري لمستقبل الاسلام وارساء قواعد الحق.

أما انکار وجود الالهام کحقيقة کونية الهية، تتحقق بارادة الله تعالي عند وجود المصلحة..فهذا التکذيب للقرآن اذ ينسب الالهام الي النحل قائلا: واوحي ربک الي النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر و مما يعرشون. ثم کلي من کل الثمرات، فاسلکي سبل ربک ذللا. [3] و ينسب عزوجل هذا الالهام ببعض مراتبه الي الانسان اذ يقول عز من قائل: فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام، و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا کانما يصعد في السماء. [4] .

اذن فلتکن الظاهرة التي احست بها و عاشتها ام المهدي، شکلا من اشکال الالهام.



[ صفحه 254]



الاعتراض الثالث: ان هذا الحديث دال علي ان اسلامها و زواجها کان في عالم الرويا. و هو مما لايمکن ان يعترف بشرعيته و قانونيته.

و الجواب عليه: ان هذا الحديث و ان کان دالا علي ذلک، الا اننا لا ندعي الاکتفاء به بطبيعة الحال. و انما اصبحت مسلمة في عالم اليقظة و العيان...أما حال وجودها في بلادها الاولي بعد ان اعتقدت بصحة الطيف و مطابقته للواقع، فاستيقظت معتقدة للاسلام. أو انها اسلمت حين قالت للامام الهادي عليه السلام: يا ابن رسول الله.. فان هذا الوصف متضمن للاعتراف بالاسلام بکل وضوح، أو انها اصبحت مسلمة حين علمتها حکيمة تعاليم الاسلام امتثالا لامر اخيها عليه السلام، و علي أي حال فقد تم اسلامها قبل زواجها من الامام العسکري (ع).

و اما ما قد يخطر علي البال من انها اذا کانت قد بقيت غير مسلمة في عالم اليقظة و العيان حتي حين وصولها الي سامراء، فکيف زارها الامام أبو محمد (ع) في المنام..فجوابه: ان هذا کلام من يومن بالاحلام..و أما من لايومن بها لا يعتبر الزيارة في عالم الرويا شيئا يوخذ بنظر الاعتبار.و معه فنقول للمومن بالاحکام المتکلم بهذا الکلام: ان زيارة الامام في المنام يکفي فيها الاسلام في المنام! و أما لقاء العيان و اليقظة فيحتاج الي اسلام حقيقي في عالم اليقظة.

و أما زواجها، فلم يکن ما وقع منه في المنام کافيا أيضا، و انما تم بانشاء الامام الهادي (ع) لعقد الزواج حين قال: -کما نطق الحديث-:فاني قد زوجت ابا محمد الحسن عليه السلام و أم القائم عليه السلام.



[ صفحه 255]



بعد ان احزر رضاها و رضاه. و هو وليهما و ولي المومنين.

الاعتراض الرابع: ان هذا الحديث دال علي تساقط الصلبان و انهيار الاعمدة، من دون سبب ظاهر. فکيف کان ذلک؟

و الجواب عن ذلک: انه مما لا شک فيه، من الناحية الاسلامية، ان ما يعتقده المسيحيون أصبح بعد بعثة نبي الاسلام (ص)، باطلا و المقيم عليه ضالا مضلا.و ان مقتضي الهداية الي الصراط المستقيم هو الاهتداء بنور الاسلام و الاعتقاد بعقائده و الالتزام بعدله.

فمن الممکن القول: ان هذا الذي حدث، هو معجزة الهية حدثت للتوصل الي غرضين: احدهما: استنکار بقاء هولاء علي المسيحية مع امکانهم الدخول في الاسلام و معرفتهم بوجوده، فان الأولي بمصالحهم ان ان يعتنقوه لا ان يحاربوه؛ ثانيهما: استنکار زواج هذه الامرة من ابن عمها، فانها مقدرة في علم الله الأزلي لأن تکون زوجة للامام العسکري و اما للمهدي. لا ان تکون کما يشاء جدها زوجة لأبن اخيه. بحدوث هذه المعجزة يحصل في قلوبهم تشاوم من حصول هذا الزواج، فلا يقومون به. کما قد اعرضوا عنه فعلا.

الاعتراض الخامس: ان هذه الرواية تدل علي شيئين متنافيين. فبينما ننص في أولها علي ان الامام الهادي (ع) هو الذي کتب الکتاب الذي حمله بشر النخاس الي الجارية...نراها تدل بعد ذلک علي ان کاتبه هو الامام العسکري (ع). کقولها: و أومأ بيده الي أبي محمد صاحب هذا الکتاب. و قولها: بعني علي صاحب هذا الکتاب.



[ صفحه 256]



و الجواب عن ذلک: ان الرواية دلت علي ان کاتب الکتاب هو الامام الهادي (ع).الا انها دلت في عين الوقت ان هذه الجارية کانت تتوهم ان کاتبه هو فتي احلامها و زوج مستقبلها الامام العسکري عليه السلام.و ليس بين الامرين أي تنافي. ولا نعلم ان ما في الکتاب يدل علي تحديد شخصية کاتبه حتي تعرفه بذلک.

اذن فليس شي ء من هذه الاعتراضات وارد علي هذا الحديث و مضعف لدلالته و ما يعرب عنه من حديث و تاريخ. و انما الاعتراض الوحيد الذي يمکن صدقه، هو ان هذا الحديث ضعيف من ناحية اثباته التاريخي، باعتبار کونه مجهول الرواة ضعيف السند.

التعليق الثالث: الذي نعلقه علي هذه الرواية:

ان هذه الرواية مهملة من حيث التاريخ. و نحن و ان اتطعنا ان نعرف وقت شراء الجارية الا انه لا يمکن تحديد وقت هذا القتال الذي وقع بين الروم و المسلمين.و ذلک القتال الذي أصبحت مليکة نتيجة له اسيرة للمسلمين. کما انه لا يمکن تحديد مکانه علي وجه التعيين، فان سائر أطراف الدولة الاسلامية کانت مسرحا لحروب و مناوشات و فتوحات في ذلک العصر.و أغلبها کان بين الروم و المسلمين.

فان لفظ الروم کان يستعمله العرب في ذلک الحين بشکل مجمل واسع المعني. فانهم کانوا يصطلحون بهذا اللفظ علي کل بلاد مسيحية خارج حدود بلاد الاسلام. و هذا معني شامل لکثير من مناطق الأرض. فهو يشمل سوريا و لبنان و ترکيا قبل فتحها الاسلامي، ثم



[ صفحه 257]



يستمر الي ما وراءها شمالا مما هو الآن تحت حکم الاتحاد السوفييتي. وقد دخل قسم منه في الاسلام و بقي الکثير منه مسيحيا الي حد الآن. کما يمتد هذا اللفظ غربا ليشمل اوروبا کلها بما فيما اليونان و ايطاليا و فرنسا و اسبانيا و صقلية و غيرها مما کان معروفا يومذاک. و کانوا اذا أرادوا التدقيق في التعبير عن اوروبا، قالوا: الفرنجة أو الافرنج، تمييزا لها عن سائر بلاد الروم. و هو أيضا لفظ مجمل يشمل کل أقطار اوروبا تقريبا.

لا يستثني من لفظ الروم، بحسب اصطلاحهم..من وجه العالم المعروف يومئذ، الا ما کان في شرق بلاد الاسلام: کالهند و الصين و ما کان في جنوبها کافريقيا.

و الصحيح تاريخيا ان الروم هم شعب دولة روما، التي هي الآن عاصمة ايطاليا، و کان الاسم الرسمي للملک عندهم هو القصير. وهي دولة استطاعت ان تسيطر علي رقعة ضخمة من العالم...من حوض البحر الأبيض المتوسط. کالشمال الافريقي و اليونان و ترکيا و سوريا و لبنان و فلسطين، حتي کانت تسمي کل هذه المناطق بدولة الروم، و من هنا وقع الاجمال و الاختلاط في معناه لدي الناس في تلک العصور... وحتي کانت العاصمة لهذه الدولة الجبارة هي القسطنطينية، و هي ليست في ايطاليا، و غير قريبة من روما!و انما تقع في الجزء الاوروبي من ترکيا فعلا. و تسمي اليوم باستانبول. و کان لسقوطها بايدي الجيش الاسلامي من الاهمية و (الاستراتيجية) الشي ء الکثير. اذ يعني



[ صفحه 258]



انحسار الحکم الرومي عن بلاد الشرق و انکماشه في داخل اوروبا المسيحية.

وعلي أي حال، فانه يمکن ان يفهم من هذه الرواية ان الملک نفسه کان خارجا مع جيشه للحرب، و هو ما کان يحدث فعلا في الحروب المهمة الواسعة. فبذلک يمکن أن نلتفت الي الحادثة التي ينقلها التاريخ العام في سنة 249، حيث نزل ملک الروم بنفسه الي الحرب مع خمسين القا، و حصل بينه و بين المسلمين قتال شديد، قتل فيها من الفريقين خلق کثير. [5] فالمظنون ان هذه هي الحادثة المشار اليها في الحديث.

و کان الامام العسکري عليه السلام في هذا العام، عمره سبعة عشر عاما، يعيش تحت ظل ابيه عليه السلام ثم أن ام المهدي عليه السلام بعد ان سبيت في الحرب بقيت عند مالکها حتي عام 254 حين أراد بيعها، فاشتراها الامام عليه السلام ليزوجها من ابنه عليه السلام. و الرواية علي أي حال، لا تدل علي سرعة بيعها بعد الامر، و ان کان المفهوم منها بشکل عام، هو ذلک. والله العالم.

الفرضية الثانية: ان المالک لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام، هو حکيمة اخت الامام الهادي (ع).

و هذه فرضية بسيطة و مختصرة، تکفينا في الاثبات التاريخي ان لم تکفنا الفريضة الأولي، و لم نقتنع بمدلول ذلک الخبر. و الخبر الوارد في هذه الفرضية يهمل بالکلية التعرض لأصل هذه الجارية أو ترجمة



[ صفحه 259]



حياتها أو تاريخ ورودها الي بلاد الاسلام أو تاريخ شرائها.

و انما يبدأ الحديث انه في يوم من الايام يزور الامام العسکري عليه السلام عمته حکيمة رضي الله عنها؛فيري جاريتها فيحد النظر اليها. فتقول له:يا سيدي لعلک هويتها أفارسلها اليک. فينغي الامام عليه السلام الهوي الجنسي عن نفسه، فانه مناف لمقام الامام و عصمته، و يعطي السبب المنطقي الصحيح لعمله. و ذلک انه اجاب عمته قائلا: لا يا عمة، و لکني اتعجب منها. فقالت له: و ما اعجبک؟. فقال عليه السلام:سيخرج منها ولد کريم علي الله عزوجل الذي يملأ الله به الأرض و عدلا و قسطا کما ملئت ظلما و جورا. فقالت له: فارسلها اليک يا سيدي. فيوقف الامام العسکري (ع) ذلک علي اذن ابيه، قائلا: استأذني في ذلک ابي.

قالت: فلبست ثيابي و اتيت منزل ابي الحسن عليه السلام. فسلمت عليه و جلست. فبدأني و قال:يا حکيمة ابعثي نرجس الي ابني ابي محمد.قالت: فقلت: يا سيدي علي هذا قصدتک.. ان نستأذنک في ذلک. فقال لي: يا مبارکة، ان الله تبارک و تعالي أراد ان يشرکک في الاجر و يجعل لک في الخير نصيبا.

و تبادر العمة الي الرجوع الي منزلها، و تقوم بتزيين نرجس و تهبها لأبي محمد عليه السلام. و تجمع بينه وبينها في منزلها. فيقيم الامام عندها اياما، حتي يتوفي والده عليه السلام بعد ايام، فينتقل الامام العسکري (ع) مع زوجته الي دار ابيه. [6] .



[ صفحه 260]



وهذه الرواية تتفق مع سابقتها علي عدة خصائص، منها: ان ام المهدي عليه السلام کانت جارية مملوکة، و ان اسمها نرجس و ان زواج الامام العسکري کان في حياة ابيه و اذنه. و لذا نستطيع ان نعتبر اتفاقهما علي ذلک اثباتا تاريخيا کافيا له. الا ان هذه الرواية تعين وقوع الزواج في الأيام الاخيرة من حياة الامام الهادي (ع).و لم يکن هذا واضحا من الرواية السابقة.

و ليس علي هذه الرواية من اعتراض من الناحية الشکلية، الا اعتراض واحد، و هو ان الامام العسکري (ع) حين زار عمته کيف جاز له ان يحد النظر الي جاريتها مع انها ليست زوجته و لا مملوکته في ذلک الحين. ويأتي الجواب واضحا بسيطا، و هو انه نظر اليها باذن مالکتها. والمالک اذا اذن لشخص في النظر الي مملوکته جاز للمأذن له النظر شرعا في حدود اذن المالک.

و هذا وان لم يذکر في الرواية الا انه أخذ مفروض التحقق في الرواية، للتسالم الواضح في المجتمع المسلم علي عدم جواز النظر الي مملوکة الغير الا باذنه. لذا کان من الواضح في ذهن الراوي ان السامع المسلم سوف يفهم تلقائيا وجود الاذن في النظر...و من هنا اهمله من سرده من لفظ الرواية.



[ صفحه 261]




پاورقي

[1] انظر اکمال الدين للشيخ الصدوق (نسخة مخطوطة). و انظر الغيبة للشيخ الطوسي: ص 124 و ما بعدها المناقب ج 3 ص 538 و ما بعدها.

[2] المناقب ج 3 ص 534.

[3] السورة 16: 69-68.

[4] السورة 125:6.

[5] الکامل ج 5 ص 312.

[6] انظر اکمال الدين..نسخة مخطوطة.