بازگشت

نهاية الصراع


يعتبر تأريخ البشرية منذ أعمق امتداداته تأريخ صراع مرير بين قوي الخير وقوي الشر. بين جبهة الحق وجبهة الباطل. هذا الصراع لم يتوقّف لحظة في طول عمر البشرية، ولم يفتر. مظاهر هذا الصراع متعدّدة، ومتنوّعة، ومستقطبة. والأدوات التي استخدمت في هذا الصراع هي الأخري متعدّدة ومتنوّعة، کل واحد من البشر شارک في هذا الصراع.

وأيّ عمل تصادفه تستطيع أن تعرف إلي أي جبهة ينتمي، إلي الحق أم إلي الباطل. وهذا الصراع ينعکس علي الإنسان الواحد، ففي أعماق نفسه نزعات خير، ونزعات شر، ومواقف الإنسان تخضع لطبيعة الصراع بين هذه النزعات، وتلک قضية تصدق حتي علي الرسل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ إلاّ إذا تَمَنّي أَلْقي الشّيْطُانُ في أُمْنيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشّيْطان). [1] .

مظاهر هذا الصراع تمتد إلي أعماق التأريخ، بل إلي بدايات التأريخ. فمنذ أولاد آدم والخلاف الذي نشب بينهما سجّلت أوّل جريمة علي الأرض، في أوّل جولة من جولات الصراع. ولقد مثّل الأنبياء والرسل علي طول التأريخ الرادة المخلصين لجبهة الحق، وکان يقف في نفس الجبهة الأوصياء، وکل أتباع الرسل.

بينما کان يقف في الجبهة المقابلة الوجوه النفعية، وأصحاب الذوات الانتهازية، أو العقد النفسية، سواء ما تسترّ منهم بقناع الإيمان، أو ما بدا مکشوفاً يعلن الشرک والجحود. ولقد تعاقب علي قيادة جبهة الحق مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، يعزّز بعضهم بعضاً، ويدفع إلي الإمام عجلة الحق کلّما تسرّب إليها الوهن والتعب.

(إذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَکَذَّبُوُهُما فَعَزَّزْنا بَثالِث، فَقالُوا إنّا إليْکُمْ مُرْسَلُونَ). [2] وکل نبوّة جديدة تواجه صراعاً جديداً متوقعاً، وعناداً عن الحق يرتکبه النفعيون. (وَما أَرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوُها إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ کافِرُونَ). [3] .

وبالطبع فإنّ نتيجة الصراع لم تکن واحدة. فهناک انتصارات متبادلة، وبالمثل تراجعات متبادلة. والبشرية علي هذا المنوال إلي اليوم الحاضر. وستبقي غير جازعة، ولا متهاونة.

لمن نهاية الصراع؟

بعض الناس يحملون روح التشاؤم، وآخرون يحملون روح الخوف. وأولئک وهؤلاء يقلقون علي مصير الحق. هل يمکن أن يفوز يوماً ما؟ وکيف ذلک؟ ها هو الباطل يحکم الشعوب! وما تزال الأرض تشهد حکم الطاغوت! بل وکل الأرض في قبضة الکف السوداء! فأين الحق، وأين جيش الحق؟

إلا أننّا لا نستطيع أن نمضي مع هذا المنطق التشاؤمي. فالحق الکامل لا يوجد في الأرض. لکن هل يوجد باطل کامل في الأرض؟ إنّ مع کل باطل في هذه الأرض قدراً من الحق، وهذا الحق يحکم، وينفذ ويطبّق. وحينما نتوقع أن نجد حقاً محضاً خالصاً في هذه الأرض فإنّنا سنخيب يقيناً. وتبدو لنا الصورة قاتمة. لکن لماذا نفعل ذلک؟

إنّ التوحيد حق، والإسلام حق، والتشيع حق. وفي حکومة الخلفاء العباسيين کان هناک حق يحکم وباطل يحکم.

هناک حق يحکم. فالتوحيد منتصر، والإسلام علي إجماله منتصر. وهناک باطل يحکم، فالخط الإسلامي الأصيل مشرّد، ومطرود، ومعذّب والإسلام لا يملک الفرص الکافية لبناء المجتمع القويم. انحرافات الخلفاء کثيرة، والجور مبثوث في کل مکان.

لکن لم يکن ذلک يعني أنّ الباطل وحده هو الذي يحکم. ألم يکن الإمام علي بن الحسين عليه السلام يدعو لجيوش المسلمين في العهد الأموي، بالانتصار علي جيوش الروم؟ إذن فهي تعبّر عن حق. إنّک تستطيع أن تجد الحق في کل مکان، وفي کل موقع، لکن لن تجده وحده بالطبع. حکومات الغرب، وحضارة الغرب کم بلغت من الانحراف؟ لکن ألست تجد فيها الإيمان بالله؟ مهما تکن طبيعة هذا اليمان.

وقد لا تجد فيها الحرية الکاملة، لکن ألست تجد فيها بعض الحرية؟ ومهما يکن القانون غارقاً في الظلم والتعسّف، لکن قد يصيب بعض الحق حينما يمنع المعتدين، والمستغلين والنفعيين. وإذا کان الحق يواجه افتراقات وصراعات داخلية قد تضعف جبهته. ألم يکن الباطل مثل ذلک؟ إنّ صف الباطل لم يسلم من الاشتباکات الداخلية، ولم يطب له العيش يوماً، کلّما أتت أمّة لعنت أختها.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّي). [4] وأنت لا تجد وجهاً واحداً يدوم له العرش. إنّه سيقهر حتماً أمام قويً أخري، ولتکن من فصيلة الباطل، إلاّ أنها کثيراً ما تحمل قسماً من الحق. ومن هنا فالباطل في صراع، کما الحق في صراع:)وَقالَتِ اليَهُوُدُ لَيْسَتِ النّصاري علي شَيءٍ وَقالَتِ النّصاري لَيْسَتِ اليَهُوُدُ علي شَيء( [5] .

وبمقدار ما ينحسر الباطل يتقدّم الحق خطوات.

وجبهة الحق مهما بدت سليمة، فإنّها تعيش الصراع. إننا بحاجة إلي عمق في الرؤية. (إنْ يَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه). [6] (إنْ تَکُوُنُوا تَألَمُونَ فَإنّهُم يَألَمُونَ کَما تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مالا يَرْجُوُن). [7] لقد عالج القرآن نقطة الضعف التي أحسّها في المسلمين حين أصيبوا بنکبة، فألفتهم بسرعة إلي أنّ العدو يشکو مثل شکواکم، وتلک حقيقة صادقة إلي الأبد.

حين کانت جيوش النصاري تتقدّم، ألم تکن الکنيسة تعيش صراعاً عميقاً بين الکاثوليک والبروتستانت، لغاية التحرّر من بعض تعسّفات الکاثوليک، واضطهادهم. وحينما يزحف الجيش الشيوعي في العصر الحاضر، ألسنا نشهد أکبر انشقاق بين اتّجاهين فيه. وفي کل مکان تجد يميناً ويساراً ووسطاً!أليس الحق هو المستفيد من هذه التناقضات؟

لمن نهاية الصراع؟

مرّة أخري نعود لنطرح هذا السؤال، لکننا هذه المرّة نطرحه علي قضية القائد المنتظر لنجيب. لقد أعلن القرآن عن خاتمة الصراع الطويل. الصراع الذي بدأ منذ اليوم الأوّل من عمر البشرية. الصراع الذي عاشته البشرية طوال مسيرتها المکدودة. خاتمة هذا الصراع للحق، والحق وحده. (وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأَرْضِ، کَما اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِم وَلِيُمَکّنَنّ لَهُم دِينَهم الذي ارْتَضي لَهُم وَليُبَدّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). [8] .

(وَنُريدُ أنْ نمُنَّ علي الّذين اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثين). [9] وقضية القائد المنتظر هي تجسيد لهذا الوعد، وتعميق لإيماننا به. إنّها تبعد عنّا شبح اليأس تدفع بنا في قلب المعرکة، أبطالاً متمرّسين، واثقين بأنّ النصر حليفنا وأنّ الموت للعدو. لا داعي للقلق علي مصير الحق. لا تبهرنا جيوش الانحراف. صخرة الباطل مهما بدت شامخة، ومهما توطّدت في الأرض، فإنّها ستتحطم يوماً ما.

إنّ حکم الطاغوت لن يدوم، ولن يهنأ له العيش. إنّ حکم الطاغوت مهما تجبّر، وتعملق، وشمخ في العلو، فإنّه سيخسر الجولة، ويتهشم تحت وطأة الحق. (وَلا يَغُرنّکَ تَقَلّبُ الّذينَ کَفَرُوا في البلاد). [10] .

نعم..

إنّ الأرض سيخيّم عليها الظلام، والظلم. لکن حجب الباطل مهما تکاثفت فإنّها لا تمکث طويلاً أمام وهج الشمس.

سيزول الظلام، وتملأ الأرض بالقسط والعدل. هکذا تحدّثنا قضية القائد المنتظر. هؤلاء الذين قطع اليأس آخر آمالهم، وملکهم الانهيار. هؤلاء.. يجب أن يسترجعوا الأمل. يجب أن يقنعوا بأنّ الباطل هزيل، وأنّه سوف ينهزم.

المستقبل لجبهة الأنبياء والرسل والأوصياء. وواحد من هؤلاء الأوصياء هو القائد المنتظر. (وَمَا أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأساءِ). [11] .

إنّ قضية القائد المنتظر مصدر قوّة.)مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنَ دِوُنِ اللهِ أَوْلِياءَ کَمَثَلِ الْعَنْکَبُوُتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْکَبُوتِ لَوْ کانُوا يَعْلَمَوُنْ). [12] وإذا کان الأمل هو المحفز لأيّ تحرک، فإنّ قضية القائد المنتظر تخلق فينا هذا الأمل الحافز. المؤمن بهذه القضية لا ينهار، ولا ييأس، ولا ينخلع قلبه وهو يري الباطل يجول، ويعربد، ويحطّم، ويعيث في الأرض فساداً. إنّنا لن نموت. لن نتنازل. لن ننسحب من معرکة الشرف والحق والحياة. فحينما يضرب الباطل ضربته الأخيرة ستنکسر عصاه، وينتهي، ومن ثمّ يحکم الحق.

والذين کانوا مستضعفين في الأرض سيصبحون حکّام الأرض وقادة المسيرة. لکن من هم الذين لا يأکل قلوبهم اليأس. إنّهم قليل، وقليل جداً. غير أنّ هؤلاء القليل هم الذين يحملون راية الحق، ويحتضنون لواء القائد العظيم، مهدي آل محمّد. أفلا نکون من هؤلاء القليل؟ الذين وصفهم الإمام علي عليه السلام قائلاً: أولئک الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً. [13] .


پاورقي

[1] الحج: 52.

[2] يس: 14.

[3] سبأ: 34.

[4] الحشر: 14.

[5] البقرة: 113.

[6] آل عمران: 140.

[7] النساء: 104.

[8] النور: 55.

[9] القصص: 5.

[10] آل عمران: 196.

[11] الأعراف: 94.

[12] العنکبوت: 41.

[13] الکافي: 1/335، الحديث 3و339 الحديث 13.