بازگشت

مسؤوليتنا في عصر الغيبة


حينما يکون الحديث عن المسؤولية فإنّني أشعر بخطورة هذا الحديث. فلقد أري أنّني أمام بحث يفرض عليّ مزيداً من الإمعان، ومزيداً من الموضوعية. إنّ البحث عن المسؤولية، وعمّا ينبغي أن نفعل، وعمّا هو الواجب علينا، ليس بحثاً نظرياً أستطيع أن أقول فيه کلمتي دون أن ألاحظ بذلک موقف الناس وموقف الأمّة، وموقف الرجل المسلم. حينما أحدّد المسؤولية في شيء فإنّني أکون قد وضعت الموقف العملي للرجل الشيعي، ورسمت له المنهج الذي تتطلّبه المرحلة، ومن هنا تنشأ خطورة هذا البحث.

إنّه بطبيعته بحث مسؤول، يشعر الداخل فيه أنّه مسؤول عن کل کلمة يقولها، ويسجّلها بهذا الصدد. علي أنّ خطورة هذا الحديث تنشأ من أهميته وفاعليته في حياتنا في ذات الوقت. فليس هو موضوعاً عابراً، تصادفه مرّة أو مرّات معدودة في العمر، بل إنّنا نعيش معه في کل لحظة ونرسم علي ضوئه منهج حياتنا طول العمر. فالخطأ فيه ليس أمراً قد يهون.

والتأثر بالعواطف والخلجات النفسية، والعقد الباطنية في مثل هذا الموضوع يعتبر في غاية الانحراف والتجاوز عن حدود المسؤولية. وأنا غير شاک في أنّ طبيعة مزاج الشخص، ونوع ميوله النفسية، قد يقف حاجباً بينه وبين أن يصل لحقيقة الموقف الذي ينبغي أن يتخذه. کثيراً ما نري أنّها تعمل عملها في تفهم واقع المرحلة، وتحديد الموقف علي ضوئه.

فبطبيعة الحال نجد أنّ الانهزاميين والجبناء والمتشبثين بالأرض، الطامعين في ترف الأرض ومجد الأرض هؤلاء.. نستطيع أن نجزم مسبقاً بالحکم الذي سيصدرونه حينما يکونون بصدد تحديد المسؤولية. لا تنتظر سوي أحکام متخاذلة جبانة. سوف تري مواقف تهرّب، وکسل، وخوف. سوف تشهد علي الدوام، صمتاً، صمتاً، صمتاً. قف، لا تتحرّک القضية خطرة، الإقدام لا يخلو من تهلکة. لا عليک، ولا يعنيک الأمر، ما أنت وذا؟ لا يکلّف الله نفساً إلاّّ وسعها.

وعلي النقيض حينما تکون القضية محقّقة لمصلحة شخصية، مجد في الأرض، جاه عند الناس، ثروة من الثروات، تفوّق علي الآخرين بحساب المادّة. هنا تستخدم کل الحيل، وکل الوسائل. أقصي ما يملک هذا الرجل من لباقة، وفطنة، وعبقرية يضعه لحساب البرهنة والتدليل علي صواب موقفه. يدافع بکل حرقة، وکل حرارة، کما لو کان الموضوع يهم الإسلام والمسلمين. يفتش عن آخر طريق يستطيع النفاذ من خلاله ليقول: إنّ مسؤوليته تحکم عليه بهذا الموقف، ومن ثمّ يکون قد کسب المال، والمجد والراحة، أو ما حلي له من طيّبات الدنيا، باسم المسؤولية، وباسم الدين والشرع والقانون.

لقد رأينا هذه النماذج من الناس. لقد عرفناهم معنا، وعرفناهم في امتداد التأريخ. من منکم لا يعرف عمرو بن العاص، أو أبا موسي الأشعري. ماذا کانت مواقفهم؟ ماذا قالوا للناس؟ المواقف جميعاً کانت لحساب مصالح شخصية. لحساب الطمع، والجشع، والهوي. أليس قد انحاز عمرو بن العاص إلي جبهة معاوية، وإنّه ليعرف أنّ معاوية لعلي ضلال؟ لقد راجع قضيته في نفسه مسبقاً، وعرض عليها الخيار بين الدنيا وبين الدين، أشار عليه أحد ولديه بأن يتّبع علياً طالما هو يعرف أنّه علي حق، والحق أحق أن يتبع. بينما وسوس له الآخر الدخول في سلک معاوية، فإنّ الدنيا تنضح من إنائه.

ماذا کانت النتيجة؟ لم يصمد (ابن العاص) أمام إلحاح الذات، وقوّة الهوي، واندفع مهرولاً يلثم أعتاب معاوية، وإنّه يلتمس لنفسه المعاذير عن هذا الموقف ويودّ لو يجد من الشريعة ما يسمح له بذلک. وأبو موسي الأشعري؟ أنت تدري أنّه هو الذي کان يخذّل الناس عن عليّ، وهو بطل التحکيم، وفارس لعبة السلام، حينما اتفق مع مبعوث معاوية، عمرو بن العاص علي أن ينزع کل منهم الخلافة من صاحبه ويريحوا الأمّة من عناء الخلاف والقتال.

هؤلاء يعرفون الحقيقة جيداً، وإنّهم لعلي يقين. لکن الحقيقة لم تکن دوماً مع هوي الإنسان أو عواطفه ومزاجه.

ولذا فقد ابتعدوا عنها، لأنّها لا ترضي طموحهم، ولا تروي ظمأهم للترف والجاه والمال. ولقد برّؤوا ساحتهم بشتي المعاذير، لکن أيّها کان صادقاً؟

لقد اخترت هذه النماذج من قائمة الصحابة. صحابة الرسول الذين سمعوا، وشاهدوا، وعرفوا، أکثر مما سمعنا وشاهدنا، وعرفنا. لقد کان هؤلاء من نفس القائمة التي کان منها الأبطال المخلصون، أبو ذر، وعمّار، وسلمان، وبلال. بلا شک کان (ابن العاص) و (الأشعري) يعرف کل شيء عن المسؤولية، وعن الواجب، وعن خط الشريعة القديم. لکنّها لا تعمي الأبصار، وإنّما تعمي القلوب التي في الصدور. فمهما يکن الشخص عالماً، واعياً، مشحوناً بقضايا العلم والدين، فإنّ ذلک لا يکفي للثقة بمواقفه ورؤيته، إذا لم يتجرّد عن دوافع الأنا ونزعات الذات.

ومن ذلک يصبح المطلوب هو أن نعرف: کيف نحدّد مسؤوليتنا بعيداً عن المزاج، والعاطفة، والطموحات الشخصية.

وهذا أمر لا أراه يسيراً.

ومهما يکن فإنّ علينا الآن تحديد مسؤولياتنا. ما هو الدور الذي يجب أن نلعبه في ساحة الصراع العام بين قوي الحق، وقوي الانحراف. وما هو الموقف الذي يجب ترسيخ أقدامنا فيه؟ بأي نفسية يجب أن نکون؟ وإذا کانت قيادتنا المعصومة مغيّبة عنّا، فهل نملک قيادات ثانوية نيابية؟ وما هو أسلوب تعاملنا مع تلک القيادات؟ لقد وجدت أنّ بالإمکان اختصار مسؤولياتنا تحت العنوان التالي: التمهيد للدولة الإسلامية الکبري. التقدّم خطوات من أجل تحقيق الإنقاذ العام للبشرية. التمهيد لسحق آخر کتيبة من کتائب الظلم، وفتح أبعد حصن من حصونه.

التمهيد لتحقيق شرائط الوعد الإلهي القاطع. (وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ) [1] .

إنّ البشرية التي مارست مختلف الأطروحات وحرصت علي التشکيک بکل وسيلة، من أجل الحياة المطمئنة السعيدة. ثمّ خابت کل آمالها، ويئست من کل الحلول، وتکشف لها الضلال، والخداع، والزيف حيثما ولّت وجهها، ولمست العفونة والتعسّف حيثما وضعت يدها. إنّ هذه البشرية التي حرفتها أيادي الغاشمين، المستبدين عن رسالة السماء، ستعود إلي رسالة السماء. ريثما تنکشف الخدعة، وريثما يتجهّز الحق للهجوم الأخير الظافر. فتملأ الأرض بالقسط، وتسود العدالة.

ماذا علينا الآن؟ ما علينا إلاّ أن نواصل العمل. أن نکسب انتصارات، أن نحقّق أهدافاً. أن نفتح حصوناً. أن نکتشف الخدع والمؤامرات. أن نفضح الغاشمين، فراعنة الأرض في کل مکان. أن نفتح عيون البشرية علي الطريق. أن نمسک الزمام ثمّ نتقدّم. إنّک حين تکسب واحداً للحق، تکون قد مهّدت لدولة الحق، وحينما تفضح زيف الباطل تکون قد عرقلت مسيرته. إنّ ساعة النصر قريبة لکنها مرهونة بمقدار ما نحققه من انتصارات جزئية، تمزّق کبد الظلم والطاغوت، وتدعم جبهة الحق، وشعوب الحق.

إنّ مسؤوليتنا هي:

أن نقطع مسافة أکبر من الطريق الذي بدأه الأنبياء والمرسلون والأوصياء، والذي سلکه کل المناضلين من أجل الحق. إنّ هذا الطريق الذي وصل محمّد صلي الله عليه وآله إلي آخر حلقة من حلقاته. ودخل آخر منعطف من منعطفاته. إنّ علينا أن لا نقف فيه وإنّما نمضي. لقد أصبحنا وأصبحت البشرية علي شرف النصر الساحق. وإنّ مسافة ليست طويلة هي التي بقي علينا أن نقطعها. وحينما نکون أمام النتيجة نجد راية القائد المنتظر في أوساطنا، ومن داخل جبهتنا. البشرية بانتظار قيادتنا.

لقد جزعت من کل الحلول والقرارات، والبروتوکولات. أصبحت تضج بما حولها. هائمة في مجاهل الظلام. والمصباح بأيدينا، يجب أن نوصله. لتهفو البشرية إلينا بکل شغف. وتهوي إلي وحي السماء أفئدة أهل الأرض المعذّبين. تلک هي مسؤوليتنا. وعن ذلک نحن محاسبون. لقد جعلنا الله والقرآن أمّة وسطاً، وشهداء علي الناس، والرسول علينا شهيداً. ورسالة السماء بيدنا أمانة، نحن استلمناها، وتعهّدنا أن لا نبيعها رخيصة.


پاورقي

[1] النور (24): 55.