صياغة الفکر السياسي
ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفکر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما ترکه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فکراً سياسياً، فهذا المتوارث المتروک هش متناقض في بعضه، يشبه الغربال لکثرة ما به من ثغرات، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي.
والسبب في أنني لا أري في الإعتراف بهذا عيباً أنه رکام موضوع علي أساس آراء أشخاص ماتوا لکنهم ما زالوا يحکموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات.
ولئن کان هذا الکتاب لا ينصب علي هذا الموضوع رأساً، إلا أنه سيلمس - من بعيد - هذا الفکر لمساً خفيفاً، علَّ هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تکاد تفيق
[ صفحه 24]
وکانت نتيجة اعتمادنا علي هذا التراث المتروک وتقديسنا له ولواضعيه، دون تفحص لعلاقتهم بالأنظمة التي حکمتهم، وبالقوي السياسية الأخري التي تفاعلت في مجتمعاتهم آنذاک، أن عجزنا علي مر السنين أن نفرز قيادة واحدة، ليس والله هذا فحسب بل أفرزنا - ما شاء الله - أميراً في کل حارة، ومفتياً في کل شقة، وإذا الکبير منا والصغير أمام ظاهرة دينية سياسية خطيرة بعضنا يحوقل لها، وبعضنا يفتح لها فمه عجباً، ولا يعرف لها سبباً، ومنا من يعرف أصلها وفرعها لکنه يغمض عينيه ويضع في أذنه طيناً وفي الأخري عجيناً ويؤثر السلامة.
ومن أراد حل المعضلة استعار لها مفهوم الغرب، فلم يزد حجمه عن قائد حزب، أو رئيس تنظيم، ودار کل أحد في حلقة مغلقة ليس منها مخرج، وأصبح الکل يسأل نفسه: ما الحل؟ وما العمل؟ أليس منا رجل رشيد؟.
والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه الي جذوره، ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل عليالعکس تحزب کل منهم لجماعته، وتعصب لموقف شيوخه - أحياءً وأمواتاً - فازداد طيننا بلة
[ صفحه 25]
واعتقادي أن الحاضر البائس الذي نعيشه مربوط بالماضي، ولا يمکن فهمه إلا بالرجوع الي الأصل والکشف عن الجذر، ومعالجته من العقم، لأن المجتمعات البشرية - خصوصاً الفکرية (الإيديولوجية) عملية حيوية ودورة دائمة کالدورة الدموية، لا تقف إلا إذا مات البشر کلهم، ومن هنا فإن حاضر الحرکة الإسلامية ليس إلا امتداداً لماضيها، بل لا أبالغ إن قلت أنه امتداد للوضع السياسي الذي واجهته الأمة الإسلامية بعد وفاة المؤسس الأول عليه وآله الصلاة والسلام.
فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول، وتبلورت لديهم المفاهيم، تمسکوا بها وبقوا بعيداً عن السلطة، وخضعوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم شأن المعارضين في کل مکان کل بحسب نظريته، فنضجت أفهامهم واستوت، واکتملت نظريتهم، إذ کان عليهم عرضها وتقديمها للناس مزينة بالأدلة العقلية والنقلية، مکتملة من کل جوانبها أو تکاد، وظلوا کذلک منذ البداية،
[ صفحه 26]
خصوصاً وأنهم رفضوا کل الحکومات التي رکبت المسلمين، واعتلت عليهم بسند أم بغير سند.
والذين وصلوا الي السلطة، واقترفوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة، لم يحتاجوا الي نظرية سياسية مکتملة الجوانب قوية الأدلة، إذ کانوا قادرين علي قمع المخالفين، ومد النفوذ إلي الخارج، والتعامل مع الآخرين لا بالحجة والمنطق، بل بما تتعامل به السلطة - أيُّ سلطة - مع القوي السياسة التي لا يعجبها حالها.
وتبلور الوضع العام في تاريخنا علي هذين المحورين، وعاش أهل السلطة کما شاؤوا، وبقي المعارضون کما هم، وامتدت القرون. ولفترة ما حاول المعارضون أن يفعلوا شيئاً، ثم تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً الي المقاومة السلبية. وفي الفترة الأولي عبروا عن أنفسهم في شکل انتفاضات وثورات ناضجة وغير ناضجة، وسلکت السلطات معهم سياسة ذات شقين، الأول: أبعادهم عن مسرح الحياة السياسية العامة، بل وحياة المسلمين العادية مرة بالقهر ومرة بالتشويه، والثاني:
[ صفحه 27]
تصفية رموز المعارضة تصفية بدنية، وقمع نهضاتهم علي حساب کل المحرمات والمقدسات.
حتي إذا جاء دور کتابة السير والتاريخ - بعد قرون من وقوع حوادثه - فإذا بمن کتبوه يصيغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين دفعوا الثمن من دمائهم وأرواحهم، ولذلک مجدوا کل من في السلطة، وقدحوا في کل من عارضهم، ولم يعطوا الثورات والإنتفاضات العظيمة حقها من التاريخ، أو حتي من الإنصاف والأمانة العلمية، واستمر الحال علي هذه الوتيرة الي أن نزل الينا في الأصلاب وورثناه کابراً عن کابر، واذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة علي أنهم أهل الحق، ومن عارضوها علي أنهم مارقون خارجون عن الجماعة، وصدقناهم دون أن ننظر الي تاريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عاش في ظلها هؤلاء الکتاب، وما تأثروا به ومن أثر فيهم.. الي غير ذلک من عوامل المجتمع التي تتحکم بالضرورة في صياغة التاريخ.
[ صفحه 28]
ولما دارت الدوائر، ونفذ القانون الإلهي الحضاري في الخلق، وأزيح تيار السلطة عن سلطته وانحسر أمام المد الاستعماري منذ أيام المغول حتي زمن الإستعمار الحديث وأفراخه الموجودين في السلطة اليوم، واشتاقت قلوبنا لأن نعيد مجد الخلافة الغابر، وجدنا أنفسنا في مکان المعارضة خارج السلطة، ووجدنا السلطة في يد آخرين، فأردنا إزاحتهم وولَّينا وجوهنا شطر ماضينا المسطور نستفتيه ونستلهم منه أسلوب التعامل مع من هم في السلطة، فلم نجد في أيدينا إلا کتابات ونظريات سلطانية أو سلطوية، فوقعنا في أکبر مأزق إذ أن فکر السلطة لا يقاوم بفکر السلطة ولا بکتابات سلطوية، مهما امتد البعد الزمني بين السلطتين! ولم نخرج من مأزقنا بعد.
أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراکم لديهم تراث سياسي وحرکي غزير الکثافة ثري الثمار عميق المفاهيم، صاغوه علي تؤدة من خلال تجاربهم وهم يعارضون کل الأنظمة لأنها غير شرعية، فلما دارت الدوائر، وقضت قوانين التاريخ
[ صفحه 29]
الإلهية أن يقع الصدام بينهم وبين امتداد سلطوي زائف - أوقل فرخ من أفراخ الإستعمار الحديث - کانوا فاهمين جاهزين، يعرفون کيف يتعاملون مع السلطة وهم أساتذة المعارضة، فأزاحوا هذا الفرخ، وهزموا من سند ظهره، ولو کانت الدنيا بأسرها، لأن التجربة التاريخية عبر القرون الطويلة أکسبتهم مراساً، وقوت عظمهم. هذا تفسير ما حدث في ايران.
ولا يحسبن أحدکم أنني ألبس تاريخنا قديمه وحديثه ثوب الديمقراطية الغربية باستخدامي لاصطلاحات کالمعارضة والسلطة وغيرها، فتشابه الإصطلاحات اللفظية لا يعني بحال وحدة الفکر، لأن دلالات الألفاظ شيء، والإيمان بالنظريات التي تستخدم هذه المصطلحات شيء آخر.
إذا کنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا أن لا نقبل ما في أيدينا من تراث سياسي علي أنه مسلمات لا يرقي إليها الشک، مهماً کانت تمس شخصيات لها مکانة في مذهبنا، بل إني أري الشک في هذه الکتابات واجباً من أجل تحرير الإرادة
[ صفحه 30]
والفکر، ولابد من فحص صلة کتَّابها بالقوي السياسية في المجتمعات التي عاشوا فيها، وعلاقتهم بحکومات تلک العصور، وتأثرهم بأساتذتهم وشيوخهم، ووضعهم الإجتماعي آنذاک، وعقائدهم وآرائهم الخاصة، والجو السياسي والإجتماعي العام الذي عاشوا فيه، بل ودوافع تأليف الکتب، من أجل أن نقيم رأياً في المادة السياسية التي تعرضها هذه الکتب، وهل هي موضوعية نزيهة، أم منحازة قليلاً، أم متاثرة بعوامل تحول شکنا يقيناً؟
ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا، مهماً بلغ المشارکون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع يميناً أو شمالاً وقلنا تلک أمة قد خلت، فعلينا إذن أن نجيب علي من يسألنا لماذا إذن تطلبون إعادة مجد هذه الأمة، وتتمسکون بها وتتخذونها نموذجاً؟
وإن کنا نعتبرها مثالاً لنا، ونؤمن حقاً - لا مجرد کلام - أنها کانت أمة من البشر، ونعيب علي غيرنا عصمتهم للبشر، فلا
[ صفحه 31]
مفر إذن من أن نعرض تصرفاتهم وممارساتهم علي الحق فنعرف أهله به، لا أن نقدس أشخاصاً - وإن کانوا قادة - ثم نعتبر کل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو حتي سکوت، حقاً لا يأتيه الباطل من أي مکان!.
نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظر لأفعال وأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا الي الحق، أو أن نبقي علي نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا الي امتداد الأخطاء، واتصال حلقاتها، وتراکم کمها وکيفها.
فنحن نقرأ مثلاً في کتب السير والتاريخ أن الخلافة - وهي مثلنا الأعلي - انقلبت ملکاً عضوضاً منذ سنة إحدي وأربعين بعد الهجرة، أما لماذا انقلبت؟ فهذا ما لم نقف إزاءه بجرأة وشجاعة، أو حتي بمنطق وعقل، وسکوتنا عن نقد أنفسنا شجع المستشرقين والمغرضين علي أن يغمس کل منهم مغرفته في تاريخنا، ويستخرج منه ما يحلو له ويراه بعينه وعين قومه، مبتوراً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله، فأجابوا هم علي ما تساءل عنه أبناؤنا والعقلاء منا، فانفتح بذلک علينا باب خطر عظيم
[ صفحه 32]
وأعجب من العجب أولئک الذين عز عليهم الإعتراف بأن الخلافة الراشدة انقلبت وانتهت بعد ثلاثين عاماً فقط من وفاة المؤسس الأعظم، فألحقوا بنظام الإسلام ممارسات النظامين الأموي والعباسي وأفعال الملوک والسلاطين، ودافعوا عن ذلک دفاعهم عن الإسلام نفسه، فاختلط الأمر علي من جاء بعدهم. وقد تکون نوايا هؤلاء حسنة، لکن طريقة معالجتهم للأمور لم تکن عملية ولا إسلامية بل عاطفية لجأت في کثير من الأحيان الي تحسين کل قبيح، جهلاً بوسائل الدفاع، فعانت الأمة الإسلامية وخاصة الأجيال التالية من منهجهم هذا..
إن التحولات الإجتماعية والسياسة في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة، بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها، ثم اکتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شکل علم يدرس ويستفاد به. إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية، بشري من حيث التنفيذ، وسقوط الخلافة علي يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو
[ صفحه 33]
نظرية ربانية، فلماذا نخجل من تحليل وقائع السقوط بصراحة؟ وهو الحدث الذي تضافرت فيه عدة عوامل علي مدي حقبة من السنين فأنتجت ما هو مسطور في کتبنا، حيٌّ أمام أعيننا.
وعادة ما يحدث في الثورات - والإسلام نظرية ثورية بلا شک - أن يقع الإنحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفاً کالشعرة، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة ثم إذا به - إن أهمل - ما يفتأ يتسع يوماً بعد يوم حتي يصل الي مائة وثمانين درجة، فإذا بنا نري الإتجاه المعاکس تماماً، لکنه يحمل اسم النظرية الأولي.
هذه العملية التحولية هي ما لا بد وأنها حدثت - وفق قوانين التاريخ والإجتماع - في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة المؤسس الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام وحتي انقلاب معاوية. ثم من بعدها لم تقم لنا دولة نموذجية، ولم تؤثر عنا نظرية سياسية معقولة.
والإعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ أو العملية الإجتماعية البشرية، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس
[ صفحه 34]
الإمارة بالسوء من حب للإمارة والتنافس عليها، وتحيز لذوي قربي أو صحبة، ومخالفة لأحکام الشرع - أحياناً - الي غير ذلک من مقتضيات البشرية لٌ يناقض سيرتهم المدونة، وأفعالهم وأقوالهم المأثورة، وليس في ذکره اليوم واستخلاص النتائج منه ما يشينهم أو يشيننا، مادام القصد علمياً، والهدف مشروعاً، وفرق - بالطبع - بين هذا المنهج وبين منهج حثو التراب في وجوه الناس بلا رؤية أو دراية.
لقد کنا خير أمة أخرجت للناس، فاذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل مؤسس الدولة ورسالته حتي آخر وقت، فإذا بدفة الحکم في يد من لعنهم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم کمروان بن الحکم، ومن أباح دمه کابن أبي سرح، وأخيراً تربع علي عرشها من لو وزن المسلمون آنذاک في ميزان الکفاءة والخلق والرجولة لکان أقلهم وأحقرهم کيزيد بن معاوية.
ولم تکن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة علي الإسلام المحمدي، والنظرية الصافية.
[ صفحه 35]
ومتي؟ فقط في غضون ثلاثين عاماً!!
نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية - والله - جديرة بالدراسة، إذ المفروض في نظرية قوية کالإسلام منزلة من عند الله أن تستمر - إذا طبقت - قرناً علي الاقل أو قرنين أو أکثر، قبل أن يدب في أتباعها الوهن.
وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما: إما أن نظرية الاسلام السياسية لم تطبق أصلاً، واما أن يکون ما طبق - بقطع النظر عن صوابه وخطئة - واعتبرناه نظرية الإسلام السياسية علي درجة من الضعف، بحيث لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب النظرية، والحفاظ علي تماسک الدولة أکثر من ثلاثة عقود من السنين.
وسواء کنا مع الرأي الأول أم الرأي الثاني، أم ملنا الي غير ذلک، فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه، وقواعده التي وضعها في هذا الشأن، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ، لکي نعرف
[ صفحه 36]
رأسنا من أرجلنا بدلاً من أن نعيش کقطع الفلين فوق ظهر الماء، يأخذها الموج الي حيث يريد في اتجاهات متعاکسة دون أن تملک من أمر نفسها شيئاً.
علي أنني أدرک تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نري فيه ما نري، وأهون نتائجها أن يرمي المضطلعون بها بشتي التهم، وربما يهدر دمهم ظلماً، لکن الأصعب والأخطر أن نسکت ونتعامي ونترک الناس حيري، فهذا ذنب عظيم.
والسؤال الذي يوجع رأس الباحثين والمتحرکين الآن هو:
کيف يتم تعيين القيادة في الحرکة الإسلامية؟ وإن کان لدينا - نحن أهل السنة - منهج واضح في هذا فما هو؟ وکيف طبقه الجيل الأول؟
وان لم يکن لنا هذا بضاعة فما هي النظرية، وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في هذا الشأن، في ضوء السير والتاريخ المکتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدي بها في غياب النص؟
[ صفحه 37]
والجواب علي هذا السؤال يکون بطريقتين:
الأولي: أنه لا يوجد في ذلک نص محدد، وأن الأسلاف اجتهدوا، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب کارثة، والکل مأجور مهما فعل. وهذا مذهب ابن خلدون وابن کثير وغيرهما من المؤرخين إذ أقروا بأن (کله تمام) وأن جميع الناس حتي هارون الرشيد وبعض أبنائه کانوا علي صواب، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام حتي بني العباس هو السياسة الشرعية التي علي المسلم أن لا يترک التمسک بعروتها.
وهذه الإجابة تفضي بنا الي نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد، ولا القيادة فيه يمکن تعيينها بدقة، وأن أفعال الجيل الأول بما فيها خاصة من قتل بعضهم للبعض، وسبي للمسلمات، وهدم للکعبة، وهتک لحرمات الصحابيات واغتصابهن، وقتل وسبي لأبناء رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم کان حلالاً مشروعاً، ومن فعلوه مأجورون وإن أخطأوا في ذلک.
[ صفحه 38]
الثانية: أن الإسلام له في ذلک نظام محدد لکن الجيل الأول غلبته النفس البشرية، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد، اقتضاء لما عليه الفطرة البشرية، فارتکب البعض خطأ، وانحرفوا عن الدستور شعرة ثم ما لبث هذا الإنحراف أن اتسع وتعاظم حتي أفلت زمام الأمور من أيديهم، وأن التحول السياسي والإجتماعي الذي طرأ علي الدولة الإسلامية الوليدة فجعل رأسها مکان أرجلها، إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراکمت عليها أخطاء فأخطاء، وبمرور الزمن أدت هذه التراکمات الي سقوط الخلافة.
وهذه الإجابة تقودنا الي تحديد الإنحراف، وبالتالي معرفة الصواب، ومن بعد إصلاح المسيرة البشرية خلال العملية التنفيذية في العصر الحاضر.
لکن بألف حسرة وأسف راقت الإجابة الأولي للکثرة وأعجبتها علي ما فيها من جنينية في التفکير ومخالفة للمنطق والعقل، ومن هنا فقدت الکثرة المنهج التحليلي السليم،
[ صفحه 39]
وانساقت وراء هزات العواطف - ومشايخنا أساتذة مهرة في هزها - ثم خطت خطوة أکبر فکفرت کل من حاول أو يحاول أن يجيب إجابة مختلفة عن اجابتها، وهکذا ظلت الأمة دون فکر محدد تريد أن تصلح حاضرها في الوقت الذي تخجل فيه من أن ترفع إصبعها الي ما کان من ماضيها يستحق الإصلاح.
وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب الي صلب حتي وصلت عصرنا الحاضر، فإذا بها تنعکس علي الجو الحرکي العام الذي يضم کل العاملين للإسلام فتؤثر فيه علي نحو کبير، حائلة دون تحکيم المنطق والعقل.
وهکذا دخلت الحرکة الإسلامية دوامة المتناقضات، فلم تنجح في إسقاط طاغوت أو اجتياز عقبة لسبب بسيط هو أنها في الوقت الذي تمسکت فيه أشد التمسک بتاريخنا السياسي القديم، واعتبرت أخطاء شخصياته منجزات ومفاخر إسلامية عظيمة، إذا بها تريد مواجهة الأنظمة المعاصرة وهي أيضاً متناقضة تراکمت فيها الأخطاء، علاوة علي فسقها وکفرها، فلما نظرنا فيما في
[ صفحه 40]
أيدينا من عُدة سياسية، وتراث حرکي وجدناه هشاً لا يقوم علي أساس متين، ففشلنا في إسقاط النظم، وأسقطنا بدلاً منها حرمة المسلمين، فکفرنا کل من لفت نظرنا الضعيف الي مخالفة - ولو صريحة - لمبادئ الإسلام الذي نطالب باقامته.
وقد يکون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الکبري في تاريخنا - أن کنا خير أمة - مما هو متصل بموضوع واحد فحسب من موضوعات علم السياسة والقانون الدستوري، وهو في نفس الوقت موضوع الکتاب، أعني (القيادة) وتعيينها، لنري کيف أثرت هذه الأحداث، واستولت علي وجدان الأمة وعقلها الباطن، وکمنت فيه لتحکم فيما بعد سلوک أفرادها، وتوجه تصرفاتهم، ولننظر أيضاً کيف وقف علماؤنا تجاهها، وما استنبطوه منها من أحکام، واستخرجوه من وقائعها من مواد سياسية ودستورية فرضوها علي المسلمين، وأمروهم بتقديسها علي أنها (إسلام).
[ صفحه 41]