بازگشت

مقدمة المؤلف


کنت أجدني مدفوعاً نحو هذا الحديث، ومشدوداً إليه بأکثر من رابط.

ذلک أنّي حينما فکّرت في إعادة کتابة فکرنا الإسلامي العملي وجدت أنّ قضية (القائد المنتظر) تعتبر أهم قضية، ينبغي أن يصاغ تصوّرنا لها صياغة أکثر فعّالية في مجال العمل الإسلامي.

فلقد باتت هذه القضية بالذات محور تصوّرات متجاذبة ومتناقضة.

وأستطيع القول بأنّها في وعي الإنسان المسلم والشيعي بالخصوص فقدت الکثير من ملامحها الحقيقية، ومداليلها العملية والسياسية.

وفي ذات الوقت کنت ألاحظ أنّ القضية تحتل مکاناً مرموقاً في مجموع فکرنا الإسلامي والشيعي خاصّة، فلقد کان يوقفني باستمرار، وأنا أطالع تأريخ وحديث الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام حرصهم البالغ علي تصدير هذه القضية في قائمة قضايا الإنسان الشيعي، وتحويلها من مجرّد فکرة خامدة إلي منطلق ثوري نابض، ومن مجرّد أمل غارق في العاطفة إلي حقيقة تلوح في الأفق کل ساعة، تتدفّق أنوارها حين يغرق الناس في السبات، أو يخشي عليهم من الغرق.

کنت أجد هذه القضية تحتل اهتماماً بالغاً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام حتي ليبدو لقارئ التأريخ أنّ جهوداً کبيرة بذلت من أجل ترسيخ هذه القضية في إيمان الرجل الشيعي، الذي يمثل النموذج الإسلامي الأکمل.

وهنا أحسست بالهوّة الکبيرة التي تفصل بيننا ـ کمؤمنين بهذه القضية ـ وبين المحتوي الحقيقي الذي رسمه الأئمّة لها، وجهدوا في تجذيره وتعميقه في قلب الرجل الشيعي.

وجدت أنّ المنحي الذي سلکنا فيه ونحن نجمع صدورنا علي الإيمان بالقائد المنتظر، منحي بعيداً عن الخط الذي کان ينبغي لإيماننا أن يسير فيه، والذي يمثل المعني الحقيقي الکبير لهذه القضية.

وتساءلت: کيف انقلبت هذه القضية في تصّور الإنسان الشيعي؟ کيف تحوّل الإيمان بالقائد المنتظر إلي سلاح للهزيمة يتّهمنا به المخالفون؟ وکيف خسرت مجتمعاتنا الإسلامية هذا الإيمان بوصفه أداة وسلاحاً نحو العمل الدائب، والتقدّم باستمرار نحو الانتصار لإسلامنا المنکود؟

والقضية بلا شک ذات جوانب نظرية علمية، من حق الباحث أن يقف عندها، لکنني لا أفهم من ذلک أن يسوغ لنا نسيان الجوانب الإيجابية والعملية، وطمرها تحت رکام المناقشات النظرية البحتة.

لقد کان من الحق، وکل الحق، لرجل أن يسأل عن تفاصيل غيبة هذا القائد؟ وکيف أفلت من قوي المطاردة العنيدة والمتجبّرة والمتغطرسة؟ وکيف أمکن لحياة رجل واحد أن تمتدّ قروناً متطاولة، لا تهدمها الشيخوخة، ولا يفلّ من کبريائها الزمن المتمادي الطويل؟

وکان من الحق والمنطق ـ بعد هذا ـ أن يطالب رجل بالدلائل التأريخية علي صدق هذه القضية وواقعيتها، ويکتشف ما إذا کانت حقيقة أم أسطورة خدع بها ناس من الدهماء والأغبياء، ريثما يعلّلون أنفسهم المسحوقة والخاسرة بالأمل بالنصر، ويبتهجون لهذا الأمل، دافعين عنهم شيئاً من سحنة الهمّ القاتل کما يحاول خصومنا أن يصفونا بذلک؟

کل هذه التساؤلات مقبولة، بل وضرورية في الوقت نفسه، لنعرف حقيقة إيماننا، ونکون علي بصيرة من الأمر.

لکن هل کان هذا هو کل شيء في سجل مسؤولياتنا، وأفکارنا؟

ما علينا لکي نصبح شيعة مخلصين في الولاء، إلاّ أن ننظر شيئاً في أدلّة القضية، ثمّ نسلّم للغيب القادر علي کل شيء أو الصانع للمعجزات، ثمّ نطوي صدورنا علي إيمان أشبه بإيمان العجائز، أو بإيمان الهاربين من الحياة والمسؤولية إلي زوايا الکهوف النائية!!؟

أکان هذا هو کل ما في الأمر؟ إذن فالقضية في غاية البساطة. ومثلها حينئذ لا يفسّر حجم الاهتمام المبذول من قبل الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام لترسيخ وتصليب إيماننا بها.

ومن هنا فإنّنا سنسيء لا لهذه القضية وحدها، وإنّما للأئمّة من أهل البيت، الذين ما برحوا يغرسون بذرة هذا الإيمان بالإمام المنتظر في قلب کلّ شيعي، آملين أن يتفجّر هذا الإيمان، ويتحوّل إلي عمل وکفاح متواصلين.

القضية إذن ذات مدلول ومعطي عملي.

والقضية إذن ذات حجم کبير في قاموس تصوّراتنا السياسية الإسلامية. هذا الحجم للقضية هو الذي دعا أهل البيت عليهم السلام لطبعها بکل ضغط وشدّة في ذهن الرجل الشيعي، والإصرار علي تحويلها إلي إيمان نابض حي، وأمل وطيد بالنصر الحتمي.

ولقد بات تصوّري صادقاً حينما شاهدت ـ تأريخياً ـ أنّ هذا الإيمان بقضية القائد المنتظر، دفع رجال التشيّع علي طول الخط إلي نضال دائم غير يائس من النصر أبداً.

وإذا الإيمان بالقائد المنتظر هو الشعلة التي فجّرت معارک باسلة وشريفة من أجل الحق، ونصر الحق.

وعدت أدراجي لأنظر من جديد في ما دهانا!! المشعل الذي کان بأيدينا فقدناه. لم نفقده وإنّما بعناه رخيصاً، وابتذلناه. ويوم رآنا العدو غارقين في الظلام، بدأ يسخر منّا، ويسخّرنا. بدأ يقول لنا: إنّکم خرفان! تؤمنون بالخرافات.

ولأنّنا قد حطّمنا المشعل الذي کنا نحمله، فقد أصبحنا لا نعرف طريق الجواب، وبدأنا نتذرّع، ونبدي أنفسنا کما لو کنّا فلاسفة. بينما انجرف آخرون وراحوا إلي صفوف العدو، يهزؤون بنا، لأنّا نؤمن بالإمام المنتظر، ويطلبون منّا بسخرية مزيداً من الانتظار المخدوع!

وفي الوادي المظلم لم نفکّر في العثور علي المشعل لنهتدي علي ضوئه، ونعتلي الجبل، وإنّما بدأنا نجمع الأحجار نرمي بها العدو المتسلّط علينا من السفح، والمنهمر علينا بسلاح أقوي من سلاحنا ألف مرّة.

لقد غدونا نردّ علي سخريته قائلين: إنّنا لسنا خرفان، ولسنا من المؤمنين بالخرافات.

لقد قلنا: إنّ قضية الإمام المنتظر معجزة، کما لله معاجز في أوليائه، فلا داعي للاستغراب، والاتّهام.

وحسبنا لجهلنا أنّنا فزنا، وأنّنا أصبحنا علي المرتفع، وعدوّنا في الوادي. ولکن دون أن يتغيّر شيء! فما زلنا في ظلمات الوادي. وما زلنا محل سخرية العدو، ومطعن ضرباته، والفريسة الدسمة التي لا تنتهي.

کيف ذلک؟ هل کان جوابنا خطأ؟ إذا کان الله قادراً علي أن ينطق عيسي وهو في المهد، ثمّ يرفعه إليه ليبقي حياً إلي اليوم. إذا کان أصحاب الکهف قد لبثوا في کهفهم ثلاثمائة عام وازدادوا تسعاً، بعناية الله، وهم مقطوعون عن الأکل والشرب، فهل کان الله عاجزاً عن مدّ حياة الإمام المهدي إلي قرون؟

أليست القضيّتان من فصيلة واحدة؟ فلماذا نقبل الأولي ولا نقبل الثانية؟ إذن نحن علي حق في هذا الجواب، فما هو الخطأ؟ الخطأ الذي وقعنا فيه ليس هنا، إنّما في أنّنا أفرغنا إيماننا بالقضية من محتواه العملي، ثم انزاح من قلوبنا حتّي هذا الإيمان، بمستواه المطلوب، فلم يَعد هو الإيمان الذين يمشي في عروقنا، ويؤثّر في مشاعرنا، وتصوّراتنا. لقد تعاملنا مع القضية کما لو کانت مجرّد نظرية علمية.

لقد تحوّل إيماننا إلي تصوّر، ومجرّد تصوّر جامد. فکرة في الذهن، وصورة في الخيال، لا تحرّک حتي ريشة، ولا تغيّر من الواقع حتي ما يغيّره الهواء. ومن هنا فقد أضعنا الطريق. وسمحنا لعدوّنا أن يواصل سخريته بنا دون أن يقنع بالجواب.

إنّ قيمة کل قضية ـ من الناحية الميدانيّة ـ تناط بمقدار عطائها، ومقدار تفاعلها في ميادين العمل. وثمّة قضايا صحيحة منطقياً، لکنها مهملة ورخيصة، لأنّ الإنسانية لا تکسب من ورائها جدوي.

وحينما نفترض ـ خطأً ـ أنّ قضية الإمام المنتظر هي من هذا الطراز، أي من القضايا الفکرية المحضة، فمن الأجدر أن لا يعني بها کثيراً قاموس أفکارنا وتصوراتنا.

لأنها لا تحمل إلينا منتوجاً. ونکون أکثر جدارة بالموقف البارد في التعاطي مع هذه القضية حينما تستحيل هذه القضية إلي سلاح يتوسّل به الضعفاء للهزيمة، والهروب من الساحة. إنّها سوف تصبح نقمة، وتنقلب إلي آلة هدم، والعياذ بالله. لکن هل نستطيع أن نطرح هذه القضية، ونتنازل عنها؟! إننا لو فعلنا ذلک لم ننج من التناقض!

فالقضية ـ قضية القائد المنتظر ـ أصيلة في فکرنا ومعتقدنا. وقد باتت محل تأکيد کبير من قبل الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام. حتّي جاءت الأحاديث لتقول: لو لا الحجّة لساخت الأرض. [1] .

ولو أردنا أن نرفض هذه القضية لکان علينا أن نرفض موقفاً يعتبر من أهم المواقف الفکرية. إذن، فالحل المذکور ليس عملياً. فلکي لا نخسر إيماننا بالقضية، وإيماننا بأهل البيت الذين رسّخوا هذه القضية، ولکي نقطع علي عدوّنا طريق السخرية بنا، واستغلالنا. علينا أن نستوعب جوهر القضية من جديد، ونمسح عنها الأتربة التي لصقت بها من خلال منطق المهزومين وتفسيراتهم. علينا أن نخلق من هذه القضية سلاحاً يدرأ عنّا الخصوم.

وفيما يلي أحاول أن استجلي بعض الانعکاسات الإيجابية لقضية القائد المنتظر، مکتشفين الروح الحقيقي الذي يستبطنه إيماننا الراسخ بالقائد الموعود.

السيد صدر الدين القبانجي


پاورقي

[1] لاحظ: التفسير المنسوب للإمام العسکري عليه السلام: 232، بحار الأنوار: 57/213 الحديث22، مع اختلاف يسير في الألفاظ.