في نفس الوقت أيضاً هنالک نقطة أخري ينبغي الاشارة إليها، وهي مسألة النواب الاربعة للامام سلام الله عليه.

قلنا: إنّ الامام (عليه السلام) في فترة الغيبة الصغري کان وثيق الصلة بقواعده الشعبية، لکن بطريقة تماس تتناسب مع غيبته (عليه السلام)، وهذه الطريقة هي عبارة عن طريقة السفراء.

مسألة السفراء من المسائل المهمّة في واقع الامر، يعني کيف نعرف أنّ هذا الشخص سفير عن الامام سلام الله عليه، لا سيما وأنّنا نعلم أن هنالک من ادعي السفارة کذباً وزوراً، وهذا باب واسع فتحه جملة من العلماء، عقد مثلاً الشيخ الطوسي [1] أعلي الله مقامه أو الشيخ الصدوق [2] أو العلامة المجلسي [3] أعلي الله مقامهم فصولاً



[ صفحه 47]



في أسماء الذين ادعوا السفارة کذباً وزوراً، والحال يقتضي أنّ الوضع والکذب وارد، باعتبار أنّ مقام السفارة عن الامام مقام مقدس وعظيم أعظم من مقام المرجعية في زماننا، فلا يبعد أن يتنافس عليه الکثير وأن يدّعيه الکثير، فلابد من مثبتات في قضية السفارة حتي نستطيع أن نعرف الصادق من الکاذب.

وهذه المسألة في غاية الاهمية نواجهها في مقام بحث هذا الموضوع.

من ادعي السفارة کذباً:

من السفراء الذين ادعوا السفارة کذباً وزوراً:

1 ـ الهلالي أحمد بن هلال العبرتائي، (منطقة من بغداد والکوت).

2 ـ البلالي محمد بن علي بن بلال.

3 ـ النميري محمد بن نصير النميري.

4 ـ الحسين بن منصور الحلاج الصوفي المعروف، الذي قتله الملک العباسي.

5 ـ أبو محمد الحسن السريعي أو الشريعي.

6 ـ محمد بن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني المعروف، الذي کان من أعلام الشيعة وألّف کتباً في التشيع، ولکنه لمنافسة جرت بينه وبين الحسين بن روح النوبختي أعلي الله مقامه الشريف النائب الثالث للامام المهدي سلام الله عليه، خرج عن طوره وأخذ يدّعي دعاوي غير صحيحة، وحکم الامام سلام الله عليه في توقيع من توقيعاته المقدسة



[ صفحه 48]



بضلاله وانحرافه، وأعلن عن ذلک أيضاً سفيره الحسين بن روح النوبختي.

ويروي بعض العلماء رواية، هذه الرواية تقول: سأل رجل الحسين بن روح أعلي الله مقامه الشريف فقال له: ما تقول في کتب محمد بن علي الشلمغاني؟

ومحمد بن علي الشلمغاني لم يکن رجلاً من السوقة أو رجلاً من العاديين، إنما کان عالماً من علماء الطائفة، کان وجهاً من وجوه المذهب، وکان قد صدرت عنه تصريحات ضالّة وانحرافات، فوقف منه الامام سلام الله عليه ونوابه موقفاً صارماً، وکان کثير التأليف، کانت کتبه تملا المکتبات الاسلامية، فکانت مشکلة للشيعة في ذلک الزمن، رجل يملک هکذا قدسية وهکذا علمية وهکذا فضيلة ينحرف بهذا الشکل، يصعب علي کثير من الاذهان أن يتقبل هذه الفکرة، فلهذا سألوا الحسين بن روح النوبختي عن هذا الموضوع أنّه يسأل الامام سلام الله عليه.

فخرج التوقيع بتحريم قراءة کتبه وأنّها کتب ضلال، حينئذ سألوه: ما نصنع وبيوتنا مليئة من کتبه؟

يعني ما من بيت إلاّ وفيه کتاب من کتب ابن أبي عزاقر.

قال: أقول لکم کما قال الامام العسکري سلام الله عليه في بني فضال.

وبنو فضال بيت من البيوت العلميّة الشيعيّة، ولکن هؤلاء ابتلوا بأنّهم صاروا واقفية من الشيعة المنحرفين.



[ صفحه 49]



«خذوا بما رووا وذروا ما رأوا» [4] .

رواياتنا الموجودة في کتبهم خذوها، لا سيما وأنّها کانت أيّام استقامتهم، وأما آراؤهم فلا تأخذوا بها، خذوا بما رووا وذروا ما رأوا، فکان في الواقع أزمة واجهتها الطائفة، أزمة من ادعي السفارة کذباً، ومنهم محمد بن علي بن أبي عزاقر الشلمغاني.

لمحة أخلاقية:

وبالمناسبة وفي الواقع هذه لمحة أخلاقية رغبت أن أمرّ بها:

کم الفرق عظيم بين محمد بن علي الشلمغاني بن أبي عزاقر، هذا الرجل العالم الضال، وبين أبي سهل النوبختي، وجعفر بن أحمد بن متيل، أذکر مثالين کدرس أخلاقي لنا:

الرواية التي يرويها شيخ الطائفة أعلي الله مقامه الشريف في الغيبة عن جعفر بن أحمد بن متيل ـ من وجوه الشيعة ومن أعلامهم ـ يقول: کنت عند رأس محمد بن عثمان بن سعيد ـ يعني النائب الثاني للامام

المهدي سلام الله عليه في الغيبة الصغري ـ وکان أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي عند رجليه، وکان جعفر بن أحمد أقرب الناس لمحمد بن عثمان، وکان مستودع سرّه، وکان الناس إذا جلسوا يرشحون هذا الرجل ـ جعفر بن أحمد ـ أن يکون هو النائب الثالث.

يعني کان السائد في الاجواء حتي في أجواء الحوزة آنذاک أنّ النائب



[ صفحه 50]



الثالث هو جعفر بن أحمد بن متيل، رجل له هکذا مقام علمي وله هکذا مرکز في جو الحوزة العلمية ويقول: أنا کنت عند رأس محمد ابن عثمان وکان ابو القاسم الحسين بن روح النوبختي عند رجليه.

وإذا به في آخر ساعة من ساعات حياته يلتفت ويقول: يا جعفر أمرت أن أوصي من بعدي للحسين بن روح لابي القاسم.

يقول شيخ الطائفة: فقام جعفر بکل أدب وامتثال وأخذ بيدي الحسين بن روح وأجلسه عند رأس محمد بن عثمان وجلس هو عند رجليه [5] .

واقعاً هذا يحتاج الي جهاد نفس أن يکون إنسان يقال له: إنّ الحجة في هذا المورد، فيتبع الحجة ولا يتبع الهوي، هذا مثال.

المثال الثاني: أبو سهل النوبختي رضوان الله تعالي عليه:

سئل أبو سهل النوبختي لماذا لم تکن السفارة فيک بعد محمد بن عثمان؟ قال: أنا رجل القي الخصوم فربما ضغطتني الحجة فدللتُ علي المکان.

يعني يقول: ربما أنا أتضايق ولا أتحمل أو أعرّض للتعذيب، فربما دللت علي المکان، والمکان يعني مکان الامام صلوات الله عليه، فهي قضية خطيرة، أنّني رجل ألقي الخصوم أخاصمهم کثيراً، فربما ضغطتني الحجة فدللت علي المکان.

وأمّا أبو القاسم فانه رجل لو کانت الحجة تحت ذيله وقرّض



[ صفحه 51]



بالمقاريض ما کشف الذيل عنه [6] .

هذا واقع يحتاج إلي جهاد نفس.

وهذا يذکرنا بموقف العبد الصالح علي بن جعفر أعلي الله مقامه الذي هو من علماء أهل البيت سلام الله عليهم ابن الامام الصادق وأخو الامام موسي بن جعفر (عليهما السلام)، الذي هو أيضاً کان يسوّي رکاب الامام الجواد سلام الله عليه علي شيبته، فکان يسأل أنّه لماذا تصنع به وأنت عم أبيه؟ فقال: کيف لا وقد رأي الله هذا الصبي لهذا الامر أهلاً ولم ير هذه الشيبة لهذا الامر أهلاً [7] .

المسألة ليست مسألة مغالبة ومنافسة علي مقام، المسألة مسألة دين وحجة ومن اختاره الله عزوجل.

أنا أرغب من خلال هذه القضية أن أوضّح أنّ مدرسة هکذا عرفت بالانضباط والدقة في هذه المسألة، مثل هذه المدرسة، اعتنت عناية بالغة بقضية السفراء الاربعة.

ثبوت نيابة السفراء الاربعة:

کان ثبوت نيابتهم بشهادة الثقات، وهم بالمئات في مجاميع کثيرة فيما تروي الروايات، وطبيعي أنّ المقام لا يسع لبسط جميع الروايات



[ صفحه 52]



الواردة في إکمال الدين للصدوق رحمه الله أو غيبة الطوسي أعلي الله مقامه أو غيبة النعماني أعلي الله مقامه أو ما شاکل، ولکن نشير بنحو الجدولة أنّ هنالک اتفاقاً من الرواة والعلماء علي شهادة الامام العسکري (عليه السلام) بوثاقة عثمان بن سعيد العمري رحمه الله، وأنّ الامام المهدي سلام الله عليه أقرّه في منصبه وفي زمن غيبته الصغري، وکان يقول: «اسمعوا له واطيعوا» وهذا المعني في واقع الامر أخذ يتداول باعتبار النصّ عليه: «اسمعوا له واطيعوا»، ثم لا يخفي أن مما يطاع فيه نصه علي من بعده، فقد نص علي ولده محمد بن عثمان من بعده.

فعثمان بن سعيد نصّ عليه الامام العسکري والامام المهدي (عليهما السلام).

ومحمد بن عثمان نص عليه الامام العسکري (عليه السلام) في الرواية التي أشرت لها في الاثناء [8] ، وفي نفس الوقت نصّ عليه الامام المهدي(عليه السلام) [9] ونصّ عليه أبوه عثمان وقال في حقه أيضاً: اسمعوا له وأطيعوا.

ومحمد بن عثمان هذا أطول نواب الامام فترة، فکانت نيابته قرابة أربعين سنة، يعني من سنة مائتين وأربع وستين إلي سنة ثلاثمائة



[ صفحه 53]



وأربعة.

ومن بعده تولّي الامر الحسين بن روح النوبختي أبو القاسم رضوان الله عليه، نصّ عليه ابو جعفر محمد بن عثمان النائب الثاني، نص عليه في القضية التي سمعتموها قبل قليل وأمثال هذه القضية.

والحسين بن روح نصّ أيضاً علي أبي الحسن علي بن محمد السمري، وذلک بأدلة ووثائق ذَکَرَتهَا هذه المصادر المشار إليها.

ويدعم ذلک أو قل أنّه يدل علي نيابتهم فضلاً عن هذه النصوص إجماع الطائفة الحقة والفرقة المحقة.

فالطريق الاول لاثبات نيابتهم اتفاق ثقات الرواة والعلماء علي نص الامام المعصوم (عليه السلام) علي أولهم، ثم شهادتهم علي نصّ السابق علي اللاحق باعتبار أن مما تجب طاعة النائب واجب الطاعة فيه هو تعيينه لمن يأتي من بعده.

الطريق الثاني: نقلهم لخط الامام سلام الله عليه المعروف، وهذا أيضاً أشار إليه الشيخان الصدوق والطوسي رضوان الله عليهما، قالوا في ضمن کلامهم: ممّا کان يعرف به الناس أنّ هذا سفير الامام سلام الله عليه أنّه کان الوحيد الذي يتصدّي لنقل خط الامام وتوقيعاته المقدسة.

وخط الامام معروف، لانّ المسألة متصلة بزمن الحضور، فخط الامام المهدي (عليه السلام) معروف في زمن حياة أبيه الامام، اطلع شيعته علي



[ صفحه 54]



ولده المهدي وعلي خطه وتوقيعه، فکان خطه وتوقيعه مألوفاً للناس، ولهذا عبارة الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق أنّه کانت تخرج التوقيعات بالخط الذي کان في عهد الامام العسکري سلام الله عليه، يعني خط الامام المهدي سلام الله عليه الذي رئي وشوهد في زمن الامام العسکري (عليه السلام).

فإذن قضية خط الامام وتوقيع الامام الذي کان ينفرد به هذا السفير الصادق الامين، کانت أيضاً طريقة من طرق الاثبات.

الطريق الثالث: مضافاً إلي ذلک قضية الکرامات الکثيرة التي کانت تجري علي أيديهم لاثبات سفارتهم، وبعض الکرامات تجري علي أيديهم مباشرةً بعنوانهم، وتارةً کانت تجري علي أيديهم منسوبةً إلي موکلهم صلوات الله وسلامه عليه، يعني هو النائب يقول: أخبرني بذلک سيدي، کما في القضية المعروفة المنقولة عن أبي علي البغدادي، والرواية يرويها الشيخ الصدوق أعلي الله مقامه في إکمال الدين يقول: جاءت أمرأة تسأل عن نائب الامام سلام الله عليه في الغيبة الصغري،

وکانت أيّام نيابة الحسين بن روح النوبختي، فقال لها رجل من قم: النائب هو الحسين بن روح، فدخلت علي أبي القاسم، فکانت معها حقيبة أو محفظة فيها جملة من المجوهرات ـ الذهب وما شاکل ذلک ـ فدخلت عليه وسألته ـ أرادت أن تري منه کرامة حتي تعرف أنّه هو النائب حقاً ـ قالت له: أخبرني بما تحت عباءتي؟ قال لها: القيه في دجلة ثم اقبلي إلينا لوجهک، يقول أبو علي البغدادي: والله أنّي شاهد هذه



[ صفحه 55]



القضية ما زدت فيها ولا نقصت حرفاً، فذهبت والقتها في دجلة ثم رجعت بسرعة إلي الحسين بن روح، وإذا بها تجد محفظتها بين يدي الحسين بن روح وبعدها علي قفلها لم تفتح، قال: أو أخبرک بما فيها؟ قالت: وما؟ قال: فيها کذا مجوهرات، کذا حلقات ذهب، کذا سوار، کذا خصوصيات إلي آخره، يقول: فوالله لقد دهشت أنا والمرأة وعجبنا وسألناه ممّ علمت ذلک؟ قال: دلّني علي ذلک سيدي صاحب الامر صلوات الله عليه [10] .

هذه قضية، وقضية أخري ترتبط بمحمد بن شاذان بن نعيم، وإن کانت کرامته تأتي في قضية کرامات الامام سلام الله عليه، لکن فيها جانب يرتبط بالنيابة، وستأتي بعد قليل.

أو قضية الشيخ الصدوق أعلي الله مقامه الشريف مع محمد بن علي الاسود القمي رضوان الله عليه الذي کان من أجلاء الطائفة في قم، هذا الرجل کلّفه أو طلب منه علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي ـ يعني والد الشيخ الصدوق رحمه الله ـ قال: أطلب منک أن تلتمس لي الحسين بن روح أبا القاسم أن يطلب من سيدي صاحب الامر (عليه السلام) أن يرزقني الله ولداً، بالفعل طلب منه هذا المعني وأبو القاسم نقله لصاحب الامر سلام الله عليه، يقول بعد ثلاثة أيام واف الجواب، قال إنّه (عليه السلام) يقول: إنّ الله تعالي سيرزقک ولداً ينفع الله به الناس، يقول محمد بن علي: أنا



[ صفحه 56]



شخصيّاً أيضاً کنت أتمني الولد، وقلت لابي القاسم: آتيني بالجواب، يقول: جاءني بالجواب أنّه عن الامام سلام الله عليه أن الله تبارک وتعالي له أمر هو بالغه فيک، يعني أنا کأنّه ما استجيبت دعوتي في قضية الولد، لکن علي بن حسين استجيبت دعوته بتوسل الامام وببرکة الامام ـ طبعاً الذي يرزق هو الله سبحانه وتعالي ـ بالفعل يقول والد الشيخ الصدوق والشيخ الصدوق نفسه يروي القضية في إکمال الدين وإتمام النعمة: وولد الشيخ الصدوق ببرکة دعاء الامام صاحب الامر سلام الله عليه وبواسطة أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، يقول الشيخ الصدوق: فکنت إذا حضرت مجلس ابن الوليد أستاذي محمد بن الحسن بن الوليد في قم کانت له حلقة دراسيّة کبيرة في قم کنت أحضر وأنا صغير، فإذا رأي علمي وأجوبتي أعجب بها وقال: لا غرو وأنت دعاء صاحب الامر [11] ، يعني لا عجب أن تنبغ وأنت ولدت بفضل دعاء صاحب الامر صلوات الله وسلامه عليه.

وهناک کرامات کثيرة من هذا القبيل ذکرت، هذه الکرامات کانت تعزّز صدق نيابة هؤلاء النواب وسفارتهم عن الامام سلام الله عليه.



[ صفحه 58]