بازگشت

معاوية و الثورة المضادة


أدت سياسة عثمان (رض) التي ارتکزت علي محاباة بني أمية، وسوء توزيع الثروة في الدولة، ورفع أسوأ الناس علي رقاب المؤمنين، وارتکاب المخالفات القانونية، وترکيز السلطة في يد عائلة بعينها دون إعتبار للأهلية والکفاءة - کما هو مفصل في تاريخنا - الي تمرد عامة الشعب، وتذمر کبار الصحابة، حتي انتهي الأمر بمقتل الخليفة، وسقوط الدولة الإسلامية الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير. وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة، تتسع علي مر الأيام، ويزداد انفراجها، حتي وصلت الأمور الي تحول معاکس للخط الذي تأسست عليه الدولة.

ولأن الثورة علي نظام الحکم - أي نظام - حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأوا وتربوا في ظل نظم غير شرعية، کان لابد من البحث عن تبرير خارج عن العقل والمنطق - کالعادة - لإقناعنا بأنه ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية

فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها، ولم يرجعوا المعلولات الي عللها، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة أهل مصر علي عثمان (رض)



[ صفحه 104]



لأن هذا المنهج - رغم علميته وإسلاميته - سيؤدي الي تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من کل مسلم تقديسها مهما فعلت.

من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً إلا في أوهامهم، وسموها عبدالله بن سبأ أو ابن السوداء، وأطلقوا لخيالهم العنان تحت تخدير العواطف، فتخيلوا أنه لابد وأن يکون يهودياً، ونسبوا إليه کل الفساد، ووضعوا علي رأسه مسؤولية الثورة والتذمر. فتعيين الخليفة مجلس شوراه من أقربائه وممن لعنهم أو نفاهم رسول الله صلي الله عليه وسلم کمروان بن الحکم، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن عامر، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، مع وجود أجلة الصحابة، ثم إطلاق يد العائلة المالکة وعلي رأسها هؤلاء في تغيير الدولة والتلاعب بشئونها، وإشاعة الفوضي السياسية والقانونية وتعطيل أحکام الشرع، ثم حماية الخليفة لهم. ووعده بإصلاح الأمور مرات، واخلافه لهذا الوعد، واصراره علي صحة سياسته التي احتج عليها کل الصحابة إلا المستفيدين، لم يکن من أسباب التذمر. کما أن تعيين الخليفة لمرتد أباح الرسول دمه في فتح مکة کعبدالله بن



[ صفحه 105]



سعد بن أبي سرح والياً علي مصر في وجود أجلاء کعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بکر، ومحمد بن أبي حذيفة، وغيرهم، ثم قيام هذا الوالي بتعطيل الشرع ونهب خزانة الدولة واضطهاد النصاري، وإذلال الناس، لم يکن سبباً کافياً لتذمر أهل مصر، بل لابد وأن يکون السبب وراء ذلک عبدالله بن سبأ اليهودي، ولابد وأن يکون الصحابة الذين ثاروا علي فساد نظام الدولة من أتباع هذا اليهودي. تماماً کما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها، لأن الثورة علي النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم.

ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا في تبرير الکارثة، يستحي منها کل طفل مسلم به مسکة من عقل، لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية کانت من الضعف بمکان بحيث أن يهودياً واحداً استطاع أن يقلبها بغير عناء.

کما أنها تعني أن کبار الصحابة الذين لم يوافقوا علي سياسة عثمان، لم يکونوا يعرفون دينهم، فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا دولة الإسلام.



[ صفحه 106]



ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دور ابن سبأ في الأحداث، لأنک تراهم يذکرون اسمه في البداية فقط، ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محکومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة، وسوء إدارة الدولة، وفساد الشوري، وضغائن القبائل، وما اليها.

ولأن العلة التي ذکرها المؤرخون - أي ابن سبأ - علة وهمية، تراهم علي غير يقين منها، فمرة قالوا وراءها عبدالله بن سبأ، ومرات قالوا أن عمرو بن العاص هو محرکها، لأنه کان يؤلب الناس علي عثمان حتي رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء، ومرة يعلقون المسؤولية في عنق محمد بن أبي بکر، وأخري يضغونها علي رأس مروان بن الحکم [1] .

وکثير من المؤرخين يقولون أن الأسباب التي نقمها الناس علي عثمان کثيرة وخطيرة، وأنهم رأوا الإعراض عن ذکرها أفضل، ولم يذکروا إلا ماسمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم.



[ صفحه 107]



فنحن إذن لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والإطلاع عليه، لا ما وقع کله، وما يدريک لعل فيما لم يذکروه مفاتيح معضلات کثيرة، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يکشف کثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة؟

إن أحداث المأساة السياسية التي وقعت في عهد عثمان (رض) لم يکن وراءها يهودي ولا نصراني، بل کانت لها أسبابها وعللها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والنفسية والفکرية التي اجتمعت وسارت وفق قوانين التاريخ وسنة الله في خلقه.

ومن الأدلة علي ذلک أن الصحابة لم يذکروا ابن سبأ قط، بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الجليلة، فانقلاب معاوية علي الخليفة الشرعي وتأمره علي الناس بالسيف تنبأ به کعب وغيره من الصحابة [2] .

وإنعکاس حال الدولة استشفه علي (ع) [3] .



[ صفحه 108]



کما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه أهل مصر فقال (والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري کان طال عليهم مکان کل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوکة والإحن والأثرة الظاهرة والأحکام المغيرة) [4] .

ذلک أن أحوال الدولة وخط سيرها کان واضحاً أمامهم جميعاً، ومن ثم استطاعوا أن يروا المصير قبل وقوعه، لأنه کان أمراً مفهوماً، إذ کيف يتوقع ذو عقل السلامة لدولة يديرها مجلس شوري من الملاعين والمطرودين؟

لقد کانت الدولة في عهد عثمان دخلت مرحلة وسطاً بين الخلافة والملک، وکانت تسير بخطي واضحة في طريقها الي نظام سياسي غير الذي أراده لها مؤسسها، وکانت هذه حقيقة سياسية يعرفها الکثير. أنظر الي مروان بن الحکم - مثلاً - وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم (جئتم تريدون أن تنزعوا ملکنا من أيدينا؟ إرجعوا عنا) [5] .



[ صفحه 109]



إن طريقة تفکير الصحابة ومن عاش خلال تلک الأحداث کانت مختلفة عن طريقة تفکيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخينا، ومن هنا لم يؤثر عن أحدهم أنه قال أن سياسة الدولة کانت مضبوطة وأن سبب الفساد کان هذا أو ذاک من اليهود أو النصاري.

وکيف کان من الممکن توقع غير ما آلت إليه الخلافة في الوقت الذي کان يعتبرها مروان بن الحکم - کما مر قبل سطور قليلة - ملکاً له وعائلته والخليفة حي بين الناس؟

قتل الخليفة، وأدرک الناس أن الدولة قد حلت بها کارثة، فهرعوا الي الإمام علي (ع) يبايعونه وقالوا (إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منک، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال: لا تفعلوا فإني أکون وزيراً خير من أن أکون أميراً، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتي نبايعک، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تکون خفياً ولا تکون إلا عن رضا المسلمين) [6] .



[ صفحه 110]



وفي رواية أخري أنه (حين قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً فقالوا يا أبا حسن هلم نبايعک، فقال: لا حاجة لي في أمرکم أنا معکم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا. فقالوا: والله ما نختار غيرک، فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً، ثم أتوه في آخر ذلک فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم: إنکم قد اختلفتم اليَّ وأتيتم، وإني قائل لکم قولاً إن قبلتموه قبلت أمرکم، وإلا فلا حاجة لي فيه. قالوا ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه فقال: إني قد کنت کارهاً لأمرکم فأبيتم إلا أن أکون عليکم. ألا وإنه ليس لي أمر دونکم، إلا أن مفاتيح مالکم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونکم، رضيتم؟ قالوا نعم، قال أللهم اشهد عليهم ثم بايعهم علي ذلک [7] .

وهذه الروايات - إن صحت - دلت علي أمور:



[ صفحه 111]



الأول: أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاثة الماضية، وهذه هي المرة الأولي التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون علي شخص أن يتولي قيادتهم، دون أن يتم الأمر فلتة، أو بالعهد دون مشورة، أو بمجلس شوري منتقي.

الثاني: أن الإمام علي (ع) ظل يرفض هذا المنصب، ربما لأنه کان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر، وتغير حال الناس فيها، وهو ما سيسبب له بالتأکيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور الي مجراها الأصلي. وربما رفض مراراً ليثبت لکل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر، ولم يسارع اليه، ولم يلفق له الطرق ويخترع الوسائل، وإنما کان اختياره اختياراً حراً من قبل الناس الذين أصروا عليه، فهي بيعة صافية رائقة لا يشوبها غبش.

الثالث: أن الإنحراف الذي سبب الکوارث الماضية کان في أساسه انحرافاً اقتصادياً مالياً بالدرجة الأولي، وهو ما يظهر من عبارته، ولو لم تکن لهذا الأمر علاقة بما جري ما أفرده الإمام بالذکر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.



[ صفحه 112]



الرابع: أن السياسة الإقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام علي - أو القيادة الجديدة - ستقوم علي المساواة وإحقاق الحق والإنصاف وعدم المحاباة والإلتزام الدقيق بالشرع. وأعتقد أن هذا الإحساس الذي لابد وأن کل فرد آنذاک قد شعر به.

وتمت بيعة الإمام بعد أن کانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والقانونية، فغاصت في بحر تعالت أمواجه وهزت کيان الدولة هزاً عنيفاً.

وما أن تولي الأمر حتي بدأ يعيد عربة الدولة الي الخط الذي خرجت عنه، فعزل العصابة التي استولت علي مناصب الدولة العليا، وولي مکانها أهل الصلاح والتقي، وسوي بين الناس في الأنصبة، وکانت بيعته فرصة عظيمة لإعادة الدولة من الطريق المنحرف الي الصراط المستقيم. غير أن السياسات الخاطئة - خصوصاً الإقتصادية - التي کانت الدولة قد سارت عليها ربع قرن بعد وفاة المؤسس، أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية



[ صفحه 113]



إصلاحات اقتصادية، لا سيما وأن کبار أهل الأثر والنفود - أو أغلبهم - کانوا ممن استفادوا من هذه السياسة الإقتصادية، وتغير وضعهم الإجتماعي وأصبحت لهم مکاسب ومصالح مشترکة يدافعون عنها، ويرون الحفاظ عليها بأي ثمن.

ومن هنا کانت أزمة الإمام علي (ع) الحقيقية، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل، والمهمة صعبة، أضف الي ذلک العناصر الأخري کإزدهار بني أمية سياسياً، وضعف أتباع خط الإمام علي (ع) نظراً لفقرهم وزهدهم، واستفحال الضغائن القبلية، والأحقاد الشخصية، وتبني سياسة الإنتقام من الإمام الذي وتر بسيفه کل بيوتات الکفر التي تصدت للإسلام خلال الحروب الماضية.

تزعم حرکة قلقلة الدولة فريقان:

الأول بزعامة معاوية وکان أقوي وأکبر کما کانت له مطامع قبلية معروفة، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتي فتحت عليه مکة واضطر للإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.



[ صفحه 114]



وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والهدايا، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة علي الخليفة الشرعي ونشر الفوضي في الدولة الإسلامية.

والثاني بزعامة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وهذا الفريق أقل وأضعف، لکنه أيضا استتر بالمطالبة بدم عثمان دون وجه حق، وکانت الدوافع مختلفة، فأم المؤمنين عائشة کانت بنفسها تحرض الناس علي قتال عثمان وتقول لهم صراحة: اقتلوه، وترميه بالکفر [8] .

وکذلک فعل طلحة وکان من أکبر المساعدين علي قتله [9] .

ثم بايع هو والزبير الإمام في البداية، ثم انقلبا عليه لما رفض طلبهما بتولي إمرة البصرة والکوفة، وادعيا أنهما بايعا مکرهين. [10] .



[ صفحه 115]



نعم ندمت عائشة علي خروجها علي الإمام علي کما ندم غيرها، لکنهم ندموا بعد أن کان الخراب قد عم.

واضطر الإمام لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمسة أعوام هي مدة حکمه. فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل، وأوشک الفريق الأول في صفين علي الهزيمة، فلجأ الي حيلة التحکيم ورفع المصاحف، کما هو مشهور لدينا معروف، وانتهي الأمر بالکذب والخداع.

وظهر الي الوجود من بعد فريق ثالث هم البغاة الخوارج، الذين اضطر الإمام لقتالهم في النهروان.

وعاش الإمام ولا سلطان له علي الشام مرکز معاوية، وأقام البغاة دولة داخل الدولة الي أن قتل الإمام علي يد ابن ملجم المصري لعنه الله. ولأن الأمة لم تکن تري أحداً من زعماء الفريقين المذکورين يستحق القيادة بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام، فرأي أن يهادن قليلاً لتستتب الأمور، وتهدأ العاصفة، لکن نفراً من أتباعه ثاروا عليه، وهجموا عليه وجرحوه ونهبوا متاعه، فاضطر في النهاية للتفاوض مع معسکر



[ صفحه 116]



البغي ليحقن دماء أتباع أهل البيت، الذين کادت السيوف الباغية أن تستأصلهم من جذورهم. وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها، بعد أن تمکن من السلطة بحد السيف عام 41 هـ وهو ما قيل لنا عنه أنه عام الجماعة، ولم يکن إلا عام الفرقة والاستسلام للبغي وإنقلاب خلافتنا ملکاً عضوضاً.

ثم دس معاوية للحسن السم وإنفرد بالأمر... وهذا کله مفصل في کتب التاريخ کلها فليرجع اليه من شاء، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من الإختصار.

رکب معاوية السلطة، ووقف بعدها ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة، ويقول (يا أهل الکوفة أترونني قاتلتکم علي الصلاة والزکاة والحج، وقد علمت أنکم تصلون وتزکون وتحجون، ولکني قاتلتکم لأتأمر عليکم وأَلي رقابکم، وقد آتاني الله ذلک وأنتم له کارهون. ألا إن کل دم أصيب في هذه مطلول، وکل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين) [11] .



[ صفحه 117]



وهذا منه إعلان صريح بما يلي:

1 - أن العبادات قد فصلت عن القيادة والسياسة، فالأولي لکم فيها اتباع الشرع وما قال الله وقال الرسول، والثانية لي وأنا حر فيها.

2 - أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم، ويأخذ القيادة بحد السيف.

3 - أن الناس کارهون له في ذلک، إذ لم يکن ما فعله يحظي بذرة رضا.

4 - التخلص من کل العهود والمواثيق والشروط التي قطعها علي نفسه مع الإمام الحسن ومع الأشخاص والقبائل، وأن الدماء التي أريقت في سبيل وصوله الي السلطة، والمعارک التي قتل فيها عشرات الألوف من المسلمين لاحساب عليها ولا قود ولاعقاب، وعلي الأمة إذن أن تنسي ماکان، وتبدأ صفحة جديدة من تاريخها، الذي ستبدأ أحداثه وفق تصور جديد، وسياسة مغايرة.

ثم قاد معاوية الثورة المضادة بمعني الکلمة، فأسس جهازاً لتشويه أهل الحق، وآخر لتصفية المعارضين جسدياً، واخترع



[ صفحه 118]



الأحاديث، ولفق التفاسير، وأنشأ الفرق الفکرية المعارضة، ونشر بين المسلمين السکوت علي الظلم والظالمين بل وتأييدهم، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعرکة بين الحق والباطل الفرار الي رؤوس الجبال خشية الفتنة، وأرهب الآمنين من الناس، وصادر أموال المعارضين ظلماً وعدواناً، وأغدق أموال الدولة علي حزبه ومؤيديه، وعطل الحدود وأوقف الشرع، وابتدع في الدين علي النحو المفصل في تاريخنا المقروء الذي يعرفه کل صبي.

غير أن خطورة ما فعله معاوية تکمن في أنه ما فعله باسم أية نظرية أخري صراحةً بل باسم الإسلام، فإذا الإسلام الذي قدمه للناس شيئاً آخر يعاکس تمام الإسلام المحمدي. فکان ثورة مضادة سارت في الإتجاه المعاکس کلية، لکنها تحمل اسم الإسلام القديم.

وأخطر من هذا کله أن مشايخنا وعلماءنا - إن صح وصفهم بالعلماء - غلفوا هذا السم الزعاف بطبقة حلوة المنظر، وقالوا لنا إنه لم يکن انقلاباً علي الإسلام بأي معني بل کان إجتهاداً،



[ صفحه 119]



وأخذنا نحن من أيديهم هذا السم المدسوس، واعتقدنا أنه الدواء الناجع الفعال الذي يشفي ما بنا - بل وما بالأجيال المسلمة الي يوم القيامة - من کل الأسقام، واشترکنا معهم في هذه الجريمة، وضللنا معهم أنفسنا وأبناءنا والأجيال التالية، ولم نفکر لحظة في أن ما قاله مشايخنا ينبغي فحصه والتروي في قبوله، وأن الأخطاء المخالفة للإسلام لابد وأن نعترف بها ونتجنبها في کل مسيرة، ليکون ما لدينا من إسلام صافياً رائقاً، وتمادينا تحت تخدير العواطف فإذا بنا ليوم في مآزق وحفر عميقه حفرها لنا علماؤنا، وقفزنا فيها بإرادتنا دون وعي، ولا نستطيع اليوم أن نخرج منها.

والأغبي من هذا التصرف، أننا نبصق في وجه کل من ألقي لنا حبلاً من عقل لنستمسک به، ونخرج من هذه الحفر الي حيث الهواء النقي، والفکر الإسلامي الحر، الذي لا يقدس الأوراق ولا الأشخاص، إلا ما ومن کان منها مقدساً يستحق التقديس حقاً.

هکذا رأينا کيف اختارت الأمة قيادة باختيارها الحر في النور، کما حدث مع الإمام علي (ع) بعد أن کان الوقت المناسب قد



[ صفحه 120]



مضي، وهو ما يعتبر شکلاً آخر من أشکال تعيين القيادة يختلف عما سبقه من أشکال. ثم ما إن تولت القيادة الجديدة حتي بدأت الطوابير الخفية في العمل لإقصائها، فرأينا شکلاً وأسلوباً آخر للقيادة هو ما فعله معاوية، وهو ما يقودنا الي نتائج تستحق إمعان الفکر:

أولاً: إن بيعة علي (ع) إذا کانت هي الصواب أو الطريق الطبيعي لاختيار القيادة، لأنها تمت برضا المسلمين ومشورتهم، فما حکم ما فعله معاوية؟ وإن کان ما فعله معاوية لا غبار عليه، فکيف يمکن الدفاع عن بيعة علي (ع) ونحن أهل السنة نؤمن بخلافته الراشدة وبيعته السليمة؟

ثانياً: أن الطريقة التي وصل بها معاوية الي الحکم وتصدر القيادة إن کانت صحيحة وفق الإسلام - ولا أعتقد بصحتها أبداً - فکيف يمکن إغلاق باب البغي والإنقلابات العسکرية ضد النظام الإسلامي، إن شاء له الله أن يقوم هنا أو هناک؟ لأن هذا يمکن أن يقع في أي وقت بعد اللحظة الأولي التي تتأسس فيها دولة إسلام.



[ صفحه 121]



فما موقفنا من هذه الإنقلابات ومن يفعلها، بشرط أن يکون موقفا متسقاً مع تاريخنا وإسلامنا، لأننا إذا آمنا بما فعله معاوية، ثم أدانت أجيالنا الإنقلابات العسکرية کطريق للوصول الي السلطة وأخذ القيادة، وقعنا في تناقض يعطي من قام بالإنقلاب فرصة ليقول: والله أسوتي في ذلک معاوية، وأنتم لستم بأعلم منه ولا تعتقدون بخطئة. فماذا نقول له؟

ثالثاً: أننا لا نستطيع اعتبار طريقة معاوية شکلاً من أشکال الإسلام، ثم في نفس الوقت نؤمن بعدم شرعية النظم التي ترکبنا، خصوصاً في الدول العربية، لأن کل هذه النظم في حقيقة الأمر امتداد لنظام معاوية تستمد منه شرعيتها في الإستيلاء علي قيادة الأمة، وتقتدي به.

وقد يقول أحدنا: يا عزيزي إن عدم شرعيتها في أنها لا تطبق الإسلام ولا تحکم بما أنزل الله، فأقول: قد فعلها النميري من قبل وضياء الحق، فهل صارت نظمهما إسلامية؟ وأين الإسلام الذي طبقوه، ولماذا لم يستمر بعدهم.



[ صفحه 122]



إن هذه الجنينية في التفکير - التي تزعم أن الحاکم إذا شرع في تطبيق الإسلام، وجب علينا أن ندعوه أمير المؤمنين بصرف النظر عن طريقة وصوله الي القيادة - لو تمسکنا بها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لأن الشرعية شيء آخر ولها معايير مختلفة، وهو ما قد أشير اليه في الباب القادم.

نحن إذن أمام معضلة وعلينا حلها: إما أن يکون أسلوب معاوية وأفعاله خطأ، وبالتالي فالأنظمة التي ترکبنا اليوم في العالم العربي والإسلامي خطأ وغير شرعية. وإما أن نعتقد صحة طريق معاوية، ولا نستطيع أن نمس هذه الأنظمة بسوء، وتکون کلها علي صواب وشرعية، وإياکم وأن تفتحوا فمکم بکلمة ضدها.

يقول معاوية لسفيان بن عوف الغامدي أحدقادته العسکريين، وقد بعثه ليغير علي المسلمين في العراق:

(إن هذه الغارات يا سفيان علي أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح کل من له هوي فينا منهم، وتدعو إلينا کل من خاف الدوائر، فاقتل کل من لقيته ممن ليس علي رأيک، وأخرب کل



[ صفحه 123]



ما مررت به من القري، وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب) [12] .

هذا مثل من آلاف الأقوال والسياسات التي أثرت عن معاوية، وحفظتها لنا کتب التاريخ، فماذا لو اقتدي بها حکامنا، أنغضب ونسب ونلعن؟ وإذا قالوا: إن لنا في معاوية أسوة حسنة وقد سبقنا إليها ومعه أکثر الصحابة، وما اعترض عليه أحد من کبارهم وهم أهل العقد والحل، فماذا نقول لهم؟

وإذا راق للبعض أن يقولوا إن الجيل الأول کانوا صحابة، أما نحن فلسنا بصحابة. قلنا أفنزلت الشريعة سواء للکل وفي کل العصور؟ أم استثني الصحابة من أحکامها؟ أم أن لدينا شريعيتن أحدهما للصحابة والجيل الأول والثانية للمسلمين من الدرجات الثانية والعاشرة أمثالنا؟ فإن کان لدينا دليل علي أن ما ينطبق علينا لا ينطبق علي الصحابة فأين هو، هاتوه ففيه حل جميع المعضلات.



[ صفحه 124]



إن وصول معاوية إلي قيادة خير أمة لم يکن غير نتيجة منطقية لأزمة القيادة التي ألقي الأمة والدولة في دوامتها نفر من کبار الجيل الأول، لاعتبارات آخر ما فيها مصلحة الدين والدولة، فظلت مخالفاتهم تتعاظم يوماً بعد يوم حتي وجد المسلمون أنفسهم بين أنياب بني أمية، ومنذ ذلک الحين ونحن نتوارث هذه السياسات، يحکمنا بها الطواغيت، فيرکبوننا ويقضون علينا مآربهم، ونستکين لهم بهذه السياسات، لا فرق بين ماضينا وحاضرنا، فما نراه اليوم ليس إلا صورة عصرية مما ارتکبه الأوائل ومارسه السلف، وليس من سبيل الي إصلاح الحاضر إلا بالوقوف موقفاً محدداً من هذا الماضي، ورفض ما خالف ومن خالف فيه أحکام الإسلام، وهي واضحة جلية من أجل أن نعرف رأسنا من أرجلنا، علي الأقل قبل قليل من يوم القيامة.

لکن مصيبتنا السوداء أننا نعيش علي فتات ماضينا، نلوک حوادثه، ونمضغ سيرة السلف دون أن نزيل عنها ما علق بها، فيتحول کل هذا في دمائنا أفيوناً وبلادةً، دون أن نحس، لأن



[ صفحه 125]



هذه الوقائع قد حولت الي معتقدات تقدم لنا ملفوفة في أوراق إسلامية، حملت أسماء مشاهير، وما طبعت إلا في مطابع السلطة.

هذه هي وقائع تاريخنا التي صاغ علي أساسها فلاسفتنا ومفکرونا ما صبوه فينا من فکر سياسي. وليتهم ترکوا لنا الخيار لنزن ما يقولونه وما يقوله المعارضون للسلطة، بل شنوها حرباً شعواء علي من عارض السلطان، ورموهم بما ليس فيهم، وکفروهم، فإذا المسلم اليوم لا يطيق أن يسمع رأياً معارضاً، ولا يري بين المسلمين مسلماً إلا نفسه وفرقته، ولا يري الإسلام والعقيدة الصحيحة إلا في أقوال ابن فلان وابن فلان، فاتسعت الشقة بين من يعارضون (فکر السلطة) ونظرياتها في الحکم والسياسة، وبين الأغلبية العظمي التي تردد بلا وعي (فکر السلطة) وتريد في نفس الوقت أن تصل الي السلطة وتسقط الأنظمة وتبيد الطواغيت.



[ صفحه 126]




پاورقي

[1] أنظر تفصيل ذلک علي سبيل المثال في الطبري: 3: 378 حتي 398.

[2] الطبري: 3: 381.

[3] الطبري: 3: 456.

[4] الطبري: 3: 393 وانظر کذلک 3: 425.

[5] الطبري: 3: 379.

[6] الطبري: 3: 450.

[7] نفس المصدر: 3: 450 - 451.

[8] الطبري: 3: 477.

[9] الفخري لابن طباطبا، ص60 قال وهذا تشهد به جميع التواريخ.

[10] الطبري: 3: 451 - 452. وانظر تفصيل وقائع هذا الدور في جميع کتب التاريخ المعتبرة.

[11] الکامل لابن الأثير: 6: 220، مصر، 1356هـ.

[12] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي: 2: 85 - 86.