بازگشت

تمهيد


اننا حين نريد أن نستوحي تاريخننا الاسلامي الخاص، نجده بشکل عام، غامضا مليئا بالفجوات و العثرات. يحتاج في تصفيته و ترتيبه، و أخذ زبدته المصفاة و العبرة المتوخاة الي جهد کبير و فکر مضاف جليل.

و هذا يعود الي عدة أسباب، لعلنا نستطيع أن نلم ببعض جوانبها المهمة فيما يلي:

الجانب الأول:

ما يرجع الي واقع التاريخ المعاش آنذاک..أي أن نفس حوادث التاريخ و تحرکات أعلامه، کان مقتضبا غامضا مقيدا.



[ صفحه 20]



وذلک:أن أئمتنا عليهم السلام، کانوا يمثلون علي طول الخط، دور المعارضة الاسلامية الصامدة، ضد خط الجهاز الحاکم الذي يمثل الانحراف عن تعاليم دينها القويم، بقليل او بکثير. فان الحکم و ان کان قائما علي اسم الاسلام، ولم يکن الخليفة ليتسنم مرکزه الکبير، الا باعتباره خليفة الرسول (ص) و الخلفاء الراشدين من بعده. الا ان شخص الخليفة، اذ لم يکن قد تفهم الاسلام علي حقيقته أو تشرب روحه و ميزان عدله؛ فکان يمارس الحکم علي مقدار فهمه، و أفق تفکيره، مضافا الي سيطرة الآخرين علي کثير من مراکز الدولة الحساسة، ممن لا يفضلون علي الخليفة نفسه، بالوعي و الروح، وليسوا في حال يحسدون عليه من هذه الناحية.

فکان موقف أئمتنا عليهم السلام، ضد الجهات الحاکمة رأيا و تطبيقا، موقفا حازما صارما، مستمدا من حکمة الله تعالي وقوته و توفيقه. فکان لهم موقفان أساسيان، لا ترتاح اليهما الجهات الحاکمة:

الموقف الأول:

مطالبتهم الدائمة، نظريا -علي الأقل - بمنصب رئاسة الدولة الاسلامية و تولي الامامة في الأمة المرحومة، و قيام کيان الأئمة عليهم السلام في تابعيهم و قواعدهم الشعبية الموسعة، علي ذلک.

فکان هذا مما يهدد الخلافة الأموية و العباسية في الصميم، و يقض مضاجع الخلفاء، و يجعلهم حذرين کل الحذر مما يقوم به الأئمة من



[ صفحه 21]



أفعال و ما يصدر عنهم من أقوال، و يجعلونهم، دائما، تحت المراقبة و الاحتياطات المشددة، بما يملک الحکم من سيطرة و نفوذ.

الموقف الثاني:

مما يرجع الي الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر، و الاصلاح في أمة جدهم رسول الله (ص)، نتيجة للظلم و الانحراف و الحروب المنحرفة و المصالح الشخصية، التي کانت نافذة المفعول في المجتمع، و الذي خلف - في أغلب فترات التاريخ -بوسا اقتصاديا و تخلفا اجتماعيا موسفا.

فکان الأئمة (ع) يحسون بواجبهم، و يشعرون بمسووليتهم، بصفتهم المثلين الحقيقيين لنبي الاسلام (ص)، علي ما يعتقدون -علي الاقل- تجاه اصلاح الفاسد و تقويم المعوج في الامة الاسلامية، بمقدار امکانهم و الفرص التي کانت تسنح لهم في خلال الايام.

وهم في کل ذلک، کانوا يتوخون ما تقتضيه المصلحة الاسلامية العليا في ذلک الحين، بما يواجه المجتمع من مشاکل و الدولة من أزمات. فکان موقفهم، تجاه صراع الدولة الاسلامية، بما فيها الجهاز الحاکم، مع الکفر، و مع الاخطار المحدقة بالمسلمين، من قبل الاعداء، ماديا و عقائديا، موقف المويد للجهات الحاکمة، تاييدا محترسا مقتضبا، خشية أن تقع هذه الجهات في الانحراف، حتي في هذا الحقل نفسه.



[ صفحه 22]



و کان موقفهم، تجاه المشاکل الداخلية، للدولة الاسلامية، تلک المشاکل التي کان يثيرها حکام أو جماعات منحرفة في الداخل، موقف المراتب و المصلح و الناصح. ولم يکن مثل هذا الموقف بسائغ في نظر سائر الحکام من خلفاء و وزراء و قضاة. و کانوا يتقون من ذلک و يحذرونه بعمق، و يجعلون الاحتياطات المشددة أيضا ضده.

فکان هذان الموقفان الاسلاميان من ائمتنا (ع)، مثيرا لحقد الجهاز الحاکم عليهم و تحذره منهم، قولا و فعلا، و بالطبع فان الأئمة (ع) کانوا يعلمون بمقدار الامکان؛ و عند وجود الفرص السانحة؛آخذين بنظر الاعتبار هذا الضغط المتزايد الوارد اليهم و الموجه عليهم. فکان هذا الضغط موجبا لکفکفة نشاط الأئمة (ع) و قلة اصلاحاتهم و ضا لة تأثرهم، بالنسبة الي الحاجات الکبري للمجتمع.

و من ثم کان أئمتنا (ع) يقتصرون في غالب نشاطاتهم، علي الدوائر الخاصة من أصحابهم، وفي حدود ارتفاع الضغط، أو قلته أو المخاتلة معه، و کانت تتسع هذه الدائرة، أو تضمر أو بحسب الظروف التي يمر بها الامام (ع) و تتناسب کثرتها عکسيا مع ضعف الجهاز الحاکم.

فکان اذا ضعفت الخلافة، ووهي جانبها ينفتح أمام الامام (ع) في ذلک العصر، فرصة العمل و الجهاد و الدعوة کما حدث في زمن الامام الصادق جعفر بن محمد (ع) الذي عاش في عصر تحول الدولة الاسلامية من الخلافة الاموية الي العباسية. فاشتغل ببث العلوم



[ صفحه 23]



الاسلامية و التعاليم الالهية علي أوسع نطاق. و کان اذا قويت الخلافة أو قوي صنائعها و المنتفعون منها، فانه ينغلق أمام الامام (ع) في ذلک العصر، فرص العمل و الجهاد و الدعوة، الا في أضيق الحدود. کما حدث في العصر الذي نورخه، حيث سيطرت الموالي و جماعة الأتراک علي الحکم؛ و جعلوا الأئمة (ع) تحت أشد الرقابة و أعمق الحذر.

و الموقف نفسه، کان هو موقف أصحاب الأئمة (ع) و المجاهدين بين يديهم. فانهم ان توسع امامهم (ع) في العمل توسعوا و ان ضيق ضيقوا؛ وکان الامام (ع) ينهي أصحابه، في أوقات الشدة و الضيق، عن التصريح بما يخالف القانون السائد و الوضع القائم.

و الامام (ع) بشخصه، بصفته الرئيس الفعلي، لقواعد الشعب کبيرة، يکون -علي کل حال -في حصانة جزئية عن التنکيل الفعلي المکشوف من قبل الحاکمين، لئلا يثيروا عليهم الرأي العام والشعب باکمله آخذين بتظر الاعتبار، نظر التقديس و الاجلال الذي کان ينظره الناس الي أئمة الهدي (ع)، ذلک النظر الذي اجمع المسلمون علي صحته و صوابه و اخلاصه، و ان کان جملة منهم، لا يومنون بأمامتهم. ومن ثم کان الامام في حصانة جزئية من التنکيل الفعلي الصريح و هذا هو الذي کان شأن الأئمة (ع) من الامام الرضا الي الامام العسکري عليهم السلام. مضافا الي أن سياسة الخلفاء قامت بالنسبة الي الامام الجواد (ع) و من بعده، الي تقريبهم للبلاط، واسکانهم في



[ صفحه 24]



بروج عاجية، توخيا الي فصلهم التام عن قواعدهم الشعبية، و نشاطهم الجهادي، علي ما سيأتي تفصيله.

ولئن کان موقف الائمة، محصنا من الناحية الشکلية، الا ان موقف أصحابهم و تابهعيهم، ومن عرفه الحکام بالولاء لهم، کانوا يذوقون سوط العذاب، الا أن يتقوا منهم تقاة. فکان أقل ما يلاقيه الفرد منهم العزل الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي.

فينتج من ذلک -بکل وضوح -أمران:

الأمر الأول: ضالة النشاط السياسي و الاجتماعي، من قبل الأئمة (ع) و أصحابهم؛ ذلک النشاط الذي لو کان موجودا لفتح آفاقا تاريخية واسعة، بقيت مطوية و غامضة أمام من يأخذ التاريخ من زاوية موضوعية محضة.

الأمر الثاني:

ان جملة من أعمال الأئمة(ع) و أصحابهم و أقوالهم، کانت سرية بطبيعتها و أصل ظروف وجودها، بحيث لم يکن ليتجاوز خبرها الاثنين أو الجماعة القليلة، و کانوا يتبانون علي ستره و کتمانه بأمر من الامام عليه السلام، و لم يکن مما يکتب علي صفحات التاريخ. شأن کل حزب سري معارض ينزل الي حلبات الجهاد.

الجانب الثاني:

ما يرجع الي معرفتنا بذلک التاريخ و مقدار اطلاعنا عليه و هو



[ صفحه 25]



الذي يمثل الصورة التي أعطاها المورخون في کتبهم عن تلک الفترات و هل هي مطابقة للواقع أم لا، و بأي مقدار کانت سعة الصورة و دقتها و عمقها؟! و الي أي مدي کان فهم المصور المورخ و استيعابه للاحداث، و لما وراءها من فلسفة و علل و نتائج.

لعل من مستأنف القول... الخوض في البحث الذي يذکر عادة للطعن في أصل التاريخ و کيفية جمعه و ترتيبه، و يذکر لذلک عدة وجوه.

الوجه الاول:

ان المورخ ليس الا بشرا مثلنا، له ما لنا من جوانب القوة، و عليه ما علينا من نقاط الضعف، و المشاهد بيننا بالوجدان، بان قضية ما قد تقع في البلدة مثلا يشاهدها المئات أو الآلاف، الا أننا نسمع من کل فرد شاهد عيان نقلا لحوادثها يختلف عن نقل الآخر بقليل أو بکثير، حتي انه قد يصل الفرق الي حد التناقض.

هذا في المشاهدين، فکيف الحال في النقل و الرواية، فان الحال تزداد سوءا، ولا يکاد يبقي للحادثة المروية جسم. ولا روح. هذا في البلد الواحد، و المشاهدين الکثيرين، فکيف في بعد الزمان و تفرق المکان و قلة المشاهدين و طول سند الرواية، کما هو متوفر في کتب التاريخ المتوفرة.

الوجه الثاني:

ان المورخ، کأي انسان، ليس الا مزيجا غريبا من مجموعة من



[ صفحه 26]



عواطف و غرائز و عقائد و مسبقات ذهنية و عادات حياتية. و لا يمثل العقل و الفکر منه الا بعضها من هذا المزيج، و المورخ و ان کان يتخيل و يفترض أنه يکتب تاريخه بعقله و فکره، الا أن هذا واضح البطلان، و انما هو يکتب تاريخه بمجموع عواطفه و سائر مرتکزاته، و بخاصة في الحوادث التاريخية التي تقترن بخلاف بين جماعتين، أو بعواطف معينة.

الوجه الثالث:

ان هناک نحوين من الملاحظة، بحسب الاصطلاح العلمي -أو لهما:طريقة الملاحظة المنظمةالتي يتعمد الباحث فيها النظر و يتقصي الحقائق حول حادثة معينة أو عدة حوادث حين وقوعها. ثانيهما: الملاحظة المشوشة غير القائمة علي التنظيم و التعمد، کالتاجر يذهب ألي بلد معين ليستورد منها البضاعة، أو السائح يذهب اليه ليشاهده، و حين يعود، يسأل عن ذلک البلد، و عن حقائقة و وقائعه،في حين انه قد شاهدها صدفة و أحس بها احساسا عشوائيا، و لم يتعمد فهمها، و لا التفکير فيها علي وجه الخصوص.

و التاريخ مدون عادة بالنحو الثاني من الملاحظة. لأن الأشخاص الذين کانوا يعيشون تلک الأزمنة، انما عاشوها بصفتها حياة عادية، لا يعيدون فيها النظر و لا يتعمقون في أسبابها و نتائجها. ثم يأتي الراوي منهم الي المورخ ليعطي له ما علق في ذهنه من هذا الخضم الزاخر الذي عاشه في حياته، مما قد مر أمامه مرورا عابرا.



[ صفحه 27]



لا اريد أن أدخل في البحث عن هذه المشکلات، فاننا ينبغي أن نکون فارغين عن أجوبتها قبل الدخول في البحث التاريخي، و الا فالأولي لمن يومن بحر فية هذه المشکلات و صدقها، ألا يحاول قراءة أي حرف من التاريخ.



[ صفحه 28]