طبيعة التدخل الإلهي
في تأريخ الأديان علي العموم، نجد ظاهرة ترتسم علي أکثر من صفحة، وتتکرّر أکثر من مرّة، هذه الظاهرة هي ما نطلق عليه ظاهرة التدخّل الإلهي. [1] .
فرغم أنّ طبيعة هذا الدين بشريّة ـ کما أسلفنا القول فيه ـ إلاّ أنّنا ما نزال نري صوراً عديدة للتدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
قصّة إبراهيم عليه السلام صورة من صور التدخّل الإلهي، حيث أضحت النار برداً وسلاماً علي إبراهيم.
وقصّة موسي عليه السلام هي صورة أخري لهذا التدخّل، حيث انفلق له البحر، بينما غرقت فيه جنود فرعون.
ومن تلک الصور، قصة محمّد صلي الله عليه وآله وهو مختف في الغار حين هاجر إلي المدينة، فالعنکبوت التي نسجت بيتها، والحمامة التي وضعت بيضها لتغطية وجود محمّد صلي الله عليه وآله ما هي إلاّ تعبير عن التدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
وعلي طول التأريخ نلتقي بنماذج من هذا التدخّل. وقضية الإمام المنتظر نفسها واحدة من هذه الصور والنماذج، کما سنري في ختام هذا الحديث. الحديث الآن عن طبيعة هذا التدخّل وحدوده. هل يخضع لضوابط معيّنة؟ وإذا کان فما هي تلک الضوابط؟ دعنا نرجع في فهم الموضوع أکثر إلي استعراض بعض صور التدخّل الإلهي، التي نلتقي بها في تأريخ الأديان. واحدة من تلک التدخّلات قصّة إبراهيم عليه السلام. لقد وجدنا کيف امتدّت يد الغيب لتنقذ إبراهيم عليه السلام من موت محتم.
فالنار التي أعدّت له ها هو يسقط في أعماقها، وها هي ألسنة النار المرتفعة تجرّ إليها إبراهيم. إنّه لا يملک شيئاً في الحال. ولو اجتمع الإنس والجن علي أن ينقذوه وهو يرتمي في أحضان تلک النار لما وجدوا لذلک سبيلاً. هنا تدخّلت السماء وتدخّل الغيب ليحمي هذا النبي من لهب النار، فکانت عليه برداً وکانت عليه سلاماً. ولکن کيف حدث ذلک، وضمن أية ظروف؟
أوّلاً:
لقد دعا إبراهيم قومه. أوضح لهم سبيل الحق، وکشف لهم زيف الباطل. تحمّل في ذلک کل عناء، وتجرّع کل مأساة. ولکن إصراره علي الدعوة کان يواجه إصراراً علي الباطل، وعناداً عن الحق. ماذا يصنع إبراهيم؟ لقد استخدم کل وسيلة، وهاهم يبتعدون عنه إلي غير رجعة. خابت آمال إبراهيم، فأشاح عنهم بوجهه، وإنّه ليقول:)أُفٍّ لَکُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَفَلا تَعْقِلُون(. [2] فهنا جهاد غير يسير، وعناء غير قليل، وعمل دائب متّصل لم ينقطع عنه إبراهيم.
ثانياً:
ولقد ظلّ إبراهيم وحده، لم يستجب له من قومه حتي الأقربون: لا يملک جنداً، ولا يملک أتباعاً. هو وحده في المسير الصعب، لا أحد يخلفه في المسير إذا هو انتهي. وها هو الآن وشيک أن تأکله النار. لقد کان يعني موت إبراهيم موت الدعوة کلّها. ولقد کان ارتحاله يعني ارتحال شريعة الله من الأرض. هنا جاء النداء: (يا نارُ کُوني بَرْداًً وَسَلاماًً علي إِبْراهيِمَ)، [3] وتدخّل الغيب فسجّل کلمته في أفق الکون.)وأَرادُوا بِهِ کَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرين(. [4] .
إنّ هذا العرض يکشف لنا عن ضابطين في التدخّل الإلهي:
الأوّل: أن تبذل قوي الحق آخر إمکانياتها، وتدفع إلي الصراع کل طاقاتها، لا تکسل، ولا تقعد، ولا تعترف للجبن، ولا تخلد إلي راحة.
الثاني: أن تصل قوي الحق إلي الطريق المسدود، ويتعذّر عليها أن تحمي وجودها، وتدفع عنها شبح الموت الساحق. حينذاک يکون الظرف قد حان لتدخّل غيبـي مباشر، فحين تعجز جنود الأرض، تشترک جنود السماء.
ومهما مشينا في دراستنا لنماذج التدخّل الإلهي فإنّنا سنعثر علي هذين الضابطين. خذوا قصّة موسي... کم دعا موسي قومه؟ وکم هي الأتعاب التي تحمّلها في هذا السبيل؟ إنّ شيئاً من طاقته لم يبق جامداً، لقد استنفذ کل ما عنده في سبيل الحق، ولم يؤمن له من قومه إلاّ القليل. لقد طاردهم فرعون إلي عرض البحر، حتي لقد استراب أصحاب موسي، وملکهم القلق: (فَلَمّا تَرائَي الجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسَي إنّا لمَُدْرَکُونَ، قال کلاّ إنّ مَعي رَبِّي سَيهْدينِ). [5] .
انظروا إلي الثقة التي يتحدث بها موسي، فهو عارف بأنّ جماعته لا يمکن أن تسحق، فضوابط التدخّل الإلهي متوفّرة. إنّه دعا قومه، ولم يأل في ذلک جهداً. وإنّ جبهته اليوم علي خطر، ولئن سحقت لا يخلفها أحد في الطريق. فالقضاء عليها کان يعني القضاء علي الحق کاملاً. ولقد استبان للغيب أنّ موسي صائر إلي الموت، لو لا أن تدرکه رحمة من ربّه، فجنود فرعون علي الأثر، وما موسي ومن معه إلاّ قليل.
وهنا قيل لموسي: (اضْرِبْ بِعَصاکَ البَحْرَ فانْفَلَقَ فَکانَ کُلّ فِرْقٍ کالطَّودِ العَظِيم. وَأزْلَفْنا ثَمّ الآخرين وأنْجَيْنا مُوسي وَمَنْ مَعَهُ أجْمَعِينْ، ثُمّ أغْرَقْنا الآخَرين). [6] .
ومن تأريخ الإسلام، وتأريخ الرسول الأکرم محمّد صلي الله عليه وآله نقتطع أکثر من قضية برز فيها التدخّل الإلهي واضحاً. ففي معرکة بدر کان وعداً إلهياً قاطعاً قد تجسّد. (بَلَي إنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا، ويأتُوُکُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يمُدِدْکُمْ رَبّکُمْ بِخَمْسَة آلافٍ مِنَ الملائِکَةِ مُسَوّمين) [7] .
ونزلت جنود السماء لتقطع طرفاً من الذين کفروا، أو تکبتهم فينقلبوا خائبين. لقد کانت الثقة تملأ قلب رسول الله صلي الله عليه وآله، وهو يعرف ضوابط التدخّل الإلهي. فالمسلمون جهّزوا بسخاء کل قواهم لمواجهة المعرکة، والدخول فيها. ولقد کانوا من قبل قد أبلوا بلاءً حسناً في تحمّل مسؤولية الدعوة وتثبيت دعائم هذه الرسالة الجديدة. وهم اليوم في أخطر مواجهة. عددهم لا يتجاوز الثلاثمائة إلاّ قليلاً. وعدّتهم تقلّ فيها السيوف، ويکثر فيها سعف النخيل. وعرف الله منهم الإخلاص، فهم يحملون في صدورهم إيماناً لا يثنيه شيء.
وعزماً لا يزعزع منه خوف. والمواجهة خطرة، خطرة. والقوي غير متکافئة. ولئن خسر المسلمون اليوم، لن يبقي لهم علي الأرض وجود. فهي معرکة حياة وموت. لقد رفع رسول الله صلي الله عليه وآله صوته داعياً ربّه: إن تهلک هذه العصابة لا تعبد. [8] .
إنّ محمّداً صلي الله عليه وآله في هذا الدعاء يعلن عن توفّر ضوابط التدخّل الإلهي. فلقد وصلت قوي الحق إلي نقطة الحسم، وها هي عاجزة عن المواجهة لولا أن تسعفها السماء بالعون. إنّ أحداً لن يبقي ليواصل المسير لو هلکت هذه العصابة. فهم کل ما يملک الإسلام من جند، ونبيّهم معهم. فمصير الرسالة يتحدّد في هذه السويعات المعدودات. ومن هنا کان واثقاً بالنصر، کل النصر. وهبط الملائکة آلافاً مردفين، وصدق الله وعده، وهزمت فلول الشرک.
إنّ الآية نفسها تشرح لنا ضوابط التدخّل الإلهي لقد قالت: (إنْ تَصْبِرُوا، وَتَتّقُوا..(. وهذا هو الضابط الأوّل. أن يصبر المؤمنون علي البلاء. يعدّوا عدّة الجهاد. يسيروا أبطالاً متمرّسين، غير عابئين بسوي الله والحق في دروب التضحية. (وَيَأتُوکُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا..(. تلميح بالضابط الثاني. أن يصير الحق في محنة، وأن يقع موقع الحرج. أن تنفذ من المسلمين آخر طاقة، ولا يعودوا قادرين علي حفظ الرسالة. فالمعرکة بالنسبة لهم مفاجئة، وورطة، وجيوش الشرک لا قبل لهم بها. حينذاک: (يُمْدِدْکُم رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مَنْ الملائِکَةِ مُسَوِّمين).
هناک آية أخري احتوت ضوابط التدخّل الإلهي وحدوده، ففي سورة الأنفال قال تعالي: (الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْکُمْ، وَعَلِمَ أنّ فِيکُم ضَعْفاً فإنْ يَکُنْ مِنْکُمْ مائةٌ صابِرَةٌَ يغْلِبُوا مائَتَيْنِ، وإنْ يَکُنْ مُنْکُم ألْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ الله، واللهُ مَعَ الصّابِرين). [9] .
متي جاء هذا القرار الإلهي؟
لقد جاء هذا القرار بعد أن علم الله صدق النية، من خلال التضحيات والبطولات التي جسّدها المسلمون بکل صبر وبسالة. وبعد أن علم الله أنّ طاقات المسلمين محدودة، والقوي التي تشترک في المعرکة غير متکافئة، فالمسلمون قلّة في العدد، وضعاف في العدّة. بينما المشرکون أضعافهم عدداً وعدّة. إذن فالمسلمون بحاجة إلي عون. لا يمکن أن يترکوا لوحدهم، وإلاّّ اصطلمهم العدو، وسحقهم، وبذلک تسقط راية الحق إلي الأبد. حينذاک أعطي هذا القرار، وهبطت إلي مسامع وأفئدة المسلمين بشري تزف إليهم النصر.
إن يکن منکم مائة صابرة يغلبوا مائتين. لأنّ اليد الإلهية تشترک معهم في المعرکة، والعزيمة تنفثها السماء في جنود الأرض، ليقلعوا أعمدة الشرک، ويزعزعوا حصونه وقواعده بإذن الله، والله مع الصابرين. وفي آية النصر يتّضح جداً الضابط الأوّل للتدخّل الإلهي. (إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْکُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ (فالنصر الإلهي ليس مطلقاً، وبلا ضابط.
النصر الإلهي رهين بأن يقدّم أنصار الحق أوّلاً کل طاقاتهم من أجل نصرة الحق، وضمان حياته. النصر الإلهي رهين بأن يتقدّم أنصار الحق خطوات، ويزجّوا أنفسهم في قلب المعرکة، ومن ثمّ يثبّت الله الأقدام، وينصر جيوش الحق.
ومن الخطأ أنّ نفهم التدخّل الإلهي بوصفه عملاً ارتجالياً لا يخضع لقانون. وأکثر منه خطأ أن ننتظر في معرکة الحق أن يهبط علينا الجند من السماء، ونحن قابعون في البيوت، وأن ينصرنا الله قبل أن ننصر رسالته، وأن يثبّت أقدامنا قبل أن نتقدّم بها في طريق النضال. ولنعد الآن إلي قضية الإمام المهدي عليه السلام. کيف تمثّل هذه القضية صورة من صور التدخّل الإلهي؟ وهل توفّرت فيها شروط قانون التدخّل؟ إنّ غيبة الإمام المهدي، وإفلاته من المطاردة الشديدة، لم يکن أمراً طبيعياً، وبالأخص لشخص لا يجاوز عمره خمس سنوات.
کما أنّ امتداد هذه الغيبة لمئات من السنين هو الآخر ليس طبيعياً، ولا ميسوراً ضمن الظروف الاعتيادية. ومن هنا فالقضية في فهمنا تعکس تدخّلاً إلهياً. إنّها قضية إعجاز، وتجاوز لقوانين الطبيعة المألوفة. ولست هنا بصدد البرهنة علي معقولية هذا الإعجاز، فما دمنا نضع هذه القضية في قائمة قضايا التدخّل الإلهي، والإعجاز الغيـبي، إذن لم يعد غريباً أو معسوراً، أن تحقق القدرة الإلهية هذا النمط من الإعجاز.
فالقدرة الإلهية لا تضيق ولا تعجز عن الامتداد بعمر شخص إلي آلاف السنين. أليست القدرة الإلهية هي التي أنطقت عيسي وهو في المهد؟! وحافظت علي حياة أهل الکهف أکثر من ثلاثمائة عام، دون أن ينالوا فيها طعاماً أو شراباً؟!. أليست القدرة الإلهية هي التي عرجت بالنبي محمّد إلي السماء، ورفعت عيسي من عالم الشهادة إلي عالم الغيب واختفي علي الناس؟
إذا کنّا لا نجد حرجاً في التصديق بکل ذلک، فإنّه ليس من حقّنا أن نتحرّج في قبول قضية القائد المنتظر، فهي صورة من صور الإعجاز، بل ومن أبسط تلک الصور. ومهما يکن فما أقصده الآن بالحديث هو التعرّف إلي الظروف التي دعت إلي هذا التدخّل. هل توفرّت ضوابط التدخّل الإلهي في هذه القضية؟ الحقيقة هي ذلک. فمن جانب کانت القوي الشيعية المناصرة للإمام عاجزة کل العجز عن حمايته، وتحصين وجوده.
ومن جانب آخر فإنّ خط التشيع الذي يمثل الإسلام الأصيل لم يعد قادراً علي تحمّل نکبة جديدة، بفقدان زعيمه الإمام المعصوم، فلا أحد يمکن أن يخلفه في هذه الزعامة، ويکون بمستوي المرحلة الحرجة. فلم يکن رجال الشيعة آنذاک مهيّئين في کافّة المجالات للقيادة والزعامة.
والظروف الحرجة العصيبة التي کانت تحيط بالتشيّع تتطلب قيادة في قمّة النضج، والاستيعاب، أو بالأحري قيادة معصومة، وهذا ما لم يکن متوفراً لدي أحد من رجال الشيعة. ومن هنا کان لا بد أن يبقي الإمام المهدي وراء الخطوط، وإلاّ فإنّ التشيع کان قريباً إلي التفتيت. لکن في ذات الوقت کان الوضع السياسي، وحالة المطاردة العنيدة لا تسمح للإمام أن يبرز تحت الشمس، لا بدّ أن يعمل تحت الستار.
وهکذا کانت الضرورة تقضي علي الإمام بما يلي:
إنّ عليه أن لا يترک الخط الشيعي، بل يبدأ بتجهيز وخلق القادة الأکفّاء لمواصلة العمل، وللقيام بمهام القيادة جميعاً، وفي خلال هذا الوقت يکون الإمام قد مشي بالتشيّع شوطاً آخر، يسمح له بترک القيادة ظاهراً لهؤلاء. ومن ناحية ثانية فإنّ عليه أن يمارس هذا العمل في خفاء، وبعيداً عن عيون الرقابة المنتشرة. وهذا ما تحقّق تأريخياً. ففي عهد الغيبة الصغري التي دامت أکثر من سبعين عاماً، توفّر الإمام خلالها علي تهيئة القدرة لدي الخط علي تحمل مسؤولية القيادة تماماً.
في الوقت الذي کان يمارس قيادته طوال هذه الفترة متستّراً، وعن طريق نوّابه الأربعة:
عثمان بن سعيد.
محمّد بن عثمان الخلاّني.
الحسين بن روح.
علي بن محمّد السمري.
کيف لم يکن رجال التشيع قادرين علي قيادة الخط لوحدهم؟ کما حدث ذلک فيما بعد، في عهد الغيبة الکبري، حيث بدأ فقهاء الشيعة يمارسون قيادة الخط بالاستقلال؟! إنّ الإجابة التفصيلية علي هذا السؤال تفرض عليّ تناول الوضع التأريخي للتشيع، وطبيعية المرحلة يومذاک.
غير أنّي سأوجز حديثي هنا لأقول:
إنّ حالة الإرباک السياسي، واستخدام کل أساليب القمع والتصفية، ومطاردة الوجود الشيعي في کل الأصقاع، وتحت کل ظل، لم يکن يسمح بنمو قيادات شيعية بارزة، ومتمکّنة من تجاوز کل هذه الصعوبات، والتغلّب علي کل هذه المحن، وعدم الانصدام نفسياً والانهيار تحت هذه الضغوط.
ومن زاوية ثانية فإنّ الکفاءة العلمية بالمستوي القادر علي مواجهة الأسئلة الکثيرة والمستجدة،وعلي کل الثغرات، أمر لم تتّخذ له تدابير سابقة. وفي مجموع هذه الملابسات کانت حياة الإمام عليه السلام مهدّدة بالخطر.
ولو لم تقدّر له الغيبة، والخلاص من مخالب القوي المعادية، لکانت ساعة الموت قد أزفت بالنسبة للمذهب کله، وبذلک تسقط آخر قلعة من قلاع الإسلام، التي ظلت محافظة علي وجودها طوال هذه الفترة. إذن فقد کان التدخّل الإلهي أمراً حتمياً، من أجل صيانة خط التشيع.
وبالفعل فقد ضاع الإمام المهدي عليه السلام علي الخصوم، بينما ما برحت اتصالاته برجال التشيع غير منقطعة قرابة سبعين عاماً.
وقد کانت هذه الاتصالات بما تحمله من توجيه علمي، أو سياسي، بمثابة الهواء الذي تتنفسه رئة التشيع، ومن دون ذلک فإنّ شجرة التشيع المهزوزة يومذاک لم تکن قادرة علي الثبات في الأرض أمام الهزات العنيفة.
والتدخّل الإلهي لا يتجسّد فقط في غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه. إنّ نهضته المظفّرة في اليوم الموعود مدعومة بيد الغيب، مسدّدة بنصر السماء. لکن متي يکون هذا التدخّل؟ ومتي يکون ذلک النصر؟ إنّه يخضع لنفس القانون الذي شرحناه في التدخّل الإلهي حينما تقذف جبهة الحق کل عدّتها.
وحينما يتفاعل المؤمنون في معرکة الحق، ويبذلون بسخاء کل الإمکانيات، ويرحّبون بکل التضحيات. غير کاسلين، ولا جازعين. يدافعون عن الحق بکل قوّة، وکل حرارة،وکل إخلاص. يتقدّمون بالراية خطوات، يثبتون الأقدام في المواقع. لا ترهبهم کثرة العدو، ولا توهن من عزمهم قلة الصديق. هم أصدقاء الحق، والحق وحده. وحين تنتهي طاقتهم، ويحتاجون إلي عون السماء يتدخّل الغيب. (حَتّي إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوُا أنَّهُمْ قَدْ کُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا) [10] .
هذا هو قانون التدخّل الإلهي. وفي ضوء هذا القانون تَتحدّد النهضة الکبري لقائدنا المنتظر.
لقد بقي علينا سؤال واحد: ما هو سرّ بقاء الإمام حياً إلي اليوم؟ ما هو العطاء الذي تقدّمه هذه القضية؟ وما أرجوه الآن هو السماح لي في تأجيل الإجابة عن هذا السؤال إلي فصل لاحق، ريثما نواصل ـ فعلاً ـ الحديث عن انعکاسات قضية القائد المنتظر.
پاورقي
[1] انظر شرح هذا القانون في کتابنا (الکتاب العقائدي): الجزء الأوّل منه.
[2] الأنبياء: 23.
[3] الأنبياء: 69.
[4] الأنبياء: 70.
[5] الشعراء: 61و62.
[6] آل عمران: 125.
[7] الشعراء: 63ـ65.
[8] تاريخ ابن خلدون:2/20، الخرائج والجرائح:1/156، مناقب أبي طالب:1/ 163، بحار الأنوار: 19/ 221 و226 و256 و324.
[9] الأنفال: 66.
[10] يوسف: 110.