بازگشت

تمهيده لغيبة ولده المهدي


ان الامام الحسن العسکري عليه السلام حين يعلم بکل وضوح تعلق الارادة الالهية الازالية بغيبة ولده لأجل أن يکون مذخورا لاقامة دولة الحق و تطبيق العدل الاسلامي علي الانسانية. و الأخذ بيد المستضعفين في الأرض الموتورين من دول الظلم و الانحراف..ليتبوا فيها حيث يشاوون..يبدل خوفهم أمنا..يعبدون الله لا يشرکون به شيئا..



[ صفحه 210]



فيوسسوا بذلک دولة المومنين المتقين الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

حين يعلم عليه السلام بذلک.. يعرف ان عليه جهدا مضاعفا و نشاطا متزايدا في التمهيد لغيبة ولده. و السبب في ذلک: ان البشر -بشکل عام -مربوطون في مدرکاتهم بالحس و العادة التي يعيشونها وفي حدود الزمان و المکان..ومن الصعب علي الشخص الاعتيادي ان ينظر نظرا معمقا تجريديا أسمي من هذه الحدود، ما لم يطلع الفرد علي البرهان الصحيح المدعم بالايمان الراسخ القائل: بأن الکون أوسع من العالم المنظور و من حدود الزمان و المکان.. وان في عالم الوجود قوي کبري و ارادات واسعة، تستقي تدبيرها و ادارة شوونها من الارادة الازلية و الحکمة اللانهائية..من الله تعالي.

و الانسان کلما سما روحيا و تعمق فکريا، استطاع استجلاء هذه الحقيقة الکبري أکثر، کما انه کلما تسافل روحيا و أخلد الي الأرض و اتبع هواه و تغافل عن صوت عقله..کلما کان ابعد من ذلک، و أکثر انشدادا الي حسه و عادته.

و لم يکن المجتمع الذي يعيشه الامام عليه السلام.. لم يکن -بشکل عام-الا متکونا من الانسان المتسافل روحيا المشدود الي مصالحه و خدمة ذاته و انحرافه بعيدا عن عمق الايمان و عن سمو الروح و دقة الفکر. لا يختلف في ذلک الحاکم عن المحکوم و المولي عند العبد. و لعل فيما استعرضناه في الفصل الأول من التاريخ العام لهذا العصر ما يعطي فکرة واضحة عن ذلک.



[ صفحه 211]



نعم.. يستثني من ذلک - بشکل و آخر- رجال الفکر في ذلک العصر و قادة النهضة العلمية فيه..بما فيهم أصحاب الأئمة عليهم السلام الذين تربوا علي توجيهات الامام العسکري و آبائه عليهم السلام. الا ان ذلک لا يکفي في تحقيق الفرض المنشود، فان فکرة الغيبة يجب ان تکون عامة بين سائر الناس و ليست خاصة برجال العلم و الفکر و النظر.

و الغيبة، التي يجد الامام نفسه مسوولا من التخطيط لها، حادث قليل النظير في تاريخ البشرية و يحتوي الي حد کبير علي عنصر غيبي، خارج عن حدود المحسوس و المعتاد من الحياة فان عنصر اختفاء المهدي (ع) و ان امکن تفسيره تفسيرا طبيعيا [1] الا ان طول عمره متمحض بالارادة الالهية الخاصة و بالعامل الروحي النازل من فوق الکون المنظور..لأجل حفظ مصلحة الاسلام العليا، وانجاز يوم الله الموعود.

اذن فستکون الغيبة التي يمهد لها الامام العسکري (ع) أمرا غريبا علي الاذهان بعيدا عن الطباع، يحتاج الي تکرار و تفهيم وجهد مضاعف کبير.

و کانت الارهاصات المسبقة و التبليغات المتوالية عن المهدي..متتابعة متواترة عن النبي (ص)..رواهامولفوا الصحاح و هم معاصرون أو متقدمون علي هذه الفترة بما فيهم البحاري و مسلم و احمد بن حنبل.

و متتابعة متواترة عن الأئمة عليهم السلام يرثها أصحابهم جيلا بعد جيل حتي اصبحت من ضروريات المذهب بل من فطعيات الاسلام.. و کان



[ صفحه 212]



کل امام يقوم بدوره الکافي في التبليغ و الارشاد الي هذه الفکرة الکبري.

و قد کان لکل هذه التبليغات أثرها الکبير في ترسيخ فکرة المهدي في نفوس المسلمين بشکل عام..يأخذ کل فرد منهم ما يناسبه منها بحسب عمق ايمانه و سعة تفکيره و اتجاه مذهبه في الاسلام. و ستعرف انها استطاعت أن تثير اهتمام السلطة الحاکمة بشکل حاد و مرکز، لا بالايمان بها، بل بالوقوف ضدها و محاولة القضاء عليها.

فالامام العسکري عليه السلام، و هو يواجه المسلمين بهذه الفکرة، يجد بالرغم من اخلادهم الي مصالحهم و انحرافهم و حدود حسهم.. يجد عندهم مسبقات ذهنية و قاعدة فکرية مشحونة بالايمان بفکرة المهدي و الاعتقاد بامکان وقوعها، مما يجعل له ارضية ممهدة للسير من قبلة بهذا الشوط الي نهايته.

و انما الأمر الکبير الذي يتحمل الامام العسکري عليه السلام مسووليته، بصفته والدا مباشرا للمهدي (ع)..هو فکرة التطبيق و انهم قد اظلهم زمان الغيبة و أوشکت علي الوجود و التنفيذ. و هو أمر صعب بالنسبة الي الفرد العادي استطيع ان أسميه ب (الصدمة الايمانية).فان هناک فرقا کبيرا في منطق ايمان الفرد العادي بين ايمانه بالغيب بشکل موجل لا يلعم امده الا الله تعالي و لا يحس الفرد باثره في الحياة..و بين الايمان بالغيب مع اعتقاد تنفيذه و تنفييذه في زمان معاصر ويکفيک ان تتصور نفسک و حالتک الايمانية الوجدانية اذا اخبرک شخص لا تشک بصدقة بقرب حدوث يوم القيامة مثلا أو قرب موتک مثلا.فان



[ صفحه 213]



مثل هذا الخبر يعتبر صدمة للايمان لأنه يحتاج الي موونة زائدة وقوة مضاعفة من الايمان و الارادة و التفکير.. و يحتاج الفرد فيه الي حشد کل ما في نفسه من قوي الايمان و مقدمات البرهان.. بالشکل الذي يسعفه بالقناعة بأمر غيبي کهذا.

و من ثم کان علي الامام ان يبذل جهدا اجتماعيا مضاعفا لتخفيف هذه الصدمة و تذليلها، و تهيئة الذهنية العامة لتقبل الفکرة الجديدة، و تعويد أصحابه علي الالتزام بما تتطلبه الغيبة من انحاء من العقيدة و السلوک. و خاصة و هو يريد تربية جيل واع. متحمل للمسوولية تجاه ذلک ليکون هو المبذرة الاساسية لتربية الاجيال الآتية، التي ستبني بجهدها-الغث و السمين - تاريخ الغيبتين: الصغري و الکبري.

فاذا عطفنا علي ذلک، ما عرفناه من ظروف الامام و أصحابه، و المانات الصعبة التي کانوا يعيشونها من قبل الدولة. و اخذنا بنظر الاعتبار ان فکرة المهدي - وهي الفکرة الاصلاحية الثورية الکبري -تعتبر في منطق الحکام، امرا مخوفا يهدد کيانهم و يقض مضاجعهم، و يعتبر التصريح بها و الدعوة اليها خروجا علي قانونهم و تمردا علي أساس دولتهم..علي حين کان الامام قد اتخذ سياسة السلبية و المسالمة مع الدولة، و عدم مصارحتها بالخلاف.

من کل ذلک نستطيع ان نتميز ان نتميز بکل وضوح دقة مهمة الامام عليه السلام و صعوبة موقفة، في التوفيق بين سلبية تجاه الدولة، و بين ايضاح فکرة المهدي للاجيال.



[ صفحه 214]



و من ثم سار الامام علي مخطط معين، توصل به الي کلا الغرضين و حقق کلا الهدفين کما سنري و نستطيع ان نقسم نشاط الامام عليه السلام حول ذلک الي قمسين: احدهما:نشاطه بلحاظ ولادة المهدي (ع) و تربيته و صيانته و حجبه عن أعين الناس مع اظهاره لبعض خاصته و نحو ذلک. ثانيهما: بيانه لفکرة الغيبة و افهام الناس تکليفهم و مسووليتهم الاسلامية تجاهها. و تعويدهم علي متطلباتها.

أما القسم الأول فمن المستحسن ارجاء الحديث عنه الي الفصل الرابع الآتي حين نتعرض لتاريخ المهدي عليه السلام خلال حياة أبيه، وسنري حينئذ المواقف التفصيلية التي اتخذها الامام العسکري عليه السلام تجاه ولده.

و أما القسم الثاني فهو الذي يحسن التعرض له في المقام، و هو ما يعود الي موقفه عليه السلام تجاه الآخرين في مخططه للتمهيد للغيبة، باعتبار المهام الکبري التي أشرنا اليها.

و يمکن تحديد نشاطه عليه السلام في هذا السبيل ضمن نقاط ثلاث:


پاورقي

[1] علي ما سوف يأتي في الکتاب الثاني من هذه الموسوعة.