کيف ثبت؟
لقد أربک الانحراف، حتي اضطرّوا إلي نفيه للربذة، الخالية من الناس والخالية من القوت، ولکن شيئاً من ذلک لم يمنعه عن الإصراح بالحق، والصراخ في وجوه الظالمين. ولقد قال له علي ساعة توديعه وهو راحل إلي الربذة: يا أبا ذر إنّک غضبت لله، فارجُ من غضبت له. إنّ القوم خافوک علي دنياهم و خفتهم علي دينک. [1] ولقد ثبت ميثم التمّار، ولم يعبأ أن تقطع يداه ورجلاه، ثم يقطع لسانه. فهو مشدود إلي جذع نخلة، لم ينقطع عنه نزيف الدم، کان يفضح الباطل، ويشهّر بحکم الطواغيت، ويعرّف الناس بالحق. ويلقّنهم درساً في الثبات والنضال، حتي اضطرّ خصومه لأن يقطعوا لسانه فيکفّ عن الکلام. وأنت تعرف حجر بن عدي، بطل من أبطال جبهة علي عليه السلام.
هؤلاء کيف ثبتوا؟ لقد وثقوا أنّ الحق معهم، والحق لا يعدله شيء، والهزيمة عن الحق ارتماء في أحضان الضلال، وجرم ليس مثله جرم. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ کافِرٌ فأولئک حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدُنيا وَالآخِرَة). [2] ولقد شرح لنا الحسين عليه السلام قيمة الثبات، وهو في معرض الحديث عن القائد المنتظر، فقال: له غيبة يرتدّ فيها أقوام، ويثبت علي الدين آخرون، ويقال لهم: متي هذا الوعد إن کنتم صادقين؟ أما أنّ الصابر في غيبته علي الأذي والتکذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله. [3] .
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّک فيها بدينه کالخارط للقتاد.. ثمّ قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسّک بدينه. [4] .
والثبات يتطلّب منّا جهداً. فعلينا أن نعرف مواقع العدو، وخدع العدو. وعلينا أن نحصّن أنفسنا بالسلاح الکافي للحماية، والکافي للهجوم في ذات الوقت. علينا أن نعرف کاملاً عقيدتنا، لنملک حينذاک تمام الثقة بها، والقدرة علي الدفاع عنها، فإنّ العقل الفارغ مغارة إبليس کما ورد في الحديث الشريف.علينا أن نکتشف باستمرار زيف التشکيلات التي يقدّمها أعداؤنا.
ثم علينا أن نعرف أنّ القضية قضية نفس لا بدّ أن نعوّدها الصبر، والعزّ، والإقدام، والتضحية، والشجاعة. يجب أن نصبح علي مستوي قضيتنا، فکل شيء إزاءها رخيص وکل شيء من أجلها يهون. ولنتمثل جيداً منطق المقداد حين استشار رسول الله صلي الله عليه وآله أصحابه للحرب، فقام إليه وقال: يا رسول الله: امض لما أراک الله فنحن معک. والله لا نقول کما قالت بنو إسرائيل لموسي: اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. ولکن اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا معکما مقاتلون. [5] .
يحدّثنا عمّار الساباطي، أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيّما أفضل العبادة في السر مع الإمام منکم المتستّر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منکم الظاهر؟ فقال: يا عمّار: الصدقة في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية، وکذلک والله عبادتکم في السر مع إمامکم المتستّر في دولة الباطل وحالة الهدنة أفضل ممن يعبد الله عزّ ذکره في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق. وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق. ولقد عجب عمار وهو يسمع هذا الجواب من الإمام، ولم يکتم استغرابه،
فقال: قد والله رغّبتني في العمل، وحثثتني عليه. ولکن أُحب أن أعرف کيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منکم في دولة الحق، ونحن علي دين واحد. فقال: إنّکم سبقتموهم إلي الدخول في دين الله عز وجل، وإلي الصلاة والصوم والحج، وإلي کل خير وفقه، وإلي عبادة الله عزّ ذکره سراً من عدوکم، منتظرين لدولة الحق، خائفين علي إمامکم وأنفسکم من الملوک والظلمة.. مع الصبر علي دينکم وعبادتکم وطاعة إمامکم والخوف من عدوّکم، فبذلک ضاعف الله عز وجل الأعمال، فهنيئاً لکم. [6] وهکذا يصبح الثبات عظيماً، حين نعيش تحت سيطرة الظلم، دون أن نصافحه، أو نلين له.
إذا کنّا نريد أن نخدم الحق، ونقدّم له، فإنّ الثبات أولاً شرط ذلک. وإذا کنّا قد خسرنا من جبهة الحق عدداً من الناس، فلماذا نخسر أنفسنا، ونضيّع علي الحق حتي طاقتنا نحن؟!. ومهما يکبر حجم الضلال، ويزداد عدد الزالقين في واديه، فإنّه لا يجوز لنا أن نترک الساحة خالية من أحد، ونولّي للمعرکة دبرنا، إنّا إذن لظالمون. (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ.. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ). [7] .
والمعسکر يتکوّن من آحاد. أولسنا نشکّل أولئک الآحاد لنکوّن معسکراً. لقد تحدّث الإمام الصادق عن ضرورة الثبات في عصر الغيبة قائلاً: کونوا علي ما أنتم عليه حتي يطلع الله عليکم نجمکم. [8] لا ننحرف إلي يمين أو شمال. لا تجذبنا عن مواقع الحق إغراءات الباطل. ولا تقلعنا من أرض الصدق رعدات الفراعنة واليزيديين. أم نريد أن نکون مثل قوم موسي؟ حين غاب عنهم نبيّهم أربعين ليلة فاتخذوا العجل إلهاً. (قالوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاکِفِينَ حَتي يَرْجِعَ إليْنا مُوسي). [9] .
لقد ذهبوا مثلاً في التأريخ. مثلاً للسقوط في الفتنة، والفشل عند الامتحان. لقد کانت لهم فتنة أن غاب عنهم نبيّهم، وأغواهم السامري. وإنّا لفي فتنة يضل فيها من يضل، ويثبت فيها الثابتون. لقد روي عن إبراهيم بن هليل أنّه قال لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداک مات أبي علي هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد تري، أموت ولا تخبرني بشيء؟ فقال: يا أبا إسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله، وما لي لا أعجل، وقد بلغت من السن ما قد تري؟ فقال: يا أبا إسحاق ما يکون ذلک حتي تميّزوا وتمحّصوا وحتي لا يبقي فيکم إلاّ الأقل... [10] .
پاورقي
[1] نهج البلاغة: 2/12 الخطبة 130، الکافي: 8/207.
[2] البقرة (2): 217.
[3] إکمال الدين وإتمام النعمة: 317 الحديث 3.
[4] الکافي: 1/335 الحديث 1، إکمال الدين وإتمام النعمة: 343 الحديث 25.
[5] سيرة ابن کثير: 2/392، بحار الأنوار: 19/248.
[6] الکافي: 1 /333 الحديث 2.
[7] الأنفال (8): 16.
[8] إکمال الدين وإتمام النعمة: 349 الحديث41.
[9] طه (20): 91.
[10] الغيبة للنعماني: 208 الحديث 14.