بازگشت

الخطوط العامة لمواقف الامام


کان الامام الهادي عليه السلام في سامراء يمارس وظيفته الاعتيادية بصفته الامام و القائد لمواليه و المشرف علي مصالحهم و المدافع عن قضاياهم بمقدار الامکان، في تلک الحدود الضيقة التي تحدد بحدود الضغط و الرقابة الموجهة اليه و الي مواليه.

فکان له في ذلک موقفان:

الموقف الاول: اثبات الحق أو نقد الباطل، بحسب وجهة نظره، تجاه الناس من غير الموالين له؛ سواء علي المستوي العالي في الجهاز الحاکم،أو علي مستوي القواعد الشعبية العامة.

الموقف الثاني: المحافظة التامة علي أصحابه و رعاية مصالحهم و تحذيرهم من الوقوع في الشرک العباسي، و مساعدتهم في اخفاء نشاطهم، و ما الي ذلک، بحسب الامکان.

و لعلنا نستطيع ان نتکلم في کل موقف من هذين الموقفين، بما يوضح الفکرة و يبسط الامثلة التاريخية، و يوسس الاساس لما نريد التوصل اليه في نهاية المطاف، من دون ان نکون مضطرين الي ذکر



[ صفحه 124]



کل شاردة و واردة في ترجمته عليه السلام.

الموقف الاول:

نشاطه (ع) تجاه من لا يعتقد بامامته:

و يتجلي هذا الموقف في عدة نقاط:

النقطة الأولي: النقد السياسي علي المستوي الاعلي و هو ما يعبر عنه بلغة الفقة، انها کلمة حق أمام سلطان جائر.

و لعل أول و أوضح ما يندرج في هذا الصدد، ما ذکره جماعة من المورخين العامة و الخاصة، من انه سعي به (ع) الي المتوکل، و قيل ان في منزله سلاجا و کتبا، و غيرها من شيعته و اوهموه انه يطلب الأمر لنفسه فوجه اليه عدة من الاتراک ليلا، فهجموا علي منزله علي غفلة، فوجدوه وحده في بيت مغلق و عليه مدرعة من شعر، و علي رأسه ملحفة من صوف، و هو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد و الوعيد، ليس بينه و بين الارض بساط الا ارمل و الحصي، فأخذ علي الصورة التي وجد عليها، و حمل الي المتوکل في جوف الليل.

فمثل بين يديه و المتول يستعمل الشراب و في يده و کأس، فلما رآه أعظمه و أجلسه الي جانبه، و لم يکن في منزله شي ء مما قيل عنه و لا حجة يتعلل بها.

فناوله المتوکل الکأس الذي في يده. فقال: يا أميرالمؤمنين ما



[ صفحه 125]



خامر لحمي و دمي قط، فاعفني، فاعفاه. و قال: انشدني شعرا استحسنه. فقال: اني لقليل الرواية للشعر. قال: لا بد ان تنشدني شيئا. فانشده:



باتوا علي قلل الأجيال تحرسهم

غلب الرجال فما اغنتهم القلل



واستزلوا بعد عز من معاقلهم

فاودعوا حفرا يابئس ما نزلوا



ناداهم صارخ من بعد ما قبروا

أين الاسرة و التيجان و الحلل



اين الوجوه التي کانت منعمة

من دونها تضرب الاستار و الکلل



فافصح القبر عنهم حين ساءلهم:

تلک الوجوه عليها الدود يقتتل



قد طال ما أکلوا دهرا و ما شربوا

فاصبحوا بعد ما طول الاکل قد اکلوا



قال: فاشفق من حضر علي علي (ع) و ظن ان بادرة تبدر اليه فبکي المتوکل بکاء کثيرا حتي بلت دموعه لحيته، و بکي من حضره ثم امر برفع الشراب.ثم قال: يا ابا الحسن، أعليک دين؟! قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فامر بدفعها اليه، ورده الي منزله مکرما. [1] .

و لعلنا نستطيع أن نفهم من هذه القصة، عدة امور:

الاول: مقدار الجو المکهرب الذي کان يعيشه الامام (ع) تجاه



[ صفحه 126]



السلطات، و کيفية معاملتهم معه، تلک المعاملة التي کان للاتراک اليد الکبري في ارتکابها و تحمل جريرتها.

الثاني: ان الامام هو الذي أراد عن علم و عمد ان يکون في جوف الليل، علي الحالة التي رأوه عندها. فقد علم بنحو غيبي أو بطريق خاص، بمثل هذا الهجوم المفاجي ء. فاخفي مستنداته بنحو تام و بدأ بقراءة آيات في الوعد و الوعيد، مما يکون حجة علي هولاء الأتراک المهاجمين. و ان تخيل الحکام و المورخون أيضا ان القيام بهذه العلمية کان علي حين غرة منه و غفلة.

الثالث: ان الامام اعطي لهذا المقام مقاله، بالنحو الذي لا يکون مهددا مباشرة للکيان القائم، مع کونه واقعا موقع التأثير البالغ، لکونه تذکيرا بالموت و العقاب في وقت التلبس بعصيان أوامر الله تعالي. وکان له من الشمول لکل موقف سياسي أو شخص منحرف، ما يکفي لمتعظ.

الرابع: ان المتوکل کان في لا شعوره وفي مرحلة غامضة من بواطن نفسه، يعترف بامرين أولهما: ان الحق في جانب الامام، و ان قضيته عادلة، ثانيهما: ان ما يقترفه من الأعمال، انحراف عن الاسلام و عصيان لأوامر الله المتفق علي ثبوتها بين المسلمين، فهو يحس بوقع الجريمة و خز الضمير. الا ان کلا من هذين الاحساسين تغطيها اغشية المال و الملک و المصالح الشخصية، الذي جعلته في قمة المنحرفين و المعادين لأهل البيت.



[ صفحه 127]



و علي أي حال فقد استطاع الامام أن يمس بانشاده بواطن احساسه، فابکاه و نجا من الشر و الضرر الذي کان يحاوله ضده، بل زاد المتوکل علي ذلک باعطائه المال و صرفه الي منزله معززا مکرما.

و من مثل هذا الموقف ما کان من الامام (ع) مع أحمد بن الخصيب، و من هو ابن الخصيب؟! هو الذي استوزره المنتصر و ندم علي ذلک، [2] و ذلک لأن ابن الخصيب کان ضيق الصدر بطيئا في حوائج الناس ظالما، و من ذلک انه رکب ذات يوم فتظلم اليه متظلم بقصه، فاخرج رجله من الرکاب فزج بها في صدر المتکلم فقتله فتحدث الناس في ذلک. فقال بعض الشعراء في اثر ذلک:



قال للخليفة يا ابن عم محمد

اشکل وزيرک انه رکال



اشکله عن رکل الرجال فان ترد

مالا فعند وزيرک الأموال [3] .



و قد شارک جماعة الأتراک في تنصيب المستعين بعد المنتصر، [4] و لکن المستعين نفاه عام 248 الي اقرايطش (اليونان) [5] .

ورد ان الامام عليه السلام کان يساير احمد بن الخصيب هذا؛ في



[ صفحه 128]



اثناء وزارته، و قد قصر ابوالحسن عنه، فقال لهل ابن الخصيب: سر جعلت فداک. فقال له ابوالحسن (ع): انت المقدم. يقول الراوي: فما لبثنا الا أربعة ايام حتي وضع الدهق علي ساق ابن الخصيب، و قتل. [6] .

فهذا من النقد الضمني، و القاء الحجة، علي هذا الوزير المنحرف، من حيث لا يعلم، و لکن الامام (ع) قال له قولا صريحا، نتيجة لاعتدائه عليه و الحاحه في الانتقال من الدار التي قد نزلها و تسليمها اليه. قال الراوي: فبعث اليه أبوالحسن: لاقعدن بک من الله مقعدا لا تبقي لک معه باقية، فأخذه الله في تلک الأيام. و هذه هي دعوة المظلوم المستجابة، و خاصة في مثل شأن هذا الامام الممتحن (ع).

ومن موارد اثبات الحجة علي المستوي الحکومي العالي، ما ورد بشکل مشهور عن زرافة حاجب المتوکل، ما حاصله: ان مشعوذا هنديا أراد ان يأنس المتوکل بلعبه. و کان الامام (ع) حاضرا في المجلس فأراد الهندي أن يخجله ببعض شعوذاته، ووجد من المتوکل رغبة في ذلک. فما کان من الامام الا ان اشار الي صورة أسد مرسومة علي احدي الوسائد فوثبت الصورة علي شکل أسد حقيقي فافترس الهندي المشعوذ و عاد الي شکله الأول علي الوسادة.

قال الراوي فتحير الحاضرون، و نهض علي بن محمد (ع) فقال



[ صفحه 129]



له المتوکل: سألتک بالله الا جلست ورددته. فقال: و الله لا يري بعدها اتسلط أعداء الله علي اوليائه، و خرج من عنده. ولم ير الرجل بعدها. [7] .

النقطة الثانية- اثبات الحجة علي المستوي الشعبي العام:

و ذلک: بالنحو الذي لا ينافي السلبية و الحذر، من السلطة القائمة. و ذلک: علي أحد مستويين - احدهما: المستوي الشخصي و الآخر:المستوي الجماعي.

المستوي الأول: اثبات الحق و اقامة الحجة تجاه أشخاص باعيانهم. مثل موقف الامام تجاه ذلک النصراني الذي جاءدار الامام حاملا اليه بعض الأموال. و بمجردان وصل أمام الدار خرج اليه خادم أسود. فقال له: انت يوسف بن يعقوب. قال: نعم، قال: فانزل. واقعده في الدهليز، فتعجب النصراني من معرفته لاسمه و اسم ابيه، و ليس في البلد من يعرفه، و لا دخله قط، ثم خرج الخادم فقال: المئة دينار التي في کمک في الکاغذ، هاتها. فناولها اياه. و جاء فقال: ادخل، فدخل؛ و کان الامام وحده. فطالبه الامام (ع) بالاسلام و الرجوع الي الحق نتيجة للآيات التي رآها بقوله يا يوسف. ما آن لک؟! فقال يوسف: يا مولاي، قد بان لي من البرهان ما فيه کفاية لمن اکتفي.

فقال: هيهات انک لا تسلم. و لکنه سيسلم ولدک فلان، و هو من



[ صفحه 130]



شيعتنا. يا يوسف ان اقواما يزعمون ان ولايتنا لا تنفع أمثالک. کذبوا و الله، انها لتنفع. امض فيما وافيت له، فانک ستري ما تحب. قال الراوي: فمضيت الي باب المتوکل فنلت کل ما أردت و انصرفت [8] .

و علي هذا المستوي موقف الامام (ع) تجاه سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح، الذي کان واقفيا، فقال له الامام (ع)، الي کم هذه النومة امالک ان تنتبه منها. قال: فقدح في قلبي شيئا و غشي علي و تبعت الحق. [9] .

انظر الي هذه الرمزية التي استعملها الامام (ع) في کلامه، بحيث لم يکن يصلح لفهمه الا المخاطب، و بذلک أدخله في مواليه و قواعده الشعبية، بعد ان کان حائدا عنه. الي غير ذلک من الامثلة التي نکتفي منها بما نقلناه.

المستوي الثاني: اثبات الحق أمام جماعة أو جماعات، عند سنوح الفرصة و تنجز المسوولية: بشکل هادي ء ليس فيه تحد للوضع القائم،أو مقابلة لخط الحکام.

فمن ذلک: انه کان لبعض أولاد الخلفاء وليمة دعا اليها الامام



[ صفحه 131]



الهادي عليه السلام. فلما رأوه انصتوا اجلالا له. و جعل شاب في المجلس لا يوقره، و لا جعل يلفظ و يضحک، يدعوه الي ذلک تجاهل وجود الامام و التهوين من شأنه أمام جماعة المدعوين. فقال الامام له: ما هذا الضحک مل ء فيک، و تذهل عن ذکر الله، انت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور. فکف عما هو عليه. و کان کما قال [10] حيث مات الشاب في الموعد المحدد. و لم يکن علي أحد من المدعوين، الا ان يعرف موعد مدته، ليعرف حق قول الامام عليه السلام.

ومن ذلک: ان السلطان خرج في يوم من أيام الربيع، الا انه صائف، و الناس عليهم ثياب الصيف، اما الامام (ع) فعليه لباد و علي فرسه ثوب يحميه المطر، وقد عقد ذنب فرسه. و الناس يتعجبون منه و يقولون: ألا ترون الي هذا المدني، و ما قد فعل بنفسه. قال الراوي: فلما خرج الناس الي الصحراء لم يلبثوا ان ارتفعت سحابة عظيمة، هطلت. فلم يبق أحد الا ابتل حتي غرق بالمطر. و عاد عليه السلام، و هو سالم في جميعه. [11] و هنا کان يکفي کل واحد من هولاء، قليلا من الالتفات ليروا کرامة الامام عليه السلام.

و هنا نلاحظ ان مشارکة الامام (ع) لموکب السلطان في الخروج الي الصيد و هو لهو کان مفضلا عند الخلفاء و الوزراء في تلک



[ صفحه 132]



العصور-ناتجة في الحقيقة عما عرفناه من سياسة الخلافة العباسية في حجز الامام (ع) في بوتقة البلاط، و عزله عن قواعده الشعبية و نشاطه البناء، لکي يکون دائما تحت الرقابة و النظر.

النقطة الثالثة- جهاده العلمي

ذلک الجهاد الذي کان يقوم به عليه السلام، لکي يثبت حقا أو يدفع باطلا، أو يجيب عن استفتاءات الخليفة له، أو يدفع تحديه عنه.

اما ما کان من اثبات الحق محضا، من دون أن يکون مسبوقا بتحد. أو ازعاج. فمنه ما اجاب به عليه السلام عن سوال الاهوازيين حين سألوه عن الجبر و التفويض. و هو بيان مطول بدأه بمقدمة حول اثبات الامامة طبقا للمفهوم الحق الذي يعتقده، و اتبعه بالجواب الصحيح عن الامر بين الامرين. [12] .

و منه ما أجاب به أحمد بن اسحاق حين سأله عن الروية و ما فيه الخلق. [13] .

و أما ما کان من دفعه للباطل، بعد اشتباه المسألة و التردد فيما هو الحق عند البعض، فمنه ما تکلم به عليه السلام مع فتح بن يزيد الجرجاني، لا زالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه [14] و ما رد به علي



[ صفحه 133]



رجل عباسي حين عز عليه تقدم الامام عليه، مع اعتقاده انه اشرف منه نسبا!! [15] .

و اما المتوکل و استفتاءاته و تحدياته للامام عليه السلام، فهو کثير، فان المتوکل في الوقت الذي يعوزه الفقه في عدد من الوقائع، يضطر الي الرجوع الي الامام لتذليل ما يواجهه من عقبات. و لکنه کان يمزج استفتاءاته بالتحدي، فيسأل عن الحکمة أو الدليل بقصد الاحراج لا بقصد الفهم الصحيح،علي ما سنعرف. و کان الامام (ع) يجيبه بالشکل الذي يراه مناسبا مع فهمه و فهم الحاضرين، و موافقا للمصلحة مع کونه مثبتا للحق في نفس الوقت.

فمن ذلک انه قدم الي المتوکل رجل نصراني فجر بأمرأة مسلمة، فأراد ان يقيم عليه الحد، فاسلم. فقال يحيي بن أکثم -و هو قاضي القضاة يومئذ- قد هدم ايمانه شرکه و فعله. و قال بعضهم يضرب ثلاثة حدود. وقال بعضهم يفعل به کذا و کذا.

فلما رأي المتوکل هذا الاختلاف بين الفقهاء. أمر بالکتابة الي ابي الحسن العسکري الامام الهادي عليه السلام، لسواله عن ذلک. فلما قرأ الکتاب کتب عليه السلام: يضرب حتي يموت.فانکر يحيي



[ صفحه 134]



وانکر فقهاء العسکر: سامراء- ذلک. فقالوا: يا أميرالمومنين، سله عن ذلک فانه شي ء لم ينطق به کتاب ولم يجي ء به سنة.

فکتب اليه: ان الفقاء قد انکروا هذا. و قالوا: لم يجي ء به سنة و لم ينطق به کتاب. فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتي يموت. فکتب عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده، و کفرنا بما کنا به مشرکين. فلم يک ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا [16] فأمر به المتوکل، فضرب حتي مات. [17] .

و نستطيع ان نفهم من ذلک، بوضوح، امرين:

الأول: ان المتوکل بالرغم من افتقاره الي الرجوع الي فتوي الامام عليه السلام لحل معضلته، لم يکن علي استعداد لتنفيذ ما أمره الامام الا بعد مراجعته و التأکيد عليه في طلب الدليل.

الثاني: اننا نفهم من سياق الآية التي استشهد بها الامام، طريقة فهمة عليه السلام للموقف، و هو: ان الاسلام الذي اظهره هذا النصراني ليس ايمانا صحيحا، و انما هو لقلقة لسان اظهرها للتهرب من اقامة الحد و النجاة من العقاب. و کل من اظهر الايمان خوفا من العدل الالهي، لا يکون الايمان نافعا له، و يکون مستحقا لمثل هذا العقاب الذي أمر به عليه السلام.

و قد يکون موقف المتوکل تجاه الامام موقف التحدي صرفا،



[ صفحه 135]



لا لأجل الحاجة الي تطبيق الفتوي، و لا لأجل الحاجة الي فهم الحق في المسألة، و لا لأجل اثبات جدارة الامام عليه السلام توخيا للايمان به؛ بل لمجرد التحدي. فمن ذلک ان المتوکل يقول لابن السکيت: أسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي! فيسأله ابن السکيت عن بعض ما يراه صعبا و مشکلا، فيخرج الامام (ع) ظافرا من هذا التحدي، و يجيب بما هو الحق الصريح. و اذ ينتهي الکلام مع ابن السکيت يبتدر يحيي بن اکثم، فيقول: ما لابن السکيت، و مناظرته، و انما هو صاحب نحو و شعر و لغة؛ و رفع قرطاسا فيه مسائل، فأملي علي بن محمد عليه السلام، علي ابن السکيت جوابها. [18] .

انظر الي تعليق ابن اکثم حين قرأ جواب الامام، تجده قد تخوف من عمق اجوبته و دقة علمه، من أن يشارک في الدعاية له و تأکيد صدق قضيته، و بالنهاية توسيع و تقوية قواعده الشعبية؛ قال يحيي ابن اکثم للمتوکل: ما تحب أن تسأل هذا الرجل عن شي ء بعد مسائلي هذه. و انه لا يرد عليه بشي ء بعدها الا دونها. وفي ظهور علمه تقوية للرافضة. [19] .

فهذه عدة نقاط من الموقف الأول للامام في العاصمة العباسية.



[ صفحه 136]



الموقف الثاني:

موقفه مع أصحابه و مواليه.

و هو ما يرجع الي المحافظة عليهم و حمايتهم من الانحراف و من الارهاب العباسي.و مساعدتهم علي قضاء حوائجهم بحسب الامکان. و يندرج في هذا الموقف عدة نقاط:

النقطة الأولي: حماية أصحابه و ذوية من الانحراف، و بيع الضمير للحکام بارخص الاثمان.

ولعل اهم و اوضح موقف. وقفه الامام (ع) في هذا الصدد، موقفه في ردع اخيه موسي بن محمد بن علي بن موسي علي آبائه الصلاة و السلام، عن الاجتماع مع المتوکل في المجلس الذي کان يريده المتوکل له، و هو مجلس اللهو و الشراب، ليتوصل بذلک الي هتک اخيه الامام الهادي عليه السلام، و التشهير به. و لکن الله تعالي اتم نوره، و لم يتوصل المتوکل الي مقصوده.

فان المتوکل، تحت سورة من الحقد و الغضب، قال لأصحابه في بعض مجالسه: و يحکم قد أعياني أمر ابن الرضا [20] وجهدت ان يشرب معي و ان ينادمني، فامتنع، وجهدت ان اجد فرصة في هذا المعني فلم اجدها. فقال له بعض من حضر المجلس: ان لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال؛ فهذا اخوه موسي قصاف عزاف، يأکل



[ صفحه 137]



و يشرب و يعشق و يتخالع، فاحضره و اشهد به. فان الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلک. فلا يفرق الناس بينه و بين اخيه. ومن عرفه اتهم اخاه بمثل فعاله.

و جاء هذا الاقتراح مناسبا مع اتجاه المتوکل و بلسما علي جرح قلبه. فامر باستقدامه الي سامراء مکرما، و أمر له باستقبال فخم يحضر فيه جميع بني هاشم و القواد و جماهير الناس. و کان عازما علي أنه اذا قدم اقطعه ارضا و بني له فيها، و حول اليها الخمارين و القيان - أي الجواري و المغنيات - و أمر بصلته و بره. و زاد علي ذلک - لأجل تحقيق غرضه -ان افرد له منزلا سريا يصلح ان يزوره فيه.

و الي هنا، حاول المتوکل، بسلطته علي شوون الدولة، ان تکون موامرته علي هتک الامام بواسطة التشهير باخيه، تامة. الا ان ذلک مما لا يمکن أن يفوت الامام خبره، و لا يمکن ان يتغاضي عنه. لأنه هو المقصود بالذات، في هذا التخطيط، و العمل ضده عمل ضد الدين و ضد سيد المرسلين، باعتبار انه يعتقد انه المثل الأساسي الاکمل لهذا المبدأ المقدس، فوقف الامام (ع) ضد هذه الموامرة موقفه الحاسم.

خرج عليه السلام مع المستقبلين، فتلقي اخاه في قنطرة وصيف، و هو موضع يتلقي فيه القادمون. فسلم عليه و وفاه حقه. ثم جاء دور تحذيره من الموامرة و تنبيهه علي ما ينبغي ان يتصرف، بالنحو الذي يقتضيه رضاءالله تعالي و تعاليم الاسلام. فقال له الامام: ان هذا



[ صفحه 138]



الرجل [21] قد احضرک ليهتکک ويضع منک، فلا تقر له انک شربت نبيذا قط. واتق الله يا اخي ان ترتکب محظورا. فقال له متجاهلا: وانما دعاني لهذا، فما حيلتي. قال له الامام (ع): فلا تضع من قدرک و لا تعض ربک و لا تغفل ما يشينک، فما غرضه الا هتکک.

وهنا بدأ الاعراض و التشکيک من موسي اخيه، اذ لعله کان يحسن الظن بالمتوکل و ينکر موامرته، أو لعله يدرکها و ليس لديه منها مانع، بالرغم مما فيها من الهتک له و لأخيه و لدينه. فکرر عليه أبو الحسن القول و الوعظ، و هو مقيم علي خلافه. فلما رأي أنه لا يجيب؛ وجد الامام عليه السلام أن آخر الدواء الکي، و انه لا بدان يقول قوله الحاسم، مستمدا من وراء الغيب، فقال له: اما ان المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه لا تجتمع عليه انت و هو أبدا.

ثم انظر کيف يتم الله نوره، و يأخذ بيد الامام (ع)..ان المتوکل لأسباب مجهولة، تحول من ذلک الحماس العظيم للاجتماع مع موسي في دار منفردة في مجلس اللهو و الطرب، تحول الي محاولة ابعاده و حجبه عنه و عدم الاجتماع به. حيث أقام موسي ثلاث سنين، يبکر کل يوم الي باب المتولکل، فيقال له: قد تشاغل اليوم، فيروح، ويبکر، فيقال له: قد شرب دواء. فما زال علي هذا ثلاث سنين حتي قتل المتوکل. [22] ولم يجمع معه علي شراب. [23] .



[ صفحه 139]



النقطة الثانية:

حمايته لأصحابه من الارهاب العباسي. و ذلک بمقدار امکانه، ولا ينافي خطه السلبي العام.

و لعل أوضح موقف يروي من ذلک، هو موقف الامام مع محمد بن الفرج الرخجي، اذ کتب اليه مخدرا: يا محمد اجمع امرک و خذ حذرک.فلم يفهم ماذا أراد الامام بکلامه هذا، ولو کان قد فهم لدفع عن نفسه شرا مستطيرا. يقول هذا الراوي: فانا في جمع امري لست أدري ما الذي أراد بما کتب، حتي ورد علي رسول حملني من وطني مصفدا بالحديد، و ضرب علي کل ما أملک، و کنت في السجن ثماني سنين.

ثم انظر الي لطف الامام عليه السلام به مرة اخري، حيث کتب اليه و هو في السجن: يا محمد بن الفرج لا تنزل في ناحية الجانب الغربي قال الراوي:فقرأت الکتاب و قلت في نفسي: يکتب الي أبوالحسن بهذا و انا في السجن ان هذا لعجب. فما لبثت الا اياما يسيرة حتي فرج عني و حلت قيودي و خلي سبيلي. [24] .

و يندرج في ذلک مساعدته له بطريق الدعاء. و هو الطريق الغيبي المتوفر دائما، للانقاذ من المصاعب و حل المشاکل. فکان الامام عليه السلام يلجأ اليه حين يجد المصلحة في ارتفاع الصعوبة عن هذا الطريق.



[ صفحه 140]



فمن ذلک ما حدث به أحد المعاصرين لذلک العصر المتضررين من الحکم العباسي، حيث يقول: قصدت الامام يوما فقلت: ان المتوکل قطع رزقي. و ما أتهم في ذلک الا علمه بملازمتي لک. فينبغي ان تتفضل علي بمسألته... ولم يتفضل الامام بالوساطة الي المتوکل - کما طلب - و انما تفضل عليه السلام بالوساطة مع الله تعالي، و هو غاية المأمول و نهاية المسوول ذو القوة المتين. فقال لهذا الرجل: تکفي ان شاءالله.

يقول هذا الراوي: فلما کان في الليل طرقني رسل المتوکل رسول يتلو رسولا. فجئت اليه فوجدته في فراشه. فقال: يا أبا موسي يشتغل شغلي عنک و تنسينا نفسک. أي شي ء لک عندي به. فقلت: الصلة الفلانية، و ذکرت أشياء. فأمر لي بها و بضعفها.

و الي هنا تأکد في ذهن هذا الرجل بان الامام قد نفذ وساطته المطلوبة..فبدر الي الوزير الفتح بن خاقان و قال له مستفهما: وافي علي بن محمد الي ههنا، أو کتب رقعة! فأجاب الوزير بالنفي.

قال: فدخلت علي الامام. فقال لي: يا أبا موسي هذا وجه الرضا. فقلت ببرکتک يا سيدي، و لکن قالوا: انک ما مضيت ولا سألت. فاجابه الامام عليه السلام..انظر الي جوابه اذ يسند النتيجة الي الارادة الالهية و العون الالهي حيث لا يوجد المعين. فان أهل البيت عليهم السلام قد اجابوه الي کل ما يريد فاجابهم عزوجل الي کل ما يريدون. و کل من کان کذلک حصل علي هذه النتيجة الکبري



[ صفحه 141]



لا محالة. قال الامام عليه السلام: ان الله تعالي علم منا انا لا نلجأ في المهمات الا اليه. و لا نتوکل في الملمات الا عليه. و عودنا -اذا سألناه-الاجابة. و نخاف ان نعدل فيعدل بنا. [25] .

و يشبه هذا الموقف، موقفه عليه السلام مع ايوب بن نوح-و هو من ثقات أصحابه [26] -حين تعرض له بالاذي قاضي الکوفة السائر في خط الجهاز الحاکم، المدعو بجعفر بن عبدالواحد القاضي. فکتب الي الامام يشکو اليه ما ناله من الأذي. قال الراوي: فکتب الي: تکفي امره الي شهرين. فعزل عن الکوفة في شهرين. واسترحت منه. [27] .

و لعلنا في غني عن التعليق علي هذا الموقف من الامام بامرين:

احد هما: ان الامام عليه السلام اطلع بطريق سري غيبي أو طبيعي علي قرار عزل هذا القاضي قبل شهرين من صدوره.

ثانيهما: ان الامام عليه السلام استعمل في الجواب عبارة غامضة يمکن ان تخفي علي (الرقيب). فانه لم يکن يمکن ان يفهم أحد ان المقصود هو قاضي الکوفة غير ايوب بن نوح.

النقطة الثالثة:

قضاء الامام لحوائج أصحابه بحسب الامکان. لعلنا قد تم لدينا -الي حد الآن - التعرف علي ما کان يعانيه أصحابه و قواعده الشعبية



[ صفحه 142]



من ضيق في الحالة الاجتماعية و الاقتصادية معا، نتيجة لابعادهم عن المسرح العام سياسيا و اجتماعيا. و قد کان الامام عليه السلام يتوخي من وراء مساعدتهم عدة فوائد:

اولا: قضاء حوائجهم الخاصة.

ثانيا: ترکيز ثقتهم به، بصفته قائدهم الأعلي و مأملهم الأسمي عند الظروف القاسية، و المعين عند عدم وجود المعين.

ثالثا: تجديد نشاطهم الاجتماعي، بحسب ما يراه لهم عليه السلام و تقتضيه سياسته في ذلک العصر. و هي -علي ما عرفنا-:العمل في سبيل الله و العدل الاسلامي بشکل لا يثير الحقد و الخطر عليهم.

و أهم ما يندرج في هذا الموقف: انه دخل علي الامام جماعة من أفضل أصحابه و اوجههم عنده و عند قواعده الشعبية، و هم:أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري و أحمد بن اسحاق دينا عليه. فقال عليه السلام لثمان بن سعيد، و کان وکيلة: يا أبا عمرو؛ ادفع اليه ثلاثين الف دينار و الي علي بن جعفر ثلاثين الف دينار وخذ الف دينار و يعلق علي ذلک علماونا:بان هذه معجزة لا يقدر عليها الا الملوک، و ماسمعنا بمثل هذا العطاء. [28] .

و أما نحن فيمکننا أن نستشف من وراء ذلک.. الموقف القيادي



[ صفحه 143]



المرکزي الذي کان يقوم به الامام بين قواعدهم الشعبية و مواليه. ذلک الموقف الذي کانت تحاول الدولة العباسية الحيلولة دونه.. و لم تکن موفقة في ذلک الي حد کبير. فالامام يستلم الأموال الطائلة- بالطرق السرية أو العلنية الممکنة- مما يکون لدي مواليه من الضرائب الاسلامية کالخراج و الزکاة و الخمس. و هذا ما يتضح أيضا لمن راجع تاريخ آبائه عليهم السلام، و سيأتي في تاريخ ولده الامام الحسن العسکري عليه السلام ما يشبه ذلک.

وانما يتم تسليم هذه الأموال لکي تصرف في مصالح الاسلامية الاجتماعية العامة- بعيدا عن العاصمة العباسية- في تلک المهام التي تقتضي صرف عشرات الآلاف من الدنانير. و نحن مهما بلغ بنا الخيال، لا يمکن ان نتصور وصول الدين، في قضاء الحوائج الشخصية، الي ثلاثين الفا.الا أن يکون دينا في عمل اجتماعي واسع أکبر من المصالح الشخصية و المسوولية العائلية. و خاصة في أمثال هولاء من الفقهاء و الورعين، مضافا الي اننا رأينا الامام عليه السلام يعطي الاثنين بدون طلب أو شکوي في دين.

و علي أي حال فهذه هي الخطوط العامة السياسية الامام (ع)، فيما تمثله من موقفيه الرئيسين تجاه مواليه و تجاه الآخرين.



[ صفحه 144]




پاورقي

[1] انظر ابن خلکان ج 2 ص 434. و ابوالفداء ج 1 ص 47 و ابن الوردي ج 1 ص 232 و المسعودي في المروج ج 4 ص 11.

[2] المروج ج 4 ص 48.

[3] المصدر و الصفحة.

[4] الکامل ج 5 ص 311 و المروج ج 4 ص 48.

[5] الکامل ص 312.المروج ج 4 ص 61.

[6] الارشاد ص 311. و المناقب ص 511 ج 3.

[7] کشف الغمة ج 3 ص 184.

[8] کشف الغمة ج 3 ص 183.

[9] المناقب ج 3 ص 511.

[10] المناقب ج 3 ص 517.

[11] المصدر السابق ص 516.

[12] انظره في الاحتجاج ج 2 ص 251 و ما بعدها.

[13] انظره في المصدر و الصفحة.

[14] انظره في المصدر ص 260.

[15] انظر الاحتجاج ج 2 ص 260.

[16] المومن 85-84.

[17] المناقب ج 3 ص 509.

[18] المناقب ج 3 ص 507.

[19] المصدر ص 509.

[20] يعني الامام الهادي عليه السلام.

[21] يعني المتوکل العباسي.

[22] فعرف من ذلک ان هذه الحادثة وقعت عام: 244.

[23] الارشاد ص 312 و غيره.

[24] اعلام الوري ص 342.

[25] المناقب ج 3 ص 514.

[26] فهرست الشيخ الطوسي ص 40.

[27] کشف الغمة ج 2 ص 176.

[28] المناقب ج 3 ص 512.