من موقفه تجاه الغيبة
احتجابه عن الناس، الا عن خاصة أصحابه، و ايکال تبليغ الأحکام و التعليمات الي اسلوب المکاتبات و التوقيعات بينه و بين أصحابه، و أزجاء حاجاتهم بواسطة عدد من خاصته.
[ صفحه 222]
لأنه عليه السلام کان يعلم ان المنهج العام لابنه المهدي (ع) في غيبته الصغري سيسير علي هذا النسق، و هو أحتجاب شخص الامام مع ايصال التعليمات بواسطة الخاصة. و هو أمر-کما قلنا- قد يبدو غريبا علي الأذهان اذا بدأه المهدي عليه السلام بدون سابقة، و لعل مضاعفات غير محمودة تنتج من استغراب الناس من ذلک. اذن فلا بد من اتخاذ منهج خاص لتهيئة الذهنية العامة لاستساغة هذا الأسلوب و حسن تقبله.
أما جعل الوکلاء و ايصاء الناس بالرجوع اليهم في مسائلهم و مشاکلهم فهو مما اعتاد عليه الناس ردحا من الزمن، تحت ظل آبائه عليهم السلام. فانه لم يکن الارتباط بالبلاد البعيدة ذات القواعد الشعبية الموالية الا عن هذا الطريق. و انما تنحصر المشکلة في الاحتجاب و مخاطبة الناس -علي طول الخط-عن طريق المکاتبات و قبض الأموال -علي الدوام -عن طريق الوکلاء و هو الأمر الذي ينبغي تهيئة الذهنية العامة له وزرعه في المجتمع من جديد.
و کان قد بدأ بالتخطيط لذلک -بعض الشي ء- الامام الهادي عليه السلام،ليکون تعودهم علي هذا المسلک تدريجيا بطيئا موافقا للفهم العام لدي الناس. روي المسعودي [1] ان الامام الهادي عليه السلام کان يحتجب عن کثير من مواليه الا عن عدد قليل من خواصه. و حين افضي الأمر الي الامام الحسن العسکري عليه السلام، کان يتکلم من
[ صفحه 223]
وراء الستار مع الخواص و غيرهم، الا في الأوقات التي يرکب فيها الي دار السلطان.
و نحن في حدود التاريخ الذي استعرضناه، قد نجد في عبارة المسعودي شيئا من المبالغة، بعد ان وجدنا الامام العسکري، يذهب الي دار السلطان (البلاط) کل اثنين و خميس و يزور الوزير عبيدالله بن خاقان ويزور أصحابه في السجن..و نحو ذلک. الا اننا الي جانب ذلک، حملنا من تاريخه عليه السلام فکرة واضحة، عن سيره علي هذا المخطط و اتصاله باصحابه عن طريق الکتب و المراسلات.حتي اعتاد أصحابه علي ذلک و أصبح المفروض عند مواليه ان الأتصال به و السوال منه لا يکرن الا عن طريق المراسلة. وقد مرت بنا کثير من الشواهد علي ذلک.
فهذا تختلج في صدره مسألتان يريد الکتاب -الکتابة-بهما اليه عليه السلام [2] و أبو هاشم الجعفري يکتب اليه شاکيا ضيق الحبس و کلب الحديد. [3] و الامام يکتب الي أصحابه مبشرا لهم و محذرا بموت المعتز [4] أکثر من مرة و بموت المهتدي [5] أيضا و مخبرا لهم عن موت الزبيري [6] و يکتب لهم عن رأيه في صاحب الزنج و عن وصفه لقضاء المهدي القائم في دولة و يعطي لمحمد بن ابراهيم خمسأة درهم و لابيه
[ صفحه 224]
ثلثمأة من وراء الباب بواسطة غلامه. [7] و قد سبق ان سمعنا کل ذلک.و شواهده أکثر من أن تحصي.
ولاجل ذلک يدخل عليه أحمد بن اسحاق، وهو من خاصته، فيطلب اليه ان يکتب لينظر الي خطه فيعرفه عند وروده ليکون آمنا من التدليس و التزوير. فکتب له الامام (ع) في ورقة. ثم يلفت نظره الي احتمال تغير القلم في کتاباته عليه السلام،قائلا: يا أحمد أن الخط سيختلف عليک ما بين القلم الغليظ و القلم الدقيق. فلا تشکن. [8] .
و کان غاية أمل جمهور مواليه في رويته عليه السلام.. هو الجلوس في الطريق، في وقت مروره ذاهبا الي البلاط و راجعا منه. فمن ذلک مما سمعناه من مجي ء الوفد من الأهواز و مقابلته في الطريق حين رجوع موکب المعتمد من توديع الموفق حين خروجه لحرب الزنج.
و سمعنا عن ذلک الشخص الذي اثرت فيه شبهة الثنويه، فلقيه الامام في طريق رجوعه من زيارة البلاط و أشار اليه بسبابته: أحد أحد.
و يجلس شخص من الموالين للامام عليه السلام، في أحد الشوارع فيري الامام مارا حين خروجه من منزله قاصدا مجلس الخليفة. فيفکر في نفسه انه لو صاح الآن باعلي صوته معلنا بالحق الذي يعتقده مصرحا بامامة هذا الامام علي البشر اجمعين، فماذا سوف يحدث؟!
[ صفحه 225]
قال الراوي: فقلت في نفسي: تري ان صحت: ايها الناس هذا حجة الله عليکم،فاعرفوه. يقتلوني؟..فلما دنا مني أوما باصبعه السبابه علي فيه أن اسکت. ثم يراه هذا الرجل فيما يري النائم محذرا له من القتل و موجبا عليه الکتمان قائلا: انما هو الکتمان أو القتل، فاتق الله علي نفسک. [9] .
و مما يندرج في هذا الصدد افهامه عليه السلام لأحد أصحابه و هو راکب في الطريق..بالاشارة انه يرزق ولدا و لکنه ليس بذکر..فولدت زوجته ابنة. [10] و ذلک العباسي الذي يجلس للامام علي قارعة الطريق و يشکو له الحاجة و يحلف له: انه ليس عنده درهم فما فوقه و لا غداء و لا عشاء. قال: فقال: تخلف بالله کاذبا و قد دفنت مأتي دينار. و ليس قولي هذا دفعا لک عن العطية. يا غلام اعطه ما معک.. فاعطاني مأة دينار. [11] .
اذن فالامام عليه السلام کان سائرا علي طبق مخطط الاحتجاب، تعويدا لأصحابه و قواعده الشعبية علي فکرة الغيبة و اسلوبها، و رفعا لاستغرابهم الذي کان سيحدث لو لم يکن هذا المخطط.
و لعلنا نستطيع -بهذا الصدد- ان نحمل فکرة واضحة من ان فکرة غيبة الامام المهدي عليه السلام هي بذاتها فکرة احتجاب ابيه، و ان اسلوبهما في قيادتهما واحد من الناحية الکيفية لا يختلف.
[ صفحه 226]
نعم، غيبة المهدي، من الناحية الکمية أشد من احتجاب ابيه و أکثر حذرا و ابعد عن الناس. فالام العسکري عليه السلام کان يراد جملة من الناس من أصحابه و غيرهم عند زيارته للبلاط، علي حين ان المهدي عليه السلام لا يراه الا اقل القليل علي طول التاريخ. کما ان الامام العسکري توفي و دفن بمشهد و مرأي من الجميع، علي حين ضمن المخطط الالهي طول العمر لابنه المهدي عليه السلام. و کان الامام العسکري (ع) معروف الشکل و الهيئة لدي الناس. و أما الحجة المهدي فقدانتهي الجيل الذي رآه في صغره، تتابعت الأجيال في غيبته الصغري و غيبته الکبري، من دون ان تحمل أي فکرة عن شکل المهدي و سحنته و هيئته و جسمه الي غير ذلک من الفروق.
پاورقي
[1] اثبات الوصية ص 262 و انظر منتهي الامال ج 2 ص 565.
[2] الارشاد ص 323.
[3] المصدر ص 322.
[4] انظر مثلا-کشف الغمة ج 3 ص 207.
[5] المصدر ج 3 ص 204.
[6] کشف الغمة ج 3 ص 207.
[7] المناقب ج 3 ص 537.
[8] المناقب ج 3 ص 533.
[9] انظر الخرايج و الجرايح ص 59.
[10] انظر کشف الغمة ج 3 ص 216.
[11] الارشاد ص 323 و الاعلام ص 352 و کشف الغمة ج 3 ص 203.