بازگشت

بيعة عمر بن الخطاب


لم يکن انتقال القيادة بعد أبي بکر الي عمر (رض) أمراً غير متوقع إذا نظرنا إليه في إطار سياسة السقيفة وما تلاها علي مدي عامين، إذ کان عمر أشدالناس فعالية في إتمام بيعة أبي بکر (رض)



[ صفحه 73]



کما لعب دوراً سياسياً بارزاً في الداخل خلال فترة قيادة الخليفة الأول. وکان الإمام علي (ع) أول من توقع انتقال القيادة الي عمر (رض) وذلک حين بعث أبوبکر عمر إليه ليأخذ منه البيعة بالجبر والإکراه وقال له (ائتني به بأعنف العنف، فلما أتاه جري بينهما کلام فقال (علي لعمر) (أحلب حلباً لک شطره، والله ما حرصک علي إمارته اليوم إلا ليؤثرک غداً) [1] وفي رواية أخري (أحلب يا عمر حلباً لک شطره [2] أشدد له اليوم أمره ليرد عليک غداً، لا والله لا أقبل قولک ولا أتابعه) [3] .

لذلک رأينا أبابکر (رض) في مرضه يرفض ترشيحات من استشارهم، ويدفع الإعتراضات التي سجلها بعضهم، ويصر علي دفع القيادة الي عمر [4] حتي دعا عثمان (رض) وحده فقال له



[ صفحه 74]



(أکتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ماعهد به أبوبکر بن أبي قحافة الي المسلمين، أما بعد، ثم أغمي عليه فذهب عنه، فکتب عثمان أمابعد فإني قد استخلفت عليکم عمر بن الخطاب، ولم آلکم خيراً منه، ثم أفاق أبوبکر فقال: إقرأ علي، فقرأ عليه، فکبر أبوبکر وقال: أراک خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي، قال نعم، قال جزاک الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبوبکر رضي الله تعالي عنه من هذا الموضع) [5] وهذه الرواية أيضاً تؤيد ما ذهبنا إليه من أن دفع القيادة الي عمر کان أمراً متوقعاً، توقعه علي (ع) وعثمان (رض) وربما غيرهما کثير ممن لم يذکرهم المؤرخون، حتي أن عثمان کتبه دون أن يمليه عليه الخليفة، ولو لم يکن الأمر يقيناً عنده ما کتبه في هذا الموضع دون أمر وإملاء.

وجلس عمر مع الناس وفي يده الجريدة المکتوبة وهو يقول (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم، إنه يقول إني لم آلکم نصحاً). [6] .



[ صفحه 75]



وانتقلت القيادة الي عمر بن الخطاب بالعهد، ولم يشترط لصحتها رضا الناس، وتم تعيين القيادة الجديدة هذه المرة وفق قاعدة جديدة غير الأولي، ليس لها أيضاً سند من کتاب ولا سنة، وفي غياب دستور الدولة. ثم تأسس عليها فيما بعد مبدأ نقل القيادة والسلطة من شخص الآخر بالعهد دون رضا الناس واختيارهم، کما فعل بنو أمية وبنو العباس، وکما تفعل المشيخات والمملکات العربية المعاصرة.

ولئن کان النظام الملکي بملامحه الواضحة قد ابتدعه معاوية في الإسلام، إلا أن عهد أبي بکر لعمر کان أول درجة من الإنحراف الي هذا الطريق قبل معاوية بأقل من أربعين عاماً، ثم أخذ يتسع درجة درجة حتي استوي واکتمل بتولية يزيد أمر المسلمين، ثم سارت الدول من بعد في هذا الطريق باسم الإسلام، ذلک أن التغيرات السياسية - کما ذکرت - تبدأ بدرجة ثم تتسع وتکبر.

وبناء علي هذه السابقة التاريخية التي صدرت عن بشر لم يطالبنا الإسلام باتباعه إن أخطأ، اعتبر من کتبوا لنا في السياسة



[ صفحه 76]



والدستور الإسلامي تعيين القيادة في الأمة بالعهد أصلاً اسلامياً، ولا اعتبار في هذا لرأي الناس، فقال الماوردي مثلاً (والصحيح أن بيعته منعقدة، وأن الرضا بها غير معتبر، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف علي رضا الصحابة، ولأن الإمام أحق بها) [7] .

ومع أن القيادة آلت الي عمر کما رأينا دون مشورة من المسلمين، بعهد من سابقه، إلا أننا نجد في کتبنا ما هو مروي عن عمر (رض) نفسه من إدانة في قوله (من بايع رجلاُ عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا) [8] .

ومن حق أحدنا أن يقول: إن تعدد أشکال تسلم السلطة وتسليمها يعطي الناس حرية الإختيار، فينتخب کل شعب منها ما يناسب مجتمعه وبيئته، وعليه فکل هذه الأشکال والطرق جائزة.

لکننا نقول في جوابه: إن هذا الکلام صحيح لو کان الإسلام قد ذکر في ذلک شيئاً.



[ صفحه 77]



فإن قيل إن القاعدة الأصولية أن سکوت الشارع عن شيء يعني إباحته، قلنا نعم ولکن هذا ينطبق علي المتغيرات، والقيادة شيء ثابت. فإن وضع الإسلام - مثلاً - قاعدة الشوري وسکت عن طريقة تنفيذها فهمنا أن طريقة التنفيذ متروکة لکل قوم وعصر بما يناسبه. لکن أن يسکت الإسلام عن مسألة أساسية بل هي أم المسائل، فهذا ما فيه ألف نظر. ولئن سکت الإسلام فلا يسکت أبداً عن الفوضي الدستورية والسياسية التي انتشرت في الدولة دون مبرر، عن طريق التغيير السريع لأسلوب تعيين الأمة - وهي خير أمة - لقيادتها.

إن تغيير أسلوب التنفيذ أو الإصلاحات الدستورية عملية طبيعية في حياة المجتمعات، لکنها مرتبطة بالمستجدات من الظروف التي تقتضي التعديل، فلو افترضنا أن أسلوب السقيفة صحيح، وأنه هو المقرر في الإسلام، فما هي الظروف التي طرأت خلال عامين من حکم أبي بکر وجعلت تغيير هذا الأسلوب أمراً محتوماً، فإذا القيادة تتحدد بالعهد، وإن کان



[ صفحه 78]



العهد هو الصواب فما الذي حدث من أمور جديدة في الدولة استدعت تغييره الي مجلس شوري؟

وهل القيادة في الإسلام أتفه من الجماع والبصق والتبول والتبرز، فيسکت عنها السلام مع عظيم شأنها؟ مع أن الأمة کلها إن أخطأت في التبول والتبرز ما وقعت کارثة، وما اختل النظام، بينما الأمة لو أخطأت في افراز قيادة، فهي کارثة بل والله أم الکوارث.

فإن قال أحد إن القاعدة العامة هي الشوري، سألناه فأين الشوري في استخلاف عمر (رض)

وإن قال - کما يحلو للبعض أن يشبهوا أحداث السقيفة بذلک - إنها الإنتخاب الحر، سألناه: فأين بيعة أبي بکر من هذه؟ وأعجب ما قيل في هذا قول ابن خلدون وهو يعقب علي هذه الأحداث وما تلاها في تاريخنا الإسلامي من حروب واقتتالات وبغي وتزوير، اذ اعتبر أن کل الأطراف علي صواب، فالحسين مصيب ويزيد أيضاً مصيب، وعلي علي حق ومعاوية کذلک علي حق، والقاتل في الجمل وصفين علي هدي والمقتول أيضاً



[ صفحه 79]



علي هدي، وأسلوب تولية أبي بکر صحيح، وطريقة إسناد القيادة الي عمر صواب، وکل الناس کانوا علي حق، ثم قال ما نصه (واعتقد أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي کل واحد بمن يختاره ويجعله إمامه وهاديه ودليله) [9] وذلک عنده لأن کل واحد منهم اجتهد، فمنهم من فاز بأجرين ومنهم من نال أجراً واحداً، ولنا أن نقتدي بمن نحب، فإن قامت في بقعة من ديارنا دولة إسلامية شرعية وخرج بعضنا عليها، وأراق دم المسلمين، وأسقط نظام الدولة الإسلامي، فالحکومة علي حق والخارج الباغي علي حق، لأن قدوته في ذلک معاوية. وإذا رکبنا حاکم فاسق خليع يشرب المسکر ويلعب بالقرود عن طريق شراء الأصوات وتزييف البيعات کما فعل يزيد، فهو علي حق، ومن قام في وجهه وثار عليه ودفع دمه استشهاداً في سبيل إزالته أيضاً علي حق، لأن قدوة الأول يزيد وقدوة الثاني الحسين. وإن أعطي أحد حکامنا القيادة بعده لأحد أصدقائه دون أخذ



[ صفحه 80]



رأي الشعب فله في السلف أسوة حسنة، وإن سلک في توليته طرقاً يشک فيها، أو رفع أسرته علي رقاب الناس، أو بدد خزانة الدولة، أو فعل أکبر من ذلک أو أصغر، فله في الجيل الأول قدوة، لأن کل ذلک مباح مشروع اکتسب شرعيته من ممارسة السلف له.

أفهذا بالله فکر سياسي ننسبه الي الإسلام ونقدمه للناس في القرن العشرين، ونطرحه علي الشرق والغرب مباهين به الأمم، مفاخرين بهذه الفوضي السياسية والدستورية نظمهم المستقرة المحددة رغم علمانيتها، زاعمين بأن المسألة إجتهاد؟

أما آن الأوان لأن نميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، لنصل الي شيء محدد نعرضه علي البشر في فخر واعتزاز؟

وإن کان اختلافهم رحمة کما يقال، فمالنا محرومين من هذه الرحمة وقد مر علي اختلافهم أربعة عشر قرناً؟ وما لنا لم نر من اختلافهم إلا إختلافاً مماثلاً، وفوضي سياسية ودستورية کتلک التي بدعوها ثم استسغاناها وبلعناها، لأن مشايخنا قالوا لنا إنها کانت اجتهاداً ولم يسموها لنا باسمها الحقيقي؟



[ صفحه 81]




پاورقي

[1] البلاذري: 1: 587.

[2] هذا مثل قديم عند العرب يضارع ما في العامية المصرية: من خدم السبت يلقي الحد خدامه، أو: شيلني وأشيلک.

[3] شرح نهج البلاغة، أبن أبي الحديد الشافعي: 6: 11، مصر 1959هـ.

[4] الطبري: 2: 618.

[5] نفس المصدر: 2: 618 - 619.

[6] نفس المصدر: 2: 618.

[7] الأحکام السلطانية: ص8.

[8] صحيح البخاري: کتاب الحدود، باب رجم الحلبي من الزنا.

[9] المقدمة: ص213.