بازگشت

المقدمة


الحمد لله الذي أعطي کلّ شيء خلقه ثم هدي، ثم الصلاة والسلام علي من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفي محمد (ص) وعلي آله الميامين النجباء.

لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويکتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له علي خلقه، وأعانه بما أفاض علي العقول من معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق کماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

وأوضح القرآن الحکيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، کما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخري.

قال تعالي:



[ صفحه 8]



(قُلْ إنّ هُدي الله هو الهُدي) [الأنعام (6): 71].

(والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) [البقرة (2): 213].

(والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل) [الأحزاب (33): 4].

(ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلي صراط مستقيم) [آل عمران (3): 101].

(قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتَّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدي فمالکم کيف تحکمون) [يونس (10): 35].

(ويري الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل اليک من ربّک هو الحقّ ويهدي إلي صراط العزيز الحميد) [سبأ (34): 6].

(ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هديً من الله) [القصص (28):50].

فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدرکها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلي الکمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلي الکمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف علي طريق الکمال، ومن هناقال تعالي:(وماخلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)[الذاريات (51):56]. وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، صارت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلي قمّة الکمال.

وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليوفر له وقود الحرکة نحو الکمال؛ لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة والهوي الناشئ منهما، والملازم لهما. فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلي عقله وسائر



[ صفحه 9]



أدوات المعرفة ـ الي ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية؛ کي تتمّ عليه الحجّة، وتکمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه کلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته.

ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد، وذلک عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الإرشادات اللازمة لکلّ مرافق الحياة.

وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلي مدي العصور والقرون، ولم يترک الله عباده مهملين دون حجّة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، کما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله علي خلقه، لئلاّ يکون للناس علي الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان؛ لکان أحدهما الحجّة. وصرّح القرآن ـ بشکل لا يقبل الريب ـ قائلاً: (إنّما أنت منذر ولکلّ قوم هاد)[الرعد (13): 7].

ويتولّي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:

1 ـ تلقِّي الوحي بشکل کامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يکون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، کما أفصح بذلک الذکر الحکيم قائلاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)[الأنعام (6): 124] و (الله يجتبي من رسله من يشاء)[آل عمران (3): 179].



[ صفحه 10]



2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية الي البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ علي الکفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (کان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الکتابَ بالحقّ ليحکم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[البقرة (2): 213].

3 ـ تکوين اُمّة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذکر الحکيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزکية والتعليم، قال تعالي: (يزکّيهم ويعلّمهم الکتابَ والحکمة) [الجمعة (62): 2] والتزکية هي التربية باتجاه الکمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بکلّ عناصر الکمال، کما قال تعالي: (لقد کان لکم في رسول الله اُسوة حسنة)[الاحزاب (33): 21].

4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الکفاءة العلمية والنفسية. والتي تسمي العصمة.

5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأرکان المجتمعات البشرية وذلک بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس کيان سياسيٍّ يتولّي إدارة شؤون الاُمّة علي أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حکيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً کبيراً، ومعرفةً تامّةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفکرية والسياسية والاجتماعية



[ صفحه 11]



وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الکفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الکفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من کلّ سلوک منحرف أو عمل خاطي بإمکانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً علي مسيرة القيادة وانقياد الاُمّة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها.

وقد سلک الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية کلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية کلّ ما يمکن أن يقدّمه الإنسان المتفاني من أجل مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلکّؤا طرفة عين.

وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ علي مدي العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (ص) وحمّله الأمانة الکبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (ص) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أکبر نتاج ممکن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وکانت حصيلة جهاده وکدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:

1 ـ تقديم رسالة کاملة للبشرية تحتوي علي عناصر الديمومة والبقاء.

2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

3 ـ تکوين اُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.



[ صفحه 12]



4 ـ تأسيس دولة إسلامية وکيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.

5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحکيمة المتمثّلة في قيادته(ص).

ولتحقيق أهداف الرسالة بشکل کامل کان من الضروري:

أ ـ أن تستمرّ القيادة الکفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر.

ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال؛ علي يد مربٍّ کفوء علمياً ونفسياً حيث يکون قدوة حسنة في الخلق والسلوک کالرسول(ص)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في کل حرکاته وسکناته.

ومن هنا کان التخطيط الإلهيّ يحتّم علي الرسول (ص) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم؛ لتولّي مهمة إدامة الحرکة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي کتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وکيد الخائنين، وتربية الأجيال علي قيم ومفاهيم الشريعة المبارکة التي تولّوا تبيين معالمها وکشف أسرارها وذخائرها علي مرّ العصور، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها.

وتجلّي هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول(ص) بقوله: «إنّي تارک فيکم الثقلين ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا: کتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».

وکان أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأکرم (ص) بأمر من الله تعالي لقيادة الاُمّة من بعده.



[ صفحه 13]



إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (ص)، ودراسة حياتهم بشکل مستوعب تکشف لنا عن صورة مستوعبة لحرکة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلي أعماق الاُمّة ووجدانها بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول(ص)، فأخذ الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) يعملون علي توعية الاُمّة وتحريک طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحرکة الرسول(ص) وثورته المبارکة، غير خارجين عن مسار السنن الکونية التي تتحکّم في سلوک القيادة والاُمّة جمعاء.

وتبلورت سيرة الأئمّة الراشدين في استمرارهم علي نهج الرسول العظيم(ص) وانفتاح الاُمّة عليهم والتفاعل معهم کأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالکين المؤمنين بقيادتهم، فکانوا هم الأدلاّء علي الله لنيل مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلي تسلّق قمم الکمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء؛ حتّي ضربوا أعلي أمثلة الصمود لتنفيذ أحکام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ علي الحياة مع الذّل فيها، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد کفاح عظيم وجهاد کبير.

ولا يستطيع المؤرّخون والکتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا سيرتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشکل کامل. ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من سيرتهم، وسلوکهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون، واستطعنا اکتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسي الله



[ صفحه 14]



أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

إنّ دراستنا لحرکة أهل البيت (عليهم السلام) الرسالية تبدء برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (ص) ونتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسکري المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه وأنار الأرض بعدله.

ويختصّ هذا الکتاب بدراسة حياة الإمام المنتظر محمد بن الحسن المهدي الذي وعد الله به الاُمم أن يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً.

ولا بدَّ لنا من ذکر کلمة شکر لکلّ العاملين الذين بذلوا جهداً في إخراج هذا المشروع، لا سيما لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحکيم حفظه الله تعالي.

نشکر الله تعالي علي التوفيق العظيم الذي مَنَّ به علينا لانجاز هذه الموسوعة المبارکة إنّه نعم المولي ونعم النصير.

المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)

قم المقدسة



[ صفحه 17]