سفره الي سامراء
و شي عبدالله بن محمد الذي کان يتولي الحرب و الصلاة بمدينة الرسول المنورة، بالامام الهادي عليه السلام، و کان يقصده بالاذي. فبلغ الي الامام خبر و شايته، فکتب الي المتوکل يذکر تحاول عبدالله بن محمد عليه، و کذبه فيما سعي به. [1] .
فنري کيف ان عبدالله بن محمد يمثل الخط العام للدولة، في الفزع من نشاط الامام و تصرفاته، و کيف وصل به الحال الي ان يرسل الي المتوکل بخبره، باعتباره حريصا علي مصالح الدولة، و منتبها علي مواطن الخطر؟! و لعله التفت الي بعض النشاطات المهمة التي کان يقوم بها الامام بعيدا عن السلطات، فاوجس منها خيفة حدث به الي هذه الوشاية.
الا ان المتوکل کان يعلم بکل وضوح، عدم امکان الحصول علي أي مستند ضد الامام عليه السلام، فان للأئمة عليهم السلام، کما سبق ان قلنا اساليبا من الرمزية و الاخفاء يمکنهم خلالها القيام بجملة من جلائل
[ صفحه 107]
الأعمال. لعل أهم دلائل الاخفاء، هو تصديه الي تکذيب الخبر برسالة يرسلها الي المتوکل نفسه، يکذب فيها التهمة، و ينفي عن نفسه صفة التأمر علي الدولة. فان نشاطه کان مقتصرا في الدفاع عن قواعده الشعبية و تدبير أمورهم، و ليس له ضد الدولة أي عمل، و ان کان قد أوجب عمله توهم عبدالله بن محمد لذلک.
و المتوکل هو من عرفناه بموقفه المتزمت ضد الامام عليه السلام وکل من يمت اليه بنسب أو عقيدة. و لکنه يتلقي رسالة الامام (ع) بصدر رحب، و يرسل له رسالة مفصلة کلها اجلال له و اعظام لمحله و منزلته. يعترف بها ببرائته و صدق نيته و يوعز بعزل عبدالله بن محمد عن منصبه بالمدينة، و يدعي الاشتياق اليه و يدعوه ان يشخص الي سامراء مع من اختار من أهل بيته و مواليه. [2] .
و هذ الطلب، و ان صاغه المتوکل بصيغة الرجاء، الا انه هو الالزام بعينه، فان الامام عليه السلام ان لم يذهب حيث امره يکون قد اثبت تلک التهمة علي نفسه و اعلن العصيان علي الخلافة، و کلاهما مما لا تقضيه سياسة الامام (ع).
و اما عام سفره هذا، فقد ذکر في الارشاد: [3] ان الرسالة مورخة بجمادي الآخرة سنة ثلاث و اربعين و مأتين. و ليس في هذا ما يلفت النظر لو لا ما ذکره ابن شهر اشوب من ان مدة مقام الامام
[ صفحه 108]
الهادي عليه السلام في سامراء من حين دخوله الي وفاته، عشرون سنة. [4] و اذ نعرف انه عليه السلام توفي عام 254، [5] تکون سفرته هذه قبل عشرين عاما من هذا التاريخ أي سنة 234. و هذا انسب بالاعتبار السياسي، باعتبار کونه بعد مجي ء المتوکل الي الخلافة بعامين، فيکون المتوکل قد طبق منهجه في الرقابة علي الامام في الاعوام الأولي من خلافته بخلافه علي الرواية الثانية، التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوکل أحد عشر عاما. والله العالم بحقائق الأمور.
اعطي المتوکل رسالته الي احد صنائعه، يحيي بن هرثمة، ليسلمها الي الامام في المدينة، و امره باستقدامه الي سامراء. فأسمعه يقول في روايته للحادثة: [6] فلما صرت اليها -يعني المدينة المنورة- ضج أهلها و عجوا ضجيجا و عجيجا ما سمعت مثله. فجعلت اسکنهم و احلف لهم اني لم أؤمر فيه بمکروه؛ و فتشت بيته، فلم أجد فيه الا مصحفا و دعاء و ما أشبه ذلک.
فنعرف من ذلک، مدي اخلاص اهل المدينة لامامهم عليه السلام، و حرصهم عليه، و مدي تأثيره الحسن فيهم، ولم يکن هذا الضجيج الکبير منهم، الا لمعرفتهم بوضوح سوء نية السلطات تجاه الامام
[ صفحه 109]
و ابتغائها الدوائر ضده. فکان تأسفهم و تأوههم ناشئا من امرين:
احدهما:انقطاعهم عن الامام عليه السلام، و حرمانهمه من ارشاداته و الطافه و نشاطه الاسلامي البناء. و هذا ما اراده المتوکل، و قد حصل بالفعل بسفر الامام، فانه لم يعد الي المدينة بعد ذلک.
الثاني: مخافتهم علي حياته، لا حتمال قتله عند وصوله الي العاصمة العباسية. و هذا هو الذي فهمه يحيي بن هرثمة من الضجيج -و حاول ان لا يفهم غيره - فحلف لهم انه لم يومر فيه بمکروه.
ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسس. ففتش دارالامام، بالمقدار الذي حلاله، فلم يجد فيه أي وثيقة تدل علي التمرد أو الخروج علي النظام العباسي. و بذلک يکون المتوکل قد فقد أي مستمسک يويد ما سمعه عنه أو خافه منه. و استطاع الامام عليه السلام ان يحافظ علي مسلکه العام في السلبية.
و خرج الامام الهادي عليه السلام، مصاحبا لولده الامام العسکري و هو صبي، مع ابن هرثمة متوجها الي سامراء. و حاول ابن هرثمة في الطريق اکرام الامام و احسان عشرته. و کان يري منه الکرامات و الحجج التي تدل علي توليه طرق الحق، و توضح لهذا الرجل جريمته في ازعاج الامام و زعزعته و التجسس عليه، و جريمة من امره بذلک أيضا.
ويمر الرکب ببغداد-في طريقه الي سامراء- فيقابل ابن هرثمة
[ صفحه 110]
و اليها -بعد انتقال الخلافة عنها- و هو يومئذ اسحاق بن ابراهيم الطاهري. و هو؛ بمقتضي منصبه، محل الثقة الکبري من قبل المتوکل، بحيث جعله واليا علي عاصمته الثانيةو قائما مقامه فيها. فنري اسحاقا الطاهري يوصي بن هرثمة بالامام مستوثقا من حياته قائلا له: يا يحيي ان هذا الرجل قد ولده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم خصمک. فيجيبه يحيي: و الله ما وقفت له الا علي کل امر جميل. [7] .
و نحن حين نسمع هذا الحوار بين هذين الرجلين اللذين يمثلان السلطات نفسها و يعيشان علي موائدها، نعرف کم وصل الحقد و التمرد علي النظام القائم يومئذ، وکيف أنه تجاوز القواعد الشعبية الي الطبقة العليا الخاصة من الحکام، مواضع ثقة الخليفة و منفذي اوامره. کما نعرف مدي اتساع الذکر الحسن و الصدي الجميل لافعال الامام و أقواله بين جميع الطبقات، حتي بين الحکام انفسهم.
و حين يصل الرکب الي سامراء، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف الترکي، و قد عرفناه قائدا من القواد الاتراک المنتفعين بالوضع القائم، ممن کان يشارک في تنصيب الخليفة و عزله و مناقشته في اعماله و يظهر من التاريخ ان وصيفا کان هو الآمر رسميا علي ابن هرثمة، و من هنا قال له وصيف: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يکون المطالب بها غيري.
[ صفحه 111]
يقول ابن هرثمة: فعجبت من قولهما، و عرفت المتوکل ما وقفت عليه و ما سمعته من الثناء عليه، فاحسن جائزته و اظهر بره و تکرمته. [8] و قد عرفنا مما سبق ان کل هذا الکرم الحاتمي، علي الامام عليه السلام، لم يکن من أجل حفظ حق الامام، و انما کان تغطية للمنهج السياسي الذي يريد المتوکل اتباعه، و هو عزل الامام عن نشاطه و قواعده الشعبية و الحذر مما قد يصدر منه من قول أو فعل.
و من هنا نري، ان المتوکل أمر ان يحجب عنه الامام [9] في يوم وروده الأول الي العاصمة العباسية. و نزل الامام في مکان متواضع يدعي بخان الصعاليک، فقام فيه يومه. [10] .
ومر عليه، وهو في هذا الخان احد محبيه مقدري فضله، صالح بن سعيد، فاحزنه حال الامام عليه السلام، فقال له: جعلت فداک، في کل الامور ارادوا اطفاء نورک و التقصير بک حتي انزلوک في هذا الخان الأشنع، خان الصعاليک.
و يسمع الامام (ع) ما قال، فيجيب و کأنه قد التفت بعد استغراق تفکير و انشغال بال: ههنا انت يا ابن سعيد.
ثم يريد الامام (ع) ان يفهم هذا المشفق بان الحال الدينوية، و ان
[ صفحه 112]
کانت قد وصلت به نتيجة للظلم و العذر الي هذا الحد المنحدر، الا ان ذلک مما يرفعه قدرا و يزيده جهادا، و يضيف الي فضائله فضيلة. فهو لم يخسر شيئا و انما الامة الاسلامية هي التي خسرته. و انه يعيش علي الأنوار الروحية و اللذائذ العلمية و النفحات القدسية، فکأنه في روض الجنان. فيومي ء الامام بيده، و يقول: انظر. قال ابن سعيد: فنظرت فاذا بروضات انقات و انهار جاريات و جنات فيها خيرات عطرات و ولدان کأنهن اللولو المکنون، فحار بصري و کثر تعجبي. فقال لي، حيث کنا: فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليک. [11] .
[ صفحه 113]
پاورقي
[1] انظر الارشاد ص 313.
[2] انظر نص الرسالة في الارشاد. الصفحة السابقة و ما بعدها.
[3] انظر ص 314.
[4] المناقب ج 3 ص 505.
[5] انظر الارشاد ص 307 و ابن الوردي ج 1 ص 232 و ابن خلکان ص 435 ج 2 و الطبري ج 11 ص 157 و العبر ج 2 ص 5 و ابوالفداء ص 254.
[6] انظر المروج ج 4 ص 84 و ما بعدها.
[7] مروج الذهب ج 4 ص 85.
[8] المصدر و الصفحة.
[9] الارشاد ص 314.
[10] اعلام الوري ص 348 و انظر الارشاد أيضا نفس الصفحة السابقة.
[11] الارشاد ص 314 و اعلام الوري ص 348.