سلبية الامام تجاه الأحداث
وقد عاصر الامام الهادي (ع) في سامراء بقية أيام المتوکل، و هي حوالي اربعة عشر سنة، الي ان قتله الأتراک عام 247، ثم أيام المنتصر ثم المستعين ثم قسما من خلافة المعتز، حيث توفي الامام (ع) عام 254، و اما المعتز فقد خلعه الأتراک عام 255 کما عرفنا.
و قد تتابعت في خلال هذه الأعوام من الحوادث ما لا يحصي، مما عرفناه فيما سبق و مما لم نعرفه.و لعل أهم ما عرفناه هو حصار بغداد و القتال الذي وقع فيها بين المستعين و المعتز. و الذي ادي الي تولي الأخير کرسي الخلافة، و خلع الأول نفسه عام 252.
کما ان هناک نشاط الخوارج الذي کان يومئذ قويا فعالا مدعما بالمال و السلاح، بقيادة مساور الشاري. و هناک الثورات و الانتفاضات العلوية و غيرها، و هناک الفتوح و الحروب الاسلامية علي الحدود، في الاندلس و سميساط و غيرها. و حروب في داخل الدولة بين مختلف الطامعين في القيادة و الظهور، و هناک تغير الوزارات و القضاة و هناک الحالة الاقتصادية، بما فيها مشاکل و تبذيرات البلاط و الوزراء
[ صفحه 117]
و الحاشية. و هناک موقف المتوکل من العلويين و هدمه لقبر الحسين عليه السلام، الي غير ذلک من الحوادث مما لا يکاد يحصي.
و لم يرد الينا تجاه ذلک، أي تعليق من قبل الامام الهادي (ع) علي أي واحد من هذه الحوادث، مهما عظمت اهميته، بل يمکن ان يقال بشکل تقريبي انه لم يرد الينا من موقف الامام (ع) مع الخلفاء-غير المتوکل -الا أقل القليل.
و قد عرفنا فيما سبق الأسباب التفصيلية التي حدت بالامام الي اتخاذ موقف السلبية تجاه الاحداث. علي اننا يمکن أن نضيف الي تلک العوامل ما يلي:
اما بالنسبة الي علاقة الامام بالخلفاء، فتتحکم فيها العوامل الثلاثة الآتية:
العامل الأول: ما عرفناه من ضعف مرکز الخلافة و سقوط هيبتها عن أعين الناس، و خروج الأمر من يد الخليفة الي زمرة من القواد الأتراک و الموالي البعيدين کل البعد عن الاسلام و ذکر الله تعالي. حتي استطاعوا ان يعزلوا الخليفة و ينصبوا الآخر، بما فيهم المتوکل نفسه، و ان استطاع ان يفک نفسه من هذا الأسر الي حد ما فيقوم ببعض النشاط الاجتماعي و يبقي في الملک مدة کافية.
اما غير المتوکل من الخلفاء، ممن وردوا الي الحکم بيده، فقد ازاد تقوقعه علي نفسه و بطره و انصرافه عن شوون الناس، الي اللهو
[ صفحه 118]
و اللعب، فلم يکن لديهم الادراک الکافي للمسائل الاجتماعية حتي ينظروا الي الامام عليه السلام،أو يکونوا معه علاقة خاصة و اتجاها معينا، سوي الاتجاه العام الذي رسمه اسلافهم.
الأمر الثاني: ما عرفناه من ان المتوکل کان من متطرفي بني العباس، في عداوة أهل البيت عليهم السلام و مواليهم. و فعل في ذلک ما لم يفعله غيره. و کان من آثار ذلک جلبه الامام الهادي (ع) الي سامراء لزيادة مراقبته و الحجر عليه، و معرفة جميع مستويات أعماله، و هو مما يعکس حذرا و توجسا في أعمال الامام (ع) لا محالة، مضافا الي ما قد يريده الامام بسلبيته، من اعلان الاحتجاج الصامت علي تلک الأعمال النکراء.
علي حين ان ابنه المنتصر حين تولي الخلافة بعد ابيه، ألان مسلکه مع أهل البيت و اظهر الميل اليهم؛ فکان ان خف الظغط علي الامام (ع) و اصحابة و موالية، الا ما کان من اتجاه الخط العام الضروري لحفظ أساس الدولة العباسية، و کان نتيجة لذلک أقل خوفا من غيره، من انتفاض العلويين عليه.
الأمر الثالث: ان المتوکل کان يشعر بمسوولية خاصة تجاه الامام عليه السلام، باعتبار ما جعجع به من بلده و اقلق حياته الخاصة و العامة. و لم يکن هذا الشعور بالمسوولية في مثل حقد المتوکل، باکرام الامام حقيقة، و الا فقد کان الخليق به ان يطلق له حريته، و هو مالا يريده المتوکل أن يکون، و انما الشي ء الذي انتجه هذا
[ صفحه 119]
الشعور بالمسوولية أو تحسس الاثم، هو ان الامام أصبح مرکز انتباه المتوکل و محور نشاطه، فکان يجلسه في مجالسه و يرکبه في مراکبه علي ما يأتي توخيا الي الامن منه و کفکفة نشاطه.
و اما بالنسبة الي عدم تعليق الامام عليه السلام علي کثير من الأحداث، الداخلية و الخارجية، فلو غضضنا النظر عن العوامل التي ذکرناها في المقدمة، و قلنا ان عدم الوجدان يدل علي عدم الوجود- و هذا ما ننکره جزما باعتبار ظروف النقل التاريخي التي عرفناها -فمن الممکن القول: ان هذه السلبية کانت نتيجة طبيعية، لا نعزاله التام عن الشوون السياسية:
فاننا نعلم، من المنظر في احوال زماننا و کل زمن، ان من يعلن عن آرائه السياسية، هو أحد شخصين أو جهتين:
احدهما: الشخص أو الجهة التي تمارس الحکم فعلا، فهي مسوولة - لکي توضح موقفها من الأحداث -ان تعلن عن رأيها السياسي فيها، و لکي تعطي المبررات المنطقية لاجل نشاط معين في مصلحة أو ضد أمر سياسي أو اجتماعي معين.
ثانيهما: الشخص أو الجهة التي تطمع بتولي الحکم في يوم من الايام و لا يکون محجورا عليها أو محددا سلوکها، من جهة قاهرة. فهي تعلن أمام الملأ آراءها السياسية و مبادءها الاجتماعية، لکي تحاول اقناع
[ صفحه 120]
الجمهور بها، فتجتلب بذلک المويدين و المناصرين، ليکونوا عونا لها في معرکتها السياسية التي تنشدها.
اما الذي لا يکون متصفا باحد هذين الصفتين، مهما کان فردا عظيما و وجيها، أو ذو جهة نافذة قوية علي الصعيد السياسي، فليس من الضروري أو المتوقع أن يعلن عن آرائه السياسية.
و الامام لم يکن يمارس الحکم، کما هو معلوم، و لم يکن ممن يطمع بالحکم في ذلک العصر المنحرف غير الواعي، کما قلنا. علي انه لو کان مريدا ذلک في ضميره، فقد کان مراقبا محجورا، تعد عليه أفعاله و أقواله. و معه لا امل له في الحکم عادة. اذن فقد کان الامام عليه السلام من الناحية السياسية، فردا عاديا من الامة، و انه اراد ذلک لنفسه، بحسب ما رآه من المصلحة، بالرغم من انه من الناحية الدينية الامام و القائد و المثل الأعلي لمحبيه و مواليه.
و لم يکن له عليه السلام، من امره يومئذ الا الفتوي و الجواب علي السوال الذي يتلقاه، لو وجد مصلحة في الاجابة. ومن الواضح ان شخصا من صانعي الأحداث في ذلک العصر لم يسأله عن عمل من أعماله، ليأخذ بمشورته و رأيه. فلا يبقي لدينا الا احتمال ان أصحابه کان لهم الوعي الواسع، و کانوا يسألون أمامهم عن آرائه السياسية، و کان يجد مصلحة في جوابهم، فيجيبهم. و هذا الاحتمال و ان کان له ما يبعده،
[ صفحه 121]
الا ان حدوث مثل ذلک، في ذلک الظرف العصيب، لم يکن ليصل الينا أکثر مما وصل منه فعلا.
مضافا، الي ان جملة من الأحداث، کان في مستطاع أصحاب الامام عليه السلام و أعدائه، کما في مستطاع المورخ اليوم، استنتاج رأيه فيها، بصفته الوجود الممتد لرسول الله (ص) و الممثل للقواعد الاسلامية الصحيحة. فنحن لا نحتاج الي مزيد تفکير حين نريد معرفة رأية باشخاص الخلفاء أو سلوکهم المنحرف أو الوزراء أو القواد، و نشاطهم غير القائم علي أساس العدل الاسلامي، أو رأيه في الخوارج أو في هدم قبر جده الحسين عليه السلام و منع الزوار عنه. فان کل ذلک مما يرفضه رفضا باتا و يستنکره أشد الاستنکار. و کذلک الحروب و المناوشات التي کانت تقع في داخل البلاد الاسلامية، قائمة علي الطمع و التوسع. و کذلک تنصيب القضاة غير الاکفاء بنظر الامام (ع) و جميع ما يصدرون من أحکام.
اما بالنسبة الي حروب المسلمين مع الاغيار في الحدود الاسلامية، فمن المستطاع القول بموافقته عليها، باعتبارها القضية التي تخص الاسلام، الذي يمثل الامام حقيقته و جوهره. و لو کان الجهاد في ذلک الزمان في سبيل الله محضا -کما کان علي عهد رسول الله (ص) -لکان الامام أن المبادرين الي تأييده، و لکننا اسلفنا في التاريخ العام ان فکرة الجهاد انحدرت في الازمان المتأخرة الي التجارة و المساومة، فلم
[ صفحه 122]
تکن هذه الناحية، من الجهاد، بمرضية للامام عليه السلام، و بخاصة و ان الأموال المغتنمة،لم تکن تصرف في مصلحة الدين و الامة، و انما کانت: في الأغلب، تصرف في الشوون الخاصة للحکام.
و انما الذي يکون مرضيا للامام عليه السلام، هو نتيجة الجهاد و هو سقوط المنطقة الکافرة بيد المسلمين، و دخولها في بلاد الاسلام و خلاصها من حکم الکفر أو الالحاد.
[ صفحه 123]