بازگشت

موقفه من عامة من لا يؤمن بامامته


و بخاصة الموالي و الأتراک، لاجل اقامة الحق أودفع الشبهات. و نحن هنا في غني عن الاشارة الي ما سبق ان عرفناه في تاريخ ابيه عليه السلام، من اهمية هذا الموقف في زيادة المخلصين له و توسيع قواعده الشعبية..و بالتالي: بذر الشک في نفوس الناس من الحکم العباسي السائد.

فمن ذلک ان ابا محمد عليه السلام کان کثيرا ما يکلم غلمانه بلغاتهم و فيهم ترک و روم و صقالبة. قال الراوي: فتعجبت من ذلک. و قلت: هذا ولد بالمدينة و لم يظهر لأحد حتي مضي أبو الحسن عليه السلام،ولا رآه أحد، فکيف هذا؟ و بينمايحدث نفسه بذلک اذ اقبل الامام (ع) عليه و قال له: ان الله عزوجل ابان حجته من سائر خلقه و اعطاه معرفة کل شي ء، فهو يعرف اللغات و الانساب و الحوادث.ولو لا ذلک لم يکن بين الحجة و المحجوج فرق. [1] .

فقد دلت هذه الرواية علي أمور رئيسية ثلاثة:

الأمر الأول: ان الامام عليه السلام کان يمتلک غلمانا کثيرين. ولعلک تتوسع في الظن الي الاعتقاد بانه کان يملک الي جانب ذلک ما



[ صفحه 190]



يوازيه و يقتضيه من الدار الواسعة و الأموال و العلاقات.

و هذا، لو فرضت صحته، فهو ناشي ء من أحد منشأين:

المنشأ الأول: ما سبق ان عرفناه من السياسة التي اتبعها العباسيون تجاهه و تجاه والده وجده عليهم السلام.تلک السياسة التي کانت قائمة -بحسب التحليل -علي رکائز ثلاثة: أولها: تقريت الامام من البلاط و الدمج بالحاشية. ثانيها: مراقبته و الفحص عن أموره صغيرها و کبيرها جملة و تفصيلا. ثالثها: اکرامه و احترامه ظاهرا، لأجل ذر الرماد في عيون الناس و اسکات من يحاول الاحتجاح علي مراقبته و مضايقته.

و من الطبيعي أن يحتاج تقريبه من البلاط الي حياة مرفهة توازي کل من هو قريب من البلاط و مندمج في الحاشية. و لا يمکن ان تدرک الدولة العباسية غير ذلک. کما ان الدولة کلما شددت علي المراقبة و المطاردة احتاجت الي «رماد» أکثر لتذره في عيون الناس بطبيعة الحال.

و من الطبيعي ان نتصور ان الامام قد حصل علي عدد من هولاء الغلمان نتيجة لهذه السياسة. و الامام يتقبلها لأمرين: الأول: تمشيا مع سياسته السلبية تجاه الدولة و تجنبا لاثاره الخلاف معها. الثاني: کون ذلک في مصلحة العبيد أنفسهم، من حيث انقاذهم من برائن الباطل و الانحراف و انتقالهم الي طريق معرفة الحق..و سيرهم في طريق الانعتاق في نهاية الشوط.

المنشاء الثاني: ما عرفناه أيضا من أن الامام عليه السلام بصفته الرئيس



[ صفحه 191]



الأعلي لمواليه و المومنين به، يستقطب، بحسب الامکان، کميات الأموال التي کانت ترد اليه من الأطراف من الحقوق الشرعية و غيرها مما يرسله مواليه. و کان يصرف القسم الأکبر منها علي المصالح الاجتماعية و الاسلامية لأصحابه و مواليه. و قد يبقي عنده -بعد ذلک -کمية من الأموال التي يستطيع الحصول بها علي مدد من العبيد، لأجل مصالحه العامة و الخاصة و مصالح العبيد أنفسهم أيضا.

و لا يفوتنا في هذا المجال ان نحتمل -علي الأقل -ان جملة الأموال قد ترداليه -حين ترد-علي شکل عبيد لاعلي شکل نقود. فيکون ذلک موجبا لتکدسهم لديه.

علي ان الرواية عبرت بالغلمان، و الغلام في اللغة: العبد و الأجير..فربما کان عدد منهم أجرارا ولم يکونوا عبيدا. کان يستأجرهم للقيام بامور معينة تعود الي مصالحه الخاصة و العامة. و الرواية لم تدل علي اجتماعهم دفعة واحدة ليقال: أي حاجة الي هذا المقدار من الاجراء يوميا.

الامر الثاني مما يلاحظ دلالة الرواية عليه: ما قلناه من ان القاعدة العامة تقتضي کون الامام خلال حياة ابيه أن يکون منعزلا عن المسوولية فارغا عن شوون القيادة و أعمالها. و تطبيقا لهذه القاعدة کان الامام الهادي عليه السلام يحجب ابنه عن المجتمع و يبعده عن العلاقات العامة. و کان الترکيز علي الامام العسکري (ع) من هذه الناحية أشد، لأجل تهيئة الذهنية العامة لتقبل احتجابه تقديما لتهيئتها لغيبة الامام المهدي عليه السلام، علي ما سوف نشير اليه.



[ صفحه 192]



الامر الثالث: ان الامام عليه السلام، مضافا الي هدايته لغلمانه الموالي و اقامة الحجة عليهم، فانه أقام الحجة علي الراوي أيضا، بعد ان تعجب من معرفة الامام بمختلف اللغات. و کان حاصل مراد الامام في جوابه: ان الامام الذي يجب ان يکون المثال الأعلي للشعب المسلم و خير أفراد الأمة الاسلامية؛ اذا فرض انه کان جاهلا باللغات -مثلا-فانه يکون مشترکا مع سائر الأفراد في هذا الجهل و ليس له عليهم مزيه. و هو معني قوله عليه السلام: لم يکن بين الحجة و المحجوج فرق. و من ثم جعل الله تعالي للامام هذه الخصوصية و هي العلم بکل شي ء، حتي يتحقق فعلا انه أفضل سائر أفراد الأمة الاسلامية.

ويندرج في هذه النقطة من مواقف الامام عليه السلام.

ما روي من ان رجلا بالأهواز ناظر رجلا من التنوية، بقصد افحامه و اقامة الدليل الاسلامي الصحيح ضده. و لکنه کان ضعيف الثقافة الاسلامية، فبدل ان يوثر فيه تأثر منه. و قويت حجة ذاک الثنوي في نفس هذا الرجل. ثم ان قدم سامرا.. يقول:

فحين رأيت ابا محمد أوما بسبابته:احد احد. فخررت مغشياعلي. [2] .

اقول: انما تکون هذه الاشارة دليلا علي المطلوب، مع انها تکرار لنفس الدعوي بدون زيادة... باعتبار ان الامام استطاع استعمال المعجزة لاثبات الحجة، فيکون في مستطاع هذا الرجل ان يقول في نفسه: بان هذا الامام قطعي الصدق باعتبار معجزته -وهي علمه بما في



[ صفحه 193]



نفسي بدون سابق معرفة -و هو يرشدني الي ان الرب الذي وهبه هذا العلم رب واحد احد لا اله الا هو اذن فيثبت المطلوب، بالدليل الاني بأصطلاح الفلسفة.

و يندرج في هذه النقطة ايضا، ما روي من اقامته للحجة علي رجل من وفد جاء الي سامراء من الاهواز من موالي الامام عليه السلام.

وقد صادف يوم وصول الوفد، يوم خروج السلطان الي صاحب البصرة -علي حد تعبير الرواية يعني خروج السلطان الي صاحب الزنج الذي کان مسيطرا علي منطقة البصرة و الاهواز. و کان الامام العسکري (ع) خارجا من موکب السلطان. اقول: وهذا تطبيق جزئي لسياسة دمج الامام بحاشية البلاط.

و اذ يرجع الامام يمر في طريقه علي جماعة الوفد..و حين يقرب منهم يقف ويمد يده الي قلنسوته فينتزعها عن رأسه و يمسکها بيده و يمر بيده الاخري علي رأسه. ثم يلتفت الي رجل من الحاضرين فيبتسم في وجهه..ويکون لهذا الموقف بالغ التأثير في نفس الرجل، فيبادر الي القول: اشهد انک حجة الله و خيرته. قال الراوي: فقلنا: يا هذا ما شأنک. قال: کنت شاکا فيه. فقلت في نفسي: ان رجع و اخذ القلنسوة من رأسه قلت بامامته. [3] .

و يطيب لي ان اعلق علي هذه الرواية بما يلي:

اولا: اننا نستطيع ان نحدد تاريخ مجي ء هذا الوفد من الاهواز الي سامراء. بعد ان عرفنا انه وقع في اليوم الذي عقد فيه المعتمد الموفق قائد الحرب الزنج. و نحن نعرف من التاريخ العام ان ذلک



[ صفحه 194]



قد وقع في ربيع الاول من عام 258..و ان المعتمد قد رکب معهع يشيعه حين خروجه [4] ومن هنا نعرف ان الامام (ع) کان في موکب المعتمد.

ثانيا: ان القواعد الشعبية الموالية الموالية للامام عليه السلام، قد اتسعت و شملت کثيرا من المناطق الاسلامية. و کانوا يرجعون في تحديد وضعهم الديني و الاجتماعي و الاقتصادي الي الامام. و يتم ذلک باحد طريقتين:

الطريق الاول: ارسال الوفود، لنقل الاموال التي تحصل من الحقوق و الضرائب الاسلامية و تسليمها الي الامام. و لنقل الاستفتاءات و الاسئلة حول مختلف الاحوال الشخصية و الاجتماعية والعقائدية من اهل البلاد، و معرفة جوابها من الامام. وقد ورد هذا الوفد من الاهواز ليقوم بمثل هذه المهمة.

الطريق الثاني:الاتصال بوکلاء الأئمة عليهم السلام: فانه کان لهم وکلاء في مختلف انحاء البلاد الاسلامية، وفي کل منطقة تخضع للامام بالولاء. يکون الوکيل مشرفا عاما علي مصالحهم في حدود تعاليم الامام و قواعد الشريعة الاسلامية. وسيأتي من الأخبار الکثيرة الدالة علي ذلک.

ثالثا: لعلک لا حظت معي کيفية اقامة الحجة علي هذا الرجل علي شکل سري لا يطلع عليه غيره، و لا يمکن أن يدخل تحت رقابة أو ضبط. و لو لم ينبس الرجل ببنت شفة لبقيت الحجة مکتومة من غيره الي الأبد. و بهذا قد حصل الامام مواليا متيقنا بامامته، من دون دخوله تحت طائل رقابة الدولة.



[ صفحه 195]




پاورقي

[1] الارشاد ص 322 و ما بعدها.

[2] انظر المناقب ج 3 ص 530 و کشف الغمة ج 3 ص 215.

[3] انظر الخرايج و الجرايج ص 64 و غيره.

[4] الکامل ج 5 ص 231-365.