بازگشت

منهج البحث


تضطرب النفس البشرية عندما تواجه حالة الشک، وتسعي جاهدة لملأ الفراغ وعلاج التوتر، حتي تبلغ شاطئ الحقيقة وتستريح الي فرات العلم، فتحس ببرد اليقين، وتستقر في ظلال الايمان.

وهکذا يتنازع الشک واليقين افئدتنا، ونعايش دوما الانتقال من حالة التوتر التي يورثها الشک الي حالة الاستقرار التي يبعثها اليقين؛ مما يجعل هذا الانتقال من الحقائق اليومية في حياتنا، مثل التحول في الطبيعة من العطش الي الارتواء او من الحرور الي الظل او من غسق الليل الي ضحي النهار.

کيف تتم هذه النقلة العظيمة، التي تجعل البشر اعلي واقوي من سائر الخليقة؟

ذلک هو السؤال العريض الذي واجه المتفکرين. ولکن لو عدنا الي انفسنا، ودرسنا حالاتنا الذاتية، فان باستطاعتنا ان نلمس من قريب ابعاد الحقيقة التي تجيب عن هذا السؤال بوضوح، بل لا تدع مجالا لمثل هذا السؤال.

اننا نعلم يقينا بوجود انفسنا، وبتواجد الحقائق من حولنا، وباختلاف الظواهر والحالات علينا. وان هذا اليقين لا نشک فيه لحظة، وحتي لو جاء متخلف وحاول القاء الشک في افئدتنا، فلربما استمعنا الي جداله المزخرف فترة من الوقت ثم ادرنا وجوهنا عنه، وقلنا: نحن علي يقين من هذه الحقائق، ولعلک في شک فاذهب وابحث عن اليقين لنفسک.

والسر في ذلک ان الله - عز وجل - اودع في قلوبنا عقلا يکتشف الحقائق ويؤمن بها ويبعث الطمأنينة فينا بصدقها.

وهذا العقل يجعلنا نثق ثقة کافية بأننا فعلا موجودون، وان العالم من حولنا حق لاريب فيه، وان النظام الحاکم في الخليقة ثابت ومستقر، وان علينا ان نتکيف معه.

کما وانه هو الذي يکشف لنا آلاف الحقائق الکبيرة والصغيرة التي نثق بها يقينا ونتعامل معها يوميا، ونشکل منها منظومة علمية متکاملة نفتخر بها نحن البشر، بل ونسخر الطبيعة بفضل تلک العلوم الواسعة.

والنظام الاخلاقي الذي يتلخص في جملة واجبات يعلم کل انسان ضرورة الالتزام بها؛ کالوفاء والاحسان والعدل ورد الامانة، وتجنب العدوان والظلم، وما اليها من الثوابت التي تعتبر قاعدة کل نظام اخلاقي في العالم، وعند جميع البشر اني اختلفت مذاهبهم وطبائعهم. وان هذا النظام هو اعظم ميزان نعرف به الخير والشر، واهل الخير واهل الشر، والدعوة الحق والدعوة الباطل..

وبهذا الميزان عرفت القلوب صدق دعوة الانبياء - عليهم السلام - کما عرفت - ولو بعد حين - الکذب عند ادعياء النبوة او عند اصحاب المذاهب الباطلة.

وتلک هي حجة الله البالغة علي خلقه، حيث لا يرتاب احد لو راجع وجدانه، وميزان عقله في صدق رسالة الانبياء الداعية تماما الي تلک الثوابت الاخلاقية التي تشکل قاعدة کل تشريع عادل، وسلوک فاضل.

وجاء النبي محمد - صلي الله عليه وآله - برسالة القرآن التي ختم الله بها الرسل، واکمل دعوات الحق. فکان القرآن والوجدان معا ميزانا عند البشر. أوليس تذکر القرآن بحقائق الوجدان جعلنا علي بصيرة وعلي يقين وفي سکينة وطمأنينة؟

وکلما ازداد المسلم وعيا بکتاب الله، ازداد بصيرة في وجدانه. ويستطيع ان يعرف الحق ويهتدي الي سبل السلام.

واذا عرف الحق عرف اهله. واذا عرف اهل الحق عرف الباطل واهله.

ولما اهتدي المؤمنون بحقائق قلوبهم الي نور الوحي عرفوا الرسول الذي انزل اليه، وقال ربنا سبحانه:

«أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِکِرُونَ» (المؤمنون / 69)

ولما عرفوا الرسول معرفة نابعة من بصيرة ايمانهم وميزان عقولهم، عرفوا اولي الناس به، واقرب الناس الي هديه، واوعي الناس بعلمه، واکثرهم اتباعا له، والذي لم يکن سوي الامام علي بن ابي طالب. وتطابق هدي عقولهم، ووصايا الرسول، فکانوا علي يقين بأنه هو الامام الحق، حتي ولو انفصلت عنه السلطة. فالسلطة ليست ميزان حق، لان الله يفتن بها المؤمن والکافر، بل ان سلطة الکافرين في الارض اکثر واطول.. واذا کانت السلطة الظاهرة بعد الرسول ميزانا، فلابد ان تکون ذات السلطة ميزانا لمعرفة الحق ابدا ودائما، فاذا بملوک بني امية وبني العباس کلهم موازين حق!! فاين اذا القرآن، واين الوجدان، واين تلک الثوابت الاخلاقية؟!

وهکذا عرفنا الامام بالدعوة التي حملها، وبالنور الذي اتبعه، وبالصراط القويم الذي امر به. عرفناه بذات الميزان الذي عرفنا به صدق دعوة الرسول - اي تطابق الوحي والعقل -.

وبعد الامام علي - سلام الله عليه - لم نجد تلک الصفات المثلي قد تجمعت في شخص کما تجمعت في السبطين الحسن والحسين - سلام الله عليهما -، وتطابقت کلمة الرسول فيهما وحقائق سلوکهما. فکانت وصية الرسول باتباعهما دليلا علي صدق نبوته، أولم يرتحل الرسول عن الدنيا وهما دون العاشرة من عمرهما الشريف، فکيف عرف الرسول انهما امامان قاما او قعدا؟ اوليس بالوحي الذي نزل عليه، وانبأه بأمر الأئمة من بعده وعموما بأهل بيته، الذي ترکهما والقرآن ثقلين ليتمسک بهما من اراد الله، وليکفر بهما من کفر عن بينة وبعد اتمام الحجة عليه من الله؟

ان سيرة اهل البيت - عليهم السلام - وهديهم وعلمهم، وتمثلهم لحياة الرسول واتباعهم له اتباع الفصيل لامه، وجهادهم في الله، وتجنبهم لسلطات الجور وقيامهم ضد دعوات الفساد والانحراف.. کل ذلک کان دليلا علي ان الرسول لم ينطق فيهم بهواه حاشا لله، انما نطق عنهم بوحي اوحي اليه. ولم يوص بهم إلا ليتم الله حجته علي عباده الصالحين، فيعرفوا ائمتهم من آل بيت الرسول معرفة وجدانية بنور ايمانهم، وهدي عقولهم.

وهکذا جاء في الحديث المأثور عن سعد عن ابن عيسي عن ابن أبي عمير عن محمد عن حمران عن الفضل بن السکن عن أبي عبد الله الصادق - عليه السلام - قال: قال أمير المؤمنين - عليه السلام -:

اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالمعروف والعدل والاحسان . [1] .

وهکذا عرف أهل البصائر من المسلمين ائمة الهدي من اهل بيت الرسول، وظهرت کراماتهم وآيات صدقهم، وحقائق علومهم علي لسان أعدائهم، فکيف بأتباعهم؟..

وکانت فرق من المسلمين قد التفت حول بعض الناس من آل البيت، الذين لم يکن لهم مستوي من العلم والتقوي بدرجة الأئمة - عليهم السلام -. فما لبث الصالحون منهم ان عرفوا الصواب وترکوا الشقاق وانقرضت البقية الباقية منهم او کادوا..

فمثلا الکيسانية الذين اتبعوا محمد بن الحنفية، والفطحية الذين مالوا الي عبد الله الافطح ابن الامام الصادق - عليه السلام -، والواقفية الذين خالفوا الامام الرضا - عليه السلام -.

وقد انقرض هؤلاء، بينما بقيت فرقة الاسماعلية الذين قالوا بامامة اسماعيل بن الامام الصادق - عليه السلام -، وزعموا ان موته الظاهري کان نوعا من التقية، وان الامامة لازالت في أبنائه حتي اليوم. وهذه الفئة بالرغم من وجودها اليوم إلا انها ليست بذات شأن يذکر. کذلک الذين زعموا ان الامامة انتقلت من الامام علي بن الحسين - عليه السلام - الي ابنه زيد، والذين هم بدورهم لايملکون حجة قوية تناهض حجة الشيعة الاثني عشرية الذين التفوا حول ائمة الهدي من آل بيت الرسالة.

ولاتزال دعوة الرسول باتباع آل البيت نافذة، کما انه لاتزال دعوة الله باتباع الرسول نافذة، حيث قال الله سبحانه:

«أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْکُمْ» (النساء / 59)

لماذا، اوليست الطاعة خاصة بالشؤون الحياتية التي تتطور وتتغير، کالحرب والسلم وادارة الاقتصاد وتولي السلطة، والقضاء في المجتمع؟؟

کلا.. ان جزءا من الطاعة يرتبط بهذه الشؤون المتغيرة، بينما الجزء الأکبر يتصل بفقه الدين ووعي حقائقه، واتباع القدوة في الحياة.

ونحن قد أمرنا باتباع هدي الانبياء الذين سبقوا، وما ذکرت سيرتهم وقصص حياتهم في کتاب الله الخاتم إلا ليتبعوا، وقد قال الله سبحانه بعد ذکر اسماء الرسل:

«اُولئِکَ الَّذِينَ هَدَي الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» (الانعام / 90)

وکما الانبياء، کذلک نبينا الأکرم - صلي الله عليه وآله - أمرنا باتباعه واخذ ما جاء به من عند الله، فقال سبحانه:

«وَمَآ ءَاتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا» (الحشر / 7)

وکذلک الائمة - عليهم السلام - أمرنا باتباع نهجهم بعد حياتهم، کما امرنا بطاعتهم فيها.

وقد جعل الله اتباع ابراهيم - عليه السلام - ميزانا للصلة به والولاية باسمه، فقال سبحانه:

«إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران / 68)

ونحن اذ نتحدث عن قضايا خلافية وقعت في التاريخ البعيد، کالتي

حدثت بعد رحلة نبينا - صلي الله عليه وآله - او بعد خلافة الامام علي - عليه السلام -، فليس لکي نعمق الشقاق بين ابناء الامة، وانما لمعرفة الطريق السليم في حياتنا. فان نهج علي - عليه السلام - باق في سيرته وفي کلماته، کما ان سلوک معاوية قائم في منهجية حکمه، وطريقة ادارته. فأي النهجين نتبع، واي السبيلين نسلک؟

الحديث عن الأئمة الهداة من اهل بيت الرسول ليس ترفا، کذلک وانما هو نهج حياة..

فاذا قال أحدهم: لماذا اکتملت الحجة بأثني عشر اماما، ولم تستمر الامامة بصورتها الظاهرة الي الأبد؟

قلنا له؛ لماذا اکتملت الرسالة بذلک العدد من الانبياء ولم تستمر بصورتها تلک الي قيام الساعة؟

لقد اقتضت الحکمة الالهية ذلک فيما يتصل بالرسالات ان تختم بالنبي المصطفي محمد - صلي الله عليه وآله - وان تختم الامامة بصورتها الظاهرة بالامام الثاني عشر سمُي رسول الله، ابن الامام الحسن العسکري - سلام الله عليه -، وذلک بعد ان عرفت الامة احکام الدين وتفسير القرآن الکريم، وتنامي الخط الاصيل، وترکزت الحجة علي الخلق.. فغاب الامام المنتظر ليکون في غيبته وانتظار الامة له، حکمة بالغة سوف نتحدث عنها لاحقا انشاء الله.


پاورقي

[1] بحار الانوار / ج 3 / ص 270 / رواية 7.