بازگشت

موقف الخلافة العباسية من الامام


اشرنا فيما سبق ان موقف الخلفاء العباسيين، يتجلي -فيما وصل الينا من النقل التاريخي -في خصوص المتوکل، و لا يبدو لغيره أثر يذکر. وقد ذکرنا ما يکن أن يکون سببا لذلک. فمن هنا ينحصر عنواننا في المقام في موقف المتوکل من الامام عليه السلام. و نستطيع ان نلخص موقفه في عدة نقاط:

النقطة الأولي: تحديه من الناحية العلمية، کما سبق. و قد رأينا کيف يخرج الامام ظافرا من هذا التحدي.

النقطة الثانية: تقريبه من البلاط و دمجه في حاشية الخلافة بمقدار الامکان، ليکون الامام علي طول الخط بين سمعهم و ابصارهم فلا تفوتهم منه شاردة و لا واردة. و قد رأينا مقدار نجاحهم الضئيل في ذلک.

وقد سبق ان لا حظنا ان هذا کان هو الهدف الاساسي من استقدام الامام الي العاصمة العباسية. و کان الامام يعطي من نفسه بازاء ذلک و کأنه يوافق الدولة العباسية علي سياستها تجاهه. فکان يحضر موائدهم و يخرج في مواکبهم کما سمعنا. و نستطيع ان نفهم موقف الامام (ع) هذا، لا علي أساس التنازل أو التسامح مع الدولة، فان هذا مما لا يمکن



[ صفحه 145]



أن يکون من شخصية کشخصية الامام المبدأية الاسلامية القائدة لجماهير قواعده الشعبية من المسلمين. و کان أي تنازل منه يعني السعي ضد المصالح الاسلامية لهذه الجماهير، و هو ما لا يخفي ما فيه من قبح و خيانة علي الشخص الاعتيادي فضلا عن القائد الامام. مضافا الي انه لو تنازل لشعرت الدولة بتنازلة.. فکان في الامکان أن ينال عندها أقصي الحظوة و المنزلة و الراحة.. ولارتفع ما کان محاطا به من المراقبة و الضغط..مع انه کان يتزايد باستمرار، حتي ان المتوکل في آخر ايامه انتهي به الامر الي زج الامام في السجن علي ما سنسمع.

اذن فلم يکن موقفه متضمنا لشي ء من التنازل، و انما کان ناشئا من المصالح و المبررات الآتية:

اولها: الضغط و الاکراه: فان السياسية العباسية حيث استقرت علي دمج الامام بالبلاط، کان مقتضي رفض هذه السياسية و الانصراف عن اجابة دعواتهم و الحضور في مجالسهم.. اعلانا صريحا للمعارضة.. أو علي الأقل اثارة لشک الحکام بان الامام متصد للمعارضة و خارج علي الدولة، وکل ذلک مما لايريده الامام (ع) بمقتضي سياسيته السلبية تجاه الدولة..

ثانيهما: ان الامام (ع) کان حذرا من براثن الدولة عليه و علي مواليه. فکأنه أراد التصريح بشکل عملي بعدم وجود ما تخشي منه الدولة عنده، و هذا ما يوثر نفسيا في تخفيف الشک ضده.. و معه فقد ينفتح مجال جديد لنشاط جديد.



[ صفحه 146]



ثالثها: ان الامام حين يعيش بين أکناف حکام الدولة مع من يحيطهم من القواد و البطانة و المنتفعين و الخدم و غيرهم من مختلف الطبقات..فانه عليه السلام يستطيع بلباقة تامة و احتراس شديد و بمقدار الفرصة السانحة.. ان يقول الحق بينهم و يدافع عن قضيته بين ظهرانيهم..و هناک احتمال کبير-يويده احترامهم لشخص الامام و اکبارهم لعلمه و نسبه -: ان يصل کلامه الي قلوب بعضهم. فان السياسي مضافا الي کونه حاکما مصلحيا، هو في عين الوقت انسان ذو عقل و قلب. و قول الحق يجد طريقه في العقل و القلب من اضيق طريق. و بذلک يکتسب الامام العطف علي قضيته في المستويات العليا من الدولة. وقد سبق ان حملنا فکرة عن مقدار نجاحه في ذلک، ولعل فيما يأتي من البحث ما يضيف الي ذلک شواهد اخري.

رابعهما: ان الکيان الحکومي يومئذ کان قائما بالصراحة علي المحسوبية و المنسوبية..توثر فيه المصالح الشخصية و تجد فيها الوساطات طريقها المستقيم.

و هذا و ان کان دالا علي انحدرا الأمة الي حضيض لا تغبط عليه علي أي حال، و غير ملائم مع اتجاهات الامام و مثله.. الا انه هو الواقع.. ومن الممکن الاستفادة من هذا الواقع بما ينفع الناس و يکون مصلحة لهم. اذن فاتصال الامام بالحکم مثل هذا الاتصال الوثيق يفتح امامه فرصة أوسع للتوسط في تيسير حوائج أصحابه و مواليه و تخفيف ضرهم و دفع الاخطار عنهم.. بحسب ما يراه من المصلحة.



[ صفحه 147]



و لعلنا نستطيع ان نستوضح ملامح الموقف اللين الذي کان يقفه الامام (ع) تجاه المتوکل، من المثال التالي: فان المتوکل ابتلي بقرحة و خراج أشرف به علي الموت. و کان دواوه عند اطباء عصره منحصرا بان يمس الجرح بحديده فلم يجسر أحد أن يقوم بذلک، لاحتمال ان المتوکل سوف يأمر بقتل من يقوم بذلک لما سيجده من الألم.

ووجلت امه و جلا شديدا.. وکانت تعتقد بالامام (ع) و قربه من الله تعالي..فنذرت انه ان عوفي ابنها المتوکل فانها تحمل الي ابي الحسن الهادي عليه السلام مالا جليلا من مالها. ونبهها الفتح بن خاقان علي ان تطلب من الامام ان يصف دواء للمتوکل..فارسلت رسولا بهذا الشأن الي الامام، فقال عليه السلام: خذوا کسب الغنم فديفوه بماء الورد و ضعفوه علي الخراج فانه نافع باذن الله. أقول: و لا يخفي ما في ذلک من ترطيب للجرح خفي سره علي الطب القديم الذي کان يداوي الدمل بامرار الحديد عليه!!

و علي أي حال فقد هزأ من حضر مجلس المتوکل من هذا الدواء باعتباره لم يسمع من طبيب. فينبري الفتح بن خاقان مدافعا عن اقتراحه قائلا: وما يضر من تجربة ما قال.. فوالله اني لارجو الصلاح به.فاحضروا هذا العقار ووضع علي الخراج فانفتح و خرج ما کان فيه. و بشرت أم المتوکل بعافية ولدها. فحملت الي أبي الحسن عليه السلام عشرة آلاف دينار مختومة بختمها، من دون علم ولدها المتوکل.

و يحافظ الامام (ع) علي البدرة-وهي حزمة المال -غير مفضوضة



[ صفحه 148]



الخاتم و لا مستعملة..اياما..حتي حصلت کبسة سعيد الحاجب علي داره بامر المتوکل، علي ما سنذکر في النقطة التالية. فيجد عنده البدرة المختومة، فينقلها مع کيس آخر مختوم و سيف الي المتوکل. فلما نظر المتوکل الي خاتم امه علي البدرة بعث اليها و سألها فذکرت له نذرها عند مرضه.. وقالت: و هذا خاتمي علي الکيس ما حرکه..و فتح الکيس الآخر فاذا فيه اربعمائة دينار..فأمر ان يضم الي البدرة بدرة اخري و قال لسعيد الحاجب: احمل ذلک الي ابي الحسن..واردد عليه السيف و الکيس بما فيه. قال سعيد: فحملت ذلک اليه و استحييت منه. فقلت له: يا سيدي عز علي دخولي دارک بغير اذنک. ولکني مأمور! فقال لي: و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. [1] .

انظر الي الحترام و التقديس الذي يتمتع به الامام (ع) في البلاط، و الي المکاسب التي حصل عليها فيه.ولا يبغي ان تفوتنا المبررات السابقة لسياسة الملاينة التي ينتهجها الامام، بالرغم من انه يتلو حين يدق ناقوس الخطر قوله تعالي: «سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

النقطة الثالثة: اضطهاد المتوکل للامام الهادي عليه السلام حيث امر بکبس منزل الامام (ع) عدة مرات. فان السعايات و الوشايات التي کانت ترتفع الي المتوکل ضد الامام بين آونة واخري..کانت



[ صفحه 149]



توقظ شکوکه و تثير توجسه الکامن في نفسه، تجاه الامام. و لعلنا نستطيع القول: بان شخصا من الضالعين برکاب الحکم، يطلع صدفة علي بعض آثار نشاط الامام (ع) في سبيل مصالح مواليه، فيبالغ هذا الشخص فيه، تملقا للدولة، و يجعله خطرا يعدد کيانها القائم، مع اننا عرفنا ان مثل هذا النشاط -بشکله المبالغ فيه -لم يکن موجودا لدي الامام عليه السلام.و علي أي حال يثير هذا الساعي کوامن الخوف و التوجس في نفس المتوکل؛ فيغريه ذلک بکبس دار الامام للتأکد من صدق الوشاية أو کذبها.

والملاحظ في هذه العمليات امران:

احدهما:ان الوشاية دائما کانت تبوء بالفشل و يرجع جواسيس الخليفة موکدين انهم لم يجدوا في دار الامام ما يثير التوجس. مما يوجب عود المتوکل الي هدوئه و استمراره علي اظهار احترام الامام و تقديره.

و قد سبق ان ارجعنا ذلک، الي ان الامام افلح، بطريق غيبي أو طبيعي، في اخفاء مکامن الشک عن الدولة، بالرغم مما کان يرده من الأموال و الکتب و ما کان يقوم به من اتصالات. وقد اطلعنا علي صور موجزة للأساليب الرمزية التي کان يستعملها الامام حين يريد التعبير عن أمر محظور في نظر الدولة.

ثانيهما:ان الامام و ان کان يظهر-عند الکبس علي داره -سخطه



[ صفحه 150]



بتلاوة آية من القرآن کالذي سمعناه من قوله تعالي: و سيعلم الذين ظلموا..آية. الا انه کان يعين الشرطي المتجسس علي مهمته..فيسرج له الضياء ويدله علي غرف الدار..توخيا في الايضاح العملي للدولة بانه لا يملک أي نشاط غريب.علي انه لو اظهر أي مناؤه لمثل هذه المحاولة لکان مثيرا جديدا للشک.. هو في غني عنه، و منافيا لسياسة الامام السلبية تجاه الدولة.

و قد حدثت عدة حوادث کبس علي داره عليه السلام. فمن ذلک ما سبق ان نقلناه عن ابن خلکان و جمهور من المورخين العامة و الخاصة. من کبس داره في نصف الليل و حمله الي المتوکل و هو علي مجلس الشراب، و استنشاده الشعر، فانشد الأبيات التي أولها:



باتوا علي قلل الأجيال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل



و من ذلک کبسه لدار الامام نتيجة لسعاية البطحائي به الي المتوکل وزعمه: ان عنده أموالا و سلاحا. فأمر المتوکل سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا و يأخذ ما عنده من الأموال و السلاح و يحمله اليه. فاخذ سعيد معه سلما و ذهب الي دار الامام و صعد عليها من الشارع الي السطح و نزل خلال الظلام فلم يدر کيف يصل الي الدار. قال سعيد: فناداني أبو الحسن عليه السلام من الدار: يا سعيد مکانک حتي يأتوک بشمعه. اقول: انظر الي مساعدته عليه السلام لهذا المتجسس.. والي علمه بشخصه قبل رويته..و انما ناداه بذلک لاثبات الحجة عليه، اثناء تلبسه بالجرم.



[ صفحه 151]



يقول: فلم البث ان اتوني بشمعة، فنزلت، فوجدت عليه جبة صوف و قلنسوة منها و سجادته علي حصير بين يديه و هو مقبل علي القبلة. فقال لي: دونک البيوت -يعني الغرف -فدخلتها و فتشتها، فلم اجد فيها شيئا. ووجدت البدرة مختومة بخاتم أم المتوکل و کيسا مختوما معها. فقال لي أبوالحسن عليه السلام: دونک المصلي فارفعه. فوجدت سيفا في جفن ملبوس. فاخذت ذلک.. الي آخر الرواية کما سمعناها.

و يضطر هذا التجسس، في نهاية الشوط الي الاعتذار من الامام (ع) بکونه مأمورا. فيتلو الامام قوله تعالي: «و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون». [2] .

وفي حادثة اخري: يصل الي المتوکل خبر مال يصل من قوم، و هي احدي مراکز الولاء للامام (ع)..اليه عليه السلام: فيأمر وزيره الفتح بن خاقان ان يراقب الوضع و يأتي بالخبر. فيرسل الوزير بعض مأموريه يدعي أبو موسي الي الأمام، فيجلس في مجلسه ساکتا، فيطالبه الامام بتبليغ رسالة المتوکل قائلا: لا يکون الا خيرا...يا أبا موسي، لم لم تعد الرسالة الأولة. فيجب أبو موسي: اجللتک يا سيدي. فيدله الامام بکل وضوح علي طريق الاطلاع علي هذا المال و ييسر له السبيل الي ذلک قوله: المال يجي ء الليل و ليس يصلون اليه. فبت عندي.

و انما يجي ء المال ليلا تخفيا عن عيون الدولة، ولکن ما الحيلة بعد



[ صفحه 152]



اطلاع الدولة عليه، و تحديد سياسة الامام بالسلبية.

و علي أي حال..يبات أبو موسي عنده، و حين يجي ء الليل يشتغل الامام بالصلاة، مدة من الزمن..وبينما هو في الرکوع في احدي صلواته، اذ يقطعه بالسلام قبل اتمام رکعات الصلاة، و يقول لأبي موسي: قد جاء الرجل و معه مال و قد منعه الخادم الوصول الي، فاخرج فخذ ما معه. [3] .

النقطة الرابعة:

القاء القبض علي الامام عليه السلام حين ضاق المتوکل ذرعا بحقده علي الامام و بنشاط الامام الذي لم يکن بمستطاعه التعرف عليه بسعة و وضوح، و قد بذل کل ما في وسعه و لا زال الجانب المهم من ذلک النشاط غامضا عنه يظن به الظنون و لا يمکنه ان يحيط بمحتواه. و قد حمل المتوکل توجسه و حقده علي أن يزج الامام في السجن، و ذلک في الأيام الأخيرة من خلافته.

و لا يخفي ما في ذلک من التحدي للقواعد الشعبية و الجماهير الواسعة المومنة بالامام قائدا ورائدا و موجها و اماما. فان سجن القائد بمنزلة سجن کل قواعده الشعبية، و يکون تحديا لها و للمبدأ الذي يتخذه و الهدف الذي يهدفه. و هذا ما لم يکن للمتوکل منه مانع، و هو الذي خرب قبر الحسين عليه السلام و منع الزوار عنه، علي ما سمعنا.



[ صفحه 153]



و قد وردت في سجن الامام روايتان تتفقان علي وقوع ذلک في وقت واحد قبل ثلاثة ايام من موت المتوکل، و لکنها تختلف في جملة من التفاصيل.

الرواية الأولي: انه حين قبض المتوکل علي الامام (ع) سلمه الي علي بن کرکر ليزج به في السجن و يراقبه فيه. فصادف ان سمعه بغا أو وصيف -الشک من الراوي -، و هما القائدان الترکيان المتنفذان في الدولة يومئذ، علي ما عرفنا في التاريخ العام.. سمع الامام و هو في السجن يزمزم قائلا: انا أکرم علي الله من ناقة صالح «تمتعوا في دارکم ثلاثة أيام ذلک وعد غير مکذوب» لا يفصح بالآية و لا بالکلام. ولم يفهم هذا القائد الترکي مراد الامام. فسأل عنه، و کان المسوول هو راوي هذه الرواية. قال الراوي: قلت: اعزک الله..توعد. انظر ما يکون بعد ثلاثة أيام. فلما کان من الغد أطلقه و اعتذر اليه.

فلما کان في اليوم الثالث، ثار عليه الأتراک، و منهم باغر و يغلون واوتامش، و قتلوه واقعدوا ولده المنتصر مکانه. [4] .

و يطيب لي ان اعلق علي هذه الرواية، بأمرين:

احدهما:ان وعيد الامام کان رمزيا الي حد کبير، الي حد لم يفهمه القائد الترکي.. و کان من الأهمية في الدولة، بحيث ان الراوي حين فسره خاف ان يصرح بما فهمه بوضوح و انما اختصر کلامه اختصارا



[ صفحه 154]



خشية ان يناله ضرر، و لا زال المتوکل في الحياة و الحکم.

ثانيهما: اننا نستطيع ان نعرف بالدقة تاريخ هذا التوعيد الذي ذکره الامام حال سجنه، و هو اليوم الثاني لعيد الفطر من شهر شوال عام 247 للهجرة. وقد قتل المتوکل و الفتح بن خاقان بيد باغر و يغلون و جماعة من الأتراک في مجلس شرابه ليلة الرابع من شوال في نفس العام. [5] و لم يکن بغا و لا وصيف ممن شارک في قتله. و سلموا علي ابنه المنتصر بالخلافة.

الرواية الثانية: ان المتوکل دفع الامام أبا الحسن الهادي عليه السلام الي سعيد الحاجب -الذي عرفناه - ليقتله. فوضعه سعيد في السجن حتي يتم قتله. و حين قدم الراوي الي سامراء في ذلک الحين دخل علي سعيد. و کان سعيد يعلم بکونه مواليا للامام (ع). فقال له: اتحب ان تنظر الي الهک. يقصد بذلک الامام استهزاء و استصغارا. و لکن الراوي کان غافلا فلم يفهم و أجاب: سبحان الله الهي لا تدرکه الأبصار. فاوضح سعيد مراده قائلا: هذا الذي تزعمون انه امامکم.فصادف ذلک رغبة في نفس الراوي. الا انه اجاب بحذر قائلا: ما اکره ذلک. فافهمه سعيد القصد من سجن الامام (ع) و قال: قد امرني المتوکل بقتله و أنا فاعله غدا. و عنده صاحب البريد فقال: اذا خرج فادخل اليه.

و حين يخرج صاحب البريد من الامام (ع) يدخل الراوي في الدار



[ صفحه 155]



-يعني الغرفة- التي حبس فيها الامام، فيري قبرا يحفر. قال: فدخلت و سلمت و بکيت بکاء شديدا. فقال: ما يبکيک؟ قلت: لما أري! قال: لا تبک فانه لا يتم لهم في ذلک. فسکن ما بي. فقال: انه لا يلبث من يومين حتي يسفک الله دمه و دم صاحبه الذي رأيته. قال: و الله ما مضي يومان حتي قتل. [6] .

و هذه الرواية لا تنافي الرواية الاولي، في التوقيت. فان المراد من قتله من يومين: قتله بعد يومين و يکون سفک دمه في اليوم الثالث،و هو نفس الموعد في الرواية الاولي. کما لا تنافي بينهما في تعيين من دفع المتوکل الامام اليه. اذ من الممکن ان نفترض ان المسوول عن قتله هو سعيد الحاجب و المشرف عليه في سجنة هو علي بن کرر الذي تذکره الرواية الأولي، کما ان خلو الأول من ذکر کون الغرض هو قتل الامام ليس تنافيا صريحا، اذ من الممکن أن نفترض ان الغرض هو ذلک. و لکنه لم يرد في تلک الرواية لنسيان الراوي لتفاصيل الحادثة، أو خوفه من بعض سامعيه في ذکر محاولة المتوکل لقتل الامام أو غير ذلک من الأسباب.

الا ان الرواية الأولي ارجح من الثانية علي أي حال. فان الثانية تتضمن مضعفا لاحتمال صحتها غير موجود في الاولي و ذلک لانها نسبت للامام (ع) قوله: انه لا يلبث من يومين حتي يسفک الله دمه و دم صاحبه الذي رأيته. فيقع السوال عن صاحبه الذي قصده. و ظاهر



[ صفحه 156]



الکلام ان المراد به سعيد الحاجب، لأنه هو الذي کان الراوي قد رآه. مع ان سعيد لم يقتل مع المتوکل، بل بقي حيا حتي سنة 257 حين أرسله المعتمد لحرب الزنج [7] و انما قتل معه الفتح بن خاقان. فلا بد ان نفترض فرضا مخالفا لظاهر الکلام: ان الراوي کان قد رأي الفتح بن خاقان أيضا و انه فهم من کلام الأمام ذلک. و الله العالم.

کما ان الرواية الأولي تتضمن مرجحا لاحتمال صحتها، و هو تسمية من باشر قتل المتوکل من الأتراک، و هو مطابق للتاريخ العام بشکل عام، و قد ذکرنا في المقدمة ان هذا يصلح قرينة علي صحة الرواية، کما يصلح مرجحا للأخذ بها عند التعارض. و لکننا بعد اسقاط الاضعف في مقدار التعارض يمکن أن نأخذ بها في مداليلها و تواريخها الاخري.

خاتمة المطاف:

لا بد لنا في نهاية الحديث عن تاريخ امامنا الهادي عليه السلام، ان نشير الي موقفين له مهمين، يشار اليهما في التاريخ بشکل موجز يکاد يکون عابرا.

الموقف الأول: موقفه عليه السلام من الموالي عامة و الاتراک خاصة، و هم من کانت العاصمة العباسية الجديدة: سامراء، تزخر بهم.وقد عرفنا مما سبق مدي تأثيرهم علي السلطة و سيطرتهم علي الخلفاء، تنصيبا و عزلا و اختيارا و قتلا. و کان الخليفة يضطر الي أن يأخذهم بنظر الاعتبارز کل الاعتبار.



[ صفحه 157]



و لا يخفانا قبل کل شي ء، ان هولاء الموالي لم يکونوا من الموالين للامام ولا من قواعده الشعبية. بل کان أکثرهم الغالب ضده و مختلفين معه في المبدأ و المنهج، و من المسايرين لمبدأ الدولة و مناهجها، و المنتفعين من الخلافة العباسية. و کان جملة منهم قوادا متنفذين بيدهم أعلان الحرب و السلم مع أي شخص في أطراف الدولة. و کانوا يخوضون الحروب في الغالب في الجيش المثل للدولة و هو المنتصر في الحرب غالبا، و بذلک يغنم الاتراک و من اليهم أموالا طائلة، من الثراء علي حساب المظلومين المقهورين تحت الحروب.

ولم يکن الامام (ع) ليوافق علي تصرفاتهم التي لم تکن قائمة علي شي ء من تعاليم الدين و العدل الاسلامي الصحيح.و بخاصة انه يعلم موقفهم ضده و ضد مواليه، حتي کان الخليفة يستخدمهم في الکبس علي دار الامام و حبسه وازعاجه کما عرفنا.

ومن هنا ينبثق موقف الامام (ع) حيث کان يحاول، بحسب الامکان، و ببطء، و حذر، اقامة الحجة عليهم و افهامهم صدق مبدئه و عدالة قضيته. و لا يخفي ما في ذلک من الفائدة المباشرة للامام و أصحابه و مواليه، فانه بنشاطه هذا يخفف من غلواء المندفع منهم ضده و يقرب المعتدل، منهم اليه، أو يجعل الفرد منهم يشک في حال نفسه و يعيد النظر في سلوکه و شأنه.

و نستطيع ان نقسم موقف الامام (ع) منهم الي نقطتين، باعتبار موقفه من عامتهم تارة و موقفه من کبرائهم و قوادهم اخري.



[ صفحه 158]



النقطة الأولي: في موقف الامام عليه السلام من جمهور الموالي و عامتهم في العاصمة العباسية.

و من المستطاع القول بان جهوده المستمرة اثمرت بعض الشي ء في تقريب بعضهم اليه و ايمانهم بفضله و ربما بامامته.. و کانت جهود الامام عليه السلام متواصلة في ذلک.

فمن ذلک: انه مربه ترکي: فکلمه بالترکية. فنزل عن فرسه فقبل حافر دابته. قال الراوي: فحلفت الترکي انه ما قال لک الرجل؟ قال: هذا کناني باسم سمبيت به في صغري ببلاد الترک، ما علمه أحد الا الساعة. [8] و لعلک لا حظت معي هذا التأثير الکبير الذي استطاع الامام ان يصهر به الترکي، باقامته هذه المعجزة البسيطة له.

و من ذلک: ما عن علي بن مهزيار - و هو من ثقات الأئمة عليهم السلام و معتمديهم -قال: ارسلت الي ابي الحسن الثالث - يعني الامام الهادي (ع) -غلامي و کان صقلبيا. فرجع الغلام الي متعجبا. فقلت له: مالک يا بني؟ فقال: و کيف لا اتعجب؟ ما زال يکامني بالصقلبية کأنه واحد منا، و انما أراد بهذا الکتمان عن القوم. [9] .

و لعلک لا حظت معي، ان الامام استطاع بتکامه بتلک اللغة أن يحصل علي فائدتين: احداهما: التأثير علي الغلام و اکتساب اعجابه و تعجبه من اطلاع الامام و معرفته، ان لم يعتبرها معجزة من معاجزه.



[ صفحه 159]



ثانيهما: انه بهذا الاسلوب اخفي مضمون الکلام عمن لا يريد اطلاعه عليه من عيون الدولة. فتراه يتکلم مع الغلام بلغته مع کونه عالما بکونه يحسن اللغة العربية.

النقطة الثانية: موقفه عليه السلام من کبرائهم وقوادهم. و لا يخفي ما في المواقف الايجابي منهم من الدقة و الحرج، فانهم بصفتهم ممثلين للجهاز الحاکم، يکون الحذر منه حذرا منهم أيضا، و بخاصة ان اکثرهم ينهج نهج عدائه و الطعن في شأنه.

و من ثم لا نجد موقفا منقولا في التاريخ للامام عليه السلام تجاههم، ما عدا موقفه من بغا الکبير، الذي کان يعتبر واحدا من اثنين أو ثلاثة من أهم القواد الاتراک و متنفذيهم. فانه کان يملک تجاه الامام موقفا معتدلا و يشفق علي قضيته بعض الشي ء، و ربما انتج ذلک احيانا، استعمال مرکزه في رفع بعض الظلامات عنه و عن اصحابه.

يقول المسعودي: [10] و کان بغا کثير التعطف و البر علي الطالبيين. ثم ينقل له تعطفال علي بعض الطالبيين، حيث کان قد حاول قتل عامل المعتصم علي الکوفة، فأمر المعتصم بغا هذا بألقائه الي السباع..فلم يلقه. الا انه امره بان يجهد الا يظهر في أيام المعتصم..فوعده بذلک.

و کان هذا النشاط البناء لهذا القائد الترکي، في قضاء حوائج المومنين، يرد مورد الرضا في نظر النبي (ص). و من هنا نسمع بغا



[ صفحه 160]



يقول: رأيت في نومي النبي (ص) و معه جماعة من أصحابه. فقال لي: يا بغا احسنت الي رجل من امتي، فدعا لک بدعوات استجيبت له فيک. قال:فقلت: يا رسول الله و من ذلک الرجل؟ قال: الذي خلصته من السباع. فقلت: يا رسول الله. سل ربک ان يطيل عمري. فرفع يديه نحو السماء و قال: اللهم اطل عمره و اتم اجله. فقلت: يا رسول الله، خمس و تسعون سنة. فقال رجل کان بين يديه: و يوقي من الآفات. فقلت للرجل من أنت. قال: انا علي ابن ابي طالب. فاستيقظت من نومي، و أنا أقول: علي بن ابي طالب. [11] .

و مهما کان رأيک في صدق الأحکام و کذبها، فاننا وجدنا بغا يعيش نيفا و تسعين سنة حتي توفي عام 248 [12] وفي نقل آخر انه کان حيا عام 253 حين قتل وصيف الترکي... [13] و علي أي حال فهذا لا يعدو ان يکون مرجحا لطول عمره.

و ينقل التاريخ للامام الهادي عليه السلام موقفا واحدا تجاه بغا الکبير يدل علي التأييد الضمني له. و ذلک اثناء وجود الامام في المدينة المنورة قبل انتقاله الي سامراء، فانه في عام 230 اغار الاعراب من بني سليم علي المدينة و نهبوا الأسواق و قتلوا النفوس، و لم يفلح حاکم المدينة في دفعهم رغم القتال الشديد. بل انتصروا عليه فازداد شرهم و استفحل



[ صفحه 161]



أمرهم. فوجه اليهم الواثق العباسي بغا الکبير ففرقهم و قتل منهم و اسر آخرين و انهزم الباقون. [14] .

و بالطبع فان مثل هذه الحوادث الموسفة تولم قلوب الناس و بخاصة قلب المومن الذي يشعر بتعاليم الاسلام و المسوولية الدينية. فکيف بحال الامام عليه السلام.. و من ثم نري الامام حين ورود بغا جيشه الي المدينة..نراه يقول لأصحابه: اخرجوا بنا حتي ننظر الي تعبئة هذا الترکي. يقول الراوي: فخرجنا فوقفنا. [15] .

و کان الامام (ع) بصفته الرئيس و الموجه لاصحابه و مواليه يريد أن يشجع بغا و يويده ضد هذا العمل التخريبي الموسف. و ان کان التاريخ قد اهمل تماما، ما اذا کان قد وقع بين الامام و بغا شي من الکلام أو بين أصحابهما شي ء من المداولات.

الموقف الثاني: للامام عليه السلام تمهيده لغيبة حفيده محمد بن الحسن بن علي الحجة المنتظر، و ذلک بتحضير الذهنية العامة لدي قواعده الشعبية، لتقبل فکرة الغيبة.

و تبليغ الامام عن ذلک کان منصبا علي مواليه و مقتصرا علي أصحابه الخاصين، و لم يکن يعم الآخرين، لانهم لم يکونوا يومنون بتسلسل خط الأئمة الاثني عشر، اذن فيکون تبليغهم بذلک تبليغا بلا موضوع.



[ صفحه 162]



ويلاحظ في تبليغ الامام عليه السلام التخطيط لحماية الحجة المهدي عند غيبتة.فکلام الامام حوله محاط بهالة من القدسية و الغموض، و مشفوع بالتأکيد المتزايد بانه لا يحل لأحد ذکر اسمه. و ذلک توصلا الي عدم تسر به الي الجهاز الحاکم.

و قد وردت عنه -بهذا الصدد- عدة احاديث نقتصر علي بعضها: فمن ذلک قوله (ع)-في کلام (ع) -في کلام له: و من بعدي الحسن ابني. فکيف للناس بالخلف من بعده، قال الراوي: فقلت: و کيف ذلک يا مولاي. قال: لأنه لا يري شخصه و لا يحل ذکر اسمه حتي يخرج فيملأ الأرض قسطا و عدلا، کما ملئت جورا و ظلما.

و من غامض قوله (ع) في ذلک: اذا رفع علمکم من بين اظهرکم فتوقعوا الفرج من تحت أقدامکم. و قوله: فاني لکم بالخلف بعد الخلف. [16] .

و لا يخفي ما في الغموض من مصلحة خفاء المهدي (ع) حتي من أصحابه و مواليه. فان المستوي العام الذي يجب أن يشترکوا فيه هو الايمان بوجوده، و انه الثاني بعد الامام الهادي (ع) و هو معني: الخلف بعد الخلف. الا ان معرفتهم بالتفاصيل فهو مما لاسبيل اليه، لأن أفراد أصحابه و مواليه يختلفون في مقدار ضبطهم و صمودهم امام الاغراء و التهديد، فاذا عرفنا ان الدولة کانت مستعدة لبذل المستحيل و مختلف أساليب الاغراء و التهديد في سبيل القبض عليه، لعلمناانه يجب أن



[ صفحه 163]



يبقي اسم المهدي (ع) و مکانه و سائر أموره غامضة و مختفية حتي عن کثير من الموالين، لما يخشي من ضعفهم أمام الجهاز الحاکم.

و لذا سنري الامام الحسن العسکري لا يعرض ابنه المهدي (ع) الا علي القليل من أصحابه، بالمقدار الذي تقوم به الحجة علي الناس مع الضمان الکامل لنجاته من براثن الجهاز الحاکم، فکان موقف الامام الهادي عليه السلام تمهيدا لموقف ابنه الامام العسکري عليه السلام من ذلک، و تهيئة للذهنية العامة تجاهه.



[ صفحه 165]




پاورقي

[1] الارشاد ص 310. و المناقب ص 517.

[2] انظر الارشاد ص 311 وانظر الفصول المهمة لا بن الصباغ ص 298 و ما بعدها بتغيير قليل.

[3] المناقب ص 515 و ما بعدها.

[4] انظر اعلام الوري ص 346.

[5] الکامل ج 5 ص 303.

[6] انظر الخرايج و الجرايح ص 59.

[7] الکامل ج 5 ص 361.

[8] المناقب ج 3 ص 512.

[9] المصدر و الصفحة.

[10] المروج ج 4 ص 76.

[11] المصدر و الصفحة.

[12] المصدر ج 4 ص 75.

[13] الکامل لابن الاثير ج 5 ص 335.

[14] الکامل ج 5 ص 270.

[15] انظر اعلام الوري ص 243 و کشف الغمة ص 187 ج 3.

[16] انظر الاکمال المخطوط و انظر الخبر الأول في الکافي المخطوط.