بازگشت

برغم الغيوم..


«26»

لم تشرق شمس اليوم الثامن من ربيع الاول وظلّت غائبة وراء السحب الکابية التي تراکمت علي امتداد الليل الشتائي الطويل.

اليوم هو الاول من کانون الثاني من العام الميلادي الجديد«874» حدثت في الرواق حرکة غير عادية عندما أعلن عقيد الخادم عن رحيل زعيم البيت العلوي الامام الحسن واستحال المنزل الواقع في «درب الحصا» الي خيمة تعصف بها الريح من کل مکان..

برقت عينا جعفر بالغدر وقد ضجّت في أعماقه المظلمة أصوات تشبه عواء ذئاب مجنونة...

ها هو يستيقظ علي صيحات المأتم فهبّ کمن لسعته عقرب وراح يتصرف کالسيّد المطاع وربّ المنزل.. وحاول جاهداً أن يضفي علي نفسه مسحة من الوقار کاءمام جديد للشيعة!

ان جميع الظروف قد باتت مواتية، فأخوه قد رحل عن الدنيا دون وصية ظاهرة، وأذن فقد أصبح کل شيء له... أنه الوريث الذي لن ينازعه أحد.. ولکن ماذا لو ظهر ابن أخيه؟!



[ صفحه 194]



خامره أحساس بالقلق وسرعان ما تبدّد.. ان صبياً تبحث الجواسيس عنه لن يجرؤ علي ذلک..

اتخذ جعفر مکانه في باب المنزل لاستقبال الوافدين من المعزّين.. سوف يصل زعماء کبار من البلاط وشخصيات بارزة في صفوف الشيعة وها هو يشعر بالانتشاء لاول تهنئة يتلقاها من الشيعة مصحوبة بکلمات عزاء رقيقة..ها هو يهنأ لاول مرّة بالاءمامة.. لقد أصبح اءماما لطبقات واسعة من الناس!

وصل «أبو الاديان» [1] درب الحصا وسمع من بعيد أصوات المناحة واذ ألفي جعفراً واقفاً في الباب يتلقي التعازي والتهاني همس في نفسه بأسي:

ـ ان يکن هذا هو الاءمام فقد بطلت الامامة اءذن..

کيف يصبح اماماً وهو يکرع کؤوس النبيذ ويقامر في قصر الجوسق ويلعب بالطنبور؟!

واضطر أبو الاديان الي مصافحته وتقديم التعازي والتهاني.. وعندما ولج المنزل رأي حشداً من المعزّين، وقد برز فيهم عثمان بن سعيد وکيل الامام الراحل.. وکان واجماً غارقاً في حزن مرير..

وتوهّجت في ذاکرة أبي الاديان البصري کلمات الامام الراحل في حقه في حضور وفد قادم من اليمن: «امض يا عثمان فانک الوکيل والثقة المأمون علي مال الله» [2] فقال أحد أعضاء الوفد مخاطباً الامام: «يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتک ولقد



[ صفحه 195]



زدتنا علماً بموقعه من خدمتک، وانه وکيلک وثقتک علي مال الله؟

فقال الامام عندها: نعم.. واشهدوا علي ان عثمان بن سعيد العمري وکيلي، وان ابنه وکيل ابني.. مهديکم». [3] .

کان عثمان بن سعيد قد انتهي توّاً من مراسم تجهيز جثمان الراحل العظيم للصلاة عليه، وانتبه أبو الاديان الي صوت عقيد الخادم يخاطب جعفراً:

ـ يا سيّدي قد کُفّن أخوک.. فقم للصلاة..

مرّت اللحظات حساسة.. کان جعفر يخطو باتجاه نعش أخيه.. سوف يکتسب جعفر باقامة الصلاة علي الامامه امتيازاً کبيراً.. فهناک قناعة لدي عموم الشيعة في أن الامام لا يصلّي عليه اءلاّ اءمام!

وقف جعفر قبال النعش استعداداً للصلاة.. وانتظمت خلفه صفوف المصلّين.. کان أبو الاديان واقفاً جنب عثمان بن سعيد في الصف الاول.. وکان جعفر علي وشک التکبير.. عندما ظهر صبي بوجهه سمرة متموج الشعر.. تقدّم الصبي بخطي واثقة نحو جعفر وجذب رداءه قائلاً بصوت فيه حزم:

ـ تأخّر يا عمّ، فأنا أحق بالصلاة علي أبي.

اصفر وجه جعفر واربدّ وهو يتأخر واقفاً خلف الصبي الذي بدأ مراسم الصلاة علي والده الراحل..



[ صفحه 196]



ودمعت العيون للصوت الحزين يصلّي علي الراحل کان ذهن أبي الاديان متوتراً للمفاجأة..

انه يشهد أولي علامات الامام الحق.. لقد أخبره الراحل: ان الذي سيصلّي عليّ هو الامام.. بقيت علامتان..

الاولي أن يطالبه الصبي بالرسائل الجوابية التي يحملها من المدائن..

تمّت مراسم الصلاة والتفت الصبي الي أبي الاديان قائلاً:

ـ يا بصري هات جوابات الکتب التي معک!

لم يکن هناک مجال للشک، و سلّم أبو الاديان مجموعة من الرسائل الي الصبي الذي اتجه نحو ستائر اءحدي الحجرات ليتواراي وراءها.. تقدّم رجل نحو جعفر الذي ما يزال حانقاً.. أراد أن يحرجه أکثر فقال له متسائلاً:

ـ يا سيّدي من الصبي؟!

أجاب جعفر بحنق:

ـ والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه!!

وارتسمت علي وجه الرجل [4] ابتسامة ساخرة من هذا الذي يدّعي ما ليس له.. وها هو يتراجع أمام صبي يبدو عليه أنه في التاسعة من عمره.. اءنها قوّة الحق التي لن يصمد أمامها جعفر وامثال جعفر حتي لو کان من ذرّية الامام!



[ صفحه 197]



کانت المفاجأة لا تزال تسيطر علي بعضهم خاصّة الّذين رأوا الصبي لاول مرّة..

وحدثت ضجة خارج المنزل.. لقد وصل أخو الخليفة وممثله في مراسم التشييع والصلاة الرسمية..

استقبل جعفر مبعوث الخليفة وأخاه أبا عيسي بن المتوکل الذي نقل تعازيه وتعازي الخليفة بالمناسبة..

وحُمل النعش الذي ما کاد يغادر المنزل حتي استقبل بالبکاء والنحيب.. لقد رحل السلام.. رحل الانسان الطاهر.. کحمامة بيضاء شهيدة کان النعش المحمول يسير باتجاه المسجد الجامع مخترقاً الشارع الرئيسي المعروف بشارع أبي أحمد..

نسائم کانون الباردة تلفح الوجوه في يوم غائم کئيب.. وکانت مشاعر مزعجة من الاحساس بالغربة واليتم تغمر القلوب الحزينة لکأن الامام شمس تبعث الدفء والنور فاءذا غاب غمرت الظلمات النفوس..

وتذکر الناس يوماً حزيناً قبل ستة أعوام يوم شيعوا والد هذا الانسان الطيب الذي وافاه الاجل وهو في ريعان الشباب..

وتساءل البعض في دهشة عن سرّ وفاته؟! انه لم يشتک من علّة قبل ذلک فما الذي حصل؟! لقد اعتادت سامراء علي هذه الظاهرة.. کثيرون لقوا حتفهم في ظروف غامضة!



[ صفحه 198]



وُضع النعش قريباً من جدران المسجد لاقامة الصلاة وتقدّم مبعوث الخليفة وأخوه الي النعش وکشف عن وجه الراحل ليبدّد هواجس قد تراود بعض الناس ويدفع شبهة الاغتيال عن الدولة فأعلن أمام شخصيات البيت الهاشمي من العباسيين والعلويين، وقادة الجيش وکبار موظفي الدولة والبلاط قائلاً:

ـ هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه علي فراشه وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان.. والقضاة فلان وفلان ومن الاطباء فلان وفلان وراح يستعرض الشخصيات التي امضت الليالي الاخيرة في منزل الامام لاهداف غامضة.. ثم غطّي باحترام وجه الراحل العظيم. [5] .

وأُقيمت الصلاة علي الجثمان الطاهر ليُحمل مرّة أخري ويعود الي المنزل الواقع في «درب الحصا» وهناک سيواري الثري الي جانب والده الراحل تنفيذاً لوصيته.

وبدا ذلک اليوم الغائم اشبه بيوم القيامة [6] وقد حشر الناس ضحي فالامواج البشرية تتدافع لتلمس النعش الطاهر تبرکاً لکأنها تمدّ يداً تصافح رسول الله..

القلوب يغمرها الاسي واءحساس بالفجيعة يملا صدور المؤمنين.. ويلج النعش منزل صاحبه وفاحت رائحة الثري المعطور حيث سيرقد الامام الي جانب والده.. لقد وصلا معاً هذه



[ صفحه 199]



المدينة علي قدر قبل ربع قرن فرحل الوالد قبل ستة أعوام والتحق به الابن في هذا اليوم..

ان الذين يرون ما وراء الافق البعيد سيرون مآذن تشق قلب التراب في هذا المنزل المبارک لتستحيل هذه البقعة الطاهرة الي مساجد يذکر فيها اسم الله کثيراً. والي واحة خضراء يتفيأ ظلالها الوارفة المتعبون في دورب الحياة والزمان.



[ صفحه 200]



«27»

استمر المأتم وکانت رائحة طيبة تشبه رائحة الطين المعطور تفوح في فضاء المنزل.. الشمس ما تزال مستورة بالسحب بالرغم من أن قرصها المستدير قد بدا شفافاً يشبه القمر في لحظات الغروب وفي أصيل ذلک اليوم وصل وفد من مدينة قم يحمل معه رسائل من أهلها اضافة الي هميان يشتمل علي الحقوق الشرعية التي يتوجب تسديدها الي الاءمام أو من يوکّله..

في حجرة السيدة نرجس جلست النسوة وکانت أم الحسن اکثرهن اءحساساً بالفجيعة، حتي ان المرء اءذا رآها في تلک الحال سيحدس أنها لن تعيش بعد ابنها اءلاّ أياماً معدودات أما السيدة نرجس فقد بدا وجهها سماءً مثقلة بغيوم ممطرة.. عيناها تبحثان عن عزيز فقدته.. زوج کريم رحل وترکها وحيدة وولد طاهر تحمّل أمانة کبري وقرّر خوض ملحمة الصراع المرير أمام أعداء لا يُعرف لهم عدد.. حتي عمّه جعفر غدر بهم.. انه لم يعد يري شيئاً سوي نفسه وسوي اطماعه وحرصه وجشعه وتهافته علي حطام الحياة الدنيا!



[ صفحه 201]



تساءل أحد رجال الوفد عن الشخص الذي يقدّمون اليه التعازي فأشير الي جعفر!!

کانت آثار السفر ما تزال تبدو علي أفراد الوفد وهم يصافحون جعفراً الذي رقص قلبه طرباً.. انه يدرک حجم ما معهم من الاموال التي سيقبضها هذا اليوم!

تلقي جعفر بانتشاء تعازي القميين وتهنئتهم له بالاءمامة، ولم يستطع اخفاء اءبتسامة صفراء باهتة ارتسمت علي شفتيه.

قال رجل حنکته التجارب:

ـ اءن معنا کتباً وأموالاً..

قال جعفر مستعجلاً:

ـ هاتوها!

قال الرجل بهدوء وحذر:

ـ ألا تقول ممن الکتب؟ وکم المال؟

ـ ومن أين لي أن أعرف ذلک؟!

ردّ الرجل:

ـ هذه عادتنا مع أخيک رحمه الله.

صرّ جعفر علي أسنانه بغيظ.

ـ تريدون منا أن نعلم الغيب.. أنتم تکذبون علي أخي.

أنتفض جعفر من مکانه وهو ينفض أثوابه.. واءنطلق صوب قصر الخلافة وقد استعرت في اعماقه حمّي الغدر.. هذه أفضل



[ صفحه 202]



فرصة للقبض علي الصبي الذي يقف في طريق تحقيق أحلامه المريضة.

ما اءن غادر جعفر المنزل حتي خرج من اءحدي الحجرات فتي يرتدي زي الخدم وجاء اءلي رجال الوفد قائلاً:

ـ معکم کتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار.. عشرة منها مطليّة بالذهب..

تبادل رجال الوفد نظرات ذات معني وقال الرجل المحنّک:

ـ الذي وجّه بک لاخذ ذلک هو الاءمام. [7] .

وسلّموا اليه الرسائل والهميان وغادروا المنزل بعد أن مکثوا قليلاً..

هبّت رياح کانون باردة کقطيع من الذئاب، وقد توارت الشمس وراء السحب وفي لحظة المغيب کان رجال الشرطة کذئاب غبراء تقتحم منزل الامام وتلقي القبض علي السيّدة نرجس التي نسيت کل آلامها واستعدّت للمواجهة.

طولبت السيّدة بالصبي فانکرت أن يکون لها ولد.. وقامت بحرکة ذکية عندما تظاهرت بأنها تعاني من الوحام..

أوقف قائد المفرزة رجاله عن التفتيش وأمر باقتياد السيّدة الي بلاط الخليفة.

وأمر الخليفة بتسليم المرأة الطاهرة الي القاضي ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء وقاضي سامراء لتکون تحت الرقابة



[ صفحه 203]



المشدّدة.. فقد تکون حاملاً وقد يحاول ابنها الاتصال بها فيُلقي القبض عليه..

وشاء القدر أن يصل وفد آخر يضم رجالاً من أهل قم ومن مناطق الشمال الايراني المعروفة آنذاک بالجبل.. وبالرغم من مرورهم ببغداد ألاّ أنهم لم يسمعوا بخبر وفاة الحسن فقدموا سامراء، ولم يکن قد مرّ علي وفاة الامام الحسن سوي أيام..

وعندما سألوا عن سيدنا الحسن قيل لهم اءنه فقد!

فسألوا عن وارثه؟

قالوا:

ـ أخوه جعفر بن علي!

قال أحدهم:

ـ فأين نلقاه؟

ـ خرج متنزها، ورکب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنّون!! أصيب الرجال بصدمة، وتبادلوا نظرات حائرة ثم خلصوا نجيّا قالوا هامسين:

ـ هذه ليست من صفة الامام.

قال أحدهم:

ـ لنعد من حيث أتينا ونعيد هذه الاموال الي أصحابها.

قال أبو العباس وهو رجل يمني نزحت اسرته الي قم:

ـ لننتظر هذا الرجل ونختبر أمره!



[ صفحه 204]



وانتظر رجال الوفد عودة جعفر من نزهته في دجلة.. حتي اءذا عاد الي منزله دخلوا عليه قالوا:

ـ يا سيدنا نحن من أهل قم.. ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وکنا نحمل الي سيدنا أبي محمد الحسن الاموال.

قال جعفر وقد سال لعابه:

ـ وأين هي؟

ـ معنا.

ـ احملوها الي اءذن.

ـ لا.

ـ لا.. لماذا؟!

ـ ان لهذه الاموال خبراً طريفاً.

ـ وما هو؟!

ـ ان هذه الاموال تُجمع، ويکون فيها من کافة الشيعة الدينار والديناران ثم يجعلونها في کيس ويختمون عليه، وکنّا اءذا وردنا بالمال علي سيدنا أبي محمد يقول: جملة المال کذا وکذا دينار من عند فلان کذا ومن عند فلان کذا.. حتي يأتي علي أسماء الناس کلهم ويقول ما علي الخواتيم من نقش.

زعق جعفر وادرک صعوبة هذا الامتحان:

ـ کذبتم... تقولون علي أخي ما لا يفعله.. هذا علم الغيب ولا يعلمه اءلاّ الله تبادل الرجال نظرات فيها شک في أن يکون جعفر اماماً.



[ صفحه 205]



قال جعفر بفظاظة:

ـ احملوا هذا المال اليّ.

قال رجل يبدو عليه الوقار:

ـ اءنّا قوم مستأجرون.. وکلاء لارباب المال ولا نسلّم المال اءلاّ بالعلامات التي کنا نعرفها من سيدنا الحسن فان کنت الامام فبرهن لنا، واءلاّ رددناها الي أصحابها يرون فيها رأيهم.

وبرقت عينا جعفر بالشّر انه يعرف کيف ينتزع المال منهم، فانطلق الي بلاط الخليفة مرّة أخري.. وسرعان ما الُقي القبض علي رجال الوفد الذين سيقوا الي قصر الخلافة فامتثلوا أمام الخليفة الذي قال وهو ينظر اليهم بطرف خفي:

ـ احملوا هذا المال الي جعفر!

قال الرجل الوقور:

ـ انا قوم مستأجرون.. وکلاء لارباب هذه الاموال وهي أمانة لجماعة وأمرونا أن لا نسلّمها اءلاّ بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي.

قال الخليفة مستفسراً:

ـ فما کانت العلامة التي کانت لکم مع أبي محمد؟

قال الرجل الوقور:

کان يصف لنا الدنانير وأصحابها والاموال وکم هي.. فاءذا فعل



[ صفحه 206]



جعفر ذلک سلّمناها اليه.. وسکت لحظات ثم قال مشيراً اءلي جعفر.

ـ اءن کان هذا الرجل صاحب الامر فليقم لنا ما کان يقيميه أخوه والا رددناها الي اصحابها:

زعق جعفر:

ـ يا أمير المؤمنين اءن هؤلاء قوم کذابون.. يکذبون علي أخي.. وهذا علم بالغيب!

قال الخليفة وقد أدرک اءلاّ جدوي من وراء مساندة جعفر:

ـ القوم رسل وما علي الرسول اءلاّ البلاغ المبين.

وبهت جعفر وانخطف لونه.. وقال الرجل الوقور مبتهجاً بموقف الخليفة:

ـ نتمنّي علي أمير المؤمنين أن يرسل معنا من يودّعنا الي خارج المدينة.

قال الخليفة:

ـ سأرسل معکم رجالاً من الشرطة فلا تخشوا شيئاً..

وغادر الجميع قصر الخليفة.. کانت الحيرة تملا قلوب الرجال.. تري من هو الامام الحق بعد الحسن؟

کل شي يوحي بأن لا وجود لاءمام للشيعة بعد الحسن واءذا کان هناک من امام فهو جعفر الذي سيعرف بالکذاب لانه ادعي ما ليس له بأهل!

عاد الرجال الي خان المسافرين وتفقدوا دوابهم في



[ صفحه 207]



«المربط» قد صح عزمهم علي مغادرة سامراء عائدين.. کانوا يتوجسون شرّاً من جعفر لانهم حدسوا أن هناک من يقف وراء جعفر مروّجاً لامامته لاسباب غامضة.. أو طمعاً في المال وأمضوا ليلتهم في الخان يتسامرون، وکانت الحيرة واضحة وهم يتحلّقون حول موقد مسجور.

وکان واضحاً من حيرة أبي العباس ان المستقبل قد بات مظلماً.. فقد بدا ساهماً غارقاً في الوجوم.. هل يمکن أن تنتهي الامامة هکذا؟! وهل يمکن أن تخلو الارض من حجة لله.. من انسان کامل؟!.. ان الامام يمثل نقطة السلام في دنيا تموج بالزلازل وتعصف بها الحوادث..

وخفتت الاصوات وکان الجمر يخبو شيئاً فشيئاً.. وکان صوت عواء بعيد يتناهي الي الاسماع.

في الصباح الباکر وفيما کانت غيوم کانون تتراکم فوق بعضها البعض غادر الرجال الخان ليجدوا مجموعة من حرس الخليفة سوف يرافقونهم الي خارج سامراء حسب رغبتهم..

بالرغم من سهرهم الطويل وتبادلهم الاحاديث المتشعبة اءلاّ أن أجواء الحيرة ما تزال تسودهم.. فهم يعتقدون ان الامامة ستستمر حتي يوم القيامة.. لان الارض لا تخلو من حجة الله.. من اءنسان يقودهم نحو الکمال.. وهاهم يفدون علي اءمامهم فلا يجدوه.. ولا يجدوا اءماماً يقوم مقامه..



[ صفحه 208]



قال أبو العباس وکان رجلاً حصيفاً:

ـ ان له ولد ما في ذلک من شک.. وربّما أخفاه لسبب من الاسباب..

قال آخر:

ـ والله أنها لحيرة ما بعدها حيرة! انني أقول أن سيدنا الحسن رحمه الله کان اءماماً مفترض الطاعة ثابت الامامة، وقد توفي والارض لا تخلو من حجة.. فنحن ننتظر حتي يسفر الحق!!

وعندما وصلوا الجادّة المؤدية الي بغداد.. عاد الحرّاس فيما واصل الرجال طريقهم صوب «دار السلام» لم تکد منازل سامراء تغيب في الافق حتي فوجيء الرجال بمن يدعوهم بأسمائهم.. وعندما التفتوا جهة الصوت شاهدوا فتي مضيء الوجه يناديهم:

ـ يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أَجيبوا مولاکم.

هتفوا بدهشة:

ـ أنت مولانا؟!

أجاب الفتي الذي يرتدي زي الخدم:

ـ معاذ الله.. أنا عبد مولاکم.. فسيروا اءليه.

وقادهم الفتي من طريق علي شاطيء دجلة بعد أن ترکوا دوابّهم مع أحدهم وعندما ولجوا حجرة في المنزل وقعت عيونهم علي فتي عشاري القدّ جالساً علي سرير يرتدي ثياباً خضراً.. وخشعت قلوبهم لمرآه فحيّوه بأدب وردّ عليهم التحية بأحسن منها وقال مبدّداً سحب الحيرة التي اکتنفت نفوسهم:



[ صفحه 209]



ـ جملة المال کذا وکذا دينار حَمَل فلان کذا وفلان کذا.. وراح يستعرض تفاصيل ما جاءوا به.. بل تعدّي وصفه للدواب التي حملتهم..

ألقي أبو العباس نفسه علي الارض ساجداً لله الذي أنعم عليه برؤية اءمام عصره..

ولم يبق من مجال للشک فقرّروا العودة الي محط رحلهم واحضار الامانات..

وفي لحظات الوداع أمرهم الامام بعدم المجيء الي سامراء مرّة أخري وأنه سوف ينصب لهم وکيلاً في بغداد يحملون اليه الاموال وتخرج عنه التوقيعات..

کما دفع الامام الي أبي العباس شيئاً من الحنوط والکفن وخاطبه معزّياً:

ـ أعظم الله أجرک في نفسک..

فردّ الرجل الوقور بسکينة المؤمن:

ـ انا لله واءنا اءليه راجعون.

ولم تکد القافلة تصل هضاب اقليم همدان حتي توفي الرجل الي رحمة الله. [8] .

وکان حصاد موسم الجفاف خلال العامين المنصرمين قحطاً وغلاءً فاحشاً في الاسعار اکتوت بناره بغداد فاشتعلت مخيلة



[ صفحه 210]



الفقراء وراحت تسنج حول مواقد کانون بواکير حکايات «السندباد» التاجر الذي يعود غانماً من رحلاته في البحار البعيدة فيهب الفقراء ذهباً ولؤلؤاً وأملاً بغدٍ أفضل... وستولد حکايات الليالي الطويلة المثقلة بالرموز [9] بعدما غابت الشمس واستترت وراء غيوم الضياع.



[ صفحه 211]



«28»

ما بال جعفر يبدو کمن أصابه مسّ من الجنون انه يتجه الي قصر رئيس الوزراء عبيدالله بن يحيي للاجتماع به علي انفراد، ويستقبله الرجل اکراماً لاخيه الراحل فاذا به يسمع من جعفر ما يجعله يسقط من عينه قال جعفر بحماقة:

ـ اجعل لي مرتبة أخي، وأنا أوصل اليک کل سنة عشرين ألف دينار!

ونظر عبيدالله بن يحيي الي جعفر... شتان ما بين الحسن وجعفر کأنه نقيض أخيه.. الحسن في عقله الکبير في کياسته.. في حلمه وتواضعه وطيبته وجعفر بخفته وتفاهته!!

وهاهو يأتي يطلب من الدولة أن تجعله اءماما للشيعة وکأن الدولة هي التي نصبت أخاه وأباه من قبل..

قال رئيس الوزراء وقد احتقره تماماً:

ـ يا أحمق.. السلطان أطال الله بقاءه جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباک وأخاک ائمة ليردّهم عن ذلک فلم يتهيأ له ذلک.. فاءن کنت عند شيعة أبيک وأخيک اءماماً فلا حاجة بک الي سلطان يرتبک



[ صفحه 212]



مراتبهم، ولا غير سلطان.. وان لم تکن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا.. [10] .

وقام رئيس الوزراء بحرکة توحي بانتهاء اللقاء فنهض جعفر يجرّ أذيال الخيبة.. واصدر عبيدالله بن يحيي تعليمات مشدّدة بعدم استقباله مرّة أخري لکن جعفر بذهنه المريض انتبه الي شيء!

فمادام الخليفة يخشي الامام ويطارد الذين يقولون باءمامة أخيه وأبيه فلماذا لا يسعي الخليفة الي تنصيب جعفر اماما علي الشيعة وبهذا يکون أبطل الامامة وفرض هيمنته علي الشيعة؟!

من أجل هذا انطلق صوب الخليفة وعرض عليه اقتراحه ولوّح له بنفس المبلغ الذي عرضه علي رئيس وزرائه قال الخليفة وهو يضع النقاط علي الحروف فلا داعي للتستر أمام جعفر:

ـ اعلم ان منزلة أخيک لم تکن بنا.. انما کانت بالله عز وجل.. ونحن کنا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه.. وکان الله عز وجل يأبي اءلاّ أن يزيده کل يوم رفعة لما کان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وکثرة العبادة..

فاءن کنت عند شيعة أخيک بمنزلته فلا حاجة بک الينا، واءن لم تکن عندهم بمنزلته ولم يکن فيک ما کان في أخيک لم نغن عنک في ذلک شيئا.. [11] .

ان ما قاله الخليفة يعدّ اکبر اعتراف بعدالة قضية الامام الراحل.. ولم يکن الخليفة ليکون بهذه الصراحة لولا أن مخاطبه کان جعفر بکل سخافاته وحماقاته!؟



[ صفحه 213]



شيء واحد حصل عليه جعفر هو تأييد الخليفة له باعتباره الوريث الشرعي لترکة الامام الحسن.. ان لدي السلطان قناعة ظاهرة في أن الامام الحسن قد توفي ولم يخلف وراءه ولداً وهذا أقصي ما يطمح اليه. [12] .

لقد انتهت الامامة اءذن ولم يعد هناک من اءمام بعد اليوم!

أدت الحوادث العاصفة باسرة الامام الي أن تلزم أم الامام الحسن وزوجة الامام الهادي فراش المرض، فقد توفي ابنها الحبيب واعتقلت زوجته واضطر حفيدها الي الاختفاء، وها هو جعفر لا ينفک يتآمر لتمزيق أسرة أخيه الراحل..

نقلت الجدّة الطيبة الي منزل السيدة حکيمة شقيقة زوجها الراحل لتمريضها ولکن وقع الحوادث وقلقها علي مصير حفيدها قد جعلها هدفاً سهلاً لسهام القدر..

وفي لحظات الاحتضار أوصت أن تدفن الي جانب زوجها وابنها الاءمامين الراحلين.. [13] .

ومرّة يقف جعفر موقف النذالة اءذ يرفض دفن هذه المرأة الصالحة صارخاً:

ـ هي داري لا تدفن فيها!

وفي مثل هذه اللحظات المصيرية، يتوجب علي الصبي الطاهر أن يظهر مباغتاً جعفر بسؤال استنکاري شديد اللهجة:



[ صفحه 214]



ـ يا جعفر! دارک هي؟!

ان الصبي لن يدعوه بعد اليوم بالعم.. لقد انسلخ جعفر من قبيلته ودينه وحتي انسانيته..

وبرقت عينا جعفر بالشرور والغدر وأراد الامساک بالصبي الذي تواري بين الناس، فيما ظل جعفراً حائراً..

وانطلق الصبي الاءمام الي مکان ما فلن يعرف مکانه أحد!

سواف يواکب حرکة التاريخ والزمن، اما علاقته بشعبه فسوف تکون عن طريق تاجر الزيت ذلک الرجل الصالح الذي نذر حياته لعقيدته ومبادئه.. وسيعرف الناس أن عثمان بن سعيد العمري هو السفير الاول بين المهدي وامّته.. انه من السموّ بحيث نال ثقة الامام علي الهادي وابنه الحسن العسکري وهاهو اليوم يصبح أول سفير للامام المهدي الذي قرّر الاختفاء عن الانظار منذ وفاة والده.. وکيف لا يحظي بهذه المنزلة وهو الذي تولّي توزيع عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم علي الفقراء والجائعين يوم ولد المهدي.. وهو الذي أمره الامام الحسن بأن يعق عن الحجة بعشرات الاضاحي. [14] .

وهو الذي تولّي تغسيل الامام الراحل وتجهيز نعشه بأمر من الامام المهدي الذي لم يکن بوسعه أداء هذه المهمة. [15] .

ما يزال بلاط الدولة تراوده الظنون في وجود المهدي الموعود الذي سيظهر ويقوّض أرکان حکمهم الي الابد..



[ صفحه 215]



فأمّه ما تزال رهن الاعتقال رغم مرور شهور عديدة علي اعتقالها ووضعها تحت المراقبة لانهم يتصوّرون ان ابنها سيتصل بها وعند ذاک سوف يُلقي القبض عليه..

ولکن الامام کان حذراً في اتصالاته... وفي تلک الفترة صدر تقويع عنه يفيد بتحريم ذکره باسمه في المحافل:

ـ «ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس». [16] .

وکان أول اءجراء اتخذه الامام أن أمر سفيره بنقل نشاطه الي بغداد.. فبغداد مرکز تجاري کبير، ومن الصعب علي الجواسيس مراقبة ما يجري فيها من اتصالات تتخذ من التجارة غطاءً لها.. ومنذ ذلک الوقت لم يعد أحد يري عثمان بن سعيد يتردد علي سامراء کما کان الحال في زمن الامام الحسن. بل ان الامام نفسه سوف يرتدي زي التجار. [17] .

وخلال الفترة من عام 260 الي عام 263ه تلاحقت الاحداث بشکل خطير فقد بدأ الامبراطور باسيل الاول سلسلة من الغارات استهدفت المدن الحدودية الاسلامية، کما شن الاعراب غاراتهم علي مدينة حمص وحدثت قلاقل في مدينة الموصل سببها عدوان الجنود علي الاهالي وانتهاکهم الاعراض..

وفيما کانت المعارک مع الزنوج مستمرة، اندفع الخوارج في هجومات جديدة بقيادة مساور الشاري وفي الشمال الافريقي حدثت انتفاضة شعبية ضد حکم احمد بن طولون في منطقة برقة



[ صفحه 216]



قمعت بوحشية وفي تلک الفترة العاصفة ايضاً رأي يعقوب بن ليث الصفار مؤسس الدولة الصفارية انتهاز الفرصة فاندفع باتجاه الاهواز وفارس واستولي علي مساحات شاسعة ثم راح يرنو باتجاه بغداد مما بعث الرعب في قلب الخليفة الذي عبأ قوّاته بقيادة أخيه الموفق لوقف الصفار عند حدوده..

وسرعان ما وقعت المعرکة الفاصلة في «دير العاقول» علي بعد 12 ميلاً من بغداد فسحقت قوات الصفار الذي ارتدّ بفلوله الي الاهواز.. ولکنه ظل يشکل خطراً علي الخلافة العباسية ثم وقع حادث غامض اءذ وقع رئيس الوزراء عبيدالله بن يحيي عن دابته عندما صدمه الخادم «رشيق» وتوفي بعد ساعات. [18] .

کما توفي الحسن بن محمد بن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء فتولّي رئاستها أخوه علي بن محمد. [19] .

وقد أسهمت هذه الاحداث في التخفيف من محنة السيدة نرجس التي اُفرج عنها بعد اعتقال استمر اکثر من عامين وسوف تعيش حياة التشرّد مدّة من الزمن قبل أن يستجيب الله دعوتها فانتقلت الي الرفيق الاعلي تشکو الي بارئها ظلم الظالمين.

وکان الهمس حول وجود حقيقي للامام المهدي ما يزال مستمراً وادرک الکثيرون أن الحقيقة توجد لدي عثمان بن سعيد ذلک الرجل الصالح الذي تمکن من احاطة عدد کبير ممن يوثق بأمانتهم ووعيهم بوجود الامام المهدي.. ولکن الظروف الحساسة



[ صفحه 217]



التي يمرّ بها الامام جعلته يتکتّم فکان لا يتحدث بهذا الشأن اءلاّ في المناسبات التي تستدعي ذلک، کما حدث في تلک الليلة الشتائية عندما جاءه في جنح الظلام رجل يبحث عن الحقيقة فقال له وهو يحاوره:

ـ اسألک بحق الله وبحق الامامين اللذين وثقاک هل رأيتابن أبي محمد الذي هو صاحب الزمان؟!

غمرت الدموع عيني الرجل الصالح وقال:

ـ أخبرک علي أن لا تخبر أحداً ما دمتُ حيّا؟

وهز الرجل رأسه موافقاً فقال السفير:

ـ أجل قد رأيته.. [20] يوم ولادته.. ورأيته وقد أيفع وأصبح فتي رشيداً موفّقاً. [21] .

وانصرف الرجل فأوي الي فراشه تلک الليلة وهو يحلم بالغد الاخضر.



[ صفحه 218]



«29»

کان العالم الاسلامي في الاعوام من 264 وحتي سنة 267ه 877م يموج بالاحداث الکبري، فقد أغار الاسطول الاسلامي في البحر المتوسط علي مدينة البندقية، فيما کانت الاشتباکات في جنوب العراق ما تزال مستمرة، وفي مصر أعلن احمد ابن طولون تمرّده علي العاصمة وزحف بجيش جرّار صوب دمشق فيستولي علي اقليم الشام بأسره.

وفي خراسان اجتاح الطاعون ليحصد آلاف الارواح وقد أغار الزنوج علي مدينة واسط العراقية وارتکبوا فيها مذابح وحشية.

بينما شهدت أرض الاندلس ثورة «المولّدين» فتم قمعها..

وفي العاصمة سامراء فرّ رئيس الوزراء «الحسن بن مخلد» الي بغداد بعد أن تناهي اءليه عزم القائد الترکي موسي بن بغا العودة الي العاصمة فصودرت جميع أملاکه!

وشهدت «اصفهان» ثورة وتم القضاء عليها في مهدها، وثورة أخري في «نيسابور» الخاضعة لنفوذ الصفّار الذي توفي قبيل اندلاعها..



[ صفحه 219]



وثورة في مدينة حمص السورية.. وأغار الاعراب علي مدينة مکّة المکرمة ونهبوا کسوة الکعبة المشرفة وتعرّضت ديار ربيعة في الموصل الي غارات وحشية شنتها قوّات من الروم.

وفيما کان العالم الاسلامي مشدوهاً بما يجري والارض تهتز تحت وقع سنابک خيل مجنونة؛ کان الامام المهدي مستمراً في غيابه اءن ثورته الکبري لا تنتمي الي هذا الزمن الرديء.. اءنها ثورة الحلم الاخضر والغد المشرق القادم من قلب الظلمات.

کان السفير الاول للامام في بغداد يخطو باتجاه النهاية الحتمية التي تکمن في طريق الانسان.. کل انسان، ونحن الا´ن علي مشارف سنة 267ه 880م وقد اجتمع رجال في منزل العمري سفير الامام يعودونه في وعکة صحية المّت به.

کانت نسائم تموز في ذلک الاصيل البغدادي تهب حاملة معها أنداء دجلة.

أشار الرجل الي ابنه أن يحضر صندوقاً صغيراً وعندما أصبح بين يديه فتحه واستخرج رسالة الامام المهدي وسلّمها الي ابنه وهمس بصوت فيه حشرجة احتضار:

ـ اقرأها يا بني لتکون حجة علي الشاهد ودليلاً للغائب؟

وراح محمد يقرأ بخشوع کلمات قادمة من وراء الاستار: [22] .

ـ بسم الله الرحمن الرحيم.. عافانا الله واياکم من الضلالة والفتن، ووهب لنا ولکم روح اليقين، وأجارنا واياکم من سوء



[ صفحه 220]



المنقلب.. اءنّه أنهي اليّ ارتياب جماعة في الدين، وما دخلهم من الشک في ولاة أمرهم، فغمّنا ذلک لکم لا لنا، وساءنا فيکم لا فينا.. لان الله معنا فلا فاقة بنا الي غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من بعُد عنّا..

يا هؤلاء مالکم في الريب تتردون، وفي الحيرة تنتکسون؟ أوما سمعتم الله عزّ وجل يقول: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الامر منکم)؟!

أوما علمتم بما جاءت به الا´ثار عمّا يکون ويحدث في أئمتکم علي الماضين والباقين منهم؟!

أوما رأيتم کيف جعل الله لکم معاقل تأوون اليها؟ وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم الي أن ظهر الماضي.. [23] کلما غاب علمٌ بدا علم، واءذا أفل نجم بدا نجم؟

فلما قبضه الله اءليه ظننتم أن الله أبطل دينه، وقطع السبب بينه، وبين خلقه؟!

کلاّ ما کان ذلک، ولا يکون حتي تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم کارهون..»

وخشعت القلوب لکلمات صبي آتاه الله الحَکمَ صبيا وعلمه فصل الخطاب!

تساءل رجل في الاربعين من عمره وهو يشدّ علي يد السفير:



[ صفحه 221]



ـ مدّ الله في عمرک اءذا کان الذي لابد منه فمن يخلفک في سفارتک:

التفت الرجل صوب ابنه فقال بصوت فيه حشرجة:

ـ محمد ابني!

ـ انت اخترته؟!

ـ بل اختاره حجة الله.

أعاد محمد رسالة الامام الي مکانها و أغلق الصندوق وأراد أن يعيده الي والده الذي مدّ کفاً ترتجف: أن اترکه عندک!

وفي لحظات السحر من تلک الليلة الخريفية ودّع الرجل العالم بعد عمر قضاه في جهاد عميق الغور.. کان کمن يبذر في مساحات الوجدان حبّات الحلم الاخضر.. يوم تشرق الشمس من وراء السحب فتغمر العالم بالدفء والنور والربيع.

وکان لرحيل عثمان بن سعيد العمري في تلک الظروف المريرة أصداء حزينة، وألقي الاسي بکلاکله علي بيوت أذن الله أن ترفع ويذکر فيها اسمه.

ووصلت ابنه محمد رسالة عزاء رقيقة من الامام جاء فيها:

«اءنّا لله واءنا اليه راجعون..

تسليماً لامره ورضاءً بقضائه..

عاش أبوک سعيداً، ومات حميداً.

فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه.

فلم يزل مجتهداً في أمرهم.. ساعياً فيما يقرّبه الي الله عزوجل واءليهم..



[ صفحه 222]



نضّر الله وجهه وأقال عثرته». [24] .

وبلغ من حزن الامام عليه أن بعث بکلمات تواسي الي ابنه الذي نهض بمهمة السفارة الخطيرة:

ـ «أجزل الله لک الثواب، وأحسن لک العزاء.

رزئت ورزئنا، وأوحشک فراقه وأوحشنا.

فسرّه الله في منقلبه..

کان من کمال سعادته أن رزقه الله تعالي ولداً يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحّم عليه». [25] .

ونهض محمد بن عثمان بأعباء السفارة في زمن يضج بالاحداث وکان کل شيء يتزلزل، ولم يعد هناک من ثبات في زمن غادره السلام..

ودجلة وهو يخترق بغداد يشطرها شطرين.

الفقراء في أکواخهم ينطوون علي جوعهم وعريهم.. تشتعل في أعماقهم الاماني الخضراء بغدٍ أفضل يتطلعون الي شمس تمنحهم الدفء في زمن الزمهرير..

بينما تنهض قصور الاثرياء وتجار الحروب المترعة بالليالي الحمراء.

أما الارض الاسلامية فقد غدت أسلاباً لذوي الاطماع والطموح وفرّت کل الاشياء الجميلة.



[ صفحه 223]



«30»

کان عام 268ه زاخراً بالاحداث العاصفة، فقد استأنف «الموفق» عملياته الحربية ضد حرکة الزنوج، وبدأت الاستعدادات للهجوم الشامل علي «المختارة» عاصمة التمرّد الخطير خاصّة بعد نجاح «أبو العباس بن الموفق» [26] وغلامه «رشيق» [27] بقطع طريق الامدادات التي تصل المختارة من البادية العربية.

فقد عبرت الجيوش العباسية الانهار والمسطحات المائية، واصبح الهجوم العام وشيکاً جداً.

وقد أدّي الحصار الشديد الي تصدّع الجبهة الداخلية وبدأت عمليات هروب کبري ولجوء الي القوّات الحکومية التي راحت تشجع علي هذه الظاهرة، بل أن الموفق استخدم بعض الزنوج الاقوياء وضمهم الي قوّاته..

وکان موسم الحج مهدّداً ذلک العام عندما حاولت قوّات موالية لحرکة الزنوج الهجوم علي مکّة، فراحت تعيش في الطريق وتنهب الطعام وتعوّر عيون المياه فارتفعت اسعار الخبز في مکة بشکل جنوني، کما شنّ الاعراب غارات علي قوافل الحجيج..



[ صفحه 224]



وبالرغم من الاخطار المحدقة قرّر عيسي الجوهري وهو رجل قد اجتاز الاربعين الحج، وکان همّه لقاء صاحب الزمان فقد دار همس کثير حول ظهوره في المدينة المنورة، فشدّ الرحال الي مکّة لاداء مراسم الحج..

کانت سماء حزيران [28] تزخر بالنجوم عندما غادر الجوهري مکّة باتجاه المدينة وعندما وصل هضاب «فيد» شعر بوعکة في صحته، وتاقت نفسه الي تناول السمک والتمر.

وفي المدينة راح الجوهري يتنسم الاخبار من اءخوانه حتي تأکد له أن الامام قد ظهر في واد يدعي «صابر».

وانطلق الجوهري يطوي الاودية والکثبان الرملية حتي أشرف علي وادٍ فسيح قبيل الغروب ولاح في طرف الوادي منزل تسرح بالقرب منه عنيزات عجاف..

ما اءن وصل المنزل حتي ظهر له بدر الخادم انه يعرفه جيداً فقد رآه آخر مرّة منذ ثمانية أعوام في وفاة الامام الحسن.

هتف بدر:

ـ يا عيسي الجوهري! ادخل.

ودخل الرجل الذي يحلم برؤية الامام يسبّح الله ويحمده..

ووقعت عيناه علي منظر جميل في الفناء الظليل.. کل شيء کان هادئاً وقد انصرف بدر لشأن ما..

ظهرت نجيمات المساء، ونهض الجوهري للصلاة..



[ صفحه 225]



کان يشعر بالسکينة تترقرق في جنبات المنزل..

ان للزمن في هذا المکان المغمور بالصمت نکهته الفريدة.. کل الاشياء لها لون خاص في هذا المکان الغارق بالجلال..

يستطيع المرء أن يراقب في هذه البقعة من دنيا الله حرکة الوجود المنتظمة.. حيث جميع الاشياء ثابتة مستقرّة منذ أمد طويل..

وانطلق ذهنه المتوقد الي اماکن بعيدة الي حيث يقتتل الاخوة وتنزف الدماء، وتهتز الارض تحت سنابک خيول مجنونة.. آه متي ينعم الانسان بالسلام؟!

وأفاق الجوهري علي صوت «بدر» الذي احضر المائدة:

ـ مولاک يأمرک أن تأکل ما اشتهيت في علّتک وأنت خارج من «فيد»!

خشع قلب عيسي وقال:

ـ حسبي بهذا برهاناً.. فکيف آکل ولم أرَ سيدي؟

وجاء صوت رخيم مفعم بالحب:

ـ يا عيسي کل من طعامک فانّک تراني..

جلس عيسي الي المائدة.. فرآي سمکاً وتمراً ولبناً قال في نفسه:

ـ عليل وسمک ولبن وتمر؟!!

وجاءت کلمات الامام هادئة من وراء ستر:



[ صفحه 226]



ـ يا عيسي اتشک في أمرنا؟ أفأنت تعلم بما ينفعک ويضرّک؟

واهتز وجدان القادم من بعيد وهتف بندم.

ـ استغفر الله؟

ومدّ يده ليأکل.. انه لم يأکل طوال حياته طعاماً طيّباً کهذا الطعام..

همس في نفسه:

ـ التمر يشبه تمورنا ولکن له طعم آخر.. ان حلاوته تکاد تفقد المرء صوابه!

آه هل أنا في حلم؟؟.. انني لا استطيع أن اکفّ عن الاکل!

وشعر بأن شهيته للطعام تنفتح ونسي أنه لم يبل من وعکته بعد.. ولکن من المخجل أن يأکل المرء هکذا فهذا مخالف لا´داب الضيف..

وجاء صوت الامام مرّة أخري کأنه قد قرأ خلجات ضميره:

ـ لا تستح يا عيسي فاءنه من طعام الجنة.. لم تصنعه يد مخلوق ونظر الجوهري الي السماء المرصعة بالنجوم فشکر الله علي أن اکرمه وراح يأکل حتي شعر بالشبع فکفّ يده..

والتفت علّه يري ابريقاً ليغسل يديه، وسمع الامام يهتف به:

ـ اقبل يا عيسي!

قال عيسي:



[ صفحه 227]



ـ حتي أغسل يدي.

قال الامام:

ـ وهل لما أکلت غمر؟

شمّ عيسي يديه.. آه اءنها تفوح برائحة المسک لا السمک.. وتقدم عيسي بخطي متعثرة صوب حجرة مضيئة، وهناک ألفي الامام جالساً.. آه انه لم ير فتي له مثل هذا الجلال وهذه المهابة.. انه يبدو في العشرين من عمره..

قال الفتي الاسمر الذي سيملا الارض بالعدالة والربيع:

ـ يا عيسي ما کان لک أن تراني لولا المکذّبون القائلون:

أين هو؟ ومتي کان؟ وأين ولد؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج اليکم منه؟ وبأيّ شيء نبّأکم؟

يا عيسي فأخبر أولياءنا بما رأيت.. واءيّاک أن تخبر عدوّنا.

قال عيسي بحبّ:

ـ يا مولاي! ادع لي بالثبات.

قال الذي سيصحح مسار التاريخ:

ـ لو لم يثبتک الله ما رأيتني..

وسکت لحظات ليقول بأدب الانبياء:

ـ امض راشداً. [29] .

ونهض الجوهري وقد امتلا قلبه بالايمان والامل..

ان الله لن يترک أرضه دون کوکب يضيء الطريق لعباده..



[ صفحه 228]



ان المهدي حقيقة کبري.. شمس مستورة وراء الغيوم.. سيدخل المهدي ضمير الاجيال کأمل أخضر.. وسيبقي هذا الفتي يرافق حرکة الزمن الي ما شاء الله..



[ صفحه 229]



«31»

الجيوش العباسية تواصل تشديد حصارها علي مدينة «المختارة» عاصمة التمرد، وقد أدي الحصار الي نفاد المؤن داخل المدينة، ووصلت أنباء مؤکدة تفيد بتطاحن داخلي فجّره الجوع والحصار وانتشرت شائعات عن أکل المحاصرين للحوم الموتي بل وأکلهم لحوم الاطفال! [30] .

وکان التمزّق يفتک بالبلاد الاسلامية التي باتت اصقاعاً موزعة علي ولاة طامعينْ أو قادة عسکريين طموحين.. واصبح واضحاً ان الخليفة الحقيقي ليس في سامراء بل في البصرة ممثلاً بشخص اخيه «الموفق» القائد العام لجيوش الدولة.. وقد أثار هذا الوضع حنق الخليفة الذي راح يراسل حاکم مصر والشام «احمد بن طولون» الذي أسس منذ سنوات حکما مستقلاً عن الخلافة.

وفي يوم السبت 15 جمادي الاولي 269ه خريف سنة 882م قرر المعتمد مغادرة العاصمة باتجاه مصر فتوجه الي «الکحيل» بحجة القيام برحلة للصيد، فيما أرسل احمد بن طولون قوات عسکرية الي الرقة لاستقباله.



[ صفحه 230]



وأُستقبل المعتمد في الاراضي التابعة لاقليم الموصل بقيادة «ابن کنداج» الذي شکک في نوايا المعتمد من هذه الرحلة فيما کان أخوه يخوض حرباً مصيرية في جنوب العراق!

وخلال اللقاء في المخيم الذي أقيم في الفلاة قريباً من الرقة، اعترف الخليفة بنواياه.. وقد حاول ابن کنداح ثني القادة المرافقين للمعتمد عن عزمهم في اللجوء الي مصر واکد لهم انهم سيصبحون العوبة في يد ابن طولون لتحقيق المزيد من أطماعه التوسّعية.

ولکن ذلک لم يجد شيئاً مما دفع بابن کنداج الي ترتيب خطّة ذکية والقاء القبض علي جميع القادة واءعادتهم مع الخليفة الي سامراء.

وعندما وصلت الانباء الي الموفق أمر بفرض الاقامة الجبرية علي أخيه الخليفة، وأصدر مرسوماً يقضي بتنصيب ابن کنداج أميراً علي مصر فردّ احمد ابن طولون باعلانه خلع الموفق من ولاية العهد.. وفي مطلع صيف سنة 882 بدأت عمليات العبور الي الجانب الغربي من دجلة لاقتحام عاصمة التمرّد الذي استمر خمسة عشر سنة.

وفي بغداد وفيما کان الاهالي مستائين من مظاهر رکوب النصاري للدواب الفارهة وتجولهم في شوارع المدينة.. دخلت أول



[ صفحه 231]



وجبة من أسري التمرّد الزنجي تضمّ أفراداً من أسرة قائد التمرّد..

وفي صفوف الشيعة الذين باتوا يشکلون نسبة کبيرة من سکان بغداد بدأ همس يدور حول توقيع صدر من الامام المهدي يذمّ فيه «أحمد بن هلال العبرتائي» ويصفه ب «الصوفي المتصنّع» [31] فکيف يمکن لعن رجل عابد زاهد حج بيت الله أربعاً وخمسين مرّة عشرون منها مشياً علي الاقدام؟!

وبالرغم من وفاته قبل عام اءلاّ أن هذه المسألة ظلّت محوراً لجدل عقيم فکتب الشيعة مليئة برواياته.. لقد کان رجلاً مؤمناً صالحاً، فما الذي حصل ياتري؟!

هل کان يتمني أن يکون السفير بعد عثمان بعد سعيد، وعندما لم يتحقق ذلک أنکر سفارة محمد بن عثمان؟!

وهل کان الجنوح الي عالم التصوف الذي يعج بالاوهام ضخم وجوده فلم يعد يري من حوله؟!

ان هناک أسراراً في النفس الانسانية لا يسبر غورها أحد اءلاّ الله الذي يراقب الاعماق.. أجل لا أحد يدري، ولکن بعض الشيعة الذين لم يرق لهم ذم «العبر تائي» اجتمعوا بالوکيل «القاسم بن العلا» وطلبوا منه أن يکتب الي الامام بشأنه ولم تمض سوي أيام قلائل حتي صدر توقيع الامام المهدي جاء فيه:

«قد کان أمرنا نفذ اليک في المتصنّع ابن هلال ـ لا رحمه الله ـ بما قد علمت، ولم يزل لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته ـ يداخل



[ صفحه 232]



في أمرنا بلا أذن منا ولا رضي يستبدّ برأيه.. لا يمضي من أمرنا ايّاه الاّ بما يهواه ويريده أرداه الله بذلک في نار جهنم..

فصبرنا عليه حتي بتر الله بدعوتنا عمره وکنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه ـ لا رحمه الله ـ وأمرناهم بالقاء ذلک الي الخاص من موالينا، ونحن نبرأ الي الله من ابن هلال ـ لا رحمه الله ـ وممن لا يبرأ منه..». [32] .

ولم تکد هذه الفتنة تنتهي حتي اشتعلت فتنة أخري عندما رفض «محمد بن علي بن بلال» الاعتراف بسفارة محمد بن عثمان، مستحوذاً علي الاموال التي تجمعت لديه بوصفه أحد وکلاء الامام الحسن عليه السلام.

وبالرغم من أن السفير قد رتب له لقاءً خاصاً له مع الامام الذي أمره بتسليم الاموال الي سفيره لکنه ظلّ علي موقفه مما استدعي محمد بن عثمان أن يزوره في منزله بعد أن تأکد لديه وجود شخصيات بارزة تؤيد ابن بلال علي موقفه..

کان الوقت مساءً وسماء تموز تزخر بالنجوم.. وسمع ابن بلال وجلساؤه طرقات علي الباب مالبث أن حضر الخادم يقول:

ـ أبو جعفر العمري علي الباب.

شعر الحاضرون بالفزع لان علاقات ابن بلال مع محمد بن عثمان قد توترت بشدّة بسبب اصرار ابن بلال علي الاحتفاظ بالاموال لديه مستغلاً عجز العمري عن استردادها لانه لا يستطيعأن رفع شکوي ضده!!



[ صفحه 233]



نظر الحاضرون الي ابن بلال بدهشة عندما سمعوه يقول للخادم:

ـ ليدخل!

وتقدّم أبو جعفر ونهض الجميع وافسح ابن بلال عن صدر المجلس ليجلس غريمه!

وقد تعمد الحاضرون استئناف أحاديثهم متظاهرين بعدم اکتراثهم به.. فالتزم الصمت المدوّي منتظراً سکوتهم..

وما لبث الصمت أن هيمن علي المکان.. ان قوّة ما تدفعهم الي السکوت احتراماً لهذا القادم..

تري ما الذي يريده من زيارته؟!

قال أبو جعفر محطماً الصمت ومفاجئاً غريمه بسؤال له وقع الصاعقة:

ـ يا أبا طاهر! انشدتک الله ألم يأمرک صاحب الزمان بحمل ما عندک من المال اليّ..

قال ابن بلال مستسلماً:

ـ اللهم نعم.

وفغر الحاضرون أفواههم دهشة للسؤال وللجواب:

وکان أخوه أبو الطيب أکثرهم دهشة.. وعاد الصمت المهيب مرّة أخري يهيمن علي الحاضرين..



[ صفحه 234]



نهض أبو جعفر منهياً اللقاء.. لقد حقق هدفه من الزيارة..

وأقام عليه الحجة.. کان ابن بلال يخطط لاءدّعاء السفارة فاجهض العمري مخططه قبل أن يستفحل. [33] .

وعندما غادر السفير المنزل انبري أبو الطيب يستجوب أخاه:

ـ هل رأيت صاحب الزمان حقاً!

ـ نعم!

ـ أين؟!

قال أبو طاهر وهو يستعيد مشهداً توهج في ذاکرته:

ـ اصطحبني أبو جعفر الي بعض دوره.. وهناک عندما وقفت في باحة الدار اءذا بصاحب الزمان يشرف علي من السطح ويأمرني بحمل ما عندي من المال اليه!

قال أبو الطيب وقد برقت عيناه:

ـ ومن أين علمت انه صاحب الزمان؟!

قال ابن بلال بلهجة فيها احساس بالهزيمة:

ـ شعر قلبي بالهيبة له.. وداخلني احساس بالرعب.. ما جعلني أؤمن بانه صاحب الزمان..

ومرّة أخري عاد الصمت وکان هناک رجل يؤيد ابن بلال في مناهضته السفير فنهض وقد غمر قلبه ايمان بان محمد بن عثمان هو سفير الامام الحق. [34] .



[ صفحه 235]



«32»

ومرّت عشر سنوات عصفت الاحداث خلالها بالبلاد شرقاً وغرباً.. ففي سنة 270ه 884م بلغ الموفق ذروة مجده السياسي عندما قضي الي الابد علي ثورة الزنوج.

وفي نفس السنة توفي احمد بن طولون حاکم مصر المتمرد علي الخلافة فتسنم الحکم بعد ابنه خمارويه، کما توفي مؤسس الدولة العلوي في طبرستان الحسن بن زيد فيخلفه أخوه الملقب ب «القائم بالحق».

وفي سنة 271ه 885م انخفض منسوب المياه في نهر النيل مما هدّد مصر بالقحط والمجاعة.. وتزامنت هذه الکارثة الطبيعية مع زحف الجيوش العباسية لاسترداد مصر وانهاء عصيان حاکمها الجديد.

ولکن خمارويه جهز هو الا´خر قوّاته وتقدم نحو الشام فاشتبکت الجيوش في منطقة الرملة بفلسطين في معارک ضارية انتهت بهزيمة ساحقة للجيوش العباسية وتکريس سيطرة الشام وفلسطين لخمارويه.



[ صفحه 236]



وفي عام 272ه وقعت في بغداد حوادث شغب وعنف استهدفت السکان النصاري حيث هاجم الناس الدير العتيق ودمروا بعض جدرانه، مما استدعي تدخل الشرطة بأمر من حاکم بغداد الذي أمر ايضاً باعادة بناء ما تهدم.

وفي نفس العام تجددت المعارک مع الصفاريين لتستمر حتي سنة 274ه. [35] .

وخلال تلک المدّة تم الاعتراف رسمياً بولاية خمارويه علي مصر والشام والمناطق الحدودية المتاخمة للروم، التي توفي امبراطورها باسيل الاول. [36] .

وشهد عام 273ه ثورة للزنوج في مصر تم قمعها بوحشية، وفيما کان الاندلس يتابع انباء ثورة عارمة في مدينة طليطلة توفي العالم الفلکي عباس بن فرناس متأثراً بجراحه بعد اخفاق أول محاولة بشرية للطيران نفذت من فوق مئذنة قرطبة. [37] .

وفي نفس الوقت تعرّضت سامراء الي غارات اللصوص، وکان الخليفة المعتمد قد غادر سامراء الي بغداد حيث حلّ في قصر «بوران» بنت الحسن زوجة المأمون.

وتوترت الاجواء في بغداد سنة 275 بعد اءقدام الموفق علي توقيف ابنه ابي العباس الذي سيعرف في سنة 279 بالمعتضد... فشغب اتباعه الذين احتشدوا في باب الرصافة..

ولکن الموفق سارع الي لقائهم قائلاً:



[ صفحه 237]



ـ اترونکم اشفق منّي علي ابني؟ هو ولدي واحتجت الي تقويمه، وفي محرم سنة 276 تم تنصيب محمد بن الليث الصفار قائداً لشرطة بغداد وکتب اسمه علي الاعلام. [38] .

وفي أواخر عام 277 اصيب الموفق بداء النقرس فعاد من ايران الي العراق علي سرير يحمله أربعون حمالاً ووصل بغداد في مطلع صفر 278..

وأصبحت بغداد مسرحاً للشائعات حول وفاته فيما کان ابنه ما يزال سجيناً..

کان المعتمد في المدائن مع أسرته خليفة بلا خلافة، وبرز أبو الصقر أحد کبار القادة ففرض سيطرته علي بغداد. وعندما اشتدّت الشائعات حول موت الموفق اندفع اتباع ابنه الي السجن وکسروا الاقفال وأخرجوه وانطلقوا به الي منزل والده الذي دخل في غيبوبة..

وفي 9 صفر 278 مارس 891م وصل المعتمد وأفراد اسرته وفي طليعتهم ابنه وولي عهده «المفوض الي الله».

وتدهورت صحة الموفق، وتوترت الاجواء في بغداد ثم ما لبثت الفوضي أن انفجرت فجأة وهوجمت بعض قصور القادة خاصة قصر أبي صقر ونهبت حتي اصبحت قاعاً صفصفاً!

وکسرت أبواب السجون حتي سجن المطبق الرهيب.

وتصدّي أبو العباس بن الموفق فعين غلامه «بدر» قائداً علي



[ صفحه 238]



الشرطة وفي منتصف صفر استطاع ابن الموفق اعادة الهدوء الي بغداد.

وفي يوم الاربعاء 22 صفر اعلن عن وفاة الموفق، وفي يوم الخميس اعلن عن بيعة أبي العباس بولاية العهد بعد المعتمد وابنه المفوض وفي يوم الجمعة سمع الناس بلقب ولي العهد الجديد «المعتضد». [39] .

وفي 26 صفر ألقي القبض علي أبي الصقر وصودرت جميع ممتلکاته وممتلکات أقاربه الذين اختفوا عن الانظار وفي يوم الثلاثاء 27 صفر أعلن عن تنصيب عبيدالله بن سليمان بن وهب رئيساً للوزراء..

وشم الناس عهداً يفوح برائحة الدم.. لقد بدأ عصر الارهاب من جديد، وأن مسلسل الرعب الذي عاشته بغداد في عهد أبي العباس السفاح والمنصور سيعود في عهد أبي العباس المعتضد.

وفي مطلع سنة 279ه منع منعاً باتاً جلوس أي حکواتي لسرد القصص کما منع بيع وتداول الکتب الکلامية والفلسفية. [40] .

وفي 22 محرم اعلن عن خلع ولي العهد المفوّض، واعتبار المعتضد ولي العهد الرسمي الوحيد وابلغت جميع الاقاليم الاسلامية بهذا الاجراء فاسقط المفوض عن الخطب الاسبوعية.

وفي تشرين الثاني سنة 892م 17 رجب 271 أقام الخليفة



[ صفحه 239]



المعتمد احتفاله الترفيهي مساءً في حدائق قصر الحسني المطلّة علي دجلة.. وراح يکرع کؤوس الخمر، مع شرائح اللحم المشوي.. وفيما کانت اصوات الموسيقي والمطربين تملا الفضاء سقط المعتمد فجأة.. وتضاربت الشائعات حول سبب الوفاة وتناقل الناس شرهه في الطعام تلک الليلة وانه مات مبطوناً فيما أکد بعضهم أنه اغتيل بوضع السم في اللحم أو في الخمر!! [41] .

وفي يوم الثلاثاء 18 رجب اعلن عن بيعة الخليفة الجديد المعتضد.. وجلس علي دست الحکم وله من العمر ثلاثون سنة..

وبدأ عصر الارهاب الشامل.. فالخليفة الجديد سفاک للدماء مع رغبة شديدة في تعذيب ضحاياه باساليب بشعة. [42] .

تسکن روحه حمي الشهوات شبق جنسي وميل جارف لبناء القصور الفخمة. [43] .

کان أول شيء قام به صلحه مع «خمارويه» الذي ارسل اليه عارضاً ابنته «قطر الندي» زوجة لابن الخليفة..

فوافق الخليفة علي أن تکون زوجة له شخصياً، وبدأ العمل في بناء قصر الثريا المنيف استعداداً لاستقبال «قطر الندي».

وفي عام 280ه القي القبض علي محمد بن الحسن بن سهل شقيق بوران مالکة القصر الحسني الذي يسکنه الخليفة حالياً والذي اصبح قصر الخلافة..

وقد عثر في منزله علي جرائد تضم اسماء أشخاص يبايعون رجلاً علوياً لم يصرّح باسمه..



[ صفحه 240]



وکشفت التحقيقات عن وجود خطة لاغتيال المعتضد وقلب نظام الحکم.

ودوهمت منازل بعض الذين وردت اسماؤهم في الجرائد وسيقوا، جميعاً الي القصر وتعرضوا للتعذيب فاعترفوا انهم لايعرفون الرجل العلوي وأنهم يعرفون «شميلة» فقط!

تساءل المعتضد متوجساً وهو ينظر الي عبيدالله بن وهب.

ـ من يکون شميلة؟!

أجاب رئيس الوزراء:

ـ انه محمد بن الحسن نفسه فهو معروف بشميلة.

أصدر المعتضد أحکام الاعدام بحقهم فاعدموا فوراً، أما شميلة فقد ظل رهن التحقيق، وکان المعتضد يأمل منه أن يکشف عن اسم الرجل العلوي الذي سيقود الثورة في قلب بغداد! [44] .

وفي قصر الحسني بدأت أولي حفلات التعذيب المعتضدية سبقها استجواب طويل.. حاول المعتضد اغراءه بالمال ولکن الرجل اظهر اءباءً فراح يهدد بالويل والثبور.. فردّ شميلة متحدّياً:

ـ لو شويتني علي النار فلن تسمع مني اءقراراً.. أتريدني ادلّک علي رجل اعتقد باءمامته وادعو الناس الي طاعته؟!

اشتعلت عينا الخليفة بالشرر.. وقال وهو يصرّ علي أسنانه بغيظ:



[ صفحه 241]



ـ سوف اشويک بالنار کما قلت!

ـ اصنع ما تشاء.

برقت في اعماقه المظلمة فکرة رهيبة في أن يجعله بين ثلاثة رماح ثم يشوي بالنار «ويشوي کما يشوي الدجاج»!! [45] .

ونفذت الفکرة علي الفور وراح الجلاوزه يشوون الانسان وکان المعتضد ينظر بتلذذ الي آلام الانسان ولم يبد عليه أنه قد اکترث لرائحة شواء لحم بشري!!

واستمر المشهد المهول الي أن تفرقع جسم الضحية ولفظ انفاسه.. وعندها أمر خليفة المسلمين أن يصلب الجسد بين الجسرين علي الجانب الغربي!

وظل اسم الرجل العلوي المجهول هاجساً مخيفاً يراود ذهن الخليفة الذي يعجّ بالاوهام والوساوس.

تري من يکون ذلک الرجل العلوي الذي يعدّ للثورة في بغداد؟!! وباح الخليفة لرئيس وزرائه الذي لا يقل عنه وحشية وسفکاً للدماء.. باح له بهواجسه..

وبدأت کلاب السلطة مهامها في التجسس والبحث عن الرجل أو الحصول علي معلومات تساعد في القبض عليه.

ولم تمض سوي اسابيع حتي بدأت التقارير السرّية ترد علي القصر وتفيد بوجود مجموعة من الوکلاء مهمتهم استلام أموال تأتي الي أشخاص أو شخص له القاب عديدة.. فهو مرّة «الحجة»



[ صفحه 242]



أو «صاحب الزمان» أو «الغريم»، [46] ولا يوجد اسم صريح يمکن التعرف عليه!

وأعدّت لرئيس الوزراء عبيدالله بن سليمان بن وهب قائمة تضم مجموعة من رجال الشيعة يقومون بمهمة الوکالة في استلام أموال ترد لرجل علوي مجهول.. [47] .

واتخذت التقارير مساراً اکثر خطورة عندما راحت تشير الي منزل الامام الراحل الحسن العسکري في سامراء، ولم يضع المعتضد وقتاً في معالجة الموقف واتخاذ القرار باسرع وقت.

لقد انقدحت في ذهنه المتوقد أن يکون الرجل المجهول هو المهدي!!

واصبح من المؤکد وجود سفير له بل ووجود وکلاء يستلمون الاموال بالنيابة عنه! [48] .

اءذن سيوجه ضربته السريعة في الوقت المناسب.



[ صفحه 243]



«33»

اخفق عبدالله بن سليمان في القبض علي أي من وکلاء المهدي بعد فشل الجاسوس الذي دسته الحکومة في کسب ثقتهم... لقد قابلهم جميعاً وتظاهر لهم بأنه من شيعة الامام المهدي وأن لديه أموالاً يريد تأديتها کحقوق شرعية. [49] .

وتبددت شکوک رئيس الوزراء حول وجود وکلاء للمهدي بعد فشل الجاسوس، وتظاهر المعتضد بذلک وهو يستمع الي تقرير عبدالله بن سليمان.. انه لا يريد أن يشغل حکومته بهذه القضية الحساسة.. انه لا يريد اثارة مسألة المهدي حتي لا يکون ذلک رأس الخيط لمن يريد البحث عن الحقيقة..

کما أن مهمة القبض علي المهدي أو اغتياله سوف تضرّ بسمعه الدولة وقد تسبب له أزمة تقضي عليه هو شخصياً.

ولذا قرر أن يواجه هذا التحدي الخطير وحده.. سوف يحيط خطته بالسرّية البالغة بحيث لن يعرف أحد نواياه!

لقد حصل علي معلومات هامّة.. فالمهدي ربّما يعيش حالياً في منزل والده في سامراء.. في محلة «درب الحصا».. کما أن



[ صفحه 244]



التقارير تفيد بوجود رجل زنجي يجلس عادة عند الباب کما لو أنه بوّاب.. [50] ولذا فان ارسال ثلاثة مسلحين واقتحام المنزل سوف يضع حدّاً لهواجسه وقلقه.. ان لديه رجالاً لا يفقهون سوي تنفيذ الاوامر..

نسائم آذار تهب من ناحية الشمال وترافق دجلة الذي ارتفع منسوب المياه في مجراه مثيراً هواجس الفيضان التي تخامر أهالي بغداد کل عام..

کان المعتضد يتمشّي في حدائق قصر الحسني المطلة علي النهر ولم يکن مکترثاً فيما يبدو لما حوله.. فيما انتشر حرّاس غلاظ قرب الجدران تحسباً للطواريء.

وفيما کانت شمس الاصيل تقرض ذري النخيل ظهر ثلاثة رجال اشبه بالعمالقة يتقدمهم «رشيق» غلام المعتضد.. سرعان ما امتثلوا امام الخليفة الذي تموج أعماقه بهواجس جهنمية..

حدّق المعتضد في عيني رشيق لتغوص نظراته الي الاعماق وهذه هي طريقته عندما يصدر أوامر خطيرة أو يکلّف أحداً بمهمة مصيرية!

قال الخليفة السادس عشر الذي انهي نفوذ الاتراک في شؤون الحکم:

ـ انطلقوا فوراً الي سامراء.. ليرکب کل واحد منکم فرساً ويجنب آخر.. اسألوا عن «درب الحصا» فهناک دار کبيرة يجلس علي بابها خادم أسود..



[ صفحه 245]



وسکت لحظات ليرکز نظراته علي الثلاثة معاً:

ـ اقتحموا الدار ومن رأيتم في الدار فأتوني برأسه!

وأدار ظهره للثلاثة الذين تقهقروا الي الوراء اجلالاً للخليفة..

ثلاثة رجال وستة خيول تنهب الارض باتجاه الشمال.

وفي اقلّ من ساعتين انطوي ستون ميلاً عربياً لتلوح من بعيد المئذنة الملوّية شاخصة في الافق الغائم..

المدينة التي کانت قبل سنوات عاصمة البلاد الکبري آخذة في الاضمحلال.. ربطوا خيولهم المتعبة في مربط خان المسافرين ومضوا الي هدفهم ولم يجد رشيق صعوبة في العثور علي محلة درب الحصا..

بدا الشارع الممتد حتي دجلة مقفراً باستثناء رجل زنجي کان جالساً علي دکة عند عتبة الباب وفي يده تکّة سروال ينسجها..

تقدّم رشيق الي الرجل الافريقي الذي بدا غير مکترث بأحد.. سأل رشيق:

ـ لمن هذه الدار؟

أجاب الرجل الجالس دون أن يرفع رأسه:

ـ لصاحبها:

سأل رشيق:



[ صفحه 246]



ـ ومن فيها.

أجاب الافريقي بلا اکتراث:

ـ صاحبها!

تبادل رشيق مع صاحبيه نظرات فيها بريق المؤامرة..

امتشقوا سيوفهم ورکل رشيق الباب الخشبية بعنف ليدخل الدهليز.. فجاسوا خلال الحجرات.. ثم وجدوا غرفة سرية کانت هي الاخري خالية..

ولفت نظر رشيق ستائر بهية کأنها حيکت حديثاً... انه لم يري ستائر أجمل منها..

لمسها بيده الغليظة.. ثم رفعها ليقع بصره علي منظر لم يکن قد توقع رؤيته؛ حوض واسع يزخر بالمياه.. وفي أقصي المکان کان هناک رجلاً يصلّي فوق حصير تلامس حوافه المياه..

وظل رشيق مشدوهاً للحظات وهو يراقب الرجل الذي يرتدي ثياباً جميلة.

لم يقطع الرجل صلاته أو بدا عليه أنه اکترث بظهور رجال مسلّحين يقتحمون الدار فجأة!

حاول أحدهم أن يخوض في المياه وتنفيذ أوامر الخليفة..

کان يتصور أن ارتفاع المياه لن يعدو ذراعاً ونصف لکنه فوجيء بنفسه يغوص في لجّة مالها من قرار.. فراح يضرب بجنون صفحة المياه لکن سمنته وغلظته خانتاه.. کما أن برودة المياه



[ صفحه 247]



وتعب السفر قد جعله في وضع يرثي له مدّ رشيق يده ليساعد صاحبه علي الخروج.. وأراد الا´خر أن يجرّب حظه العاثر فشعر بالرعب ليغادر المياه بسرعة ووجل..

وظل رشيق مبهوتاً ينظر الي الرجل الذي ما انفک من صلاته وقد غمرته سکينة بعثت الرعب في قلوبهم.. هتف رشيق وقد خضع قلبه لهذا الرجل العجيب:

ـ المعذرة الي الله واءليک.. فوالله لا أعرف قصّتک.. ولا اءلي من اجيء.. وأنا تائب الي الله.

لم يلتفت الامام اليه.. شعر رشيق بان دقات قلبه تستحيل الي طبول مجنونة.. فغادر المکان لا يلوي علي شيء.

کان المعتضد يحدّق خلال ظلمة الغروب الخفيفة الي بوابة القصر ينتظر عودة رجاله.. وقد ضاعف منظر الغيوم المتراکمة في الافق حيث ذري النخيل من احساسه بالقلق.

کان قد أوصي الحرّاس الاّ يعترضوا لارجال الثلاثة اذا حضروا في أي وقت حتي بعد منتصف الليل!

أوي المعتضد الي مخدعه وألقي بنفسه فوق سرير وثير بعد أن وضع سيفه جانباً.. وصبّ لنفسه قدحاً من خمر قطربلي يحتفظ به لنفسه اذا ما داهمه القلق أو أراد أن يقدم علي عمل خطير..

انّ رأسه يتصدّع.. مضت ساعة عندما سمع طرقاً علي باب غرفته وصوت الحارس يقول:



[ صفحه 248]



ـ لقد حضروا يا مولاي!

ـ ليدخلوا!

کان يتوقع أنهم سيأتون اليه برأس المهدي!

هتف:

ـ ما الخبر؟!

وراح رشيق يروي له قصّة لا تحدث عادة اءلاّ في زمن المعجزات!

ضجّت الهواجس في أعماق الخليفة؛ آه ان المهدي يتحدّاني ليتهم لم يعثروا علي أحد.. ليته اختفي.. ان المهدي يتحدّي جبروته وسلطانه.. لقد اثبت وجوده.. واثبت شجاعته أمام عدوّه اللدود.. عدوّه المدجج بالسلاح!

برقت في عيني المعتضد الشرور وهو يخاطب الرجال الثلاثة:

ـ ويحکم: لقيکم أحد قبلي.. وهل حدثتم أحداً بما حصل؟!

ـ کلاّ يا مولانا.

هتف متهدداً أيّاهم:

ـ لست من بني لعباس اءن سمعتُ بهذا الخبر..

سوف أقطع رؤوسکم اذا تحدثتم مع أحد بذلک.

وأدار وجهه ليغادروا المکان فوراً..

أما هو فقد کرع کأساً أخري.. لقد ارتکب خطأ فادحاً عندما أرسل ثلاثة رجال..



[ صفحه 249]



ان المهدي مسلّح بالمعجزة.. کان ينبغي ارسال قوّات عسکرية لقتله.. وتوهجت عيناه حمرة سوف يوجه ضربته القادمة بجيش کبير..



[ صفحه 250]



«34»

لا أحد يدري الاوهام التي تراءت للمعتضد يوم عاد «رشيق» من مأموريته فاشلاً مبهوتاً بما رأي.. لو لم يعرف «رشيقا» وقسوته لظن أنه ما رآه من ماء لم يکن سوي وهماً أو خداع بصر.. ثم ألم يجرّب صاحباه محاولة خوض أشرفت بهما علي الغرق؟!

قليلون جداً يعرفون ان منزل الحسن العسکري کان قد اشتراه والده الهادي من دليل بن يعقوب النصراني.. ولقد کان دليل مهندساً معروفاً في سامراء بحفر القنوات الجوفية التي تدعي آنذاک بالکهاريز [51] وهو الذي اسند اليه المتوکل مهمة شق نهر کبير شمال سامراء لتجهيز مدينته الجديدة «المتوکلية» بالمياه.

فهل يعقل أن يترک منزله القريب من دجلة دون «کهريز» يجهزه بما يلزم من المياه؟!

لقد بني دليل قصره الصغير علي غرار القصورة الکبيرة... فهو مجهز بسرداب يتوسطه حوض صغير.. وهناک «کهريز» يغذي الحوض بالمياه اضافة الي مجري في أعلي الحوض يتجه تحت ارضية السرداب صوب الحديقة لسقي الاشجار وهو ينبع من وسطها..



[ صفحه 251]



يکفي فقط التحکم في سدّاد حديدي لتنظيم نسبة تدفق الماء..

علي أن هذه القنوات الجوفية تجف في موسم الصيف عندما ينخفض منسوب المياه في دجلة.. وقد يستحيل بعضها الي نفق أو مخبأ سرّي!

أما لغز الحصير فلا أحد يعرف سرّه هل أعد المهدي اسطوانة من الصخور علي قدر الحصير بحيث يبدو الحصير طافياً علي الماء!؟

أم کان ذلک معجزة له يتحدّي بها طاغية عصره؟!

ان للمهدي سنّة من سنن الانبياء ولقد کان المسيح عيسي بن مريم يمشي علي الماء.. عيسي الذي سيهبط من السماء ويصلّي خلفه. [52] .

ولکن الطغاة يرون انفسهم هم الاقوي.. ولو کان رشيق وصاحباه مجهزين بالسهام اءذن لا صبح المهدي في خبر کان.. بهذه الطريقة من التفکير کان المعتضد يخطط لضربته القادمة في فصل الصيف..

سوف يبعث بقوات عسکرية مجهزة بمختلف أنواع الاسلحة.. لقد قضي علي خصوم کثيرين کانوا يشکلون خطراً علي حکمه، ولکن الخطر الحقيقي يکمن هنا في مکان ما في



[ صفحه 252]



سامراء أو بغداد.. الخطر يکمن في عقر داره لن يقرّ له قرار حتي يلقي القبض علي المهدي أو يقتله!

أنه امام خصم عجيب لا يعرفه أبداً لقد اختفي عن الانظار منذ ولادته.

نحن الا´ن في تموز سنة 893م ربيع الثاني سنة 280ه وقوّة عسکرية تصل سامراء وهدفها محاصرة منزل ابن الرضا والقبض علي صاحبه.. کان رشيق يرافق الحملة العسکرية فقط محتفظاً بسرّه الذي لا يستطيع البوح به:

فالحفاظ علي رأسه يتطلب منه الاحتفاظ بالسرّ مدي حياة المعتضد.. [53] .

وانتشر الجنود في درب الحصا بطريقة تفضح رعب الدولة من وجود المهدي.. اءنها لا تعرف هويته ولا تعرف مدي امکاناته؟!

وأُقتحم المنزل ليدلف القائد العسکري المدجج بالسلاح ويلقي نظرة علي المکان.. وخيل اليه أنه يسمع صوتاً شجياً فأرهف سمعه وأشار الي الجنود بالتزام الصمت..

أجل أن هناک من يقرأ القرآن.. ان تلاوة القرآن تنبعث من السرداب کينبوع من ماء زلال.

أشار القائد الي بعض الجنود باتخاذ مواقعهم قرب باب السرداب وفرض ما يشبه الحصار حتي تصل التعزيزات المتفق علي وصولها؛ ووقف الجنود کالتماثيل ينتظرون اءشارة القائد.



[ صفحه 253]



کان واقفاً في حالة من الشرود الذهني، بعد أن توهجت في ذاکرته تفاصيل لقائه بالخليفة الذي أکد عليه خطورة مهمته وخطورة الرجل الذي سيواجهه!

کان القائد مستغرقاً في أفکاره حتي انه لم ينتبه الي الشخص الذي غادر السرداب..

ورأي الجنود شاباً أسمر علي خدّه الايمن خال.. ربعة تملا هيبته القلوب ودهشوا لان القائد لم يصدر أمره.

ظلوا يراقبونه الي أن تواري عن الانظار، وفي تلک اللحظات انتبه القائد الي نفسه بعد أن توقف صوت التلاوة..

وعندما استبطأ وصول التعزيزات المزمع ارسالها وحتي لا يفقد عنصر المفاجأة في الهجوم أشار الي جنوده باقتحام السرداب والقاء القبض علي الرجل..

ودهش الجنود مرّة أخري لان القائد يأمر بالهجوم بعدما غادر الرجل السرداب فقالوا:

ـ أولم يمرّ أمامک أيها القائد؟!

قال القائد وقد اتسّعت عيناه دهشة:

ـ ما رأيت أحداً..

وأردف مستنکراً موقفهم:

ـ ولم ترکتموه يخرج؟!

أجاب جندي قريب منه:



[ صفحه 254]



ـ ظننا أنک تراه ولم تأمر بالقبض عليه!! [54] .

وعض المعتضد علي نواجذه وهو يستمع الي تقرير قائد الحملة.. ان المهدي يتحداهم مرّة أخري.. ويخرج من السرداب في لحظة مصيرية اختارها بدقّة فالتعزيزات العسکرية لم تصل بعد والقائد ذاهل عن نفسه، والجنود ينتظرون أوامر قائدهم..

زرع المعتضد جواسيس سرّيين لمراقبة المکان الذي تعذر العيش فيه بعد مداهمته مرّتين في غضون أشهر معدودة..

سوف يغادر المهدي منزله سائحاً في بلاد الله العريضة لن يرتبط بمکان ما أو زمان ما.. انه يظهر في المکان الذي يريد وفي اللحظة التي يشاء.

ولعلّه الا´ن يقطع الفلوات في طريقه الي مکة المکرمة لحضور موسم الحج الاکبر.



[ صفحه 255]



«35»

في عام 281ه شهدت الحدود مع الروم اشتباکات محدودة، فيما کان الخليفة المعتضد منهمکاً في فرض سطوته علي اقليم الجزيرة بما في ذلک الموصل عاصمة الاقليم.

وفي الوقت الذي شهد الحجاز فيه برد شديد وانهمار الامطار بغزارة کانت ارجاء «طبرستان» في شمال ايران تعيش تحت وطأة جفاف شديد تسبب في قحط فارتفعت اسعار المواد الغذائية بشکل جنوني. [55] .

وفي مکّة التي بدأت تستقبل قوافل الحجيج توقفت أعمال الهدم في دار الندوة ريثما ينتهي الموسم: [56] .

ووصلت مکة قافلة من اصفهان فيها رجل اسمه يعقوب يبحث عن ضالته.. [57] .

وفي زقاق قريب من «سوق الليل» اکتروا منزلاً تسکنه امرأة سمراء عجوز واکتشف يعقوب ان الدار التي اکتراها رفاقه هي دار«خديجة» وتدعي الا´ن دار الرضا، وأراد أن يتأکد من ذلک فانتظر مغادرة رفاقه المنزل فقال للمرأة العجوز:



[ صفحه 256]



ـ ما تکونين من اصحاب الدار؟ ولم سمّيت دار الرضا.

قالت المرأة:

ـ أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسي.. أسکننيها الحسن بن علي، فاني کنت من خدمه..

وغادر يعقوب المکان مولّيا شطره صوب المسجد الحرام.

وفي المساء عندما عاد رفاقه أووا جميعاً الي الرواق ودحرجوا خلف الباب حجراً کبيراً فقد يطمع لص بمتاعهم.

کانت رياح شباط [58] تولول في الازقة الغارقة في الظلام، والبرد القارس يطرق النوافذ والکوي والابواب.. والغيوم المتراکمة في السماوات تبشر بماء منهمر وبَرَد. [59] .

وفي منتصف الليل انتبه يعقوب الي ضوء سراج شبيه بالمشعل، والباب تنفتح ليظهر رجل اسمر ربعة يرتدي قميصين واءزار وقد لاحت في جبينه آثار السجود..

اءنه آخذ سمته الي الغرفة في الطابق العلوي..

تبادل بعضهم نظرات مشککة فقال يعقوب:

ـ لعلّه رجل مثلنا اکتري الغرفة!

ردّ أحدهم:

ـ لکن العجوز أخبرتنا ان لها ابنة تقطن هذه الغرفة، وحذّرتنا من الصعود اليها!

علّق آخر:



[ صفحه 257]



ـ العلويّة يرون حلّية المتعة.. ولعله قد تمتع ابنة العجوز!!

ردّ آخر دون رويّة.

يرتکب الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام!!

أراد يعقوب أن يرد بان المتعة ليست حرام لان الحرام حرام محمد الي يوم القيامة والحلال حلاله وأن الذي حرم المتعة هو عمر وعمر لا يمثل شريعة الله لکنه التزم يعقوب الصمت فهو لا يريد أن يختلف مع رفاقه.. فلا جدال في الحج!

ولکن ما أثار دهشته ان الحجر لم يکن يتزحزح عن مکانه والرجل يدخل ويخرج والحجر خلف الباب حتي مطلع الفجر!

ساورته ظنون في أن لهذا الرجل شأن فقرّر أن يستلطف العجوز ويسألها عنه..

في الصباح عندما غادر رفاقه المنزل تعلّل في البقاء ليستکمل شد رباط حذائه..

قال للمرأة وکانت قد نزلت من درجات تؤدي الي الطابق العلوي من المنزل:

ـ أحب أن أسألک من غير حضور رفاقي.. لاني لا استطيع ذلک في حضورهم.

قالت علي الفور:

ـ وأنا أريد أن اسرّ اليک شيئاً فلم يتهيأ لي ذلک بسبب من معک.



[ صفحه 258]



قال وقد فوجيء بما يسمع:

ـ ما أردت أن تقولي؟!

ـ يقول لک لا تخاشن أصحابک وشرکاءک فاءنهم أعداؤک.. ودارهم.

ازدادت دهشته وقال بلهجة فيها استغراب:

ـ من يقول؟!

قالت العجوز وکأنها تستدرک.

ـ أنا أقول!

ـ أي اصحابي تعنين؟.. رفاقي في الحج؟.

ـ شرکاءک الذين في بلدک وفي الدار معک.

أدرک بأن هذه المرأة تتحدث عن أشياء عجيبة فقال لها مکرراً سؤاله:

ـ ما تکونين أنت من الرضا؟

قالت المرأة:

ـ کنت خادمة للحسن بن علي.

آه انه يقترب من الحقيقة قرر أن يسألها عن الغائب فقال بلهجة فيها تضرّع:

ـ بالله عليک رأيته بعينک؟ أعني الغائب!

قالت بعد لحظات صمت:

ـ يا أخي لم أره ولکن الحسن بن علي بشّرني باءنّي سوف أراه في آخر عمري.. وقال لي ستکونين له کما کنت لي.



[ صفحه 259]



وأيقن يعقوب انه قد عثر علي ضالته.. انه علي قاب قوسين منه وأن الله قد منّ عليه في لقاء الرجل الذي غاب عن الانظار منذ اکثر من عشرين سنة.

وکانت معه نسخة من توقيع المهدي خرج الي القاسم بن العلاء باذربيجان فقال للمرأة وهو يريها الرقعة:

ـ تعرضين هذه النسخة علي انسان قد رأي توقيعات الغائب؟

قالت المرأة:

ناولني فاءني اعرفها!

قدم يعقوب نسخة التوقيع وقد ظن أنها تحسن القراءة فقالت:

ـ لا يمکنني أن اقرأها في هذا المکان.

فصعدت الي الغرفة في الطابق العلوي ثم عادت وهي تقول:

ـ صحيح.

وأردفت وهي تعيد له النسخة:

ـ يقول لک اءذا صليت علي نبيّک کيف تصلّي؟

ـ أقول: اللهم صلّ علي محمد وآله محمد وبارک علي محمد وآله محمد کأفضل ما صلّيت وبارکت وترحمت علي ابراهيم وآل ابراهيم انک حميد مجيد.



[ صفحه 260]



ـ انه يقول: اذا صلّيت عليهم فصلّ عليهم کلّهم وسمهم.

ـ سأفعل ذلک.

وفي اليوم التالي نزلت المرأة ومعها دفتر صغير ناولته ليعقوب قائلة:

يقول لک اذا صلّيت علي النبي فصلّ عليه وعلي أوصيائه علي هذه النسخة..

راح يعقوب يتصفح الدفتر الصغير وتوقف عند مقاطع ثائرة تندد بالظلم والفساد والانحراف:

وراح يردد بحماس مقطعاً مؤثراً:

ـ «اللهم صل علي وليّک المحيي سنتک، القائم بأمرک.. الداعي اليک والدليل عليک، وحجتک علي خلقک، وخليفتک في أرضک، وشاهدک علي عبادک.

اللهم أعزّ نصره، ومدّ في عمره، وزّين الارض بطول بقائه اللهم اکفه بغي الحاسدين، واعذه من شر الکائدين وادحر عنه اءرادة الظالمين، وخلّصه من أيدي الجبّارين.

اللهم جِدّ به ما محي من دينک، وأحيي به ما بدّل من کتابک واظهر به ما غير من حکمک، حتي يعود دينک به وعلي يديه غضاً جديداً.. خالصاً مخلصاً لا شک فيه ولاشبهة معه، ولا باطل عنده، ولا بدعة لديه.

اللهم نوّر بنوره کل ظلمة، وهدّ برکنه کل بدعة واهدم بعزته کل ضلالة، واقصم به کل جبّار.



[ صفحه 261]



اللهم اذلّ کل من ناواه، واهلک کل من عاداه وامکر بمن کاده، واستأصل من جحد حقه، واستهان بأمره وسعي في اطفاء نوره، واراد اخماد ذکره.

وشعر يعقوب بالالم يعتصر قلبه منذ أکثر من عشرين سنة وهو ما يزال غائباً ولا يُعرف له سکن ولا وطن ولا قرار.. يسيح في أرض الله الواسعة.. رأسه مطلوب، وقد حکم عليه بالموت.. لانه صرخة عدل مکبوتة في عالم يعج بالظلم والقهر والحرمان..

اي انسان هو يحمل علي کتفيه هموم العالم کلّه.. انه آخر الحجج السماوية في أرض انفصلت عن السماء فهي تهوي الي مکان سحيق لا يُعرف له قرار..

ومع ذلک فهناک أمل مشرق بغد أفضل..

غداً تشرق الشمس وتصبح الارض خضراء زاخرة بالدفء والنور والسلام.

هاهو يحمل معه کلمات المهدي المندّدة بالظلم والفساد انه يحمل وثيقة کبري تهتف بوجود الانسان الذي بشّرت الرسالات عبر الزمن..

وفي المساء ضم يعقوب علي مطاردة خطوات الرجل الذي يحلم بلقائه منذ سنين طويلة..

وعندما ظهر السراج يهبط من فوق السلّم عرف أنّ هذا موعد خروجه..



[ صفحه 262]



کان الغسق يشهق أنفاسه الاخيرة عندما فُتح الباب.. وخرج يعقوب وراء السراج الذي کان يتجه صوب المسجد الحرام..

وبعد أيام رأي رجالاً من بلدان شتي يأتون الي باب الدار ويسلّم بعضهم رقاعاً الي المرأة، أو يستلمون منها.

وفي الايام التالية ازدادت الامطار غزارة، وتحدث بعضهم عن أخبار سيول اجتاحت بطون الاودية، ومضي يعقوب مع رفاقه يستعدون للعودة ويهيئون اسباب السفر الي ايران عن طريق العراق، وکان يعقوب قد أضمر المکوث في بغداد عدّة أسابيع.



[ صفحه 263]



«36»

صادفت عودة قوافل الحجيج الي بغداد وصول الاميرة «قطر الندي» بنت حاکم مصر خمارويه..

وفُرض منع التجول علي جانبي دجلة، ومُنع العبور من خلال الجسر، فيما استعدت أربعة «حرّاقات» لاستقبال زورق الاميرة قطر الندي زوجة الخليفة الجديدة. [60] .

وکان قد تم الانتهاء من تشييد قصر الثريا حيث ستحل الاميرة هناک.

ولم تلبث الانباء أن وصلت بغداد باغتيال خمارويه في دمشق، في ظروف غامضة وتولّي ابنه أبو العساکر مقاليد الحکم في مصر. [61] .

وفي بغداد أعلن الخليفة الحادي عشر من حزيران يوماً للنيروز بدلاً من الحادي والعشرين من آذار وتسمية ذلک «نيروز المعتضدي»! [62] .

وعمّت بغداد حالة من التوتر بعد تجدد الاشتباکات العنيفة مع قوّات الدولة العلوية في طبرستان..



[ صفحه 264]



وکانت تقارير الجواسيس في بغداد قد أفادت بوصول مبالغ کبيرة من «محمد بن زيد العلوي» الي «محمد بن ورد العطار» لتوزيعها علي العلويين في بغداد والکوفة فالقي القبض علي ابن العطار وسيق الي قصر «بدر» الرجل المتنفذ بعد الخليفة.

وفي التحقيق اعترف ابن العطار.. ان مبالغ تصله سنوياً من محمد بن زيد وأنه يقوم بتوزيعها علي العلويين.

ولکن المعتضد الذي اتبع سياسة تشبه سياسة المأمون في التسامح مع العلويين لکسب ودّهم أمر باطلاق سراح ابن العطار واءعادة الاموال اليه وطلب منه أن يکون توزيع الاموال علنا وأن موظفي الدولة سوف يساعدوه في هذه المهمة. [63] .

وفي شعبان من نفس العام صدرت تأکيدات بالقاء القبض علي زوّار کربلاء والکاظمين، وکان قد سبق هذا الاجراء صدور توقيع من الامام المهدي يحذر من زيارة مرقد الحسين في کربلاء ومرقد الامام الکاظم وحفيده الجواد في مقابر قريش. [64] .

وفي غمرة الاجواء الملبدة بالغيوم التزم السفير محمد بن عثمان جانب الحذر التام منهمکاً في اعماله التجارية.. ولکن الرجل الذي ظل يتردد عليه منذ شهور ويتوسل اليه أن يري الامام قد انتصر.

ففي ذلک الصباح وقد بزغت الشمس من بين السحب الملوّنة حضر الرجل الذي اشتري قدراً من الزيت ونظر نظرة



[ صفحه 265]



متوسلة الي الشيخ محمد بن عثمان الذي قال له کالمعتاد:

ـ ليس الي ذلک من سبيل!

طفرت الدموع من عيني الرجل وشعر السفير أن قلبه يذوب فقال هامساً:

ـ بکّر غداً!

ثم راح يسجّل في دفتره بعض الحسابات فغادر الرجل وهو يکاد يطير فرحاً.

وقبل مطلع الشمس کان الرجل في طريقه الي المحلّ التجاري حيث يشتغل محمد بن عثمان في تجارة الزيت واذا عيناه تقعان علي شاب أحسن الناس وجهاً وکان يفوح عبيراً يرتدي زيّ التجار وفي کمّه شيء کهيئة التجار..

أومأ العمري للرجل أنه هو.. فاتجه الرجل اليه وقد امتلات عيناه بدموع الشوق والحنين.

وشعر ان کلماته تحترق في حضرته.. وود أن يشهق بالبکاء من أجل أن يزيح کل غيوم الحزن المتراکمة في قلبه.. أنه يقف في حضرة الانسان الذي يحمل کل هموم الانبياء وتتألق في عينيه أحلام السماء..

وراح يسأل ويسأل.. والشاب الاسمر الذي يرتدي زي التجار يجيب.. وعندما اشرقت الشمس دلف الشاب الاسمر الي بيت متواضع من البيوت التي عادة ما يقطنها الفقراء..



[ صفحه 266]



قال العمري للرجل:

ـ ان أردت ان تسأل فأسأل فاءنک لا تراه بعد اليوم.

فانطلق ليتبعه وأراد أن يسأل ولکن الفتي الاسمر قال قبل أن يغلق الباب دونه:

ـ ملعون.. ملعون! من أخّر العشاء الي أن تشتبک النجوم... ملعون ملعون من أخرّ الغداة الي أن تنقضي النجوم..

ثم أغلق الباب.

وعاد الرجل الي العمري وهو يبکي بصمت ثم قال بصوت أقرب الي الهمس:

ـ لقد أجابني قبل أن أسأل.

ومضي الرجل لا يلوي علي شيء وغاب في أزقة بغداد.

وفي الضحي من نفس اليوم مرّ موکب تشييع قرب سوق «الورّاقين» يحمل جثمان الشاعر ابن الرومي الذي اغتيل بأوامر من رئيس الوزراء لانه انتقده في بعض الاشعار، وتناقل الناس طريقة اغتياله بالسم. [65] .

کما وصلت أخبار بتدفق آلاف المحاربين البلغار وفرضهم الحصار علي القسطنطينية وکادت أن تسقط لولا استنجاد الامبراطور بالاسري المسلمين للدفاع عن المدينة مقابل تحريرهم من الاسر [66] لکنه نکث بوعده واقترح علي الدولة الاسلامية افتداء الاسري.



[ صفحه 267]



وشهد نهر اللامس الذي يشکل الحاجز المائي بين الدولتين عملية افتداء الاسري التي شملت ألفين وخمسمئة وأربعة أسري بما في ذلک النساء والاطفال. [67] .

في ذي القعدة من سنة 283 ورد بغداد انباء عن اشتباکات في اقليم خراسان عندما شنّ القائد المعزول رافع بن هرثمة هجمات علي الاقليم فصدّه محمد بن الليث الصفار حيث انتهت المعارک بمصرع رافع الذي وصل رأسه بغداد هدية للخليفة المعتضد!

وفيما وراء مضيق جبل طارق شهد الاندلس ثورة في اقليم «تدمير» واستيلاء الثوّار علي مدينتي «مرسية» و «لورقة». [68] .

وفي مطلع عام 284ه قرر الخليفة لعن معاوية بن أبي سفيان والطغمة الاموية علي المنابر فاستخرج من خزانة الدولة کتاباً في لعن معاوية کان الخليفة المأمون قد أعدّه في خلافته، وتم اعداد کتاب موجز أخذ من جوامع کتاب المأمون..

وتناقل أهل بغداد أخبار عن موعد قراءة الکتاب الذي سيکون 11 جمادي الا´خرة..

قال رئيس الوزراء الذي حرّر بنفسه نسخة الکتاب:

ـ انني أخشي وقوع اضطرابات بسبب الکتاب.

ـ اءذا تکلم أحد فسيکون جوابه السيف..

وقبل يوم الخميس اتصل رئيس الوزراء برئيس سلطة



[ صفحه 268]



القضاء يوسف بن يعقوب القاضي وطلب منه اقناع الخليفة بالانصراف عن قراره فدخل القاضي علي المعتضد قائلاً:

ـ اني أخاف أن تضطرب العامّة عند سماعها هذا الکتاب.

قال المعتضد:

ـ ان تحرّکت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها.

قال القاضي يحذره من الطالبيين لان الکتاب سيکون في صالحهم:

ـ يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يثورون في کل ناحية؟ وکثير من الناس يميلون اليهم لقرابتهم من الرسول ومآثرهم؟! وفي هذا الکتاب اءطراء لهم.. فاءذا سمع الناس هذا الکتاب کانوا اءليهم أميل، وکانوا هم أبسط ألسنةً واثبت حجةً منهم اليوم..

أطرق المعتضد والتزم الصمت المطبق.. أجل ان الکتاب سيجعل الناس اکثر ايماناً بهم واکثر حماساً لحرکاتهم وثوراتهم.

وفي منتصف شعبان وقع حادث غريب عندما ظهر تحت جنح الظلام شخص مسلح في قصر الثريّا الذي انتقل اليه المعتضد رسمياً منذ زفاف «قطر الندي» وعندما أراد أحد الخدم أن يتعرف علي هوّيته ضربه الشخص بالسيف فقطع حزام الخادم الذي فرّ مذعوراً..

ثم تواري الشخص المجهول في حدائق القصر! وشعر المعتضد بالرعب وهو يصدر أوامره الي الحرس بالبحث خلال



[ صفحه 269]



الاشجار واستمر البحث حتي مطلع الفجر ولکن لم يعثر له علي أثر!!

ثم ظهر ثانية بعد ليالي أخري.

وعُزّزت أسوار القصر بمادة هشّة تحسباً من استخدام کلاليب التسلّق.. کما أمر الخليفة بأحضار من في السجن من اللصوص ليناقشهم في امکانية الدخول الي القصر تسلّقا أو نقباً؟! [69] .

وتناقل الناس حکايات حول هذا الشخص وأنه ربما کان من الجن ظهر للخليفة بسبب ايغاله في سفک الدماء.. وانه ربما کان شيطاناً أو من مؤمنيّ الجنّ.

وکان الجواسيس ينقلون اليه بعض ما يتناقله الناس ولکن المعتضد يبدو قد صدّق حکاية الخادم الذي وقع في هوي اءحدي جواري القصر وانه يتناول بعض العقاقير الخاصة فلا يدرک بحاسة البصر! [70] .

وعمد المعتضد الي تعذيب بعض الخدم والجواري حتي الموت والقي في السجن آخرين.

وکان المعتضد تشتد هواجسه وقلقه عندما يحل المساء الخريفي ففي منتصف الليل عاود ذلک الشيخ الي الظهور مرّة أخري في رمضان وکانت الابواب تفتح وتغلق..

وکان المعتضد يرکض کالمخبول في أروقة القصر فکان يراه



[ صفحه 270]



مرّة في صورة راهب ذي لحية بيضاء وتارة في صورة شاب حسن الوجه بلحية سوداء وتارة في صورة شيخ يرتدي زي التجار وتارة أخري بيده سيف مسلول. [71] .

وأصبح المعتضد فيما يبدو في حالة نفسية متدهورة حتي أنه أمر باحضار المجذوبين والمجانين والمعزّمين فاحضروا وکانت فيهم امرأة.

ان أحداً لا يدري هل کان الشيخ الذي کان يراه الخليفة حقيقة أم ان ما يراه لا يعدو أن يکون اشباح ضحاياه تتراءي له في قلب الظلام..

لقد کان الخليفة يشرف شخصياً علي مختلف الطرق في التعذيب الوحشي.. فکانت مشاهد التعذيب البشعة مما لا يمکن احتمالها لدي انسان فيه بقيا من الانسانية. [72] .

وسيبقي ما رآه الخليفة في قصر الثريا لغزاً من ألغاز التاريخ!



[ صفحه 271]



«37»

في عام 285ه وقعت معارک بحرية في البحر الابيض المتوسط انتصر فيها الاسطول الاسلامي..

شهدت بلاد الاندلس مجاعة وما لبث الوباء أن اجتاح مناطق واسعة حصد فيها أرواح الکثيرين.

وشهد جنوب العراق عواصف عنيفة اقتلعت المئات من أشجار النخيل.. کما شهدت الکوفة أمطاراً رعدية واستمر اشتعال البروق ساعات طويلة وسقطت بعد توقف الامطار حجارة سود وبيض في قرية تدعي «أحمد آباد». [73] .

وبعد انتهاء موسم الحج شنّت قبائل طيء غاراتها علي طريق العراق.

وکان «الحسن بن وجناء النصيبي» ما يزال يطوف حول الکعبة في رابع وخمسين حجة له يتمني لقاء الامام الغائب الذي تأکد لديه أنه يظهر في مواسم الحج..

ولکن من أين يعلم بحالي أو يکترث لي؟! آه لقد تعبت من هذه الدنيا کل ما فيها وهم وباطل!



[ صفحه 272]



کان ما يزال ساجداً بعد أدي صلاة العشاء تحت الميزاب.. يتضرع الي الله.. عندما شعر بيد تحرّکه وصوت امرأة تخاطبه باسمه:

ـ قم يا حسن بن وجناء النصيبي!

رفع ابن وجناء رأسه ليري امرأة صفراء يبدو عليها قد اجتازت الاربعين من عمرها..

أخذت سمتها خارج المسجد الحرام، وراح ابن وجناء يتبعها ساکتاً لکأن قوّة ما تشدّه الي باتجاهها فهو يترسّم خطاها حتي اذا وصلت دار خديجة فاءذا باب وسط يرتفع عن جادّة الطريق وسلّم قصير يؤدي اليه..

صعدت الجارية وتوقفت عند الباب ودلفت ثم سمع ابن وجناء من يناديه:

ـ اصعد يا حسن.

وصعد الرجل الذي هدّته السنون.. ليتوقف عند عتبة الباب بعد أن أدرک ان من يناديه هو الغائب الذي ينتظر ظهوره ليملا الارض بالعدالة والدفء.. اءنّه يتمنّي في أخريات حياته أن يرکن قليلاً الي الراحة في دنيا تموج بالفتن وتزدحم بالغيوم.

وعندما دلف قال له الامام:

ـ يا حسن أتراک خفيت علي.. والله ما من وقت في حجّک اءلاّ وأنا معک فيه.



[ صفحه 273]



وراح يذکّره بمشاهد قديمة ما تزال عالقة في الذاکرة..

شعر الشيخ بأن عقله يتأرجح کقارب وسط الامواج ولم يعد بمقدوره أن يتماسک وغامت المرئيات أمامه ليفقد وعيه تماماً.

لم يدر کم مضي من الوقت عندما انتبه الي کف دافئة تلامس وجهه.

وهمس الامام في أذنه بمحبة لکأنه يقرأ کل خلجات نفسه:

ـ يا حسن! اءلزم دار جعفر بن محمد و لا يهمّک أمر طعامک ولا شرابک ولا ما يسترک.

ثم ناوله دفتراً صغيراً فيه دعاء وقال:

ـ بهذا فادع، ولا تعطه أحداً اءلاً محقّي أوليائي..

وانّ الله جلّ جلاله موفقک.

قال الشيخ وهو قد غمرته مشاعر الحبّ لهذا الانسان الطاهر الذي يبدو کملاک يبعث الطمأنينة في قلب من يراه:

ـ مولاي ألا أرک بعدها؟

أجاب الامام:

ـ يا حسن اءذا شاء الله..

وفي اليوم التالي کان ابن وجناء يقطع الاودية متجهاً الي مدينة الرسول والي دار جعفر بن محمد الصادق ليقضي أيام شيخوخته بسلام. [74] .

ومنذ مطلع سنة 286ه کانون الثاني عام 899م تلاحقت



[ صفحه 274]



الاحداث بشکل مذهل، حيث ظهر القرامطة فجأة لتشکل لهم دولة انطلقت من البحرين، وأعادت الي الاذهان مآسي ثورة الزنوج في جنوب العراق والفتن التي هزّت البلاد الاسلامية.

فيما شهد عام 287ه اندلاع الحروب المدمّرة في شمال ايران ولتسري نارها الي تخوم خراسان وفي هذه الحروب يلقي محمد بن زيد العلوي مصرعه متأثراً بجراحه وانتهت بموته الدولة العلوية في طبرستان لتنهض علي انقاضها الدولة السامانية.

وفي هذا العام توفيت الاميرة «قطر الندي» ولمّا تبلغ العشرين بعد! مما أثار موجة من الهمس داخل قصر الخلافة وخارجه!!

ثم أطل عام 288ه ليشهد الشمال الافريقي ظهور رجل يدعّي أنه المهدي!! [75] .

وهزّت البصرة في هذا العام زلالزل مدمّرة مع هبوب عاصفة هوجاء اقتلعت اشجار النخيل..

فيما اجتاح الوباء مناطق في اقليم آذربيجان حتي اذا حل عام 289ه اذا بالخليفة المعتضد يودع الدنيا ويترک ما جنته يداه من مجد دنيوي زائل وقصوراً بل ويترک ملکاً عريضاً ويخرج من الدنيا عارياً کما جاءها أول مرّة!!

وفي نفس الوقت توفي ابراهيم الاغلبي الحاکم العام للشمال الافريقي الذي أصيب بمرض الفصام فارتکب أعمالا



[ صفحه 275]



ًوحشية في القتل طالت کثيراً من الکتّاب والحجّاب وشملت بعض نسوته واثنين من أبنائه وثمانية أخوة له وست عشرة من بناته!

کما قتل في يوم واحد ألف جندي من جنوده.

ومات علي أسوار قلعة «کسوستنزا» في صقلّية.

وبدأ رعب القرامطة الذين سعيثون في الارض الفساد، خاصّة بعد غاراتهم علي دمشق وفرض الحصار عليها وتهديدهم باجتياح الکوفة. [76] .



[ صفحه 276]



«38»

تنفس أهالي بغداد الصعداء بعد تولّي الخليفة الجديد الملقب ب «المکتفي» مقاليد الخلافة بعد أبيه وبدأ حکمه باصداره الاوامر في اعادة جميع البساتين التي صادرها أبوه لبناء قصر جديد...

ولکن ما لبث أهل بغداد أن شاهدوا بدء اعمال البناء في قصّر التاج الي جانب قصر الثريا..

فيما عمّ الحزن بيوتات الشيعة برحيل أبي جعفر القمّي محمد بن الحسن الصفار الاعرج مخلفاً سفره الخالد: «بصائر الدرجات في علوم آل محمد». [77] .

وفي عام 290ه عصفت غارات القرامطة علي الديار السورية وارتکابهم المجازر في حمص.

وشهد البحر الابيض المتوسط معارک بحرية ضارية بين الاسطول الاسلامي الذي انطلق من طرسوس واساطيل الروم التي انکفأت هاربة فيما اندفع الاسطول الاسلامي باتجاه القسطنطينية، ثم يوجه هجماته علي سالونيک المدينة الثانية بعد العاصمة.



[ صفحه 277]



وفي المغرب العربي اغتيل يحيي الثالث زعيم دولة الادارسة..

واندثرت الدولة الطولونية في مصر... واشتدت دعوة عبدالله الشيعي، وبدا واضحاً أنه سوف ينجح في تدمير دولة الاغالبة وتأسيس دولة جديد هي الدولة الفاطمية...

المهدي الغائب يشهد قيام الدول واضمحلالها.. يواکب حرکة الاحداث وقوانين التاريخ.. يشهد صعود الکيانات الي الذري وسقوطها الي الحضيض.. واءذا کان جدّه الرسول صلي الله عليه و آله و سلم قد اخترق الفضاء والزمن في رحلة الاسراء والمعراج ليري ملکوت السماء فاءن حفيده سيشهد کل اللحظات الحاسمة في حرکة التاريخ ويتشرّب قوانين الطبيعة.. ويرسم مستقبل الاسلام باتجاه اليوم الموعود.. والغد الاخضر.

انه يواکب حرکة المجتمع الاسلامي، کشمس تبعث دفئها من وراء الغيوم.. کبنفسجة يشمّ الجميع أريجها ولا يراها أحد.. کنجم بعيد يهتدي به الحياري في بحار الظلمات.

نحن الا´ن فيموسم الحج سنة 293 تشرين الاول عام 905م وقد هوت افئدة الناس من کل حدب وصوب تطوف حول کعبة التوحيد، وتشکو الي الله ظلم الانسان لاخيه الانسان.. تشکوالي بارئها رحيل السلام.. تتأوه من محنة القرامطة الذين عاثوا في الارض الفساد وقهروا العباد..



[ صفحه 278]



يشکوا الي ملک السماوات والارض تعسف الولاة وظلم الحاکمين وعدوان المعتدين. [78] .

وقد انتشر الناس في أطراف المسجد الحرام فيما کان النهر البشري يطوف حول الکعبة.

اليوم هو السادس من ذي الحجة سنة 293ه أيلول سنة 906م وشاب أسمر يرتدي زي الاحرام ينفصل عن جموع الطائفين ويتجه صوب مجموعة من الحجيج جالسين حول بعضهم وفيهم رجل علوي..

نهض الجميع أجلالاً للشاب الاسمر، فحيا بأدب الجميع ثم جلس بينهم.. والتفت يميناً ثم شمالاً وقال بلهجة فيها تساؤل:

ـ أتدرون ما کان أبو عبدالله يقول في دعاء الالحاح؟

ـ وما کان يقول؟

وراح الشاب يقرأ بخشوع دعاءاً مأثوراً هو تجسيد حيلعقيدة التوحيد:

ـ «اللهم اءني أسألک باسمک الذي به تقوم السماء وبه تقم الارض وبه تفرّق بين الحق والباطل.. وبه احصيت عدد الرمال..

وزنة الجبال.. وکيل البحار.. ان تصلّي علي محمد وآله محمد، وأن تجعل لي من أمري فرجاً»..

ونهض الشاب ليندمج مرّة أخري في النهر البشري الذي ما انفک يطوف حول بيت الرب.



[ صفحه 279]



ساد الصمت وکانوا جميعاً يفکّرون فيهويّة الشاب الذي تملا هيبته النفوس.

وفي اليوم التالي يتکرر نفس المشهد.. ويجلس الشاب بينهم.. يلتفت يميناً ثم شمالاً ويقول:

ـ أتدرون ما کان يقول أمير المؤمنين بعد صلاة الفريضة.

ـ وما کان يقول؟

ـ کان يقول: «اءليک رفعت الاصوات وعنت الوجوه ولک وضعت الرقاب.. واليک التحاکم في الاعمال.. يا خير من سُئل وياخير من أعطي.. يا صادق يا باريء يامن لا يخلف الميعاد.. يا من أمر بالدعاء ووعد بالاجابة، يا من قال «ادعوني استجب لکم» يا من قال: «واءذا سألک عبادي عني فاءني قريب أجيب دعوة الداع اءذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون».

ويامن قال: «يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله اءن الله يغفر الذنوب جميعاً اءنه هو الغفور الرحيم».

لبيک وسعديک،ها أناذا بين يديک المسرف؛ وانت القائل: (لاتقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً).

ونظر جهة اليمين ثم الشمال وقال:

ـ أتدرون ما کان أمير المؤمنين يقول في سجدة الشکر؟

ـ ما کان يقول؟!

ـ کان يقول:



[ صفحه 280]



«يا من لا يزيده کثرة الدعاء اءلاّ سعة وعطاء.. يا من لا تنفد خزائنه.. يامن له خزائن السماوات والارض.. يا من له خزائن ما دقّ وجلّ لا تمنعک اساءتي من احسانک.. انت تفعل بي الذي أنت أهله.. انک انت أهل الکرم والجود، والعفو يارب.. يا الله! لا تفعل بي الذي أنا أهله..».

وغادر المکان فيما کانت الکلمات الخاشعة تدخل قلوب المؤمنين اما الفتي فقد غاب في جموع الطائفين..

وفي اليوم التالي وقد صادف يوم التروية يتکرّر ذات المشهد السابق..

قال الفتي وقد استقر في جلوسه ونظر ذات اليمين وذات الشمال:

ـ کان علي بن الحسين سيّد العابدين يقول في سجوده في هذا الموضع..

وأشار بيده الي الحجر تحت الميزاب: «عبيدک بثنائک مسکينک بفنائک.. سائلک بفنائک.. يسألک ما لايقدر عليه غيرک».

وهملت عيون المؤمنين بالدموع لکلمات رقيقة يناجي فيه المؤمن ربّه..

التفت الفتي الاسمر الي الرجل العلوي قائلاً:

ـ يا محمد بن القاسم! أنت علي خير اءن شاء الله..

ونهض متجهاً الي النهر البشري الذي ما انفکّ يدور حول



[ صفحه 281]



الکعبة.. فيما ظل محمد بن القاسم يلهج بدعاء سيد العابدين..

وانتبه أحدهم وکانه يتذکر شيئاً:

ـ يا قوم: اتعرفون هذا الفتي؟!

ونظروا اليه متسائلين فقال:

ـ هذا والله صاحب زمانکم!

سأل أحدهم مشککاً:

ـ وکيف علمت يا أباعلي؟

قال أبو علي المحمودي:

ـ لقد مکثت سبع سنين أدعو ربي وأسأله رؤية صاحب الزمان..

واعتصم الحاضرون بالصمت.. الصمت الذي يعبّر عن انسحاب للباطن والتأمل في کل ما قاله الفتي الاسمر خلال الايام الثلاثة..

وعلي سفح جبل عرفات في يوم عرفة يقف الفتي الاسمر مادّاً کفيه باتجاه السماء في جهة الکعبة، وکلمات خاشعة مؤثرة تنساب هادئة:

ـ «الهي کيف يُستدلّ عليک بما هو في وجوده مفتقر اليک؟!

متي غبت حتي تحتاج الي دليل بدلّ عليک؟!

ومتي بعدت حتي تکون الا´ثار هي التي توصل اليک؟!

عميت عين لا تراک!»



[ صفحه 282]



«الهي:

ماذا فقد من وجدک؟!

ومالذي وجد من فقدک؟!

اقترب رجل انصاري کان حاضراً بالامس قال مستفسراً:

ـ من تکون يا أخي.

ـ من الناس!

ـ من أي الناس؟

ـ من أي عربها.

ـ من عربها؟

ـ من أشرفها.

ـ ومن هم؟

ـ بنو هاشم.

ـ من أي بنو هاشم؟

ـ من أعلاها ذروة وأسناها.

ـ ممن؟ّ

ـ ممّن فلق الهام وأطعم الطعام، وصلّي والناس نيام.

أدرک الانصاري أن هذا الفتي علوي، فشعر نحوه بالمودّة وغادر الفتي المکان بهدوء حتي أن الانصاري لم يشعر به کيف ومتي... فسأل الذين کانوا حوله:

ـ أتعرفون هذا العلوي؟



[ صفحه 283]



ـ نعم لقد حج معنا ماشياً.

قال الانصاري بدهشة.

ـ سبحان الله؟ ما أري به أثر مشي!!

وانصرف الانصاري الي المزدلفة وقد غمرته مشاعر حزينة لقد تواري الرجل الغائب ولن يراه..

وهناک عندما ينام تحت السماء المرصعة بالنجوم يري عالم في الرؤي رسول الله يقول له:

ـ يا أحمد رأيته.

ـ ومن هو يا سيدي؟

ـ الذي رأيته عشيّتک هو صاحب زمانک.

وفي يوم الاضحي عندما کان يحدّث رفاقه عاتبه بعضهم لانه لم يخبرهم. [79] .

وفي هذا العام حج رجلان ايرانيان أحدهما من خراسان والا´خر من قم، وکلاهما يبحثان عن الامام الغائب الذي تأکد لهما أنه يظهر في موسم الحج فلما انطوي الموسم ذهبا الي المدينة المنورة.

انطلق الرجل القمّي الي رجل علوي يتهامس الکثيرون بأنه يعرف مکان الامام فتعرف عليه وتوطّدت بينهما عري الصداقة قال القمي ذات يوم.

ـ يا بن رسول الله بحق آبائک الطاهرين لما جعلتني مثلک



[ صفحه 284]



في هذا العلم بهذا الامر.. فقد شهد عندک من توثقه أن الوزير «القاسم بن عبدالله» أراد قتلي بسبب مذهبي واعتقادي فسلّمني الله.

قال الرجل العلوي بلهجة من يکتم سرّاً عظيماً:

ـ يا أخي اکتم ما تسمع مني.. الخبر في هذه الجبال واءنّما يري العجائب الذين يحملون الزاد في الليل ويقصدون به مواقع يعرفونها..

وسکت لحظات ليقول:

ـ وقد نُهينا عن الفحص والتفتيش.. [80] .

ونهض الرجل القمي ليودّع صاحبه وينصرف.

أما الرجل الخراساني فقد لقي مصرعه في طريق العودة عندما أغار القرامطة بقيادة زکرويه بن مهرويه علي قافلة خراسان وأُرتکبت مذبحة وحشية بحق الحجاج العائدين من زيارة البيت العتيق. [81] .



[ صفحه 285]



«39»

مرت عشرة أعوام مليئة بالحوادث العاصفة فقد أغار القرامطة علي الحجاج العائدين الي الديار العراقية، وارتکبوا مذبحة کبري. [82] .

وأغار بعد شهور أعراب بنو تميم علي حلب وعاثوا فيها فساداً.. وتوفي الخليفة المکتفي فبويع أخوه وله من العمر ثلاث عشر سنة لتدخل أمّه «شغب» وتعيد الي الاذهان قصّة زوجة المتوکل «قبيحة» التي کانت تحکم من وراء ستار.

ولم يلبث الحکم الجديد أن واجه بعد أسابيع حرکة مضادة وتم خلع «المقتدر» ومبايعة عبدالله بن المعتز ابن قبيحة بالخلافة وتسميته «الراضي».

وجلس المعتز علي دست الخلافة والحکم أربعاً وعشرين ساعة فقط [83] توعد خلالها العلويين [84] والشيعة بالويل والثبور.

وشاء الله أن تدور عليه دائرة السوء اءذ أعاد أنصار المقتدر وأمه شغب صفوفهم بقيادة «مؤنس» الخادم وفرضوا سيطرتهم



[ صفحه 286]



علي الوضع ففرّ ابن المعتز ليختفي في منزل ابن الجصاص «الجوهري» فألقي القبض عليه وعلي وزيره ابن الجراح وتمت تصفية ابن المعتز خنقاً وسلّمت جثته الي أهله مع محضر رسمي يؤکد وفاته في ظروف طبيعية!

وظهرت الدولة الفاطمية قوّية لتبسط نفوذها علي الشمال الافريقي علي انقاض الدولة الطولونية ودولة الاغالبة والدولة الرستمية.

وفي عام 297ه اتخذت تدابير تمنع اشتغال اليهود والنصاري اءلاّ في الطب والصيرفة.. کما نهض قصر «الشجرة» مجسّداً بذخ الخليفة وأمّه فقد توسطت برکة القصر شجرة من الذهب والفضة!

وفي تلک الفترة الاسطول الروماني يهاجم جزيرة «کريت» ويرتد علي اعقابه مندحراً في أول اشتباک مع الاسطول الاسلامي.

وفي عام 299ه هزّت القيروان زلازل مدمّرة فيما انتشرت الاوبئة في بغداد.

وفي عام 301ه القي القبض علي الحلاّج في مدينة سوسة بتهمة الالحاد وارسل مخفوراً الي بغداد..

واستعاد العلويون بقيادة الحسن بن علي المعروف بالاطروش نفوذهم في اقليم الشمال الايراني «طبرستان».

فيما قام الحمدانيون الذين أسّسوا دولتهم في اقليم



[ صفحه 287]



الجزيرة الذي يضم أراض سورية وعراقية بغزو للاراضي التي تخضع تحت حکم الروم.. واستمرار غارات القرامطة علي طرق الحج.

وشهد عام 302 ارتفاع منسوب المياه في دجلة واغراقه عدداً کبيراً من منازل العاصمة، التي شهدت حرائق أتت علي احياء بکاملها.

الارض الاسلامية تهتز بعنف وفي غمرة هذه الاحداث برز سياسيون طموحون، استغلوا فکرة المهدي المنقذ فادّعوا شخصيته أو السفارة عنه!!

فهناک رجل قرمطي ظهر في اليمن داعياً للمهدي المنتظر ويستولي علي مدينتي زبيه وصنعاء. [85] .

وقيام دولة في الشمال الافريقي بعد أن قدّم الداعية أبو عبدالله الشيعي رجلاً علوياً الي قبائل البربر علي أنه المهدي الموعود فتأسست دولة کبري مترامية الاطراف بينما آلاف العمال والمهندسين ينهمکون في بناء عاصمة الدولة الجديدة واسمها «المهدية» [86] وقد بدأ العمل فيها في ذي القعدة سنة 303ه ابريل سنة 916م.

وخلال تلک المدّة يعلن الحلاّج ذلک الرجل الغامض في أوساط الشيعة انه سفير الامام المهدي.. انه الا´ن يحاول تعزيز نفوذه بکسب تأييد الزعيم والعالم الشيعي أبي سهل بن اسماعيل



[ صفحه 288]



بن علي النوبختي والذي يمت برابطة النسب الي الشيخ الحسين ابن روح النوبختي، [87] فسطّر اليه رسالة وحمّلها أحد مريديه..

وعندما فض النوبختي الرسالة اءذا فيها:

ـ «اني وکيل صاحب الزمان.. وقد أمرت بمراسلتک، واءظهار ما تريده من النصرة لک.. لتقوي نفسک ولا ترتاب بهذا الامر!

طوي العالم الرسالة وقد ارتسمت ابتسامة ساخرة فوق شفتيه وقال للرسول:

ـ هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل..

قل له: اءني اسألک أمراً يسيراً يخفّ مثله عليک..

أنا رجل غزل ولا لذة لي اکبر من النساء. وأنا مبتلي بالصلع حتي انني اطوّل قحفي وآخذ به الي جبيني.. ومبتلي بالخضاب لاستر الشيب..

فاءن يصل لي شعراً ورد لحيتي سوداء بلا خضاب.. آمنت بما يدعوني اليه کائناً ما کان..

وسکت لحظات ليردف:

ـ ان شاءَ قلت انه باب الامام.. واءن شاء قلتُ انه الامام.. وان شاء قلت انه النبي.. واءن شاء قلت انه الله!

وعندما سمع الحلاّج بجواب النوبختي شعر باليأس فسطر رسالة الي عالم شيعي آخر يقطن في مدينة قم هو الشيخ علي بن الحسين بن بابويه المحدّث.. ولم يصبر حتي انتظار الردّ فشدّ الرحال اليه!



[ صفحه 289]



کان الشيخ الوقور جالساً في المسجد قد انفتل من صلاة العصر.. عندما جاء أحدهم ليسلّمه رسالة الحلاّج وفيها:

«أنا رسول الامام ووکيله..

مزّق ابن بابويه الرسالة وقال للرسول:

ـ ما أفرغک للجهالات؟!

ونهض متجهاً الي دکّانه في سوق التجار.. وعندما ولج الدّکان نهض الذين کانوا بانتظاره.. ما خلا رجل واحد ظلّ جالساً رمق ابن بابويه الرجل الذي يرتدي ثوباً من الصوف بطرف عينه واتجه الي مکانه، وأخرج سجلاً کبيراً وأحضر الدواة ليستأنف عمله التجاري.. وقبل أن يشرع بالعمل سأل من أحدهم عن الرجل الجالس..

عندها قال الحلاّج:

ـ تسأل عني وأنا حاضر؟!

قال ابن بابويه:

ـ أکبرتک ايها الرجل، وأعظمت قدرک أن اسألک!

قال الحلاّج کمن قد مسّته شطحة صوفية:

ـ تخرق رسالتي وأنا اشاهدک تخرقها!!

هزّ ابن بابويه رأسه وقال بازدراء:

ـ فأنت الرجل أذن؟!



[ صفحه 290]



والتفت الي غلامه:

ـ اسحبه من رجله ياغلام!

وسُحب الحلاّج من رجله الي الشارع.. وکانت صدي ضحکات الهازئين تصک أذنيه.. واختفي من قم الي الابد ليظهر في الاهواز، وفي عام 301 القبض القبش عليه بتهمة الالحاد والشعوذة وسيق مخفوراً الي بغداد بأمر من الخليفة حيث تم توقيفه لحين محاکمته فلبث في السجن عدد سنين.

فيما القي المؤرخ الطبري قلمه جانباً بعد أن سجل آخر حادثة في تاريخه الطويل مختتماً اءياه بغارات الاعراب وقطع الطريق علي اءحدي القوافل في ضواحي مکة سنة 302ه. [88] .



[ صفحه 291]



«40»

بغداد تستعد لاستقبال سفير الامبراطور قسطنطين السابع لتوقيع اتفاق يوقف العمليات الحربية والاشتباکات الحدودية..

بينما وصلت أنباء مثيرة عن استيلاء عبيدالله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية علي جميع أقاليم دولة الادارسة التي انتهت مع استسلام يحيي ابن ادريس الادريسي..

کما وصلت انباء عن مصرع الثائر والعالم الزيدي المعروف بالاطروش ونهاية الدولة العلوية في طبرستان..

کان الشيخ محمد بن عثمان قد ظهرت عليه الشيخوخة وتقدّم العمر وما ينوء به من الهموم..

وبدأ يرشد من يأتيه بالحقوق الشرعية الي أحد اصدقائه من علماء بغداد وهو الحسين بن روح النوبختي، وذلک بأمر من الامام المهدي. [89] .

أما هو فقد بدا انه يستعد لسفر طويل فهو يعد زاد الا´خرة..

نحن الا´ن في ربيع الاول 305ه أيلول 917م ومحمد بن عثمان يتلو القرآن في مکان عجيب.. لقد حفر لنفسه قبراً في داره الواقعة في شارع باب الکوفة. [90] .



[ صفحه 292]



ويزوره في ذلک الاصيل الخريفي رجال من الشيعة يتفقدون أمره..

تساءل أحدهم عن سرّ ذلک؟! خاصّة عندما وقعت عيناه علي ساجة خشب نقشت عليها آيات من القرآن الکريم تؤطرها أسماء الائمة من أهل البيت::

ـ لم حفرت لنفسک قبراً وما هذا الساج؟

قال الشيخ:

ـ للناس اسباب.

ـ أعرف ذلک فما السبب؟!

قال الشيخ في لهجة من يستعد للرحيل:

ـ قد أُمرت أن أجمع أمري!

ـ فاءلي من بعدک؟

قال الشيخ وهو يثبت وصيته رسمياً:

ـ الامر الي أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي.. فقد أمرت أن اجعله في موضعي بعدي.. فارجعوا اليه.. وعوّلوا في أمورکم عليه. [91] .

ويزوره في نفس اليوم رجل آخر ومعه مبلغ قدره أربعمئة دينار..



[ صفحه 293]



قال الرجل واسمه ابو عبدالله جعفر المدائني:

ـ هذه اربعمئة دينار للامام.

ـ امض بها الي الحسين بن روح.

قال المدائني بدهشة:

ـ لقد اعتدت علي تسليمها اليک؟

ردّ الشيخ مستنکراً موقفه:

ـ قم عافاک الله فادفعها الي الحسين بن روح!

وعندما أراد أن يناقشه رأي سحابة غضب تطوف جبين الشيخ الوقور فنهض.. ورکب بغلته صوب منزل ابن روح..

ساورته الشکوک فابن روح لم يکن من أصدقاء الشيخ المقرّبين.. لو قال له اذهب بالمبلغ الي ابي جعفر أحمد بن متيل أو ابنه جعفر لتفهم ذلک.. ان الجميع يتوقع أن يکون أحدهما سفيراً بعد الشيخ..

لوي عنان دابته عائداً نحو منزل محمد بن عثمان وطرق الباب مستأذناً..

خرج الخادم مستفسراً عن القادم فقال:

ـ قل له المدائني يطلب الاذن بالدخول.

غاب الخادم لحظات ليعود:

ـ ان سيدي يتعجب من عودتک.

ـ استأذن لي.. لابدّ من لقائه..



[ صفحه 294]



ومرّة أخري غاب الخادم ليعود قائلاً:

ـ ادخل!

وقاده الخادم الي حجرة الاستقبال..

والفي الشيخ جالساً علي سرير منسوج من خوص وسعف النخل وما زال نعلاه في قدميه.. لانه قد عاد تواً من حجرة النساء..

قال الشيخ مستنکراً عودته.

ـ ما الذي جرّأک علي الرجوع.. ولمَ لم تمتثل ما قلته لک؟!

ـ لم أجسر علي ما رسمته لي!

قال بغضب:

ـ قم عافاک الله.. فقد أقمت أبا القاسم الحسين بن روح مقامي ونصبته منصبي.

ردّ متسائلاً:

ـ بأمر الامام؟!

نهض الشيخ وهو ينهي اللقاء:

ـ قم عافاک الله.. کما أقول لک.

ونهض المدائني وقد تبدّدت سحب الشک والتردد في أعماقه.. فانطلق الي منزل ابن روح الذي أشرقت اسارير وجهه وهوي ساجداً لله شکراً.

وفي جمادي الاولي بعد شهرين تدهورت صحة الشيخ



[ صفحه 295]



محمد بن عثمان، فأرسل وراء جمع من زعماء الشيعة وفي طليعتهم أبو سهل اسماعيل النوبختي، وأبو جعفر أحمد بن متيل وأبو عبدالله بن محمد الکاتب، وعبدالله بن الوجناء والحسين بن روح وکان واضحاً أن الرجل يودّع الحياة.. جلس ابن متيل عند رأسه، وجلس الحسين بن روح عند قدميه واتخذ الباقون أماکنهم قربه..

قال الشيخ بصوت فيه حشرجة الرحيل وخطورة البلاغ الاخير:

ـ هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي! القائم مقامي والسفير بينکم وبين صاحب الامر، والوکيل والثقة الامين فارجعوا اليه في أمورکم وعوّلوا عليه في مهماتکم.. بذلک اُمرت.. وقد بلغت!

وفي خطوة لا تصدر اءلاّ عن نفس امتلات علماً مضيئاً نهض ابن متيل من مکانه ليأخذ بيد الحسين بن روح ويجلسه في مکانه عند رأس الشيخ ثم ليجلس هو عند قدميه..

وابتسم الشيخ الوقور رضاً وتألقت عيناه بنور سماوي..

وشعر الحاضرون بالحب لهذا الرجل الذي کان الجميع يعتقدون بأنه سيکون هو السفير الثالث بعد رحيل الشيخ وعندما اُنتخب ابن روح سلّم له الامر وأصبح أشدّ المخلصين له. [92] .

ويتصدّي ابن روح لهذه المهمة الخطيرة في زمن عمّت فيه



[ صفحه 296]



الفوضي وسادت فيه روح الطائفية خاصة العاصمة بغداد.. واصبحت الخلافة العوبة بيد النساء والخدم..

فقد اصبحت «شغب» ام الخليفة وکانت جارية صاحبة النفوذ المطلق في تسيير شؤون الحکم، واضحي للخدم من الدرجة الثالثة نفوذ کبير.. ف «ثمل» يتولّي قيادة الاسطول الاسلامي أما «ثمال» فقد اسندت اليها رئاسة محکمة الاستئناف! [93] .

وفي عام 306 عمّت الفوضي بغداد بسبب فتنة وقعت.. کان الحنابلة طرفاً فيها.. فانتهز اللصوص والعيّارون الفرصة وتعرّضت الاسواق للنهب والسلب!

وفي عام 307 منح الخليفة رئيس الوزراء مسؤولية الخراج في العراق وأجزاء واسعة من ايران.. فيستغل «حامد بن العباس» ذلک ويحتکر الغلال.. وترتفع اسعار الموادّ الغذائية بشکل جنوني مما أدي الي انفجار غضب شعبي في بغداد التي عمّتها الاضطرابات، وأحرقت الجسور وکسرت أبواب السجون.. واضطر الخليفة الي فسخ الضمان وفتح أبواب المخازن العائدة لرئيس الوزراء و «شغب» أم الخليفة.. فأدي ذلک الي رخص الاسعار وانتهاء الازمة..

وفي نفس العام تتعرّض مدينة البصرة الي غارات القرامطة الذين نهبوا المدينة وقتلوا بعض السکان.

وشهد عام 308 صعد نجم بني حمدان الذين سيؤسسون



[ صفحه 297]



دولتهم في شمال العراق وسوريا.. کما دخل أبناء «بويه» التاريخ عندما دخل الابناء الثلاثة مؤسسة الجيش العباسي.

وفي مطلع عام 309 وصل بغداد وفد «بلغاري» يحمل رغبة من ملک البلغار في ارسال بعثة لشرح تعاليم الاسلام وفي نفس الوقت بدأت محاکمة الحلاج بتهمة الالحاد والزندقة وأصبحت قضية المحاکمة من أکثر الحوادث اثارة في عاصمة الدولة العباسية بسبب الجدل حول هويته.. فهل هو قديس زاهد أم زنديق ملحد؟! [94] .

وکان حامد رئيس الوزراء في طليعة المتحمسين لقتله فطلب من الخليفة تسليمه اليه والاشراف علي استنطاقه واستجوابه ومحاکمته. [95] .



[ صفحه 298]



«41»

استنطق الحلاّج في عدّة جلسات في حضور العلماء والقضاة وکانت تنتهي بعدم کفاية الادلّة في ادانته.. وخلال تلک الفترة التي امتدت اسابيع طويلة.. کان رئيس الوزراء ولاسباب غير معروفة يحاول ادانته بکل وسيلة والعثور علي وثيقة قوّية تؤدي الي اعدامه.. وتم له ما اراد عندما عثر علي کتاب بخط الحلاّج فتم عقد مجلس جديد لمحاکمته حضره القضاة والعلماء.

قال الوزير وهو يمسک بکتاب:

ـ هذا کتابک؟

نظر الحلاج الي الوزير والي الکتاب وقال:

ـ نعم کتابي!

وقرأ الوزير مقطعاً «يتضمن ان من لم يمکنه الحج اءذا أفرد في داره بيتاً نظيفاً ولم يدخله أحداً.. فطاف حوله أيام الحج، وفعل ما يفعله الحاج، ثم جمع ثلاثين يتيماً وأطعمهم أجود الطعام في ذلک البيت وکساهم وأعطي کل واحد منهم سبعة دراهم کان کمن حج»!!



[ صفحه 299]



سأل القاضي أبو عمر وهو يحدق في الحلاّج:

ـ من أين لک هذا؟!

أجاب الحلاّج:

ـ اخذته من کتاب «الاخلاص» للحسن البصري.

هتف القاضي مستنکراً:

ـ کذبت يا حلال الدم.. قد سمعناه بمکّة وليس فيه هذا.

انتهز حامد الوزير الفرصة وقال للقاضي:

ـ اکتب بخطک انه حلال الدم!

تردّد القاضي ولم ينفذ رغبة الوزير اءلاّ بعد الحاح واصرار استمر أياماً عديدة.. وأخيراً کتب القاضي محمد بن يوسف بن يعقوب الي الوزير بالحاد الحلاّج واباحة دمه..

وعندها شکل الوزير آخر مجالس المحاکمة في يوم الاثنين السادس من ذي القعدة سنة 309ه وقرأ الوزير حکم القاضي أبي عمر وأدرک الحلاّج انه علي شفا حفرة القبر فهتف:

ـ ما يحلّ لکم دمي وديني الاسلام ومذهبي السنّة ولي کتب عند الورّاقين [96] فالله الله في دمي!!

طلب الوزير حامد من العلماء توقيع حکم الاعدام، ونُظم محضر في سجل الوقائع.. فيما کان الحلاّج ما يزال يهتف:

ـ مذهبي السنة، وتفضيل الخلفاء.. والعشرة المبشرة بالجنّة.



[ صفحه 300]



ولکن أحداً لم يکن يکترث له حتي تم استمکال «فهرست الوقائع» الذي رفع فوراً الي الخليفة.. وانفض المجلس وسيق الحلاّج الي السجن..

وبعد ساعة جاء الجواب من الخليفة:

ـ ان قضاة البلد اءذا کانوا قد افتوا بقتل الرجل فليسلّم الي صاحب الشرطة وليتقدّم اليه بضربه ألف سوط، فاءن هلک واءلاّ يضرب ألفاً آخر ويضرب عنقه.

في منتصف الليل سلّم الوزير حامد الحلاّج الي الشرطي الفظ «نازک» لتنفيذ حکم الاعدام:

ـ ان لم يتلف بالضرب فاقطع يديه ثم رجليه ثم رأسه واحرق جثته.. انه مشعوذ خطير فلا تلتفت الي کلماته حتي لو قال لک: أنا أجري لک الفرات ودجلة ذهباً وفضة فلا تقبل ذلک منه ولاترفع العقوبة..

وفي صبيحة الثلاثاء السابع من ذي القعدة اقتيد الحلاّج الي باب الطاق، لتنفيذ الحکم.

کان الحلاّج يمشي متبختراً في قيوده بعد أن أيقن بالنهاية القادمة..

وبلغ الازدحام ذروته في ذلک، وبدأ الجلاّد تنفيذ الحکم فالهب ظهر الحلاّج بالسياط.. ولم يتأوه بل خاطب الجلاّد قائلاً عندما استکمل ستمئة سوط:



[ صفحه 301]



ـ دعني اءليک فاءن لک عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية الروم..

قال الجلاّد وهو يتذکّر ما قاله حامد الوزير:

ـ قد قيل لي اءنک تقول هذا الکلام واکثر منه.. وليس الي رفع السياط عنک من سبيل..

وعندما استکمل ضربه ألف سوط بدأ بقطع يديه ثم رجليه.

وسمع الحلاّج يشدو بشعر يتضمن اعترافه:



طلبت المستقرّ بکل أرض

فلم أر لي بأرض مستقرّا



أطعت مطامعي فاستعبدتني

ولو أني قنعت لکنت حرّا [97] .



وأنهي الجلاّد حياة الحلاّج باحتزاز رأسه وصلبه علي الجسر فيما قام باحراق جثته.. وعندما استحالت الي رماد ذرّه في دجلة..

وخرجت اخته مکشوفة الرأس باتجاه الصليب، فقيل لها استري وجهک عن الرجال فصاحت:

ـ کيف... ولا أري اءلاّ نصف رجل علي الصليب؟!

وانتهت قصة الحلاّج بعد أن خلف في نفوس من يعتقد به بعض الحکايات فقد عزا البعض ارتفاع منسوب المياه في دجلة ذلک العام الي برکة الرماد الذي ألقي فيه.. وان الحلاّج سوف يعود اليهم بعد أربعين يوماً.. بل أنه لم يقتل وان الله القي شبهه علي عدوّ له فقُتل!!



[ صفحه 302]



ولم تکد فتنة الحلاّج تنتهي حتي بدأت فتنة کان بطلها هذه المرّة «الشلمغاني» محمد بن علي.. ستثير هذه الفتنة أوساط الشيعة قبل أن يستفحل خطرها وتتدخل الدولة فمن هو الشلمغاني:

نشأ في قرية شلمغان في ضواحي مدينة واسط العراقية وکان من المحدّثين وله مؤلفات في ذلک.. وتألّق نجمه عندما وثّقه الشيخ الحسين بن روح لبني بسطام، وقد استغل هذه التزکية فراح يبث سمومه وانحرافاته العقائدية، وما ساعده علي ذلک اءن الظروف السياسية کانت ضد السفير الحسين بن روح الذي اختفي عن الانظار، وکانت بغداد في تلک الفترة مسرحاً للمؤامرات والدسائس.

أعلن الشلمغاني في أوساط الشيعة أنه وکيل الامام المهدي وانتبه السفير الي تحرکات الشلمغاني المشبوهة وبدأ تحذيراته من هذا المنحرف الذي استطاع ان يکسب الي جانبه کثيراً من المؤيدين!

واستفاد الشلمغاني من وزارة «علي بن الفرات» الثالثة، فابن فرات هذا ينتمي الي الفرقة النصيرية [98] المنحرفة عن الاسلام اما ابنه فيعدّ من اکثر الدمويين قسوة ووحشية..

وفي هذه الفترة القي القبض علي السفير الحسين بن روح وزجّ به الي السجن، وقد أثار هذا الاجراء استياءً شعبياً.

وبلغ الشلمغاني ذروة نفوذه في هذه الفترة خاصة بعد توطّد



[ صفحه 303]



علاقته مع «المحسّن» ابن الوزير الوقح السيء الادب فکانت هذه الفترة الوزارية من أسوأ الوزارات في خلافة المقتدر. [99] .

وأعلن الشلمغاني ان اللاهوت قد حل فيه.. واتصل «أبو علي بن همام» أحد زعماء الشيعة بالسفير وهو في سجنه وأطلعه علي بعض أفکار الشلمغاني الخطيرة.. فأعلن الحسين بن روح لعنه والبراءة منه.. ولکن الشلمغاني کان ذکياً فراح يبرّر هذا اللعن بضدّه! [100] .

وفي سنة أواخر 312ه صدر توقيع خطير من الامام المهدي سلّمه الحسين بن روح وهو في سجنه الي أبي علي بن همام وطلب منه تعميمه علي عموم الشيعة جاء فيه:

ـ «عرّف أطال الله بقاءک وعرّفک الخير وختم به عملک من تثق بدينه وتسکن الي نيته من اءخواننا ـ أدام الله سعادتهم ـ بأن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله له النقمة ولا أمهله ـ قد ارتدّ عن الاسلام وفارقه، وألحد في دين الله، وادّعي ما کفر معه بالخالق ـ جلّ وتعالي ـ وافتري کذباً وزوراً، وقال بهتاناً واثما عظيماً.

کذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبينا.

واءنا برئنا الي الله تعالي والي رسوله وآله ـ صلوات الله وسلامه ورحمته وبرکاته عليهم ـ منه ولعنّاه.. عليه لعائن الله تتري في الظاهر منّا والباطن والسرّ والعلن، ومن بلغه هذا القول منا



[ صفحه 304]



فأقام علي تولّيه بعده وأعلمهم ـ تولاّک الله ـ أننا في التوقّي منه علي مثل ما کنّا عليه ممن تقدّمه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم.

وعادة الله ـ جلّ ثناؤه ـ مع ذلک قبله وبعده ـ عندنا جميلة وبه نثق، واياه نستعين، وهو حسبنا في کل أمورنا ونعم الوکيل». [101] .

ويشاء القدر أن يقع حادث غريب يکون سبباً في انفراج الازمة واطلاق الحسين بن روح من السجن وفرار الشلمغاني.

ففيما کان الجراد يهاجم المحاصيل الزراعية.. ألقي القبض علي رجل ايراني في قصر الخليفة المعروف بقصر التاج.. يرتدي ثياباً فاخرة فوق قميص صوفي، ومعه أدوات عديدة مقدحة، کبريت، محبرة، ومجموعة أقلام، سکين، کاغد سکر وحبل طويل من قنّب وکشف التحقيق انه ربّما تسلل الي القصر مع الصّناع واختفي في حدائق القصر، وانه شعر بالعطش فخرج يبحث عن الماء فأُلقي القبض عليه!!

وسيق الرجل مخفوراً الي رئيس الوزراء ابن فرات الذي سأله عن هوّيته وماذا يفعل داخل القصر؟ فالتزم الصمت وقال انه لن يتکلّم اءلاّ أمام صاحب الدار يعني الخليفة.. فتعرّض للضرب فصاح: بسم الله بدأتم بالشرّ..

وهتف بالفارسية:



[ صفحه 305]



ـ ندانم! [102] .

وراح يرددها طوال الوقت، فأمر رئيس الوزراء باءحراقه!؟

وانطلق الي الخليفة متهماً «نصر الحاجب» بانه وراء ادخال هذا الرجل وأنه ينوي اغتيال المقتدر.. ولکن نصر الحاجب انتفض وقال بغيظ:

ـ لماذا أغتال أمير المؤمنين؟ وقد رفعني من الثري الي الثريا انما يسعي في قتله من صودرت أمواله وحبس سنيناً.

وقد ترکت کلمات نصر الحاجب صدي تعدّي أسوار القصر ليصبح ضمن الشائعات المضادة لرئيس الوزراء وابنه السيء الصيت.. الذي ما انفک يصادر الاموال ويعذّب الناس بأقسي اساليب التعذيب.. وقد أدي ذلک الي انفجار شعبي ضده.. مما دفع بابن الفرات الي ان يکتب رسالة الي الخليفة مبرراً ذلک بانه يدفع ثمن اخلاصه للخليفة!

فسطّر الخليفة جواباً يطمئنه وأراد ابن الفرات تعزيز موقعه مع ابنه فقام بزيارة للخليفة في قصره فاستقبلهما، ولکن نصر الحاجب منعهما من مغادرة القصر والقي القبض عليهما، غير أن الخليفة سرعان ما أمر باطلاق سراحهما..

وهنا قرّر الابن أن يختفي عن الانظار أما الاب فمضي الي قصره وانهمک في عمله الاداري حتي المساء وکانت آلاف الهواجس تتناهب ذهنه المشتت.. وتذکر حادثة وقعت قبل اسابيع عندما مرّ موکبه ذات يوم وسمع امرأة مظلومة تناديه:



[ صفحه 306]



ـ أسألک بالله أن تسمع مني کلمة..

وعندما توقف لها قالت:

ـ قد کتبت اليک في ظلامتي غير مرّة ولم تجبني.. وقد ترکتک وکتبتها الي الله تعالي.

کانت المرأة احدي ضحايا هذه الحقبة الوزارية السوداء، ولکن ابن الفرات الذي مات وجدانه لم يعبأ بشکوي المرأة ولم تهزّ ضميره الميت کلمة الله..

لقد أدرک بعد فوات الاوان أن الله قد استجاب لهذه المظلومة فتمتم أمام موظفيه:

ـ ما أظن اءلاّ ان جواب رقعة تلک المرأة المظلومة قد خرج! [103] .

وفي صباح اليوم التالي 8 ربيع الاول حضر نازک قائد الشرطة ومعه مجموعة من الجنود فدخلوا علي ابن الفرات وهو عند الحريم، واخرج حافيا مکشوف الرأس وسيق الي شاطيء دجلة وهناک وجد «مؤنس» الخادم الذي لقب بالمظفر فادرک اءنها النهاية... قال القائد العسکري بغيظ بعدما سمع توسلات ابن الفرات:

ـ تخاطبني الا´ن بالاستاذ، وکنت بالامس الخائن الساعي في فساد الدولة واخرجتني من بغداد مع جنودي تحت المطر ولم تمهلني؟!



[ صفحه 307]



وقبيل الظهر من نفس اليوم القيالقبض علي جميع اصدقاء رئيس الوزراء وابنائه باستثناء المحسّن الذي اختبأ في منزل حماته..

فکان يرتدي زي امرأة فتأخذه کل يوم الي المقابر وتعود به في المساء!



[ صفحه 308]



«42»

لم يطلق سراح ابن روح من السجن فحسب بل اصبح من الشخصيات التي نالت احترام الخليفة وجهاز حکمه، فهناک کثير من الامور التي تجعل من جبهة الحکم في خندق واحد مع شيعة أهل البيت: فالقرامطة عدو مشترک وکذلک الغلاة من الشيعة، واموقف ابن روح المتزن من النعرة الطائفية التي بدأ الحنابلة بتأجيج نارها.

وتناقل بعض الناس قصة البّواب الذي صرفه ابن روح عن الخدمة بسبب شتمه لمعاوية ولم تنفع توسلاته ولا وساطات الا´خرين في اعادته الي عمله! [104] انه لا يريد للطائفية أن تفرّق بين ابناء الدين الواحد!

ورأي ان منهج التقية المکثّف [105] وتظاهره بالتزام المذهب السني سوف يجنب بغداد حرباً أهلية لامناص من وقوعها في أية لحظة، ولاشک ان ذلک کان بتوجيه من الامام المهدي الذي يضطلع بمهمة السفارة لديه. [106] .

ولذا کان من أعقل الناس لدي جميع الطوائف والفرق



[ صفحه 309]



الاسلامية.. [107] وکان يحضر في المجالس العامّة.

وذات يوّم حدث جدل بين اثنين قال أحدهما:

ـ ان ابا بکر هو افضل الناس بعد رسول الله ثم عمر ثم علي.

وردّ الا´خر:

ـ بل علي أفضل من عمر.

واحتدم الجدل فقال ابن روح:

الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصدّيق ثم بعده الفاروق ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي.. واصحاب الحديث علي ذلک، وهو الصحيح عندنا..

وفغر الجميع أفواههم لهذه التصريحات التي ينطق بها رجل متّهم بالرفض!!

واجتاحت رجل شيعي کان حاضراً رغبة عارمة في الضحک، وبذل جهداً جبّاراً للسيطرة علي نفسه.. ووضع کمّه علي فمه.. ولکن دون جدوي وحتي لا تحصل فضيحة نهض الرجل وکان اسمه «ابو عبدالله بن غالب» وغادر المجلس علي وجه السرعة متجهاً صوب منزله.. غارقاً في دوامة ما سمعه اليوم من سفير الامام المهدي!

وقبيل الظهر طُرق باب المنزل وعندما فَتَح الباب وجد ابن روح علي بغلته يقول له:

ـ يا أبا عبدالله أيّدک الله لم ضحکت؟ فأردت أن تهتف بي کأن الذي قلته عندک ليس بحق؟!



[ صفحه 310]



قال أبو عبدالله دون تردد:

ـ کذلک هو عندک!

فقال ابن روح يهدد بقطع علاقته معه:

ـ اتق الله ايها الشيخ.. فاني لا أجعلک في حلّ.. تستعظم هذا القول مني!

ردّ ابن غالب بدهشة:

ـ وکيف لا؟! يا سيّدي رجل يُري بانه صاحب الامام ووکيله يقول ذلک القول ولا يُتعجّب منه، ولا يضحک من قوله؟!

أجاب بن روح وهو يحسم الموقف:

ـ وحياتک لئن عدت لاهجرنّک.

ثم ودّع الرجل المندهش ومضي الي منزله. [108] .

ويسأله المحدّث بديل الهروي ليدور معه هذا الحوار:

ـ کم بنات رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟

ـ أربع:

فأيهنّ أفضل؟

ـ فاطمة.

ـ ولمَ صارت أفضل وکانت أصغرهن سنّا وأقلهن صحبة لرسول الله؟!



[ صفحه 311]



ـ لخصلتين.. خصّها الله بهما تطوّلاً عليها وتشريفاً واکراماً لها.. اءحداهما أنها ورثت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ولم يرث غيرها من ولده والاخري اءن الله تعالي أبقي نسل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم منها ولم يبقه من غيرها.. ولم يخصّها بذلک اءلاّ لفضل في اخلاقها عرفه من نيتها وانبهر الهروي لهذا الجواب الموجز والعميق وقال:

ـ ما رأيت أحداً تکلم وأجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز!! [109] .

وفي غمرة تلک الاحداث في سنة 314ه تسلّل الشلمغاني الي بغداد وراح يمارس نشاطه التخريبي سرّا، مستغلاً مؤلفاته وکتبه التي تملا منازل الشيعة وهي مؤلفات حديثية تحوي نصوصاً مسندة الي ائمة أهل البيت خاصّة کتاب «التکليف» الذي يعدّ في طليعة کتب الحديث آنذاک.

وقد أثار هذا الکتاب جدلاً في أوساط الشيعة، فقال أحد الذين يعرفون قصة الکتاب:

ـ وأيش کان لابن أبي العزاقر (الشلمغاني) في کتاب «التکليف»؟! انما کان يصلح الباب ويدخله الي الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح فيعرضه ويحکّمه فاذا صحّ الباب خرج منقوله وأمرنا بنسخه.

کما سئل الشيخ ابن روح عن کتب ابن أبي العزاقر بعدما ذُم



[ صفحه 312]



ّوخّرجت فيه اللعنة: فکيف نفعل بکتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فأجاب:

ـ أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن کتب بني فضال فقالوا کيف نعمل بکتبهم وبيوتنا منها ملاء؟

فقال صلوات الله عليه: «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا».

وفي غمرة الاحداث کان المقتدر ما يزال يمارس تغييراته الوزارية [110] حيث عزل «الويزر الخاقاني» وأسند منصبه الي «الخصيبي».. وکانت انباء القرامطة الشغل الشاغل لسکان بغداد خاصة في موسم الحج حيث تصبح رحلة الحج مغامرة غير محسوبة النتائج.

وفي عام 314ه اقصي الخصيبي عن منصبه بسبب ادمانه علي الخمر واسندت الوزارة الي عيسي بن الجراح وأمر الخليفة باستجواب الوزير السابق فاحضر من سجنه وبدأ ابن الجرّاح باستجواب الوزير السابق في حضور جمع من الفقهاء والقضاة.

ودار الحديث حول حجم ايرادات الدولة من ريع الاراضي الزراعية والمصادرات فکان جواب الخصيبي:

ـ لا أعلم!

ـ فالواصل الي المخزن؟

ـ لا اعرفه!



[ صفحه 313]



ـ لم وجهت بابن أبي الساج ليقاتل القرامطة في المناطق الحارّة وأنت تعرف أن جنوده قد ألفوا القتال في البلاد الباردة الکثيرة المياه.. وأنهم لا يحتملون القتال في البراري القفراء.. کما أنک لم توفّر لهم نفقات کافية؟

ـ ظننت أنه يقدر علي قتال القرامطة، ولم يکن هناک ما يمکن اءنفاقه عليهم!

ـ کيف استجزت في الدين والمروءة ضرب نساء المصادرين وتسليمهن الي حرسک کامرأة ابن الفرات وغيرها فاءن کانوا فعلوا ما لا يجوز الست أنت السبب في ذلک؟!

ـ...

ـ اسألک عن المحصول وايراداته هذا العام؟

ـ...

قال ابن الجرّاح بعد صمت:

ـ لقد خدعت نفسک وخدعت أمير المؤمنين.. ألا قلت أنني لا أصلح للوزارة فقد کان الفرس اذا ارادوا أن يستوزروا وزيراً نظروا في تصرّفه لنفسه فاءن وجدوه حازماً ضابطاً ولّوه، واءلاّ قالوا من لا يحسن يدبر نفسه فهو عن غير ذلک اعجز.

وانتهي الاستجواب دون الوصول الي ادانة أو أعلان حکم واعيد الي حبسه.

وفي نفس العام استولي السامانيون علي اقليم الري فيما



[ صفحه 314]



اجتاحت قوّات من الروم مدينة ملطية يعاونهم مليح الارمني ودارت معارک ضارية استطاع الاهالي فيها ردّ المعتدين واطلقوا صيحة استغاثة الي بغداد ولکن أحداً لم يکترث لهم. [111] .

لقد کانت بغداد تتابع بقلق تحرکات القرامطة الذين يثيرون الرعب في کل مکان..

فقد فرّ أهل مکة الي الطائف عندما سمعوا بزحف «أبي طاهر القرمطي» اليها ولکن سرعان ما وصلت الاخبار أنه في طريقه الي العراق.. وان هدفه الاول سيکون الکوفة..

کتب الخليفة الي يوسف ابن أبي الساج الذي يرابط في مدينة واسط أن يتحرک بسرعة صوب الکوفة.. وأخبره بان اطنانا من المؤن بما في ذلک القمح والشعير بانتظاره.

ويشاء القدر أن تسقط هذه المؤن بيد أبي طاهر وعندما وصل الجيش العباسي في الثامن من شوّال وجد الطريق الي الکوفة قد سقط بايدي القرامطة.

کان الجيش العباسي يفوق قوّات القرامطة اضعافاً مضاعفة، ولذا شعر ابن الي الساج بالغرور وأمر باعداد کتاب الفتح قبل أن تبدأ العمليات الحربية؟

ونشبت المعرکة في ضحي يوم السبت 9 شوال واستمرت حتي الغروب، وقاد أبو طاهر هجوماً مدمّراً حطم فيه خطوط الجيش العباسي الذي انهار فجأة، ووقع يوسف في أسر القرامطة ووکل أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه.



[ صفحه 315]



وصلت فلول المنهزمين بغداد حفاة عراة وکان لمنظرهم المأساوي الاثر الرهيب في بث الرعب في المدينة واصدر «نازک» قائد الشرطة العام امراً بمنع التجول ليلاً ونفذ الاعدام بالمتخلفين.

وبدأ سکان بغداد يعدّون العدّة للفرار من المدينة الي همدان في ايران، فيما وصلت انباء مؤکدة ان القرامطة في طريقهم الي الانبار.

استدعي الخليفة القائد العسکري مؤنس المظفر لمواجهة القرامطة، فحرّک خمسمئة زورق مشحون بالجنود لصدّ القرامطة اذا حاولوا عبور نهر الفرات.

حرّک القائد قطعات من قواته الي الانبار لتعزيز دفاعات المدينة التي قام أهلها بقطع الجسر.

وعسکر القرامطة في الجانب الغربي من النهر، وفي عملية سريعة قام القرامطة بالافادة من السفن الموجودة في مدينة «حديثة» التي سقطت في ايديهم فعبر ثلاثمئة محارب الي الانبار وسرعان ما فرّ جنود الخليفة، فعقد الجسر مرّة أخري وعبرت قوّات القرامطة لتدخل الانبار دخول الفاتحين.

وفي غمرة الرعب الذي عمّ بغداد القي القبض علي رجل قرمطي اتهم بمراسلته لابي طاهر وتسريبه أخبار ومعلومات هامّة وسيق الرجل الي قصر رئاسة الوزراء حيث تم استجوابه.



[ صفحه 316]



ـ هل تقرّ بذلک؟

ـ نعم!

ـ لماذا؟

ـ لانني أري أبا طاهر علي الحق، وأنت وخليفتک کفار تأخذون ماليس لکم..

وسکت لحظات ليقول:

ـ ولابدّ لله من حجة في أرضه.. واءمامنا المهدي محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب!!

اننا لسنا کالرافضة ولا الاثني عشرية الذين يقولون بجهلهم اءن لهم اماماً ينتظرونه ويکذب بعضهم لبعض.. فيقول رأيته وسمعته وهو يقرأ.. ولا ينکرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطي من العمر ما يظنونه..

سکت رئيس الوزراء ثم قال:

ـ أنت تعرف أشياء کثيرة عن عسکرنا فمن فيهم علي مذهبک.

نظر الرجل وافتر عن ابتسامة ساخرة وقال:

ـ انت بهذا العقل تدير الوزارة.. کيف تظنني أسلّم قوماً مؤمنين الي قوم کافرين يقتلونهم؟ لن أفعل ذلک!!

شعر رئيس الوزراء بالغيظ لهذه الاهانة واصدر أوامر بتعذيبه



[ صفحه 317]



وعدم تقديم الطعام والشراب اليه فظل ثلاثة أيام ثم مات. [112] .

آه يا صاحب الزمان! يظنک الناس اسطورة وهماً وخيالاً والمؤمنين بک اغبياء وجهال!!

يالمحنتک يا سيدي يالشقاء أمّة لا تعرفک واللعنة علي أولئک الذين يسرقون اسمک ثم يعيثون في الارض الفساد..

اللعنة علي القرامطة وعلي دجلهم وهم يبايعون مهدياً زائفاً لا يهدي الي الحق..

أما أنت يا سيدي فما تزال شمسک وراء السحب.. [113] تبعث دفئک رغم رياح الزمهرير.. وترسل بصيصاً من النور حتي لا تغرق الارض في بحار الظلمات.. ولتقبي يا سيدي حلماً أخضر يراود خيال المقهورين.



[ صفحه 318]



«43»

عادت الحياة الطبيعية الي بغداد بعد أنباء مؤکدة عن انسحاب القرامطة من مدينة «هيت» وأعرب الخليفة المقتدر عن سخطه من الجيش الذي بلغت حشوده أثناء الازمة أکثر من ثمانين ألف جندي في عجزه أمام تقدم قوات القرامطة التي لم تبلغ الثلاثة آلاف محارب فقط!!

واستيقظت بغداد مذعورة في اءحدي الليالي علي حرائق في «الرصافة» و«مربعة الخرسي»..

کما شغب الفرسان بسبب تأخر مرتباتهم واقتحموا قصر الثريا وذبحوا ما فيه من حيوانات الغابة.

واسندت قيادة الجيش الي ابن خال الخليفة «هارون بن غريب» بعد وفاة نصر الحاجب کما القي القبض علي الوزير علي بن عيسي ليسند منصبه الي أبي علي المعروف ب «ابن مقلة».

وفي مطلع عام 316 فوجئت الکوفة باندلاع حرکة مؤيدة للقرامطة بقيادة رجل اسمه عيسي بن موسي وأعلنوا بيعتهم للمهدي الذي يحکم الشمال الافريقي وتأييدهم لابي طاهر الذي أعلن هو الا´خر تحالفه مع «المهدي».



[ صفحه 319]



وظهرت أعلامهم بيضاء کتبت عليها الا´ية الکريمة: (ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين). [114] .

وفي بغداد وقعت اشتباکات بين قوّات من الجيش ورجال الشرطة بسبب له دلالات أخلاقية مؤسفة!.

فقد بدأت الازمة بعد أن اشتبک ساسة خيل هارون بن غريب مع ساسة «نازک» قائد الشرطة حول غلام أمرد وتضاربوا بالعصي!

فقام نازک باعتقال ساسة خيل هارون الذي أرسل قوّة من جنوده لاقتحام السجن واطلاق سراح المعتقلين، ووقف الخليفة موقف المتفرج، الي أن انفجر الوضع باشتباکات واسعة سقط فيها الکثير من القتلي والجرحي.

وعمّت الشائعات حول تعيين هارون بن غريب حاکماً عسکرياً فاستفز ذلک القائد مؤنس الذي دفع بقوّاته الي بغداد ليرابط في الشماسية، وفسّر موقفه کتحدِّ للخليفة والتحاق نازک به مع مجاميع من رجاله وقدوم ابي الهيجاء من الموصل وما زاد الاوضاع سوءً تنامي الاستياء الشعبي من سياسة المقتدر الذي کان مع أمه وخدمه وحشمه يتلاعبون بمقدّرات البلاد، ولذا بدأت ظاهرة تسلل رهيبة تعم الجنود الذين راحوا يتدفقون علي معسکر «مؤنس» الذي سطر رسالة ضمنها استنکار الجيش لسياسة الخليفة



[ صفحه 320]



المالية وتدخل النساء والخدم في أمور الدولة وتلاعبهم بمقدارت البلاد، کما طالب بابعاد هارون بن غريب عن بغداد.

واستجاب الخليفة ووعدهم بأنه سيفعل کل ما في وسعه وسطر رسالة ضمنها توسّلاته وابقائه في منصبه.

وبدا أن الازمة سوف تنفرج خاصّة بعد مغادرة هارون بن غريب بغداد في 9 محرم 317ه واسناد قيادة الجيش الي ابن ياقوت.

وعندما دخل مؤنس بغداد بصحبة قائد الشرطة نازک وأبي الهيجاء بن حمدان وجدوا أن الشائعات قد عمّت بغداد في نية هؤلاء بخلع الخليفة المقتدر من الخلافة.. فتشاوروا وقرّروا الزحف نحو قصر الخلافة الذي سقط دون مقاومة تذکر وفرّ قائد الجيش بن ياقوت وابن مقلة رئيس الوزراء.

وتم اعتقال الخليفة ووالدته شغب وخالته ومحظياته وأولاده ونقلوا الي قصر «مؤنس».

کان هارون بن غريب في قطربل في نواحي بغداد عندما سمع بالانباء المثيرة فقرر العودة الي بغداد والاختفاء فيها.

ودمعت عينا الخليفة وهو يستمع الي وثيقة التنازل قبل أن يوقع عليها وتودع لدي القاضي أبي عمر.

وفي نفس اليوم تمت تسمية أخيه من أم أخري خليفة ومنح لقب «القاهر» الذي بدأ حکمه باطلاق الوزير السابق من



[ صفحه 321]



السجن واءعادته الي منصبه وبدأ الحکم الجديد في يوم السبت 15 محرّم 317ه نهب قصر المقتدر واستخرجت أموال مدفونة تعود ملکيتها لشغب بلغت 000 /600 دينار.

وتم تعيين «نازک» حاجباً في قصر الخليفة الجديد فأصدر أوامره الي حرس الشرف باخلاء القصر وکانوا فرقة من المشاة.

وفي صباح يوم الاثنين 17 محرم امتلات شواطيء دجلة بالناس کما اکتظت الشوارع الرئيسية بهم، وحضر حرس الشرف لترتيب موکب الدولة الجديد وکانوا منزعجين من ابعادهم من القصر ويطالبون بحق البيعة.

ولکن مؤنس لم يحضر ذلک اليوم أما نازک فقد کان سکراناً ثملاً لکثرة ما شرب من الخمر الليلة الفائتة..

وعلت زعقات جنود المشاة حتي تناهت الي مجلس الخليفة الذي شعر بالذعر وطلب من «نازک» معالجة الموقف..

کان نازک مخموراً جداً وعندما وقعت عيناه علي الجنود المسلّحين وتصور أنهم ينوون قتله لا تقديم الشکوي، فهرب منهم ولذا طمعوا في قتله فلحقوا به وحصروه عند باب کان قد سدّه أثناء الحرکة الانقلابية.

وبقتل «نازک» انفجر الوضع وانطلقت صيحات الجنود بعودة المقتدر الي الخلافة.

وفي اثناء الاشتباکات قتل أبو الهيجاء واعتقل القاهر،



[ صفحه 322]



وانطلق الجنود الي قصر مؤنس وطالبوا باطلاق الخليفة المقتدر الذي لم يصدّق ذلک في البداية وظن أنها حرکة لاغتياله وکان مؤنس من المعارضين لخلافة القاهر ولذا صفح عنه المقتدر، ونقل القاهر الي قصر السيدة شغب التي تناست موقفه الغادر وصفحت عنه.

ولم تکد بغداد تلتقط انفاسها بعد حتي انفجرت أزمة طائفية بين الحنابلة والشيعة حول تفسير قوله تعالي: (عسي أن يبعثک ربّک مقاماً محمودا).

اءذ قال ابو بکر الحنبلي واصحابه: ان الله سبحانه يقعد النبي صلي الله عليه و آله و سلم معه علي العرش.

أما الشيعة: انما هي الشفاعة.. لان الله لايحدْ مکان وليس بجسم حتي يجلس علي العرش ويجلس النبي معه..

ومازاد الامر خطورة اشتراک الجنود في هذه الفتنة واسفر الجدل الفکري الي اشتعال الاشتباکات وسقوط الکثير من القتلي والجرحي.

وفي سنة 318 کان المشاة وحرس الشرف قد شعروا بالغرور بسبب نجاح حرکتهم في اءعادة المقتدر الي الحکم، ولذا اثبتوا اسماء أولادهم حتي الرضع في سجلات الجيش واسماء معارفهم واصدقائهم مما ارهق خزانة الدولة بالنفقات.



[ صفحه 323]



وصادف أن شغب الفرسان وطالبوا بصرف مرتباتهم فقيل لهم ان الخزانة فارغة وأن الاموال ذهبت الي جيوب المشاة وانفجر الوضع بين الفرسان والمشاة وسقط بعض القتلي في صفوف الفرسان، فاستغل المقتدر الوضع وطلب من قائد الشرطة طرد المشاة من القصر بل ومن بغداد أيضاً والقبض علي المتخلفين.

وحدثت أزمة وزارية جديدة واقصي ابن مقلة وعين وزير جديد.

وفي سنة 319ه تدهورت العلاقات بين الخليفة ومؤنس الذي ما يزال يشغل منصب الحاکم العسکري.

وتزامن الوضع مع انحسار هيبة الدولة اثر انتصارات «مرداويج» في الاقاليم الايرانية خاصّة في الشمال.

ولم يمنع الخطر الذي يتهدد العاصمة من تفاقم المؤامرات التي عمقت هوّة الخلاف بين المقتدر ومؤنس حتي وصلت الي مرحلة القطيعة.. وانفجر الوضع باعلان مؤنس العصيان، واحتلال الموصل واصبح رمزاً للمعارضة المسلّحة وعمّ الحماس في الزحف صوب بغداد والقضاء علي الخليفة.

ولم يکن المقتدر في وضع يحسد عليه ولم يکن له جيش يعتمد عليه في المقاومة، وکانت فکرته اخلاء بغداد والانسحاب الي مدينة واسط وتعبئة جيش قوي من مجموع الاقاليم التي تخضع لنفوذه ولکن قائد الجيش ابن ياقوت اقنعه بالمواجهة، لان المتمرّدين لن يجرأوا علي محاربة الخليفة!



[ صفحه 324]



واصرّ قادة جيشه علي أن يتقدم الخليفة بنفسه لبدء الهجوم فاضطر الي الموافقة وقبل أن يصل الخليفة الي معسکر مؤنس فرّ جنوده وترکوه وحيداً فتناوشه جنود مؤنس فصاح:

ـ ويحکم أنا الخليفة!

فأجابوه:

ـ قد عرفناک يا سافل! أنت خليفة ابليس وسرعان ما هوي سيف علي رقبته ليسقط رأسه الکبير، وتسلب ثيابه حتي بقي مکشوف العورة؛ فمرّ به رجل وحفر له حفرة ودفنه فيها!

وتعرض قصر الخليفة للنهب حتي أصدر مؤنس أوامره بوقف النهب.

وأصبحت هيبة الدولة في خبرکان فقد أدي قتل المقتدر الي تأجج اطماع کافة الاقاليم البعيدة الي الاستقلال في الحکم.

وهکذا راح المقتدر ضحية سياسته الهوجاء في الحکم وبعد بعثر ما يبلغ من ثمانين مليون دينار في عبثه!!

ومرّة أخري انتخب القاهر للخلافة بالرغم من الحاح مؤنس علي انتخاب ابن المقتدر ووصفه بالصبي العاقل وأن فيه دين وکرم ووفاء بما يقول، ولکن النوبختي أبو يعقوب اسحاق بن اسماعيل رفض ذلک بشدّة واصرّ علي انتخاب خليفة قوي وکان بذلک يحفر قبره بيده فقد قتله القاهر بعد أسابيع.



[ صفحه 325]



وبدأ القاهر حکمه باعادة ابن مقلة الي الوزارة، ومصادرة أموال أخيه غير الشقيق کما حاول اجبار شغب أم المقتدر علي حلّ أوقافها فرفضت ذلک فأمر بتعذيبها وفرض الاقامة الجبرية علي احمد بن المقتدر فيما فرّ الا´خرون الي واسط ومنها الي ايران.



[ صفحه 326]



«44»

کانت خلافة القاهر عهداً للارهاب والرعب والاغتيالات السياسية.. وقد کان شرّيراً لا يمکن التکهن بمواقفه.. أمر بحفر خمسين زنزانة تحت الارض في قصره!

وبدأ يقضم الرؤوس الواحد بعد الا´خر فکان مؤنس هو الاول وتوفيت «شغب» متأثرة بالتعذيب الوحشي الذي تعرّضت له ووصلت القاهر أخبار حول محاولة انقلابية کان الوزير ابن المقلة أحد الضالعين بها، فاختفي عن الانظار قبل القبض عليه فصودرت أملاکه ثم اضرمت النار في قصره کما تعرضت للنهب املاک أقاربه.

وشعر جميع من أيد القاهر بالندم فلقد کان سکيراً شرّيراً أهوج. [115] .

وفي غمرة هذه الظروف تألق نجم بني بويه واتسم حکمهم بالعدل والتسامح فعظم نفوذهم، خاصّة بعد سقوط شيراز في قبضة عماد الدولة بن ويه.

وخلال تلک الفترة کانت بغداد مسرحاً رهيباً للدسائس والمؤامرات، ونشط الوزير الهارب ابن مقلة في بث دعاية مضادة



[ صفحه 327]



للقاهر، وکثرت اتصالاته بالقادة العسکريين ليلاً تارة في زي أعمي وتارة في زي مکدٍ وتارةً في زي امرأة [116] ويحرّضهم ضد الخليفة الاهوج.

وصادف وصول بغداد اسري من القرامطة فزجّهم الخليفة في الزنزانات الخمسين، ولکنه في الحقيقة کان يحاول استخدامهم ضد مناوئيه وخصومه.

وعندما أثارت خطوته شکوک الجيش أمر قائد الشرطة بنقلهم الي أحد القصور ورعايتهم فزادت شکوک خصومه وبدأت قطعات من الجيش بالتحالف سرّاً للاطاحة بالقاهر والقضاء علي حکمه.

ووصلت تقارير خطيرة الي الوزير الخصيبي تفيد بأن التحرک سيکون غداً فجر السادس من جمادي الاولي، وأرسل الوزير في منتصف الليل من يحيط الخليفة علماً ولکن الخليفة کان قد أفرط في السکر طوال الليل ولم يستطيع الحاجب اعلامه.

کانت نسائم نيسان [117] المنعشة تهب مفعمة بأريج دجلة الندي عندما زحف الجنود الغاضبون الي قصر القاهر واقتحموه من جميع الابواب..

وفرّ الخليفة الي سطح الحمام، وسرعان ما انهار فسلّم نفسه واقتيد مخفوراً الي الزنزانات فافرج عن السجين الذي کان فيها ورمي القاهر.



[ صفحه 328]



کما أفرج عن أحمد بن المقتدر وکان قد حبس مع والدته! وسلّم الجميع عليه بالخلافة وکان ذلک يوم الاربعاء 6 جمادي الاولي 322ه.

وتقرّر اسناد الوزارة الي ابن مقلة مرّة أخري، وأراد هارون بن غريب انتهاز الفرصة والعودة الي بغداد وعندما منع هدّد باستخدام القوّة وزحف بقوّاته من مدينة «دينور» الي «خانقين» العراقية، ثم واصل تقدمه حتي النهروان وبدأ يمارس أعماله التعسفية في اءدارة المناطق التي يحتلّها.

واصطدمت الجيوش التي يقودها محمد بن ياقوت بقوات هارون ودارت الدائرة علي قوات بغداد التي هزمت هزيمة ساحقة، ولکن القدر کان بالمرصاد لهارون الذي طمع في مطاردة فلول الهاربين فسقط من فوق فرسه، وتمکن أحد الجنود المطاردين من توجيه ضربات قاتلة له وعندما رفع رأسه عالياً تغير ميزان القوي بهزيمة الزاحفين.

وکان «الشلمغاني» ما يزال يواصل نشاطه التخريبي ووجد له اتباعاً من بينهم وزير سابق في خلافة المقتدر هو الحسين بن القاسم وشخصيات أخري من ذوي النفوذ خاصة بني بسطام.

وانبري ابن روح لمواجهة هذا الخطر وأحاط بني بسطام بانحراف الشلمغاني ولکن دون جدوي. [118] .



[ صفحه 329]



وکان الشلمغاني خبيثاً فقد أول لعنات ابن روح وقال اءنها تعني الابعاد فقط لانه اذاع أسراراً أُمر بکتمانها، وأعلن في أوساط الشيعة أنه مستعدٌّ للمباهلة..

فردّ ابن روح بأن الذي يموت قبل صاحبه فهو علي باطل، وفي شوّال 322ه اُلقي القبض علي الشلمغاني وتم توقيفه تمهيداً لمحاکمته.. وشکل الوزير مجلساً ضم زعماء الشيعة لم يحضره ابن روح وتم تداول النظر في قضية الشلمغاني.

وعندما رأي الشلمغاني اجماعاً عاماً ضده وتأييداً لابن روح الذي عمّم علي جميع الشيعة لعن الامام له صرخ متحدّياً:

ـ اجمعوا بيني وبينه حتي آخذ بيده ويأخذ بيدي فاءن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه، واءلاّ فجميع ما قاله فيّ حق!

وفي أثناء تفتيش منزله عثر علي کتب له تتضمن افکاراً خطيرة منها اءن اللاهوت قد حلّ فيه کما عثر علي مسائل من اتباعه تخاطبه بالالوهية، وعرفت من بين الرسائل رسالة من الحسين بن قاسم الوزير السابق الذي يقيم حالياً في الرقة. [119] .

والقي القبض علي أصحاب الرسائل وفيهم «ابن أبي عون» و«ابن عبدوس» وعقدت عدّة جلسات ضمت الفقهاء والقضاة وتمت ادانته باعتباره ملحداً يدّعي الالوهية خارجاً عن تعاليم الاسلام.

وعقدت جلسات المحاکمة في بلاط الخليفة الراضي واحضر المتهمين الا´خرين.



[ صفحه 330]



واعترف الشلمغاني بالرسائل وأنها کانت موجهة اليه، ولکنه أنکر مذهبه وادّعي الاسلام.. وانه لم يأمر أحداً أن يخاطبه بالربوبية. وطلب الخليفة من ابن أبي عون وابن عبدوس أن يصفعا الشلمغاني ورفض ابن عبدوس في البداية ولکنه اضطر الي أن يتقدم الي الشلمغاني ويصفعه، أما ابن ابي عون فقد مدّ يداً مرتجفة الي لحيته ورأسه وبدل أن يصفعه قبله قائلاً بعبودية وتذلل:

ـ الهي وسيدي ورازقي!

صرخ الراضي بالشلمغاني:

ـ قد زعمت أنک لا تدّعي الالوهية فما هذا؟!

قال الشلمغاني مکابراً:

ـ لم أکن قد أمرته بذلک.. الله يعلم انني ما قلت له انني اءله قط!

وتدخل ابن عبدوس قائلاً:

ـ انه لم يدّع الالوهية، وانما ادّعي أنه الباب الي الامام المنتظر مکان ابن روح... وکنت أظن انه يقول ذلک تقية! [120] .

وبعد مداولات طويلة ادين الشلمغاني نهائياً وحکم عليه بالموت صلباً مع ابن أبي عون ونفذ الحکم في ذي القعدة وأحرقت جثتيهما وذر رمادهما في دجلة.



[ صفحه 331]



وفي أواخر هذا الشهر نفذ حکم الاعدام بالوزير السابق الحسين بن القاسم في مدينة الرقة [121] وتنفست الطائفة الشيعية الصعداء.

وأرسل ابن روح مؤلفات الشلمغاني الي مدينة قم لتقويمها وتطهيرها من الافکار المنحرفة التي دسّها الشلمغاني بعد انحرافه. [122] .



[ صفحه 332]



«45»

الاحداث والوقائع تهز البلاد من اقصاها الي أقصاها واصبحت الارض الاسلامية نهباً للطامعين وذوي الطموح.

وفي غمرة هذه الفتن انفجر العنف الطائفي يؤجج ناره الحنابلة الذين رأوا أنفسهم أنهم يمثلون الشريعة الالهية! فراحوا يقتحمون المنازل ويحطّمون جرار النبيذ وينهالون بالضرب علي الجواري المغنيّات، ثم تدخلوا في عمليات البيع والشراء في الاسواق وتعرّضوا للمارّة والعابرين خاصّة لمن يمشي مع النسوة والصبيان فيتعرض للاستجواب حول العلاقة بينهم وبين النسوة التي معه فاذا أجاب واءلاّ يتعرّض للضرب والاعتقال! ويجد من يشهد عليهم أنهم اعتقلوا اثناء ارتکابهم الفاحشة!

وعمت الفوضي بغداد مما دفع بالخليفة الي اعلان حالة الطواريء ومنع اجتماع الحنابلة أو الجدل المذهبي، ولکن الحنابلة رفضوا الاستجابة واستظهروا بالعميان الذين يأوون الي المساجد فاءذا مرّ بهم شافعي حرّضوا العميان عليه فيضربونه بالعصي حتي الموت..



[ صفحه 333]



فصدر توقيع الخليفة الراضي شديد اللهجة هاجم فيه الحنابلة ونعي عليهم عقيدتهم في التشبيه وان الله علي صورة البشر جاء فيه:

«تارة انکم تزعمون ان صورة وجوهکم القبيحة السمجة علي مثال ربّ العالمين، وهيئتکم الرذلة علي هيئته، وتذکرون الکف والاصابع والرجلين والنعلين المذهّبين، والشعر القطط، والصعود الي السماء والنزول الي الدنيا.. تبارک الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً کبيراً..

ثم طعنکم علي خيار الائمة.. ونسبتکم شيعة آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم الي الکفر والضلال، ثم استدعاؤکم المسلمين الي الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وانکارکم زيارة قبور الائمة، وتشنيعکم علي زوّارها بالابتداع، وانتم مع ذلک تختمون علي زيارة قبر رجل من العوام [123] ليس بذي شرف ولا نسب، ولا سبب برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الانبياء وکرامات الاولياء.. فلعن الله شيطاناً زيّن لکم هذه المنکرات، وما أغواه».

ثم تضمن التوقيع تهديداً جادّاً بانزال اشدّ العقوبات بمن لايلزم حدوده. [124] .

وقد ترک توقيع الراضي انطباعاً طيباً لدي عامّة أهل بغداد خاصة الذين ينتسبون الي المذهب الشافعي أو شيعة آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم.



[ صفحه 334]



وفي نفس السنة ظهرت دولة جديدة في مصر هي الدولة الاخشيدية فيما انبعثت من جديد دولة الادارسة التي اندرست في سنة 311ه.

وفي عام 324 اسفرت المؤامرات والدسائس عن مصرع محمد بن ياقوت قائد الجيش، واسناد منصبه الي ابن رائق الذي اصبح الحاکم العسکري العام.

وفوجيء المسلمون باقران اسمه مع اسم الخليفة في الخطب المنبرية واعتبر هذا الاجراء مؤشراً علي ضعف الخلافة.

ومع دخول ابن رائق بغداد انتهي دور الوزارة وسلبت صلاحيات الوزير بانتقالها الي الحاکم العسکري أو أمير الامراء ولذا أقصي الوزير ابن مقلة وعين مکانه وزير لا يحلّ ولا يربط!

وشهد هذا العام تمزق البلاد الاسلامية بانفراد حکام الاقاليم واستقلالهم في الحکم، ولم يبق للخليفة منطقة نفوذ سوي بغداد وهي في قبضة ابن رائق!

فالبصرة في يد ابن رائق وخوزستان في يد «البريدي»، وفارس في قبضة عماد الدولة بن بويه، وکرمان تحت سيطرة محمد بن اءلياس، والري واصفهان ومناطق الشمال الايراني تحت قيادة رکن الدولة بن بويه والموصل وديار بکر وربيعة تحت اءدارة بني حمدان، ومصر والشام في قبضة ابن طغج، والشمال الافريقي



[ صفحه 335]



في سلطة القائم بأمر الله بن المهدي العلوي وهو الخليفة الثاني الذي لقب بأمير المؤمنين والاندلس تحت حکم الناصر واقليم خراسان وما وراء النهر تحت النفوذ الساماني وجرجان وطبرستان في يد سکانها من الديلم والبحرين واليمامة في قبضة القرامطة الذين اعلنوا تحالفهم مع الدولة المهدية.

وکان السفير ابن روح في خضم الاحداث العاصفة يقاتل علي جبهتين اتجاه الغلو الذي وصل مرحلة خطيرة علي يد الشلمغاني الذي نجح الي حدّ ما في اعتبار الانسان ربّا والهاً. [125] .

وموجة الفکر الحنبلي الذي لم يتورع من تشبيه الله بالانسان [126] والتي تزعمها «البربهاري» والذي لم يکتف اتباعه بالترويج لافکاره بل عمدوا تفجير فتنة طائفية رهيبة بحجة الامر بالمعروف والنهي عن المنکر لم تنته اءلاّ بعد ارتفاع اسعار المواد الغذائية بشکل جنوني واجتياح الوباء بغداد الذي حصد الکثير من الارواح. [127] .

وفي عام 325ه وصلت الخلافة العباسية أسوأ مراحلها بعد أن أصبح الخليفة مجرّد اسم.

وکانت الدولة الاسلامية تعيش حالة من الحرب الاهلية بين جيوش الحکام المستبدين في الحکم فقد أعلن البريدي حاکم اقليم الاهواز وخوزستان استقلاله فارسل ابن رائق القائد الترکي بجکم الذي کان قبل شهور مجرّد خادم في حکومة مرداويح حاکم الشمال الايراني.



[ صفحه 336]



واستطاع بحکم الحاق الهزيمة بالبريدي وما لبث ابن رائق أن تصالح مع البريدي فأثارت هذه الخطوة بجکم الذي قرر الزحف باتجاه بغداد.

ولم يکن بجکم ليتخذ مثل هذا القرار لو لم تصله رسالة من الوزير ابن مقلة الحانق بسبب سلبه صلاحياته ومصادرة أمواله وبقائه في الحکم وزيراً بلا وزارة..

فقد استطاع بعد دسائس من اقناع الراضي بارسال رسالة الي بجکم يعرض عليه منصب الحاکم العسکري العام وطرد ابن رائق.. ولکن الخليفة الخائف سرعان ما أطلع ابن رائق علي مساعي الوزير الذي اعتقل وقطعت يده اليمني والقي في سجن خاص.

ولکن بجکم کان قد قرّر الزحف واسقط لقبه الرائقي!

وفي موسم الحج هذا العام تعطل الحج من العراق بسبب الرعب من غارات القرامطة.

واطل عام 326ه ولاح هلال المحرم حزيناً کقارب وسط غيوم تشرين الثاني من عام 927م وکان الجفاف ما يزال ضارباً اطنابه ولم تکن الغيوم التي تظهر في السماء لتبشر بموسم مطر يعيد الي الارض الموات بهجة الحقول.

وکانت شمس الحضارة الاسلامية تتجه بسرعة نحو المغيب، فقد اصبحت الارض الاسلامية مسرحاً لحروب دامية واصبحت کرامة الانسان أرخص شيء في الحياة.



[ صفحه 337]



وفي بغداد لم يعد هناک من يأبه الي تمثال الفارس برمحه الطويل الذي يشير باستمرار الي جهة من الجهات وکان البعض يظنّ انه يشير الي المناطق التي تشتعل فيها الحروب والقلاقل والفتن..

لقد عمّ الخراب الوطن الاسلامي المترامي الاطراف، والتهبت حمّي الاطماع والشهوات ولم يعد أحد لينصت الي صوت العقل الذي عصفت بأنواره زوابع الزمهرير القادم والرياح الصفراء.

وفي شعبان تدهورت صحة الشيخ ابن روح الذي أطلع المقرّبين اءليه علي توقيع صدر من الامام المهدي يقضي باسناد منصب السفارة الي رجل مؤمن يدعي «أبو الحسن علي بن محمد السمري» الذي لم يکد يباشر نشاطه في قيادة الطائفة الشيعية حتي وصلت انباء الزحف الذي يقوده بجکم لاحتلال بغداد.

وفي مثل هذه الاجواء يعيش سکان بغداد موجة من الهلع لان هناک آلاف اللصوص والعيّارين ممن ينتظرون اختلال الامن للنهب والسلب والسطو علي المنازل.

وقد حاول ابن رائق المتنفذ في بغداد وقف الزحف بالضغط علي الخليفة وکتابة رسالة يأمره فيها بالعودة الي واسط فلم يکترث لذلک وطوح بجکم بالرسالة بعيداً لتضيع بين سنابک الخيل وواصل بجکم تقدمه حتي وصل الضفاف الشرقية لنهر ديالي،



[ صفحه 338]



وکانت القوّات التي حشدها ابن رائق ترابط عند الشواطيء الغربية وأدرک ابن رائق أنه سيغامر بحرب خاسرة ولذا ما اءن شاهد جنود بجکم يقتحمون النهر حتي أشار الي جنوده بالفرار والانسحاب الي «عکبرا» ريثما تسنح الفرصة للانقضاض علي بغداد مرّة أخري.



[ صفحه 339]



«46»

في مطلع عام 327 زحف الراضي وبجکم ومعهما رئيس سلطة القضاء باتجاه الموصل وديار ربيعة التي يحکمها يومئذ ناصر الدولة الحمداني الذي کان يخطط للمزيد من الاستقلال في الحکم.

توقف الراضي في «تکريت» فيما واصل بجکم تقدمه نحو الموصل واشتبک مع قوّات الحمدانيين التي هزمت ودخل بجکم الموصل ظافراً.

وفي هذه الفترة کان ابن رائق يعزز من اتصالاته بالقرامطة المرافقين للخليفة والذين عادوا الي بغداد. وبعودتهم ظهر ابن رائق من مخبئه واستولي علي بغداد لکنه لم يقم بأي اجراء انتقامي ولم يقترب من قصر الخليفة.

وعندما وصلت الانباء الي الخليفة الذي أطلع بجکم بدوره انتابت الهواجس الحاکم العسکري العام ووقع في مأزق لا يدري ماذا يفعل؟ وشاء القدر أن يطلب الحمدانيون الصلح والتعهد بارسال مبلغ 000/ 500 درهم ورحب بجکم بالعرض وتم الصلح



[ صفحه 340]



وقفل الخليفة وبجکم نحو بغداد ووصلت رسالة من ابن رائق يطلب الصلح وانهاء الازمة طالباً تعيينه حاکما علي بعض الاقاليم مقابل اخلائه بغداد وتم الصلح علي الشروط.

وفي 15 شعبان من هذا العام المليء بالحوادث شهدت بغداد فتنة طائفية کان الحنابلة بتوجيه البربهاري أبطالها أيضاً فقد شنّوا حملات مسعورة علي المسلمين الشيعة والمذاهب الاخري بمناسبة احيائهم ذکري تحوّل القبلة من المسجد الاقصي الي المسجد الحرام.

وتدخلت الشرطة قبل أن يتفاقم الوضع وأصدر قائد الشرطة أمراً بالقاء القبض علي البربهاري واعتبر مسؤولاً عما وقع من حوادث فاختفي عن الانظار. [128] .

وفي 328ه کانت الارض الاسلامية تئن تحت وقع سنابک خيل مجنونة تتراکض هنا وهناک.

فقد سقطت جرجان تحت حوافر خيل هجمت من نيسابور بينما زحف رکن الدولة بقواته باتجاه واسط جنوب بغداد فيما دخلت قوّاته اصفهان.

وفي غمرة الاحداث المثيرة کانت جيوش بجکم تزحف باتجاه غابات الشمال الايراني حيث مناطق الديلم وذلک بتشجيع أبي عبدالله البريدي الذي قدم له ابنته زوجة واصبح صهره، فيما کان يخطط في الخفاء علي ابعاد بجکم عن بغداد للانقضاض عليها.



[ صفحه 341]



واکتشف بجکم الخطة فانکفأ نحو واسط وفرّ البريدي نحو البصرة.

ولم يکتف ابن رائق في الشام بما استولي عليه من المدن فقرّر الزحف نحو مصر وانتزاعها من الاخشيد. ولکن قوّاته وقعت في کمين.. ثم تصالح الفريقان بعد معرکة أخري واتفقا علي تقسيم مناطق النفوذ.

وفي بغداد اغتيل في ظروف غامضة الزعيم والعالم الشيعي محمد بن علي الکليني [129] مؤلف کتاب الکافي الذي يضم بين دفتيه ستة عشر ألف حديث مسند الي أئمة أهل البيت عليهم السلام کما توفي رئيس سلطة القضاء القاضي عمر بن محمد بن يوسف.

کما توفي في سجنه الوزير ابن مقلة الذي قطع لسانه بعد قطع يده کما توفي بالسکتة الوزير ابو العباس الخصيبي ولعلّ السبب يعود الي ادمانه الخمر وسکره الدائم وتوفي أيضاً وزير رکن الدولة البويهي أبو عبدالله القمي، فاسند منصبه الي ابن العميد.

وتمرّ الايام کئيبة.. وفيما کان القادة العسکريين يتخطفون مقدرات الامة الاسلامية الثرية.. کان سکان بغداد يعانون من أسوأ الظروف المعاشية فقد ارتفعت الاسعار بشکل لم يسبق له مثيل، وظهرت مؤشرات خطيرة تنذر بالقحط وقد حبست السماء غيثها منذ شهور طويلة.



[ صفحه 342]



نحن الا´ن في مطلع سنة 329ه تشرين الثاني 940م، وکانت الغيوم الخريفية ما انفکت تتحشد في السماء ثم تتبدد فتبدّد معها آمال الناس بموسم خصب جديد.. يعيد للارض الخراب بهجتها وللاسواق ازدهارها ورخاءها.

وفي منتصف ربيع الاول وفيما کان الخريف يلملم أيامه الاخيرة تلقي أهل بغداد بوجوم عابر نبأ وفاة الخليفة الراضي فلم يعد للخلفاء من اهمّية في ظل الحکام العسکريين..

وظلّت الدولة الاسلامية دون خليفة ريثما يفصل في هذه القضية بجکم في واسط والذي أرسل کاتبه الکوفي الي بغداد وفرضت حراسة مشدّدة علي قصر الخلافة!!

وشکل الکوفي مجلساً استشارياً للبت في ترشيح الخليفة القادم واستدعيت وربما لاول مرّة شخصيات من العلويين.. وتردد اسم ابراهيم بن المقتدر، وعندما وافق بجکم علي هذا الترشيح تسنّم الخليفة الجديد منصبه بشکل رسمي في العشرين من ربيع الاول واختار من بين الالقاب التي عرضت عليه لقب «المتقي» ولم يکن له من الخلافة سوي الاسم وبلغ من استضعاف بجکم له أن أمر بنقل بعض أثاث قصر الخلافة الي قصره.

وفي شهر رجب اغتيل بجکم في رحلة صيد في المناطق بين الاهواز وواسط أثناء عودته اليها وقد اغتاله بعض شبان الاکراد بعد أن أغار علي مضاربهم.



[ صفحه 343]



وانتهز البريدي الفرصة وراح يفکّر بالاستيلاء علي بغداد التي تعاني من الجوع فيما کان الحنابلة المتعصبون يهاجمون مسجداً للشيعة في حي «براثا» بالکرخ، کما هاجموا حيّ الصيارفة، فاضطر الخليفة الي اعتقال عدد من الحنابلة وأن يشدّد الحراسة عليٍ مسجد «براثا» ولم تهدأ الفتن الطائفية اءلاّ بعد وفاة البربهاري زعيم الحنابلة في محل اختفائه لکنه خلّف لاتباعه منهج العنف في التعامل مع المذاهب الاسلامية! [130] .

وفي منزل السفير الرابع علي بن محمد السمري حضر بعض زعامات ومشايخ الشيعة وکان بينهم رجال قدموا من مدينة قم فسأل السمري أحدهم عن الشيخ ابن بابويه القمي [131] بعد أن وردت انباء عن اصابته بوعکة صحية فقال الرجل:

ـ ترکته في فراش المرض وکان هذا آخر عهدي به.. ولکن البريد الذي وصل قبل يومين يقول انه قد استقل من مرضه.

وبعد أيام فوجيءالذين حضروا مجلس السفير بقوله دون مقدمات:

ـ آجرکم الله في علي بن الحسين فقد قُبض في هذه الساعة.

سارع أحدهم فأخرج دفتراً وقلماً وسجل التاريخ الساعة، اليوم، والشهر.

ومرّ اکثر من اسبوعين عندما وصل البريد يفيد بوفاة الشيخ



[ صفحه 344]



ابن بابويه في نفس الوقت الذي أشار اليه السفير علي بن محمد السمري. [132] .

وکان لهذه الواقعة اثراً طيباً في تعزيز ثقة الطائفة الشيعية بالسمري سفير الامام ودليلاً علي أن المهدي ما يزال يعيش بين ظهرانيهم وقد آتاه الله من الحجج مثلما آتي جدّه الذي منحه اسمه وکنيته ومهمة حمل الامانة في تطبيق شريعته في واقع الحياة.

لم تعد بغداد مدينة للسلام بعد عنف الحوادث التي باتت تعصف بالارض الاسلامية خاصة العراق الذي استحال الي مسرح للحروب المستمرة وکانت عيون الطامعين تتطلع الي الاستيلاء علي عاصمة الدولة الاسلامية..

ان شمس الحضارة الاسلامية تؤذن بالافول.. وبغداد غارقة في الفتن والمؤامرات والاطماع.. وفي حمأة الغرائز البشرية وحمّي الشهوات..

حتي الطبيعة کانت هي الاخري انعکست عليها آثار هذا الانحطاط الحضاري عندما لم يعد هناک من يصغي الي صوت العقل والضمير الانساني.

ففي ليلة غادر سماءها القمر ذهل سکان بغداد لمنظر الشهب التي بدأت تنقض منذ المساء وظلت تنهمر بلا انقطاع حتي مطلع الفجر. [133] .



[ صفحه 345]



«47»

في 9 شعبان عام 329ه تلقي الشيعة نبأ هامّاً سيکون له الاثر الاکبر في مستقبلهم..

ففي أصيل ذلک اليوم استدعي السفير الرابع علي بن محمد السمري عدداً من الشخصيات الامامية واطلعهم علي توقيع خطير صدر عن الامام المهدي جاء فيه:

ـ «بسم الله الرحمن الرحيم

يا علي بن محمد السمري!

أعظم الله أجر اخوانک فيک.. فاءنک ميت ما بينک وبين ستّة أيام..

فاجمع أمرک.. ولا توص الي أحد، فيقوم مقامک بعد وفاتک..

فقد وقعت الغيبة التامّة.. فلا ظهور اءلاّ بعد اءذن الله تعالي ذکره..

وذلک بعد طول الامد،

وقسوة القلوب

وامتلاء الارض جورا..

وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهده!



[ صفحه 346]



ألا فمن ادّعي المشاهدة قبل خروج السفياني، والصيحة فهو کذّاب مفتر..

ولا حول ولاقوّة اءلاّ بالله العليّ العظيم». [134] .

وتلقي الحضور النبأ بوجوم ثم مالبثوا أن استنسخوا التوقيع.

ستة أيام فقط وينقطع الحبل الذي يربط سفينة الشيعة بالربان العظيم الذي يحاول هدايتها الي شاطيء السلام..

لقد ترک لهم قيادة السفينة وسط أمواج الحياة المتلاطمة بعد أن دخل دائرة الحلم الاخضر..

عليهم أن ينهضوا بالعبء وحدهم.. أن يرتفعوا الي مستوي المسؤولية في التمهيد الي لحظة الحضور والظهور..

فالمهدي لم يختف عن الانظار اءلاّ لانه عاش في زمن رهيب.. زمن يصلب الانبياء.. ورياح الزمهرير ما تزال تهب مجنونة وتقضي علي الفراشات القادمة من أجل الربيع.

وها هو الا´ن يقرّر الاختفاء نهائياً بعد أن استحال الي أمل دافيء وغدٍ مشرق ينتظره المعذَّبون في الارض..

سوف يعود عندما تضج الارض من الا´ثام.. وتمتلا بالشرور..

ويتطلّع الناس الي القادم الاخضر..

وتمرّ الايام حزينة کقطيع من النعاج يساق الي الذبح وأطل يوم 15 شعبان..

کان منزل علي بن محمد السمري آخر سفراء المهدي تغمره حالة من الوجوم..



[ صفحه 347]



الشيخ الراقد في فراشه تتلاحق انفاسه لکأنه يقطع صحراء خالية..

والسماء تنث مطراً خفيفاً بحجم الدموع التي ذرفها المصلّون في صلاة الاستسقاء! [135] .

انتابت بعضهم هواجس خائفة.. عندما يغمض الشيخ عينيه فان لحظة الانفصال بالمهدي تکون قد أَزفت.. ان الزمهرير القادم سيکون رهيباً.. والشمس سوف تتکاثف الغيوم فوقها أکثر فأکثر..

لکأن الجوّ کان مکهرباً أن الهواجس تسري الي الجميع وسمع أحدهم يقول للشيخ المحتضر:

ـ الي من توصي بعدک؟

أجاب الشيخ بحزن:

ـ لله أمر هو بالغه!

وکانت هذه الکلمات هي آخر الکلمات لان عيناه کانتا تنظران عبر الباب المشرعة الي الافق البعيد.. وکانت قطرات المطر ما تزال تساقط علي هون.. لکأن السماء تبکي..

وفي موکب التشييع تبادل البعض نفس الحديث حول اقتراب قوّات «البريدي» من بغداد...

سوف تستحيل المدينة مرّة أخري الي ميدان للنهب والسلب والفوضي.. لقد غادر السلام مدينة السلام..



[ صفحه 348]



ولم تکد تمرّ سوي أيام حتي أضحت السماء مسرحاً لتراکم السحب الکابية وبدا الجو مشحوناً بآلاف الصواعق وکانت الغيوم تتشکل تلالاً وجبالاً، وضاعت البحيرات الزرقاء من السماء الصافية..

فجأة اشتعلت البروق.. ودوّت الرعود وانهمر المطر غاضباً لکأنه عزم علي اغراق هذه المدينة..

وفي غمرة المشهد الثائر.. کان هناک رجل يبدو في الاربعين من عمره يشقّ طريقه في الدروب المقفرة اءلاّ من المطر...

ولو أنصت اولئک المقهورون في تلک اللحظات الزاخرة بالرهبة لسمعوا کلمات تقول:

ـ ولدت في زمن يصلب الانبياء.. ولهيبه يحرق الفراشات

فغبت.. انني مثلکم انتظر لحظة الظهور.

أجوس خلال الديار..

أرافق الزمان..

انني الوجه الاخضر من التاريخ

ستندثر کل صفحات التاريخ الصفراء..

وستبقي صفحتي مشرقة..

خضراء بلون الربيع..

بلون الحياة..

بلون جنّات الفردوس..

أنا مستقبل الانسان..



[ صفحه 349]



أنا الشمس القادمة من قلب السحب الجليد..

والدفء بعد ليالي الزمهرير..

لا تحاصروني بالاساطير.. أنا حيّ بينکم.. أشهد جراحکم..

أبکي لعذاباتکم.. أتألم لضياعکم..

تعالوا اليّ؟!

لا´تي اليکم..

ما يزال الرجل آخذاً سمته نحو الافق المدلهم البعيد.. وقد ظهرت بغداد خلفه في مهب عاصفة رعدية ثائرة.. السماء تشتعل بالبروق.. وضربت صاعقة مدمّرة القبّة الخضراء، فهوي الفارس الاخضر الذي يتربع عليها منذ سنة 145ه. [136] .

فيما اجتاحت مياه دجلة لتجتاز الشطآن الغارقة متجهة نحو الازقة والشوارع التي استحالت الي أنهار غاضبة..

أما البيوت فقد بدت زوارق تائهة.. فيما کان المطر ينهمر بغزارة والرعود تجلجل في الفضاء اللانهائي..

وقد غابت الشمس وراء السحب.

النهاية..

9 محرم الحرام 1421


پاورقي

[1] کان يعمل في منزل الامام الحسن الذي حمّله مجموعة رسائل هامّة الي المدائنوأن يأتي بأجوبتها الي من سيطالبه بها.

کمال الدين: 2/ 475 ط طهران 1395.

[2] الغيبة للطوسي: 215.

[3] المصدر السابق: 216.

[4] حاجز الوشاء کمال الدين: 2/ 475.

[5] الارشاد: 383.

[6] دائرة المعارف للبستاني: 7/ 45.

[7] الفصول للمفيد: 360.

[8] الامام المهدي من المهد الي الظهور: 190.

[9] اشارة الي حکايات ألف ليلة وليلة.

[10] الارشاد للمفيد: 320.

[11] الغيبة الصغري: 309.

[12] المصدر السابق.

[13] المصدر نفسه: 314.

[14] المصدر نفسه: 398.

[15] کمال الدين: 2/ 482 ح45.

[16] الغيبة للطوسي: 164، الغيبة الصغري: 542.

[17] تاريخ الطبري الحوادث بين سنة 261 ـ 263ه.

[18] المصدر السابق.. وسوف نجد «رشيق» هذا يعمل في جهاز المعتضد وسيکلّفهالاخير بمهمة اغتيال الامام المهدي في منزله بسامراء.

الامام المهدي من المهد الي الظهور: 233، الغيبة للطوسي: 249.

[19] الغيبة الصغري: 239.

[20] الغيبة للشيخ الطوسي: 219 ط. طهران 1398ه.

[21] الارشاد: 330، اعلام الوري: 396.

[22] يوم الخلاص: 165.

[23] يعني والده الراحل.

[24] البحار: 51/ 349، الغيبة للطوسي: 219، يوم الخلاص: 168.

[25] المصادر السابقة.

[26] الخليفة المعتضد منذ سنة 279 عام تسنمه الحکم.

[27] رشيق غلام المعتضد الذي سيقوم في سنة 280ه بمهمة اغتيال الامام المهديفي سامراء.

[28] يصادف ذو الحجة من سنة 268ه حزيران عام 882م.

[29] البحار: 13/ 123.

[30] تاريخ الطبري: حوادث سنة 269.

[31] الامام المهدي من المهد الي الظهور: 214.

[32] رجال الکشي: 450 ط. النجف.

وکان ابن هلال قد اعترف بسفارة عثمان بن سعيد وانکر سفارة ابنه محمد بنعثمان بحجة انه لم يسمع نصا بالوکالة له.

غيبة الشيخ الطوسي: 245.

[33] الغيبة الصغري: 507.

[34] المصدر السابق: 504 ـ 506.

[35] ابن الاثير: 6/ 61.

[36] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 230.

[37] المصدر السابق: 236.

[38] الطبري حوادث سنة 276ه.

[39] المصدر السابق حوادث سنة 278ه.

[40] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 261.

[41] تاريخ بغداد: 4/ 60، تاريخ الخلفاء: 265.

[42] مروج الذهب: 247 ط. موسسة الاعلمي بيروت.

[43] انفق علي بناء قصر «الثريا» 000/ 400 دينار «المصدر السابق».

[44] المصدر نفسه.

[45] المصدر نفسه.

[46] الغيبة للشيخ الطوسي: 171، الغيبة الصغري: 596.

[47] الغيبة الصغري: 629.

[48] اعلام الوري: 421.

[49] الغيبة الصغري: 629.

[50] الامام المهدي من المهد الي الظهور: 235.

[51] يمکن مراجعة الفصول الاولي من رواية: «تراتيل في زمن الذئاب» التي تشتمل علي تفاصيل في کيفية بناء سامراء.

[52] صحيح مسلم: باب الايمان ـ باب نزول عيسي بن مريم: 2/ 500، مسند أحمد:2/ 336 ط. مصر 1312ه.

[53] الغيبة الصغري: 557.

[54] بحار الانوار: 52/ 52 ـ 53.

[55] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 272.

[56] المصدر السابق.

[57] يعقوب بن يوسف الضرّاب الغساني / الغيبة للطوسي ط قم مؤسسة المعارفالاسلامية.

[58] يصادف ذو الحجة الحرام سنة 281ه شباط 894م.

احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 272.

[59] تاريخ الطبري حوادث سنة 281ه.

[60] تاريخ الطبري: 10/ 40 ط دار التراث العربي بيروت.

[61] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 275.

[62] المصدر السابق.

[63] تاريخ الطبري: 10/ 42.

[64] الغيبة للشيخ الطوسي: 284، البحار: 51/ 312 ح36.

[65] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 282.

[66] المصدر السابق: 2/ 279.

[67] الطبري: 10/ 46.

[68] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 280.

[69] مروج الذهب: 4/ 277.

[70] المصدر السابق.

[71] المصدر نفسه.

[72] المصدر نفسه: 4/ 267.

[73] تاريخ الطبري: 10/ 67 حوادث سنة 285ه.

[74] الغيبة الصغري: 574، بحار الانوار: 13/ 112، ينابيع المودّة: 464.

[75] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 315.

[76] الطبري / حوادث سنة 289ه.

[77] أحداث التاريخ الاسلامي: 2/ 335.

[78] في عام 293 أغار الروم علي مدينة حلب وأحرقوا جامعها.

المصدر السابق: 2/ 350.

[79] الغيبة للشيخ الطوسي: 259 ح227.

[80] المصدر السابق: 256 ح224.

[81] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 357 وقد لقي زکرويه هذا حتفه في معرکة معجيش الخلافة.

[82] تاريخ ابن الوردي: 1/ 372 ط دار المعرفة بيروت.

[83] المصدر السابق: 1/ 373.

[84] المصدر نفسه.

[85] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 409.

[86] المصدر نفسه.

[87] الغيبة الصغري: 529.

[88] تاريخ الطبري: 10/ 151 ط. دار التراث بيروت.

[89] الغيبة الصغري: 407 بالاستناد الي غيبة الشيخ الطوسي: 224.

[90] يعرف اليوم ب «جامع الخلاّني».

[91] الغيبة للشيخ الطوسي: 227.

[92] المصدر السابق: 369 ط مؤسسة المعارف الاسلامية.

[93] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 425.

[94] المصدر السابق: 2/ 434 ـ 436.

[95] يؤکد البعض صدور توقيع من الامام المهدي بلعنه / روضات الجنّات: 3/ 144ط اسماعيليان ـ ايران.

[96] الورّاق: الذي يقوم بعملية استنساخ الکتب، وللورّاقين سوق کبري في بغدادآنذاک.

[97] روضات الجنّات: 148 ـ 149 بالاستناد الي وفيات الاعيان: 1/ 405.

[98] تاريخ ابن الاثير: 8/ 294 ط دار صادر بيروت.

[99] المصدر السابق.

[100] المصدر نفسه: 8/ 292.

[101] الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 2/ 474 ط بيروت 1401.

[102] ندانم (فارسية): لا أعرف.

[103] ابن الاثير: 8/ 155.

[104] الغيبة للشيخ الطوسي: 386، البحار: 51/ 357.

[105] الغيبة الصغري: 411.

[106] الغيبة للطوسي: 384.

[107] المصدر السابق: 385.

[108] المصدر نفسه: 388، البحار: 43/ 37، مناقب ابن شهراشوب: 3/ 323.

[109] قام الخليفة المقتدر بحوالي 30 عملية تغيير في الوزارة کان مصير بعض الوزراءالقتل والسجن والمصادرة، ولم يمکث أي وزير في عمله حولين کاملين!!راجع أحداث التاريخ الاسلامي منذ سنة 289 وحتي مصرع الخليفة.

[110] ابن الاثير: 8/ 167.

[111] المصدر السابق: 8/ 171.

[112] المصدر نفسه: 8/ 174.

[113] يقول المهدي المنتظر: «وامّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فکالانتفاع بالشمس اءذاغيبتها عن الابصار السحب».

کمال الدين: 2/ 483 ـ 485.

[114] ابن الاثير: 8/ 187.

[115] المصدر السابق: 8/ 256.

[116] المصدر نفسه: 8/ 279.

[117] وقعت الحرکة الانقلابية في 6 جمادي الاولي 322ه نيسان 934م.

[118] الامام المهدي من المهد الي الظهور.

[119] ابن الاثير: 8/ 294.

[120] ابن الاثير: 8/ 291.

[121] المصدر السابق: 8/ 294.

[122] الغيبة الصغري: 390، البحار: 51/ 358.

[123] من المحتمل أن الخليفة کان يقصد «المروزي أبا بکر المتوفي سنة 275ه وکان من مريدي أحمد بن حنبل».

[124] ابن الاثير: 8/ 308.

[125] المصدر السابق: 8/ 292 ـ 294.

[126] المصدر نفسه: 8/ 307 ـ 308.

[127] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 532.

[128] المصدر السابق: 2/ 557.

[129] ابن الاثير: 8/ 364.

[130] احداث التاريخ الاسلامي: 2/ 558.

[131] علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي أبو الحسن.. من شيوخ الشيعة الامامية في عصره؛ ولد في قم وتوفي فيها من مؤلفاته کتاب «التوحيد»،«الامامة» و«التفسير» وله رسالة في الشرائع.

[132] الغيبة للشيخ الطوسي: 356.

[133] المنتظم: 349، رجال النجاشي: 626، 684.

[134] الغيبة للطوسي: 395.

[135] اقيمت صلاة الاستسقاء في بغداد سنة 329 وهطل مطر قليل «لم يجر منه ميزاب»ابن الاثير: 8/ 377.

[136] تاريخ بغداد: 1/ 73 ط المکتبة السلفية.