بازگشت

ولکن لماذا الانتظار؟


ما هي طبيعته؟ ما هو مردوده النفسي؟ لا حاجة إلي تأکيد القول: إنّ الانتظار يعني في جملته حالة الأمل، وعدم القنوط. الأمل الذي هو شرط لکل حرکة، نحن مدعوّون إلي تمثله دائماً. واليأس الذي هو مدعاة للانحراف، المطلوب منّا رفضه واقتلاع جذوره من أعماق وجداننا. الانتظار يعني أنّنا ما زلنا علي أمل بالنصر. لا مجرّد أمل، وإنما ثقة مطلقة بتحقق هذا النصر. فالذين يأملون في شيء قد لا يملکون قناعة بأنّهم سينالوه، وهم ينتظرون لکن علي وجل وفي ريبة.

کل الناس يأملون بانتصار الحق، ومحق الباطل، مسلمين وغير مسلمين، لکن من يملک اليقين الذي نملکه؟ والذي کان يملکه الأنبياء والأوصياء، ويغرسونه في نفوس أشياعهم. إنّنا لا نأمل بالنصر، وإنّما نري أنفسنا ونحن نقترب منه. لا يمضي يوم إلاّ وتکون المسافة قد تقلّصت، وأصبحنا علي المشارف. هذا هو معني الانتظار المطلوب. أن لا يخامرنا شک، أدني شک في أنّنا سننتصر. أن نري بعين البصيرة رايات الحق تتقدّم، وها نحن ننتظرها کيما تصل إلينا أو نصل إليها. والذين يصابون باليأس يفقدون السلاح وهم وسط المعرکة.

فما أيسر أن يقعوا في أسر الضلال والانحراف، وتلک هي الفتنة، وقد قال الإمام عليه السلام: إنّ هذا الأمر لا يأتيکم إلاّ بعد يأس. [1] ومن هنا تأتي قيمة الانتظار. علي أنّ الانتظار له مدلول آخر، ومعنيً عميق غاية العمق. هذا المدلول هو الذي يفسّر لنا لماذا کان الانتظار مطلوباً، وواحداً من مسؤولياتنا مع ذواتنا؟

فالانتظار تعبير عن قناعتنا بجدارة الحل الإسلامي. واستعدادنا لتقبّله، والمشي في رکبه. من يعيش حالة الانتظار لنهضة القائد المنتظر، لا يستطيع إلاّ الثقة بحيوية الإسلام، وقابليته الأزلية علي حلّ مشاکل البشرية، وسکب السعادة في قلوبها الحرّي. أنت حينما تنتظر من رجل القانون أن يرسم لک حلّ المشکلة، أو يختار لک الصيغة المفضّلة، فإنّک لا محالة واثق بقدرته، وجدارته ولو لا ذاک فإنّک لم تکن مستعداً للتفاهم معه في حل المشکلة.

وأنت حين تزور طبيباً تطلب الدواء، لا تفعل ذلک عبثاً، وإلاّ کان من الأيسر لک أن تذهب إلي جيرانک وتعرض له مرضک، وإنّما أنت علي قناعة کافية بأنّ الطبيب هو الجدير والمؤهّل لإعطاء العلاج، وتشخيص الداء، ولذا فأنت تؤثر زيارته، وتنتظر منه. فالانتظار إذن هو القناعة بالجدارة والأهلية. ونحن حينما ننتظر الحل الإسلامي الذي يسود العالم کله تحت راية القائد المنتظر، لا بد أن نکون علي أعمق الثقة بهذا الحل. فالتقدّم الحضاري، والتطوّر الذي شهدته الأرض.

والتقلب الذي عمّ کل شيء، في الترکيب الاجتماعي، والوضع الاقتصادي، وطبيعة الحالة النفسية العامة. إنّ کل ذلک لا يغير من واقعية الإسلام، وقدرته علي النجاح، سواء علي مستوي النظرية، أو علي مستوي التطبيق. فسيبقي الإسلام هو الحلّ الحتمي أزلاً وأبداً. ومهما انحرفت البشرية عنه، فإنّها ستؤوب إليه، وستجده حينذاک مصدر کل السعادة، ومقتلع جذور الشقاء في الأرض. ما هي طبيعة الانتظار؟ إذا کان علينا أن ننتظر، فما هي طبيعة الانتظار المطلوب؟

هناک نوعان من الانتظار: الانتظار الجامد، والانتظار المتحرّک. انتظار أشبه بالموت، أو هو الموت. وانتظار أشبه بالحياة، أو هو الحياة. الأسير المقيّد بالأغلال، والمدفوع نحو المقصلة، ينتظر. والبطل الذي يخوض غمار الحرب، وهو شاکي السلاح، شديد العزم، ينتظر أيضاً. کل من هذين ينتظر الموت والقتل.. لکن هناک فرق کبير بين نوعي الانتظار. فالأوّل مستسلم، لا يستطيع حراکاً، ولا يفکّر حتي في الفرار. والثاني متحرّک، مقدام، ينتظر الشهادة بکل بطولة، بل هو يسعي إليها، ويرحّب بها. فکيف علينا أن ننتظر القائد المنتظر؟ الإجابة علي هذا السؤال نأخذها من القرآن، ومن محمّد صلي الله عليه وآله، ومن أهل البيت عليهم السلام. من هذه المدرسة الواحدة نأخذ الإجابة الصحيحة.

لقد کان محمّد صلي الله عليه وآله ينتظر. کيف کان ينتظر؟ کان القرآن يأمره بالانتظار، أيّ انتظار؟ (وَقُلْ للّذينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا علي مَکانَتِکُم إنّا عامِلُونَ، وانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ). [2] لقد انتظر النصر والفتح، لکن هو الذي کان يمهّد للنصر وللفتح لا غيره. لم يکن يطلب أن يأتيه النصر منحة خالصة من السماء ومن دون ثمن.

لقد هاجر، ولقد قاتل، ولقد دعا، ولقد عمل کل شيء في سبيل النصر، ثم کان ينتظر النصر. الانتظار في القرآن، وعند محمّد صلي الله عليه وآله رديف العمل (اعمَلُوا علي مَکانَتِکُمْ، إنّا عامِلُونَ). (وَانْتَظُرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ). فهناک عمل ثم انتظار. الانتظار في مفهوم القرآن لا يعني الجمود والتوقّع البارد الزائف الميت. إنما يعني التربّص، المداورة مع العدو، التحرّک في شتّي الطرق، استغلال لحظات الضعف، عدم تضييع الفرص، هذا هو التربّص وهو الانتظار القرآني. (قُلْ کُلٌ مُتَرَبّصٌ، فَتَرَبّصُوُا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصْحابُ الصّراطِ السَّوي، وَمَنِ اهتَدي). [3] .

ولقد انتظر أصحاب محمّد صلي الله عليه وآله. کيف انتظروا؟ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضي نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [4] لکنه لا ينتظر أن يأتيه الموت، وهو في قعر داره. وإنّما يتقدّم ليکسب الموت، أو يکسب الفتح، فما هو إلاّ إحدي الحسنيين. لقد کان أئمّتنا ينتظرون الفرج، ويوصون أصحابهم بالانتظار. وکما ننتظر اليوم قائم آل محمّد، لقد کانوا مثلنا ينتظرون. لکن هل ترکوا العمل والتضحية، والنشاط الدائب من أجل الحق.

هل وقفوا أساري الصدف؟ إنّ انتظارهم لم يکن يعني إلاّ الاستعداد الدائم والعمل المتواصل، في السرّ أو في العلن، والتمهيد للنتيجة المطلوبة. هذا هو الانتظار في مفهوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام. بث الدعوة، وتوجيه الناس. تحصين قواعد الشيعة، وتوسيع دائرتها. ألم يبارک الأئمّة ثورات العلويين. ثورة زيد، والنفس الزکية، وحرکات الحسنيين المتصلة. لقد مدّوا لها جميعاً يد العون في السر، بينما کانوا يحافظون علي الخطوط الخلفية، ويحصنون قواعد الشيعة في ذات الوقت. ألم تکن أموالاً طائلة تصب في دورهم ليلاً، وتجمع لهم سرّاً؟ أين کانت تصرف؟ وما معني هذا العمل؟ لو عرف الأئمّة من الانتظار معني الجمود فلماذا طاردهم العدو، واضطهدهم ورماهم في غياهب السجون؟!

فالانتظار عمل وليس سکوناً. ومن هنا کان أحب الأعمال إلي الله انتظار الفرج کما عبّر الإمام، [5] فإذا کنا مدعوّين إلي الانتظار، فإنما نحن مدعوون إلي العمل إلي الانتظار المتحرّک الحي، لا إلي الانتظار الجامد الميت. في الحديث عن علي بن الحسين عليه السلام: يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل کل زمان... أولئک المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً والدعاة إلي دين الله سرّاً وجهراً. [6] إنّ مثلنا في عصر الغيبة مثل الطليعة التي تنتظر کتائب الجيش. بعد أن تکون قد مسحت لها الأرض، وکشفت لها الساحة.


پاورقي

[1] إکمال الدين وإتمام النعمة: 346 الحديث 31، الأنوار البهيّة: 366.

[2] هود (11): 121و122.

[3] طه (20): 135.

[4] الأحزاب (33): 23.

[5] الأمالي للشيخ الصدوق: 436.

[6] إکمال الدين وإتمام النعمة: 320 الحديث 2، الاحتجاج للطبرسي: 2/50.