بازگشت

الشهيد عنده علم الکتاب


وواضح أن هذا الإطلاع علي بواطن الناس غير ممکن بالأسباب الطبيعية المتعارفة بل يحتاج الي نمط خاص من العلم يتفضل به الله تبارک



[ صفحه 67]



وتعالي بحکمته علي مَن يشاء من عباده ـ وهو عزّ وجلّ الأعلم حيث يجعل رسالته [1] ـ فيتمکن به العبد من تجاوز ما تعارف عليه الناس من الأسباب الطبيعية والقيام بما يمکن القيام به بواسطة هذه الأسباب فتکون له مرتبة من الولاية التکوينية وتجاوز الأسباب الطبيعية بإذن الله، وهذا النمط الخاص من العلم هو ما سُمّي في القرآن الکريم بـ «علم الکتاب».

کما نلاحظ ذلک في قصة إتيان آصف بن برخيا بعرش بلقيس من اليمن الي فلسطين في طرفة عين؛ فقد علل القرآن قدرته علي القيام بهذا العمل في زمن قصير للغاية بحيث لا يتصوّر تحققّه علي وفق الأسباب الطبيعية، بما کان لديه من علم الکتاب. لاحظ قوله عزّ وجلّ: (قال الذي عنده علمٌ من الکتاب أنا آتيک به قبل أن يرتدّ إليک طرفک فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي) [2] .

وکان آصف بن برخيا وصيّاً لسليمان النبي(عليه السلام) أراد أن يعرّف الناس بأنه الحجة من بعده بإبراز علمه المأخوذ من الکتاب [3] ، وکان عنده مقدار معيّن من علم الکتاب وليس کلّه کما هو واضح من استخدام «من» التبعيضية في الآية المتقدمة.

ومنه يتضح أن الذي لديه علم الکتاب کلّه تکون له مرتبة أعلي من هذه الولاية التکوينية والتصرف في الأسباب والقدرة علي الإحاطة ببواطن أعمال الناس وتقديم الشهادة الکاملة بأحقية الرسالة الإلهية.

وعليه فالشهيد علي قومه ينبغي أن يکون لديه علم من الکتاب ـ کلاً



[ صفحه 68]



أو بعضاً ـ أو يمکن القول کحدٍّ أدني بأن الذي عنده هذا النمط الخاص من العلم قادرٌ علي ذلک. يقول: عزّ من قائل في آخر سورة الرعد: (ويقول الذين کفروا لست مُرسلاً قل کفي بالله شهيداً بيني وبينکم ومَن عنده علم الکتاب) [4] .

وقد ثبت من طرق أهل السنة ـ کما نقل ذلک الحاکم الحسکاني في شواهد التنزيل [5] ـ ومن عدة طرق، وکذلک ثبت من طرق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) [6] : أن الآية الکريمة نزلت في الإمام علي(عليه السلام)، وإن علم الکتاب عنده وعند الأئمة من أولاده(عليهم السلام) وليس هناک من يدعيه غيرهم وقد صدّقت سيرتهم(عليهم السلام) ذلک والکثير مما نقله عنهم حفاظ أهل السنة والشيعة يشهد علي صدق مدعاهم هذا.

إذن فالمتحصل من الآيات الکريمة المتقدمة:

1 ـ حتمية وجود من يجعله الله تبارک وتعالي شهيداً علي أعمال العباد في کل عصر بحيث يحتج به علي أهل عصره وأمته يوم القيامة، فهو إمام زمانهم الذي يُدعون به، ويکون من أنفسهم.

2 ـ وهذا الإمام الشهيد قد يکون نبياً وقد يکون من الأوصياء في الفترات التي ليس فيها نبيّ کما هو حال عصرنا الحاضر والعصور التي تلت عصر خاتم الأنبياء محمد(صلي الله عليه وآله). إذ الآيات مطلقة تشمل کل الأزمان کما هو ظاهر. فالإمام الشهيد موجود إذن في عصرنا الحاضر.

3 ـ والإمام الشهيد في عصرنا الحاضر حيٌّ أيضاً کما هو المستفاد مما حکاه القرآن الکريم علي لسان عيسي(عليه السلام).



[ صفحه 69]



4 ـ ولابدّ أن يکون هذا الإمام الشهيد علي أهل زمانه مسدّداً بالعناية الإلهية ممن تفضّل الله عزّ وجلّ عليه بنمط من الولاية التکوينية التي يصل بها الي حقائق أعمال من يشهد لهم أو عليهم يوم القيامة. ومظهر هذا التسديد والفضل الإلهي هو أن يکون لديه علم من الکتاب أو علم الکتاب کلّه.

5 ـ وحيث إن مثل هذا الشخص غير ظاهر فلابد من القول بغيبته الظاهرية، وقيامه بما يؤهله لأن يحتج الله تبارک وتعالي به يوم القيامة خلال غيبته.

6 ـ قد ثبت ـ من طرق أهل السنة والشيعة ـ أن لدي الإمام علي والأئمة من أولاده(عليهم السلام) علم الکتاب حسب ما نص عليه القرآن الکريم بالوصف الذي لا ينطبق علي غيره.

وقد أثبت المفسر الکبير العلاّمة محمد حسين الطباطبائي(رحمه الله) في کتابه القيّم «الميزان في تفسير القرآن»، عدم انسجام الأقوال الاُخري مع منطوق الآية الأخيرة من سوره الرعد لذلک فإن المواصفات المستفادة من الآيات الکريمة تنطبق عليهم، وحيث لم يدّعِ غيرهم ذلک فانحصر الأمر بهم. وقولهم في الإمام الثاني عشر منهم، وهو محمّد بن الحسن العسکري ـ عليهم السلام جميعاً ـ وقولهم بغيبته وقيامه بمهام الإمامة وما تقتضيه مهمة الشهادة علي أهل زمانه يوم القيامة؛ ينسجم بشکل کامل مع دلالات الآيات الکريمة المتقدّمة التي لا تنطبق علي غيره کما هو واضح بالاستقراء لعقائد الفرق الاُخري.

إن هذه الطائفة من الآيات الکريمة تهدي الي حتمية وجود مهدي آل البيت(عليهم السلام) وغيبته وقيامه بما تقتضيه مسؤولية الشهادة الاحتجاجية يوم القيامة. وهذا ما تؤکده کما سوف نري الآيات اللاحقة.



[ صفحه 70]




پاورقي

[1] إشارة الي قوله تعالي: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام (6): 124.

[2] النمل (27): 40.

[3] قصص الأنبياء للسيد الجزائري: 428 نقلاً عن تفسير العياشي.

[4] الرعد (13): 43.

[5] شواهد التنزيل: 1/400 وما بعدها.

[6] تفسير الميزان: 11/387 ـ 388.