بازگشت

مولد الشمس


«13»

أطل عام 255ه فيما کان الخريف يلملم أيامه الاخيرة ويرحل تارکاً بعض أوراق الاشجار لرياح کانون الثاني من عام 869م.

التوتر يسود سامراء والتطاحن بين القادة الاتراک يسحق الکثيرين وقصور الخلافة تضجّ بالفساد وتئنّ من النهب، وقد کشرّت طغمة الاربعة عن أنياب ينزّ منها الصديد..

وبدا واضحاً ان «قبيحة» تقود دفّة الحکم مسکونة بالجشع وحمّي تکديس الذهب والجواهر... ومازاد الطين بلّة وجود أفراد نصاري حاقدين تظاهر بعضهم بالاسلام أو ظلّ مصّراً علي ديانته وهم يحتلّون مناصب الدولة العليا.. في ظل سياسة المتوکل.

رئيس الوزراء الا´ن ابن اسرائيل وابن مخلّد وزير وکان کاتباً لقبيحة أم الخليفة نصراني اعتنق الاءسلام لاطماع خاصّة وأبو نوح عيسي بن اءبراهيم نصراني ظلّ مصّراً علي ديانته ويشغل منصباً حساساً في البلاط فهو الکاتب الاول وله علاقة وطيدة مع المتوکّل خرجت عن اءطار علاقة السيد بأحد عبيده ومماليکه.

باتت سامراء مدينة تعيش علي فوهة برکان قد ينفجر بين ساعة وأخري..



[ صفحه 100]



انباء القلاقل في شرق ايران وشمالها تثير هواجس الحکام.. فالصفّار ما يزال يواصل تقدّمه باتجاه مدن جديدة وهو الا´ن في طريقه الي کرمان، [1] والحسن زيد الثائر العلوي يبسط نفوذه علي مساحات شاسعة من مقاطعات الدولة وما يزال يشکل تهديداً بالرغم من هزيمة قوّاته وانسحابها أمام قوّات «موسي بن بغا».

أما القادمون من البصرة فيتحدّثون عن ظهور رجل يدّعي الانتساب اءلي «أهل البيت» ويسعي اءلي تحريض الزنوج علي الثورة وان أمره قد استفحل وقد تشتعل نار الثورة لانّ الزنوج هناک يعيشون ظروفاً شاقة جدّاً.

واضافة اءلي کل ذلک فلم يکن قصر الخلافة ليغفل عن الهاجس العلوي خاصّة وان اغتيال الامام علي الهادي لم يشتت شمل الشيعة الذين بلغ عددهم الملايين فقد نهض بالامر بعده ابنه الحسن الذي يشبهه خلقاً وخُلقاً وسيرة لکأن الهادي ما يزال يعيش ويمارس دوره في قيادة الملايين التي لا تؤمن اءلاّ بامامته ولاتدين بالولاء لاحد غيره.

أما الوضع مع دولة الروم فقد توقفت الاشتباکات وهدأت جبهات الصراع هدوءً نسبياً منذ مصرع الامبراطوار ميخائيل الثالث في انقلاب عسکري قاده القائد المقدوني باسيل وبسقوط ميخائيل الثالث انتهي حکم الاسرة العمورية وبدأ عهد الاسرة المقدونية، سنة 253ه 867م. [2] .



[ صفحه 101]



وفي تلک الظروف العاصفة وصلت الفتاة مليکا بغداد وتسمت باسم نرجس امعاناً في اخفاء هويّتها.. فهل کانت أميرةً من أميرات الاسرة العمورية التي انتهي حکمها بعد الانقلاب العسکري؟ أن المؤشرات التاريخية والجوّ العام لتلک الحقبة العاصفة يؤکد وجود قدر ما ساق تلک الفتاة لتکون زوجة لانسان کامل وأمّاً لامل الملايين.. ملايين المعذّبين والمقهورين..

کان شتاء سنة 255ه قارس البرد، والرياح الشمالية تکاد تهتف بغزارة الثلوج التي غمرت الجبال والمرتفعات، والاوضاع في سامراء تنذر بالخطر..

ولم تکن معاناة الامام الحسن لتقتصر علي مضايقات المراقبة المکثفة الي حدّ الحصار وانما تتعدّاها الي مؤشرات کثيرة تفيد عن عزم الطغمة الحاکمة علي اغتياله خاصّة بعد تأکد الانباء عن وجود استعدادات لثورة خطيرة في جنوب العراق وقلاقل في الکوفة التي بدأت تتململ من حکم بريحة العباسي الذي اختير بعناية لقمع أي تحرک علوي وشيعي، فبريحة حاکم عريق في الاجرام منذ تعيينه حاکماً علي المدينة المنورة في عهد المتوکل وهو أول من حرّض المتوکل سنة 233ه علي اعتقال الامام علي الهادي. [3] .



[ صفحه 102]



انطوي الشتاء والاوضاع في سامراء تزداد تدهوراً بسبب الاضطرابات والقلاقل وتسلّط الطغمة الفاسدة علي مقدّرات البلاد وافلاس خزانة الدولة التي اصبحت نهباً مستباحاً لام الخليفة وأعوانها السائرين في سياستها وظهرت بوادر الاستياء في صفوف القوّات المسلّحة بسبب عجز البلاط عن تسديد مرتبات الجنود والضباط الصغار فيما کان رئيس الوزراء ابن اءسرائيل وأبونوح وابن مخلّد يکرعون الخمرة المعتقّة ويعبثون بمقدّرات الدولة الاسلامية.. [4] .

استحالت همسات الجنود اءلي صيحات تطالب بدفع مرتبات الجيش التي تأخرت طوال فصل الشتاء.. وقد استطاع القائد العسکري صالح بن وصيف من تعبئة آلاف الجنود ضد الطغمة الحاکمة..

اليوم هو الخميس الثالث من جمادي الا´خرة وقد انطوي شهر نيسان، موکب رئيس الوزراء يصل قصر الخلافة ثم موکب أبو نوح النصراني وبعده ابن مخلّد.. واعقب ذلک حضور الخليفة نصف نائم بالرغم من انتصاف النهار أما رئيس الوزراء ومعه صاحبيه فقد کانت عيونهم تشتعل جمراً بسبب حفلة ساهرة وعربدة حتي مطلع الفجر.. [5] .

لم يکن قد مضي وقت حتي وصل صالح بن وصيف مصطحباً قوّة عسکرية کبيرة رابطت عند أبواب قصر الخلافة تحسباً للطواريء..



[ صفحه 103]



أدّي القائد الترکي التحية للخليفة وقال دون مقدّمات:

ـ يا أمير المؤمنين أن الاتراک ينتظرون مرتباتهم.. والخزانة خاوية وابن اسرائيل ينهب الاموال هو وأصحابه.

صرخ رئيس الوزراء:

ـ يا عاصي يا ابن العاصي! ومن أين نأتي بالاموال؟!

تدخل أبو نوح وهو يحاول تحريض المعتز فقال:

ـ أنک تتآمر علي الخليفة وتحرّض الاتراک ضدّه.

وفارت الدماء في عروق القائد الترکي الذي اجتاحته نوبة عنيفة من الهستريا وهاجمت قوّاته القصر واقتحم الجنود الاتراک البلاط وفرّ المعتز اءلي اءحدي حجرات القصر فيما القي القبض علي رئيس الوزراء وابن مخلد وأبو نوح فسيقوا اءلي قصر صالح بن وصيف.. وهناک تم استجوابهم واتهموا بالخيانة واختلاس أموال الدولة..

کما تعرّضوا للتعذيب للتوقيع علي صکوک بالا´ف الدنانير ولکنهم امتنعوا عن ذلک لاعتقادهم بان «قبيحة» لن تقف مکتوفة الايدي.. خاصّة بعدما سمعوا بأنها وجهت انذاراً شديد اللهجة الي صالح بن وصيف الذي اقدم علي تعيين ابن يزداد المروزي رئيساً للوزراء. [6] .

وبدأت جبهة الاتراک بالتعاظم مرة أخري بعد تفاهم صالح بن وصيف وباکيباک بل ان المغاربة وقفوا الي جانب الاتراک واصبح صالح بن وصيف الحاکم الفعلي للبلاد..



[ صفحه 104]



وفي تلک الفترة اعتقل الامام الحسن الذي عرفه الناس بالعسکري والخالص، والصامت والتقي، [7] وأودع سجناً خاصّاً بعد تنامي المدّ الثوري بقيادة العلويين ومالبث اءن اطلق سراحه تمهيداً لاغتياله..

وتفاقمت الاوضاع بسبب عجز الدولة عن دفع مرتبات الجيش ولم يجد الجنود آذناً صاغية من أحد..

کانت «قبيحة» تفکر في أن الوضع سوف ينقلب علي صالح بن وصيف فالاتراک علي کل حال لا يرتاحون اءليه بسبب ما استحوذ عليه من الاموال الطائلة ولذا ارسلت علي وجه السرعة مبعوثاً الي «موسي بن بغا» في ضواحي الري طلبت منه العودة بأسرع وقت ممکن.

وبالرغم من الاخطار المحدقة لم ينس المعتز أن يوعز الي سعيد الحاجب الذي قام بتصفية المستعين في الطريق الي سامراء أن يقوم هذه المرّة باصطحاب الامام الحسن الي الکوفة واغتياله في الطريق. [8] .

وطلب الامام الحسن من بعض أصدقائه الاوفياء عدم مغادرة منازلهم خلال تلک الفترة العاصفة [9] حيث الاجواء مشحونة بالمؤامرات..

لم يحصل الاتراک الغاضبون علي شيء من وراء اعتقال



[ صفحه 105]



رئيس الوزراء وصاحبيه فاندفعوا الي القصر وطلبو لقاء المعتز الذي رفض استقبالهم، وعندئذ قرروا المرابطة عند البوابة والقيام بعمل ما.

وتمکن صالح بن وصيف وباکيباک من دخول القصر وطلبا من المعتّز دفع مبلغ خمسين الف دينار وحل الازمة، استقبل الخليفة القائدين بعد أن تعلّل بان حالته الصحية لا تساعده ولذا استقبلهما في غرفة النوم.

کان الوضع ينذر بالانفجار ولم يعد في مقدور أحد السيطرة علي غضب الجيش والقوّات المسلحة.

کان يوم الجمعة 24 رجب 255ه شديد الحرّ وکانت شمس تموز تصبّ لهيبها [10] فتشتعل الارض جمراً أمّا ساحات القصور المبلّطة بالرخام فانها تستحيل الي جحيم لا يطاق.

ساد القلق بعض أوساط الشيعة حول مؤامرة اغتيال الامام وتنفيذها في الطريق المؤدية الي الکوفة.

وکتب بعضهم الي الامام حول ذلک فصدر توقيعه مطمئناً في رسالة موجزة: «الذي سمعتموه تکفونه». [11] .

وفي يوم الاحد 26 رجب استنجد المعتز بوالدته وطلب منها مبلغ خمسين ألف دينار لتهدئة الوضع المتفجرّ... رفضت قبيحة طلب ابنها متعللة بأنها لا تملک هذا المبلغ وطلبت مهلة ريثما تصل اءيرادات الدولة من الاقاليم.. ولکنها في الحقيقة کانت تعوّل



[ صفحه 106]



علي عودة موسي بن بغا الذي أکّد لمبعوثها أنه أوقف عملياته الحربية وسيعود الي سامراء علي وجه السرعة [12] وفي يوم الاربعاء 29 رجب عبرت القوّات المرابطة في کرخ فيروز الجسر، وفرضت حصارها علي قصر الخلافة وأخرج المعتز من غرفة نومه ممزق الثياب وترک حافياً في اءحدي ساحات القصر تحت شمس تتشضي لهباً.. وطوال النهار کان الخليفة المهان يرفع رجه ليضع الاخري فاصبح منظره المضحک تسلية للجنود الاتراک الذين ما انفکوا يخرقون ثيابه بالدبابيس. [13] .

وفي العصر اقتيد الي حجرة ليتلقي صفعات غليظة الي أن انهار باکياً يطلب خلعه ويتنازل عن الخلافة.

استدعي ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء وتم اعداد وثيقة التنازل مقابل الحفاظ علي حياته وحياة والدته وأخته، وأشار صالح بن وصيف بيده موافقاً وقد أسکرته نشوة السلطة.

وهکذا فرضت حراسة مشدّدة علي قصر قبيحة، امّا المعتز فقد اقتيد ذليلاً الي قبو وهناک تعرض الي التعذيب ومنع عنه الطعام والماء ثم جصصّوا باب السرداب وترک ليواجه مصيره.

وفي نفس الليلة احضر محمد بن الخليفة الواثق وبويع بالخلافة، فيما کان الاتراک يشربون انخاب النصر بعد أن أحکموا قبضتهم علي دفّة الحکم.



[ صفحه 107]



«14»

ما اءن وصلت الانباء بغداد حتي انفجر الوضع ووقعت حوادث شغب وذلک يوم الخميس 30 رجب، واستمرت القلاقل حتي بعد الاعلان عن وفاة المعتز في الثاني من شعبان أي بعد خمسة أيام فقط من توقيعة وثيقة التنازل، واندفع الاتراک الي نهب جميع ممتلکاته کما اقتحموا قصر والدته قبيحة للقبض عليها ولکنهم لم يجدوا سوي نفقاً رهيباً يمتد من مخدع النوم الي مکان خارج القصر. [14] .

واختفت قبيحة عن الانظار، فانتشر رجال الشرطة للبحث عنها کما وضعت جوائز مغرية لمن يدلّ عليها أو يقدّم معلومات تفيد في القبض عليها، وأنذر الذين يساعدونها في الاختباء بأشدّ العقوبات، وبالرغم من أن الشبهات قد بدأت تحوم حول منزل تقطنه احدي زوجات القائد العسکري موسي بن بغا [15] فوضع المنزل تحت المراقبة ولکن وصيفاً لم يتجرأ علي التحارش خشية من انتقام «موسي بن بغا» الذي قرّر العودة الي سامراء.

وتفاقم الوضع مرّة أخري بسبب عجز الدولة عن تسديد



[ صفحه 108]



مرتبات الجنود المتأخرة ووقع صالح بن وصيف في مأزق حرج ولذا قرر اعدام ابن اسرائيل وعيسي بن اءبراهيم أبي نوح ابن مخلد، لکن الاخير نجا بجلده بعد أن قدّم اعترافات مذهلة حول وجود خطّة لاغتيال صالح بن وصيف تقف من ورائها قبيحة، ابن اسرائيل وعيسي بن ابراهيم..

وتعرّض الرجلان الي تعذيب قاس وحاول وصيف دفعهما الي الکشف عن کنوزهما ولکنه اخفق ولم يستطع سوي ارغام ابن مخلد علي تقديم جوهرة ثمينة قدّرت باکثر من ثلاثين ألف دينار..

وفيما کان صالح بن وصيف يبحث عن طريق للخروج من أزمته تقدّم اليه رجل يدّعي أن لديه معلومات حول بعض کنوز قبيحة وعلي وجه السرعة أمر صالح بن وصيف «أحمد بن خاقان»اصطحاب الرجل والعثور علي الکنوز المخبئة..

دخل أحمد بن خاقان بمعية الرجل قصراً من قصور الخلافة تعود ملکيته الي قبيحة وهناک راحا يبحثان في الغرف لم يکن هناک أثر لکنز وراح ابن خاقان يتهدد الرجل اذا لم يعثر علي الکنز.. راح الرجل ينقر بالفأس علي بعض الجدران ويصغي الي طبيعة الصوت الذي يصدر عنها حتي اذا سمع صوتاً خاصاً استدلّ منه علي وجود شيء فهدمه واذا وراء الجدار الکاذب باب يؤدي الي نفق تحت القصر هو في الحقيقة قصر آخر واذا الرفوف تزخر بالاموال المکدّسة مليون دينار! اضافة الي مجوهرات يعرف لها ثمن ثم



[ صفحه 109]



قدّرت فاذا هي تساوي مليوني دينار وعندما رأي صالح الکنوز سبّ قبيحة قائلاً:

ـ قبحّ الله قبيحة عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها مثل هذه الاموال في خزانة واحدة من خزائنها؟! [16] .

استطاع صالح السيطرة علي الوضع المتفجّر بتهدئة الاوضاع داخل الجيش ودفع مرتبات الجنود والضباط بالرغم من استحواذه علي حصّة الاسد من مجموع الاموال المصادرة، ولذا قرّر تنفيذ حکم الاعدام بکل من ابن اسرائيل وأبي نوح، حيث جلدا حتي الموت ثم صلبا الي جانب «خشبة بابک». [17] .

ويبدو أن الانباء قد وصلت «قبيحة» فقررت الظهور والاعلان عن مخبئها ووسّطت بينها وبين صالح «العطّارة».

وتمّ اللقاء.. کانت زوجة المتوکل التي اشتهرت بجمالها الساحر قد ارتدت أجمل الحلل فظهرت اکثر فتنة حتي صالح لم يملک نفسه أن ظل ينظر اءليها مفتوناً.. وکانت المرأة الساحرة تحاول أن توقعه في شباکها کما أوقعت بالمتوکل من قبل ثم أصبحت زوجته الوحيدة.

وأمر صالح باخلاء المکان، ثم غابا في احدي حجرات قصره الکبير وفي اليوم التالي الذي يصادف الثلاثاء 11 رمضان وصلت بعض کنوزها أو خزائنها المخبئة في بغداد الي سامراء وعرضت خزائنها للبيع حيث استمر المزاد العلني عدّة شهور.



[ صفحه 110]



أما هي فقد وضعت تحت الاقامة الجبرية حتي حلول موسم الحج فطلب منها الانضمام الي اءحدي قوافل سامراء وهکذا سيقت رغم أنفها الي خارج العاصمة فسمعت تصيح بهستيرية:

ـ اللهم اخز صالح بن وصيف کما هتک ستري، وقتل ولدي وبدّد شملي، وأخذ مالي، وغرّبني عن بلدي، ورکب الفاحشة مني. [18] .

کل شيء يهتز في دنيا الاسلام لم يعد هناک من ثابت مقدس بعد أن عصفت الفتن في کل مکان. [19] .

وبدا الفارس برمحه الطويل الذي يتربع فوق القبة الخضراء ببغداد حائراً لا يدري أين يشير برمحه؟ [20] .

هل يشير الي تقدّم قوّات الصفّار باتجاه العراق؟ أم الي معارک الحسن بن زيد في «طبرستان» أو الي ثورة الزنوج في جنوب العراق؟ أم الي بغداد التي انتفضت بوجه المرتزقة والصعاليک القادمين من خراسان الذين راحوا يعبثون في «مدينة السلام» ينتهکون الاعراض وينهبون البيوت؟! أم الي القلاقل التي انفجرت في سامراء بعد أن تأزّمت الاوضاع مرّة أخري...

واصبحت الحياة في کثير من مدن الاسلام تشبه حياة الجاحظ الذي اصيب بالشلل النصفي وهو الا´ن يلتقط أنفاسه الاخيرة قبل أن يودّع الدنيا. [21] .

ووقعت خلال تلک الاسابيع حتي مطلع رجب بعض الحوادث منها قيام الخليفة ترحيل المطربين والمطربات ونفيهم الي بغداد،



[ صفحه 111]



کما أمر باعدام بعضهن [22] وطرد الکلاب وتعطيل الملاهي وترأس محکمة الاستئناف شخصياً، ولم يکن المجتمع المسلم آنذاک يستقبل هذه الاجراءات بحماس خاصّة بعد أن سمع الخليفة يقول أنه فعل ذلک غيرة علي العباسيين لانه لايوجد بينهم من يسير سيرة عمر بن عبدالعزيز. [23] .

واءلي جانب هذه الاجراءات قام المهتدي بخطوات احترازية لتثبيت حکمه منها ابعاد بعض الشخصيات العباسية خاصّة، طلحة بن المتوکل الذي عرف ب «الموفق» منذ حصار بغداد والاطاحة بالخليفة «المستعين».

کما قام الخليفة باعتقال الامام الحسن العسکري الذي زجّ في زنزانة مع تأکيدات بمعاملته معاملة قاسية.. سلّم الامام الي القائد الترکي صالح بن وصيف الذي عهد بدوره الي شخصية دموية هي علي بن أوتامش المعروف بعدائه للعلويين وکان من المتوقع أن يقوم ابن أوتامش باغتيال الامام في غضون أيام ولکن عندما وجدوا أن ابن الرضا يُعامل باحترام انتقدوا صالح بن وصيف الذي دافع بقوله:

ـ وماذا تريدوني أفعل؟ لقد سلّمته الي رجل ليست في قلبه رحمة.. ولکن ابن أوتامش الا´ن لا يرفع رأسه اجلالاً له! [24] .

في ذي القعدة ساد التوتر سامراء بعد أن تأکدت الاخبار بأن موسي بن بغا قد أخلي جبهات القتال في ايران عائداً الي سامراء.



[ صفحه 112]



حاول صالح بن وصيف وبالضغط علي المهتدي ايقاف تقدّم القادمين.

کان عام 255ه يلممم أيامه الخريفية الاخيرة عندما عبرت قوات موسي بن بغا مرتفعات همدان، فيما کان الثوار الزنوج وبعض القبائل البدوية تزحف باتجاه مدينة البصرة.. کما ظهر في تلک الا´ونة ثائر علوي في مصر. [25] .

وتزامن ذلک مع توقيف رئيس سلطة القضاء ابن أبي الشوارب بتهمة الفساد. [26] .

قوّات موسي تتقدم باتجاه سامراء وترفض تأکيدات الخليفة بضرورة المرابطة في ايران ومواجهة ثورة الحسن بن زيد والوقوف بوجه يعقوب بن الليث الصفّار الذي تفاقم خطره، مما استدعي الخليفة الي أن يندّد به أمام الملا العام. [27] .

وفي يوم عاشوراء من سنة 256ه کانت فيالق موسي تتقدم من قصور الخلافة وهي علي اهبة الاستعداد الکامل لخوض حرب مدمّرة أضطرّ صالح بن وصيف الي الاختفاء عن الانظار في مکان ما، فيما کان الخليفة قد ترأس شخصياً محکمة الاستئناف للفصل في شکوي رفعت ضد أحمد بن المتوکل المعروف بابن فتيان واجبر الخليفة علي مغادرة المحکمة الي قصر الجوسق الذي سقط في قبضة موسي واتخذه مقرّاً.

في قصر الجوسق طولب الخليفة بالکشف عن مکان اختباء صالح بن وصيف فأنکر الخليفة علمه بذلک..



[ صفحه 113]



تراطن القادة الاتراک فيما بنيهم بالترکية وبرقت العيون وماهي سوي لحظات حتي اصبح الجوسق مسرحاً للنهب والفوضي واقتيد المهتدي مخفوراً صوب الکرخ حيث توجد معسکرات الجيش الترکي ولکنهم في الطريق عدلوا به الي قصر القائد الترکي «ياجور». وسامراء تهتز لوقع الاحداث العاصفة..



[ صفحه 114]



«15»

العالم يموج بالفتن، وسامراء غارقة ي غمرة الاحداث العاصفة ما يزال صالح بن وصيف في مخبأه في مکان ما في سامراء فيما کانت دوريات من رجال الشرطة والجيش تجدّ في البحث عنه، وبيانات تهدد بالويل والثبور کل من يساعده أو يمتلک معلومات تدلّ علي مخبأه ثم لا يقدّمها..

وفي 27 من محرّم الحرام عثر علي رسالة في قصر الجوسق أثارت اهتمام القادة الاتراک.. لقد کانت بخط صالح بن وصيف وفيها تبرير لاختبائه وأن مصير الاموال المصادرة لدي «ابن مخلّد» وهو في قبضتکم.. قرئت الرسالة في حضور الخليفة الذي عقب عليها بدعوة الجميع الي المصالحة.

تراطن الاتراک بلغتهم ثم قال موسي للخليفة بلهجة فيها تهديد واتهام:

ـ انک تعلم بمکانه!!

ردّ المهتدي مستنکراً:

ـ ومن أين لي أن أعلم ذلک.. ثم من يکون صالح حتي أدافع عنه..



[ صفحه 115]



عاد الاتراک الي تراطنهم وقد برقت العيون بالتآمر الذين يعرفون الترکية ادرکوا أن المهتدي سوف يخلع ويقتل وأن الخليفة القادم سيکون ابن المتوکل الذي توقفت محاکمته بسبب الاحداث الاخيرة.

وتفاقمت الاوضاع وکانت السماء ملبدّة بالغيوم، وقد القي القبض علي کل من له صلة بصالح بن وصيف للتحقيق معه والحصول علي معلومات تفيد بالقبض عليه..

وفيما کانت الامور تتأزّم کانت قوّات من الخوراج تقتحم مدينة بلد الصغيرة جنوب سامراء وتعبث بها، فاجتمع القادة الاتراک لدرء الخطر واعلنت حالة النفير ولکن مجلس القادة غير رأيه في اللحظات الاخيرة وتقرّر عدم مغادرة سامراء اءلاّ بعد حسم مسألة «صالح بن وصيف» وتم استخدام مجموعة من «العيّارين» للقبض عليه.

کانت رياح شباط تولول في أزقة سامراء التي باتت ترتجف من البرد والخوف.

کل شيء يتزلزل ولم يعد هناک من ثبات.. کل شي يهتز تحت سنابل خيل الاتراک وشاء القدر أن يکشف النقاب عن مخبأ صالح بن وصيف، وأن يلقي القبض عليه فيقتل دون محاکمة.

وانطوي بذلک فصل مثير، أعيد الخليفة الي قصره، واستعد



[ صفحه 116]



موسي بن بغا الي منازلة الخوارج فزحف بقوّاته مصطحباً معه بايکباک الذي وقف الي جانبه اثناء الاحداث العاصفة في سامراء وخلال تلک الفترة افرج عن الامام الحسن العسکري فعاد الي منزله الذي يخضع الي رقابة مشدّدة.

وفيما کانت دروب سامراء تهتز تحت سنابک خيل الدوريات، کان هناک منزل في «درب الحصا» تغمره السکينة والسلام.

ولج الامام الحسن السرداب بعد أن نزل عشرين درجة من سلّم صخري..

المکان يزخر بالصمت لا يسمع فيه المرء سوي أصداء الانسان المقهور وهو يقف في المحراب في زمن يُصلب فيه الانبياء.

ليس هناک من سلاح يدافع فيه المرء عن نفسه سوي سلاح الانبياء.. وولج الانسان المقهور ملکوت الله يبثه لواعجه وهواجسه:

ـ «احتجبت بحجاب الله النور الذي احتجب به عن العيون..

واحتطت علي نفسي وأهلي وولدي، ومالي وما اشتملت عليه عنايتي.. بسم الله الرحمن الرحيم..

واحرزت نفسي، وذلک کلّه، وما أخاف وأحذر بالله الذي لا اءله اءلاّ هو الحيّ القيوم.. لا تأخذه سنة ولانوم.. له ما في السموات ومافي الارض من ذا الذي يشفع عنده اءلاّ بأذنه.. يعلم مابين أيديهم



[ صفحه 117]



وماخلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه اءلاّ بما شاء.. وسع کرسيه السموات والارض، ولايؤوده حفظهما وهو العلي العظيم.

ومن اظلم ممن ذکر بآيات ربّه فأعرض عنها ونسي ماقدّمت يداه.

اءنا جعلنا علي قلوبهم أکنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، واءن تدعهم الي الهدي فلن يهتدوا اءذاً أبدا..

أفرأيت من اتخذ الهه هواه، وأضلّه الله علي علم وختم علي سمعه وقلبه، وجعل علي بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذکرون؟

أولئک الذين طبع الله علي قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، واولئک هم الغفلون.

واذا قرأت القرآن جعلنا بينک وبين الذين لا يؤمنون بالا´خرة حجاباً مستوراً، وجعلنا علي قلوبهم أکنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، واذا ذکرت ربّک في القرآن وحده، ولّوا علي ادبارهم نفوراً.

وصلّي الله علي محمد وآله الطاهرين». [28] .

وفي مطلع رجب سنة 256ه حزيران 870م، وصل التوتر في سامراء ذروته، وسمع الخليفة يتهدد الشيعة بالفناء کما تعرّضت مدينة قم الي حملة اضطهاد واسعة مما دفع بعض زعاماتها للاستنجاد بالامام. [29] .



[ صفحه 118]



غير أن أحداً لم يستطع الاتصال بالامام الحسن بسبب الرقابة الشديدة والحصار الذي عرّض أسرة الامام الي ضائقة معاشية خطيرة.. ولکن عثمان بن سعيد العمري استطاع الاتصال متظاهراً ببيع السمن بعد أن احترف تجارة الزيوت تغطية لتحرکاته. [30] .

وفي عصر يوم من أيام حزيران، وفيما کانت أنباء التمرّد العسکري في الکرخ تقلق بال الجميع تسلّم کافور الخادم بعض زقاق الزيت فيما وقف عثمان بن سعيد قرب الباب متظاهراً بانتظار أفراغ زقاق السمن.

في قلب السمن وُجدت صِرار من النقود المسکوکة دراهم ودنانير کما وجدت رسالة قادمة من مدينة قم التي تعيش ظروفاً مأساوية منذ المذابح التي نفذها القائد الدموي «مفلح». [31] .

استجاب الامام لرسالة الاستغاثة بأن وجه انظار أهالي قم الي القدرة المطلقة فسطّر اليهم دعاءً مؤثراً جاء وثيقة اءدانة لسياسات الحکم العباسي الغاشم کما کشفت عن تحليل عميق لوقائع ما يجري آنذاک. [32] .

في هدأة الليل انسابت الکلمات المنقوعة بالايمان الخالص والامل الکبير فاذا هو دعاء يلتهب بحرارة الوجدان الانساني الذي يهتز لا´لام المقهورين والمستضعفين.

ـ الحمد لله شکراً لنعمائه، واستدعاءً لمزيده، واستجلاباً لرزقه، واستخلاصاً له..



[ صفحه 119]



حمد من يعلم أن مابه من نعمائه فمن عند ربه.

وما مسّه من عقوبته فبسوء جناية يده..

اللهم! انک ندبت اءلي فضلک..

وأمرت بدعائک.. وضمنت الاجابة لعبادک..

وأيّ راحل رحل اليک، فلم يجدک قريباً؟؟

«اللهم! وقد قصدت اءليط برغبتي..

وقرعتْ باب فضلک يدُ مسألتي..

وناجاک بخشوع الاستکانة قلبي.

ووجدتک خير شفيع لي اءليک..

وقد علمت ما يحدث من طلبتي قبل أن يخطر بفکري..

أو يقع في خلدي..

فصل اللهم دعائي اءياک باجابتي.

واشفع مسألتي بنجح طلبتي..»

«.. اللهم!

وقد شملنا زيغ الفتن.

واستولت علينا غشاوة الحيرة.

وقارعنا الذلّ والصغار.

وحکم علينا غير المؤمنين في دينک.

وابتزّ أمورنا من عطّل حکمک.

وسعي في اتلاف عبادک.



[ صفحه 120]



واءفساد بلادک.

اللهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة.

واءمارتنا غلبة بعد المشورة.

وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للامة. [33] .

فاشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والارملة.

وحکم في أبناء المؤمنين أهلُ الذمة.. [34] .

وولي القيام بأمورهم فاسق کل قبيلة.

فلا ذائد يذودهم عن هکلة.

ولا راع ينظر اءليهم بعين الرحمة.

ولاذو شفعة يشبع الکبد الحرّي من مسغبة.

فهم أولو ضرع بدار مضيعة.

وأسراء مسکنة.

وخلفاء کآبة، وذلّة».

أي ألم ينطوي عليه قلبلک الکبير ياسيدي؟!

وأي هموم تموج بين جوانح صدرک..

يا أبا محمد ويا أبن محمد..

أي غضب مقدس يتفجر في أعماقک.

کبرکان يفور بحجم الثورة القادمة.

ويتطلع الامام الي الغد الاخضر القادم.

الغد الذي اطلّت تباشير انبلاجه:



[ صفحه 121]



ـ «وأسفر لنا عن نهار العدل.

وأرناه سرمداً لا ظلمة فيه.

ونوراً لاشوب معه!

وأهطل علينا ناشئته!

وانزل علينا برکته.

وأدل له ممن ناواه.

وانصره علي من عاداه.

اللهم واظهر الحق.. واصبح به في غسق الظلم وبهم الحيرة اللهم!

واحي به القلوب الميتة!

واجمع به الاهواء المتفرّقة.

والا´راء المختلفة.

وأقم به الحدود المعطلة.

والاحکام المهملة.

واشبع به الخماص الساغبة.

وأرح به الابدان اللاغبة المتعبة..

لکأن الامام ينظر الي المديات البعيدة وهو يدعو الي تلک المدينة الصغيرة المقهورة فيراها في رحم الايام القادمة مخزن الرجال الاشدّاء الذين سينهضون لمواجهة الظلم تحت راية اءمام عادل ينصرونه فينصرهم الله:



[ صفحه 122]



ـ «واجعله اللهم في أمن مما يشفق عليه منه..

وردّ عنه من سهام المکائد ما يوجهه أهل الشنآن.

اءليه والي شرکائه، ومعاونيه علي طاعة ربّه.. الذين جعلتهم سلاحه وحصنه، ومفزعه وأنسه.. الذين سلوا عن الاهل والاولاد، وجفوا الوطن..

«فاجعلهم اللهم في أمن من حرزک وظل کنفک، وردّ عنهم بأس من قصد اليهم بالعداوة من عبادک..

اللهم واملا بهم کل أفق من الا´فاق، وقطر من الاقطار قسطاً وعدلاً..

انک تفعل ما تشاء وتحکم ما تريد». [35] .

انبلج عمود الفجر الصادق واستيقظت حمامة بيضاء کانت قد اتخذت لها عشاً فوق سطح المنزل منذ أمد، وارتفع أذان الصبح من فوق المئذنة الملويّة التي ما تزال ترسل أنواراً ضعيفة الي القوافل القادمة من الشام وفلسطين..

ومع صياح الديکة هدأت الازقة تماماً ولم يعد المرء يسمع وقع حوافر خيول الدوريات التي تجوس خلال الدروب الغارقة في الظلام.



[ صفحه 123]



«16»

انفجرت الاوضاع بشکل مفاجيء،وتسارعت الاحداث ولم يعد يمکن التکهن بوقوع أي شي.

بدأت الاحداث باندلاع البلبلة في معسکرات الاتراک في الکرخ الذين ما انفکّوا يطالبون بدفع مرتباتهم المتأخرة وتحسين أوضاعهم المعاشية وحاول المهتدي مناورتهم واطالة أمد التفاوض وتوجيه ضغوطهم صوب القائد موسي وبايکباک اللذين يرابطان خارج سامراء لمواجهة تهديد الخوارج.

أراد المهتدي تفتيت جبهة الاتراک فبعث برسالة سرّية الي «بايکباک» وأغراه باغتيال القائد «موسي بن بغا» والانفراد بالقيادة العامة وشاء القدر الاّ يستجيب «بايکباک» بل أخذ الرسالة ودخل علي خيمة القائد موسي واطلعه علي خطة المهتدي.

وفي داخل الخيمة المصنوعة علي الطريقة الترکية قال بايکباک بلغة الاجداد الذين عاشوا في الجبال القاسية والصحاري:

ـ هذه رسالة الخليفة يطلب فيها اغتيالک.. وأن تکون لي القيادة العامّة للجيوش.. انني لن أفعل ذلک لانه ينوي القضاء



[ صفحه 124]



علينا جميعاً.. واءذا فعل بک اليوم فسيفعل ذلک بي غداً.

سکت بايکباک لحظات قبل أن يقول:

ـ ما رأيک؟

ـ اذهب الي سامراء وأخبره أنک في طاعته وناصره علي موسي و«مفلح». [36] حتي يطمئن اليک.

ـ وبعد؟

قال موسي وقد برقت عيناه بالشّر:

ـ ثم ندبّر في قتله!

وفي اليوم التالي تحرّکت القطعات التي تحت قيادة بايکباک صوب سامراء.. وشعر المهتدي أن هناک من يدبّر له في الخفاء، فأمر بالقاء القبض علي «أبي نصر» بن بغا شقيق موسي، ولکن أبا نصر استطاع الهرب فأرسل اليه المهتدي أربعة رسائل کلها تعده بالامان فسلّم نفسه وسيق الي مکان مجهول ثم تمّ اءعدامه ورميت جثته في آبار القناة ولم يعلن عن ذلک!

وکان المهتدي ولاسباب مجهولة قد أمر بزج الامام الحسن في السجن الخاص بالعلويين فسجن في زنزانة تجمع العلويين وفي طليعتهم «أبو هاشم الجعفري» الذي تألم لحال الامام.

اليوم هو 11 رجب وقد وصل بايکباک سامراء ومعه مساعده أحمد بن خاقان واتجها صوب قصر الجوسق وقد استاء المهتدي من موقفه فصاح به:



[ صفحه 125]



ـ ترکت العسکر وقد أمرتک أن تقتل موسي ومفلحاً وداهنت في أمرهما.

قال بايکباک مراوغاً:

ـ يا أمير المؤمنين! وکيف اقتلهما وهما أعظم جيشاً مني؟ لقد حصل خلاف بيني وبين مفلح فلم استطع الانتصاف منه!

وها أنا قد جئتک بجيشي لانصرک عليهما.

وأمر المهتدي بتجريده من السلاح، وثم توقيفه في حجرات القصر.

حاول بايکباک الاعتراض:

ـ ان مثلي لا يعامل هذه المعاملة... دعني أذهب الي منزلي أولاً.

قال الخليفة:

ـ احتاج الي مناظرتک.

وفي خارج القصر شعر احمد بن خاقان أن بايکباک قد وقع في مأزق فقام بتحريض القطعات العسکرية التي تعمل تحت أمرته وسرعان ما حوصر القصر..

واطل المهتدي من اءحدي نوافذ القصر ونظر الي مئات اجنود الاتراک فقال لمستشاره:

ـ ماذاتري؟

قال الرجل وهو يستعيد حادثة قديمة:



[ صفحه 126]



ـ لقد کان ابو مسلم الخراساني أعظم شأناً لدي أهل خراسان من هذا الترکي عند أصحابه.. وقد هاجوا علي المنصور فما أن رمي اليهم برأسه حت سکنوا، وقد کان فيهم من يعبده.. فلو فعلت ذلک سکنوا وأنت أشدّ من المنصور اقداماً!

التفت الي رجل کان يعمل حدّاداً في الکراخ وأمره أن يقطع رأس بايکباک.. وعبأ المهتدي المغاربة والفراغنة ضد الاتراک تحسباً للواجهة.

وخيم الظلام علي سامراء، واستحالت البيوت الي أشباح مخيفة، واقفرت الدروب من العابرين..

وکانت أنباء ما يجري تنعکس داخل السجن حيث يترقب الجميع ما تسغي عنه الحوادث.

وفي الزنزانة التي يمکث فيها الامام قال أبو هاشم بأسي:

ـ المهتدي يتهدد الشيعة بالتشريد، وقد سُمع يقول «لاجلينّهم عن جديد الارض».

قال الامام وهو ينظر الي ما وراء الاحداث:

ـ ذاک أقصر لعمره.. عد من يومک هذه خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس.. بعد هوان واستخفاف يمرّ به.

وأطرق أبو هاشم وقد استغرقته الکلمات الواثقة تخترق حجب الزمن. [37] .

ولم يکن أبو هاشم ليهتم بالاخبار کثيراً، فقد وطّن نفسه



[ صفحه 127]



علي تحمل السجن منصرفاً الي العبادة... ولکن الکلمات أيقظت في روحه هاجس ما يجري... أن حادثة کبري في المخاض لايعرفها أحد الاّ الله وهذا الفتي الطاهر الذي أودعه الله سرّه.

کان أحمد بن المتوکل الذي تم توقيفه وايداعه في زنزانات قصر الجوسق قد سمع بنبوءة الامام الحسن حول مصير المهتدي. وفي يوم الثلاثاء 13 رجب عبأ المهتدي قوّاته وأمر بضرب مخيم معسکره خارج سامراء في المنطقة التي تشتمل علي قصور الخلافة التي بنيت في عهد المتوکل. [38] .

وکانت قوّاته تتألف من الفراغنة والمغاربة وبعض الاتراک وبين قوّات بايکباک التي انضوت تحت قيادة أخيه «طغوتيا» الذي خاض المعرکة سکراناً کعادته.

طالب الاتراک بالافراج عن بايکباک فأمر المهتدي أن يُرمي بأرسه اليهم ونفذ العملية قائد المرتزقة عتاب بن عتاب.

وقد اثارت هذه الخطوة غضب الاتراک جميعاً حتي ان انصار الخليفة منهم انحازوا الي «طغوتيا»، فتضعضت خطوط جيش الخليفة اءثر هجوم جريء قاده «طغوتيا» وأضطر الخليفة الي الفرار شاهراً سيفه يصيح:

ـ يا معشر الناس! أنا أمير المؤمنين... قاتلوا عن خليفتکم! فلم يکترث له أحد!

فاتجه الي السجن وأمر باطلاق السجناء متوقعاً عونهم ولکنهم اختفوا في الازقة القريبة.



[ صفحه 128]



تساءل أبو هاشم وهو يصغي الي انباء الحارس المثيرة؟

ـ واين الخليفة الا´ن؟!

قال الحارس:

ـ لا أحد يدري اختفي هو الا´خر والاتراک جادّون في البحث عنه. [39] .

اضحت سامراء ثکنة عسکرية کبري ولم يعد المرء يري عابراً من أهلها... الابواب مغلقة والازقة مقفرة.. وحدهم فرسان الاتراک يدکون الارض بسنابک خيل مجنونة.

القي القبض علي الخليفة الهارب في نفس اليوم وسيق مخفوراً الي مکان مجهول الي حيث يقيم الاتراک حفلات التعذيب.

وفينفس اليوم أفرج عن أحمد بن المتوکل السجين في قصر الجوسق الذي تعرض لعملية نهب.

وفي يوم 16 رجب أعلن عن تنصيب الخليفة الجديد «المعتمد» الذي خرج من السجن ليصبح خليفة.

وفي يوم 18 رجب أعلن عن وفاة الخليفة المهتدي وتم ترتيب محضر يؤکد بأن الوفاةکانت طبيعية!!

وأصبح الاتراک حکام البلد ولم يکن للخليفة المعتمد سوي الاسم ليظهر فيما بعد أخوة طلحة بن المتوکل الذي يحمل لقب «الموفق» منذ سقوط بغداد في الحرب الاهلية مطلع سنة 252 ه.



[ صفحه 129]



أما الا´ن فقد عادت الحياة الطبيعية الي «سامراء» بعد تنصيب «عبيدالله بن يحيي بن خاقان» رئيساً للوزراء في الثاني من شعبان سنة 256 ه... [40] وتدور رحي الايام وينمو القمر في السماء.

يخيم علي سامراء هدوء مشوب بالحذر، وما يزال القلق يسيطر علي مؤسسات الحکم الجديدة، وبدا علي الجميع العزوف عن المغامرة والرکون الي الراحة، والاستعداد لمواجهة أخطار مصيرية من قبيل ثورة الزنوج في جنوب العراق والتصدّي لدولة «الحسن بن زيد الطالبي» في شمال ايران.

أمّا موقف الحکم الجديد من الامام الحسن العسکري الذي عرف آنذاک بـ«الصامت» [41] فقد کان غامضاً وقد تقرّر فقط مراقبته وفرض الحضور الاجباري عليه الي القصر مرّتين في الاسبوع في يومي الاثنين والخميس. [42] .

وبشکل عام فقد کانت العلاقات بين الامام والقصر علاقة هادئة يشوبهاحذر من قبل الدولة.

ولعلّ مردّ هذا يعود الي أن رئيس الوزراء عبيدالله بن يحيي وهو سياسي قديم شهد مصرع المتوکل وکان يومها وزير کبيراً في البلاط وأن الامام علي الهادي والد الامام الحسن قد تنبأ بمصير المتوکل کما أن الکثيرين ايضاً سمعوا بنبوءة الامام الحسن حول مصير الخليفة المهتدي الذي لقي حتفه علي أيدي الاتراک أيضاً!



[ صفحه 130]



علي أن زيارة الامام العسکري والاتصال به کانت متعذّرة لما يترتب عليها من الملاحقة والمطاردة، کما أن الامام الحسن هو الا´خر کان يميل الي تعويد أتباعه علي قبول الاتصالات عبرالرسائل المحرّرة والشفاهية بواسطة رجال ثقات من اصدقائهالاوفياء... کل هذا تمهيداً لقبول فکرة الامام الذي سيغيب عنالانظار منتظراً الظروف المواتية للظهور.

بدا بيت الامام الحسن العسکري في «درب الحصا» أشبهبقلعة محاصرة... بابه مغلق أغلب الاوقات الاّ في يومي الاثنين والخميس حيث يغادر الامام منزله متجها الي قصر الخلافة برفقة بعض مسؤولي الدولة وخلال الطريق المؤدية الي القصر يصطف البعض لرؤية الامام عن بعد...

ولم يکن لاحد أن يجرؤ علي زيارة الامام باستثناء عمّته التي تزوره زيارات متقطّعة وکانت في الحقيقة تترقب ميلاد الصبيّ الموعود والذي سمعت من شقيقها أنه قد أطلّ زمانه.

شمس غروب تموز [43] تقرض المنازل بغلالة ذهبية وکانت نسائم نديّة تهبّ من ناحية دجلة، وقد بدت المئذنة الملوّية تستعد لرفع الاذان.

انفتح باب منزل الامام ليخرج خادم أسود تفوح منه رائحة المسک آخذاً سمته الي منزل قريب هو منزل المرأة الصالحة حکيمة بنت الجواد عمّة الامام الحسن التي ما انفکّت تتفقّد ابن اخيها وتزور زوجته الطيبة «نرجس» تلک الفتاة التي امضت شهوراً طويلة في منزلها قبل ان تنتقل الي منزل أخيها.



[ صفحه 131]



طرق کافور الخادم الباب علي عمة الامام قائلاً:

ـ ان سيدي يقول: اجعلي افطارک الليلة عندنا!

خفق قلب السيّدة لهذه الدعوة، وشعرت أن أمراً مهمّاً يکمن وراء ذلک.

عندما غطست الشمس في بحيرة المغيب کانت السيدة حکيمة تلج منزل ابن أخيها... المنزل تفوح فيه روائح ورود ربيعية..

استغرفتها حالة فرح عندما استذکرت انها ليلة جمعة حيث تحلو أحاديث السمر في سماء صيفية تزخر بالنجوم.

منذ أيام وهي لم تسعد برؤية فتاتها الطاهرة نرجس.

استقبل الامام عمّته بابتسامة أضاءت وجهه الاسمر، وهي ايضاً فرحت بلقاء ابن أخيها.. ولکنها سرعان ما شعرت بالالم لمنظر الشيب في ذقنه رغم أنه لم يبلغ الخامسة والعشرين من ربيع العمر!

نظرت في عينيه وقد تألق فيهما نور سماوي کانت تريد استکشاف ما وراء هذه الدعوة في هذا الوقت!

قال الذي عنده علم الکتاب:

ـ اءنها ليلة النصف من شعبان..

وأردف وهو ينظر الي السماء.

ـ وان الله تبارک وتعالي سيظهر في هذه الليلة حجّته في الارض..



[ صفحه 132]



والتفت اليها قائلاً بصوت فيه أصداء النبوءات البعيدة:

ـ سيولد في هذه الليلة المولود الکريم علي الله عز وجل.. الذي يحيي الله به الارض بعد موتها.

کانت حکيمة تتوقع ذلک منذ أمد ولکن التوقيت أدهشها لانها کانت تتفقد جواريه فلعل «نسيم» أو «ماريا» قد حملت منه.. وعهدها بنرجس قبل ايام قالت بلهجة فيها تساؤل مشوب بدهشة:

ـ ومن أمّه؟!

ـ نرجس

ـ نرجس؟! فداک يا بن أخي ما بها من أثر.

قال الذي مسّته السماء:

ـ هو ما أقول لک!

وجاءت نرجس تستقبل المرأة التي علمتها کلمة الاسلام:

ـ يا سيدتي وسيّدة أهلي کيف أمسيت؟

عندما وقعت عينا حکيمة علي «نرجس» خفّت اليها وعانقتها قائلة!

ـ بل أنتِ سيدتي وسيّدة أهلي!

غمرت الدهشة وجه نرجس البري:

ـ ما هذا يا عمّة؟!

وانحنت لتخلع خفّي المرأة الصالحة التي تشعر قربها بالسکينة:



[ صفحه 133]



ـ ناوليني خفّک يا سيدتي؟!

قالت السيدة حکيمة وقد أشرقت الفرحة في عينيها:

ـ بل أنت سيدتي ومولاتي.. والله لا أدفع خفّي لتخلعيه، ولا لتخدميني.. بل أنا أخدمک علي بصري!

ارتسمت في عيني نرجس النجلاوين علامات سؤال کبري، ورمقت باجلال زوجها العظيم الذي ابتسم قائلاً:

ـ جزاک الله ياعمّة خيراً!

وقادت السيّدة حکيمة نرجس الي الحصير وقد غادر ابن اخيها المکان.. قالت وهي تقبل علي الفتاة بفرح:

ـ يا بنيّة انّ الله سيهبُ لک في هذه الليلة غلاماً سيّداً في الدنيا والا´خرة.

وأطرقت نرجس وقد تورّدت وجناتها بوهج الحياء.



[ صفحه 134]



«17»

القمر يتألق في سماء بهية مغمورة بنور شفيف، وکانت السيدة حکيمة قد تناولت افطارها بعد أداء فريضة العشاء وأخذت مضجعها تسبح الله وتحمده.. وبقربها رقدت السيدة نرجس.. أمّا الامام فقد أخذ مضجعه فوق صفّة في فناء البيت..

عيناه تسافران عبر المدبات البعيدة حيث تومض النجوم سامراء غارقة في هدأة الليل والمنارة الملوّية تبعث ضوءً خابياً يرشد القوافل المسافرة..

البدر ما يزال بهياً في الهزيع الاخير من الليل، وقد کفّت الذئاب البعيدة عن العواء.

استقيظت السيدة حکيمة کعادتها في مثل هذا الوقت لاداء صلاة الليل.. ونهضت تسبغ وضوءها.. ألقت نظرة علي نرجس کانت تغفو بسلام.. أنفاسها منتظمة ووجهها الملائکي يعکس ما تزخر به أعماقها من طهر ونقاء..

کان الامام قد استيقظ وأسبغ وضوءه لرحلة الليل يرافق القمر والنجوم.. قلبه يطوف السماوات البعيدة.. لم يکن الامام ذاق



[ صفحه 135]



من النوم سوي لحظات.. وکيف له أن ينام وهو يترقب ميلاد البشارة.. بشارة الرسالات القديمة..

في هذه الليلة المبارکة سيولد شبيه موسي بن عمران وعيسي بن مريم..

أدّت السيدة حکيمة وردها في غمره الليل.. وعندما جلست تسبّح لله.. هبّت نرجس من رقادها تغمرها حالة من ذعر وترقب..

غادرت الحجرة تسبغ الوضوء لصلاة الليل..

کانت السيدة حکيمة تراقبها طوال الوقت ولم يکن يبدو عليها أي من آثار الحمل..

الفتاة الطاهرة مستغرقة في العبادة وشلاّل من الصلاة يتدفق في جنبات المکان.. وقد غمرت الفضاء أنفاس السحر النديّة..

لحظات السحر الاخيرة.. لحظات لا تنتمي لليل ولا للنهار..

الفجر الاول علي وشک الانفلاق.. وقد نفذ صبر العمّة المؤمنة.. خرجت لتنظر الي السماء وقد تداخلها شک في وعد الامام.. هتف الامام من مصلاّه في فناء البيت وقد اشتد سطوع النجوم:

ـ لا تعجلي يا عمّة.. فانّ الامر قد قَرُب!!

وفيما هي تهمّ بالعودة ناداها الامام:

ـ لا تشکّي..



[ صفحه 136]



شعرت المرأة بالخجل من طبيعة مشاعرها وهي المرأة التي نشأت في دفء أهل البيت..

وفي باب الحجرة وقعت عيناها علي نرجس مذعورة خاطبتها العمّة بلهفة:

ـ هل تحسّين شيئاً يا ابنتي؟

ـ نعم يا عمّة! اني أجد أمراً شديداً.

قالت حکيمة وهي تهدّي من روعها:

ـ اسم الله عليک.. اجمعي نفسک... واجمعي قلبک.. فهو ما قلت لک..

ـ أنا خائفة يا عمّة!!

ـ لا خوف عليک يا ابنتي.

وقادت السيدة حکيمة الفتاة الطاهرة سليلة مريم البتول الي وسط الحجرة.

والقت لها وسادة واجلستها برفق استعداداً للحظة الميلاد الموعودة..

کانت السيدة حکيمة في حال يرثي لها، وعرق جبينها بسبب ما تبذله من جهد للسيطرة علي مشاعرها التي راحت تضطرم في أعماقها..

ان لحظات الميلاد تقترب سوف يأتي الي الدنيا الصبي الذي بشّرت به الانبياء..



[ صفحه 137]



أمسکت نرجس بيد العمّة الطيبة وراحت تعصرها عصراً شديداً.. اءنها لحظات المخاض الکبير..

انطلقت أنّة تجسّد کل آلام الميلاد... الفضاء يغمره جوّ غريب لم تألفه من قبل أنها تکاد تحس خفق أجنحة الملائکة..

وخيّل اليها أنها تسمع همهمة تشبه تلاوة لا´يات القرآن..

السيدة حکيمة تکاد تفقد توازنها.. وسمعت الامام يناديها من وراء الحجرة:

ـ اقرأي عليها سورة الدخان

وراحت السيدة حکيمة تتلو آيات الدخان:

ـ بسم الله الرحمن الرحيم

حاء، ميم... والکتاب المبين.. انا انزلناه في ليلة مبارکة.. اءنّا کنا منزلين.. فيها يفرق کل أمر حکيم...

غمر فضاء الغرفة جوّ عجيب.. وکانت نرجس تطلق أنّات الميلاد وتعصر بشدّة کفّ السيدة الطيبة... فجأة انبثق نور بهر عيني السيّدة ولم تعهد تري ما حولها.. فکأن نرجس نفسها قد اختفت..

دقّ قلبها خوفاً.. وهبّت صوب باب الحجرة تستنجد بابن اخيها..

کان الامام علي مقربة من الباب فنادي عمّته:

ـ ارجعي يا عمّة.. انک ستجدينها في مکانها..



[ صفحه 138]



کان وجه نرجس يسطع نوراً سماوياً.. وبدت وکأنها مريم ابنة عمران وقد جاءها المخاض عند جذع النخلة..

ورأت الصبي متلقياً الارض بهيئة السجود..

کان نظيفاً.. طاهراً ليست فيه آية آثار الميلاد..

کلؤلؤة تشعّ علي شاطيء بحر.. أو کقطرة ندي تتألق فوق زهرة في أول الفجر...

وکان الاب ينظر الي السماوات وقد بدت النجوم قلوباً تنبض بالامل..

الصبي القادم من رحم البشارات يحمل ملامح النبوات الغابرة.. يحمل من موسي بن عمران خشية الفرعون، وکان يبحث عنه جنيناً.. ويحمل من المسيح عيسي بن مريم کلماته في المهد صبياً... ويحمل من نوح عمره الطويل ومن ابراهيم فأسه التي هشم بها وجوه الا´لهة المزيّفة ومن محمد الامين اسمه وکنيته ورسالته...

اخذت حکيمة الصبي الطاهر بکتفيه وضمته الي صدرها وأجلسته في حضنها.. وناداها الاب بلهفة من يريد رؤية الوليد المبارک:

ـ هلمّي اليّ يابني ياعمّة.

وحملته السيدة حکيمة وقد غمرتها حالة من الخشوع لکلمة الله ووعده الصادق.



[ صفحه 139]



أخذ الاب ابنه وأجلسه علي راحته اليسري وجعل راحته اليمني علي ظهره وراح يشمّ ابنه الطاهر في عينيه وأذنيه وفمه وهمس بصوت فيه ترجيعة لاصوات الرسل:

ـ تکلم يا بني! انطق بقدرة الله!

تکلم يا حجة الله! وبقية الانبياء.. وخاتم الاوصياء!!

تکلّم يا خليفة الاتقياء!

وحدثت المعجزة: وتدفق صوت ملائکي من الصبي الذي تلا آية تجسد أهداف السماء وطريق الانبياء.

ـ بسم الله الله الرحمن الرحيم.. «ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الارض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين..

ونمکن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا يحذرون».

وغمرت الدموع عين الاب لقد تحقق وعد الله.. ان الله لايخلف الميعاد..

وانفلق الفجر.. وارتفع الاذان من مآذن سامراء، وقال الاب لعمّته التي طفح علي وجهها الفرح الاکبر.

ـ يا عمّة ردّيه الي امّه کي تقرّ عينها، ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق، ولکن أکثر الناس لا يعلمون. [44] .

کلمات الا´ذان ما تزال تنساب في لحظات الفجر النديّة..

وضعت السيدة حکيمة الصبي الطاهر في احضان والدقة التقية وغادرت المکان.



[ صفحه 140]



کانت الفرحة تتألق في عينيها بالرغم من مسحة الحزن.. فهذا الصبي يجب أن يبقي ميلاده سرّاً!!

وغمرت الام ابنها بنظرات تزخر بالرحمة والحنان.. يا ولدي الحبيب.. کيف تعيش بين أناس يبحثون عنک ليقتلوک؟!

الصبي نائم تتألق فوق وجهه هالة من أنوار النبوّات الغابرة وبشائر الرسالات القديمة...

أنفاسه الهادئة فيها أنغام الزبور.. تراتيل التوراة.. بشارة الانجيل وآيات القرآن العظيم..

لقد سمعت من زوجها النبيل أنها ستنجب صبياً يملا الارض بالعدالة والحقيقة..

وتوهّجت في أعماقها کلمات مقدسة کانت قد حفظتها وهي تتردد علي الکنيسة:

ـ «وأما اسماعيل فقد سمعتُ قولک فيه، وها أنذا أبارکه وانمّيه وأکثّر عدده جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً واجعله امّة عظيمة». [45] .

هاهي تنجب الامام الثاني عشر.. خاتم الاوصياء.. والانسان الذي يحقق احلام الانبياء.

قبل ان تغيب نجمة الصبح کان الامام قد طلب من عمّته ومن زوجته أن يبقي ميلاد الصبي سرّاً مکتوماً عن الجميع.



[ صفحه 141]



«18»

نظرت نرجس الي ابنها الغافي في المهد.. وجهه الاسمر يتألق بأنوار عجيبة.. وخيل اليها أنها تسمع همهمة وأصواتاً ملائکية... وشذي الحجرة يفوح بعطر لا تعرف کنهه..

کم کانت تودّ أن تضع وليمة کبري تشبع بطون الفقراء وتعلن للعالم ميلاد الصبي الموعود؟!

کم کانت تودّ أن تکون کفاطمة الزهراء التي قدّمت ولدها البکر الحسن ثم الحسين.. ان تکون کمريم وقد جاءت تحمل المسيح عيسي يکلّم الناس في المهد صبياً؟!

ولکن هذا الصبي الذي وعدت السماء بميلاده يجب أن يبقي سرّاً في حرز حريز في صدور المؤمنين الذين يترقّبون هذه اللحظة الخضراء..

اءنّها تدرک تماماً معاناة زوجها الکريم.. فهذا الاب المحاصر يحمل هموم الدنيا... اءنّ عليه أن يثبت ميلاد ابنه الذي بشّر به آباؤه وأجداده.. اءنّ عليه أن يعلن أن تحقّق نبوءة جدّه النبي صلي الله عليه وآله وسلم: «يکون بعدي اثنا عشر خليفة»، فکيف يخفي ميلاده ويطمس اسمه ويخفي وجوده؟



[ صفحه 142]



وعليه أيضاً أن يحمي ابنه الامل من السيف العباسي المشهور.. ومن عيون الجواسيس.. عيون زجاجية لا يطرق لها جفن..

ما الذي سيفعله الامام في هذه الظروف الخطيرة؟!

مرّت ايام عندما قام الامام بختان ابنه فقالت الام:

ـ ولکنه ولد مختوناً مطهّراً!!

قال الامام:

ـ أجل انه کآبائه ولکنها سنّة لا نتخلّف عنها.. وامرار الموس عليه يجزي ذلک. [46] .

وفي الصباح الباکر غادر کافور الخادم المنزل صوب تاجر الزيوت عثمان..

أمر الامام تاجر السمن أن يعقّ عن المولود المبارک عدداً من الشياه وأن يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم ويوزعه علي الفقراء. [47] .

وفي ذلک اليوم شبع الفقراء والبؤساء خبزاً ولحماً.. انهم لايعرفون من أين جاءتهم هذه الموائد الطيبّة فولّوا وجوهم شطر السماء الزرقاء يحمدون الله الذي أشبعهم بعد سغب طويل.

وأرسل الامام الي ابراهيم بن مهزيار بأربعة أکبش مع رسالة جاء فيها:



[ صفحه 143]



«بسم الله الرحمن الرحيم..

عقّ هذه عن ابني محمد المهدي.. وکل..

هنأک الله.. واطعم من وجدت من شيعتنا». [48] .

کما بعث الامام برسالة الي الشيخ احمد بن اسحاق الاشعري يبشّره فيها بميلاد ولده المهدي جاء فيها:

ـ «ولد لنا مولود.. فليکن عندک مستوراً، وعن جميع الناس مکتوماً... فاءنّا لم نظهر عليه الاّ الاقرب لقرابته.. والولي لولايته.. احببنا اعلامک ليسرّک الله به کما أِسرّنا.. والسلام». [49] .

هزّت الکلمات الموجزة وجدان الرجل الاشعري الذي قرّر أن يشدّ الرحال الي سامراء.. الامل يحدوه برؤية الصبي الذي بشّرت به النبوّات.

عندما وصل سامراء کانت رياح تشرين قد بدأت هبوبها.. تجوس الازقة والشوارع، وکانت المدينة شبه مقفرة باستثناء السوق الکبري فقد کانت تزخر بالنشاط.

ولم يکن هم الاشعري سوي الوصول الي منزل الامام ولکنه تماهل متعمداً ليتأکد من عدم وجود من يراقبه، فهو يعرف حساسية الحکومة من أهل قم وعلاقاتهم الوطيدة بأهل البيت..

وعندما ولج درب الحصا حَثّ الخطي متوجساً متوکّلاً علي علاّ م الغيوب.

طرق الباب فألفي بواباً من أهل فارس يفتحه وکأنه کان مترقباً حضوره في هذه اللحظة!



[ صفحه 144]



کان الاشعري قد هيّأ مقدمة مناسبة لطرق الموضوع الذي تجشم عناء السفر من أجله، وهو السؤال عن الذي ينهض بالامامة؟

وفوجي الرجل بالامام يبتدأ الکلام قائلاً:

ـ يا أحمد بن اسحاق ان الله تبارک وتعالي لم يخلِ الارض خلق آدم ولا يخليها الي أن تقوم الساعة من حجة علي خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الارض وبه ينزل الغيث، وبه تخرج برکات الارض...

وجد الاشعري الفرصة مناسبة فقال:

ـ يا ابن رسول الله! فمن الامام والخليفة بعدک؟

ابتسم الامام ونادي:

ـ ماريا!

وجات جارية تحمل شيئاً مغطّي قال الامام وقد طفحت فرحة أمل علي وجهه:

ـ اکشفي عن وجهه!

ازاحت الفتاة منديلاً ناصع البياض اسفر وجه بهي لصبي بدا في الثانية من عمره... عينان تتألقان بنور شفيف وملامح عربية أصيلة وما زاده جمالاً استقرار خال علي خدّه الايمن قريباً من الفم.



[ صفحه 145]



کان الاشعري مبهوراً بما يري وقد اعتملت في اعماقه مشاعر استفهام فهذا الصبي يبدو عليه أنه قد تعدّي العامين من العمر وکان يتصور أنّه ولد قبل شهرين أو ثلاثة!

أدرک الامام ما يموج في أعماقه فقال:

ـ «ان أولاد الانبياء والاوصياء اذا کانوا ائمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وأن الصبي منّا اءذا کان أتي عليه شهر کان کمن أتي عليه سنة». [50] .

ظلّ الاشعري مأخوذاً بمنظر صبي وجهه يتلالا کقمر بهي تحيطه هالة شفافة من النور، قال الامام:

ـ يا أحمد بن اسحاق لولا کرامتک علي الله عز وجل وعلي حججه ما عرضت عليک ابني هذا..

اسمه اسم رسول الله.. وکنيته کنية رسول الله.. وهو الذي يملا الارض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً..

سکت الامام لحظات واستطرد قائلاً:

ـ يا احمد بن اسحاق مثله في هذه الامة مثل الخضر ومثله مثل ذي القرنين.. والله ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلکة الاّ من ثبته الله عز وجل علي القول باءمامته ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه.

قال الاشعري:

ـ يا مولاي فهل من علامة يطمئن بها قلبي نظر الامام الي وليده الحبيب.. الي وجهه الذي يتلالا کالقمر..



[ صفحه 146]



فوجي الاشعري بالذي نطق في المهد صبياً. يقول:

ـ أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من اعدائه.. لا تطلب أثراً بعد عين.. يا أحمد بن اسحاق!!

شعر الرجل الاشعري بحالة من الخشوع تغمر قلبه ووجوده انه الا´ن أمام الانسان الذي قُدّر له أن يولد في الزمن المرير.. أمام صبي يحمل ملامح من الانبياء أضاءوا التاريخ.. أمام صبي في قصته شيء من موسي وقد ولد في زمن الفرعون.. ومن عيسي المسيح وقد نطق في المهد صبيا.. ومن جدّه محمد اسمه وکنيته ورسالته الاخيرة.. ولکن ما الذي يحمله من الخضر ياتري.. تساءل الاشعري فقال الذي عنده علم الرسالات القديمة:

ـ طول الغيبة يا احمد!

ـ واءن غيبته لتطول يا بن الرسول؟!!

قال الامام وهو يغمر الصبي بنظرات دافئة:

ـ أي وربّي حتي يتراجع عن الايمان به اکثر القائلين به، فلايبقي الا من أخذ الله عهده بولايتنا وکتب في قلبه الايمان وأيّده بروح منه..

وسکت لحظات ثم قال وهو يصوّب نظراته الي الرجل المؤمن:

ـ يا أحمد بن اسحاق هذا أمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله



[ صفحه 147]



وغيب من غيب الله.. فخذ ما آتيتک واکتمه وکن من الشاکرين.. تکن معنا في علّيين..

وأحسّ الامام بوجود البوّاب في الرواق فناداه وسرعان ما امتثل أمامه.. قال الاءمام للفتاة اکشفي الغطاء عن وجه ابني، والتفت الي البوّاب قائلاً:

ـ هذا صاحبکم!

وقال للفتاة:

ـ احمليه الي امّه. [51] .

وظلّ البواب مذهولاً للحظات.. لقد مضي علي استخدامه شهور طويلة في هذا المنزل ولکنه لم يشعر أبداً بميلاد هذا الصبي المبارک ولا بوجوده.. وها هو يراه للمرّة الاولي وربّما الاخيرة. [52] .



[ صفحه 148]



«19»

العالم الاسلامي المترامي، الاطراف يعيش نهايات سنة 256ه وقد بدأت الاستعدادات لموسم الحج في المدن والحواضر البعيدة.

اما سامراء فقد کانت تشهد مراسم توديع الخليفة للقائد موسي بن بغا الذي ترأس الحملة الکبري لقهر الحسن بن زيد العلوي بعد أن تفاقم خطره خاصة اثر سقوط مدينة الري في قبضته..

وکانت المؤشرات السياسية داخل العاصمة تؤکد أن مقاليد الحکم قد باتت في يد طلحة بن المتوکل الذي عرف بالموفق، وأن المعتمد بشخصيته الضعيفة لا يستطيع الحدّ من نفوذ أخيه المتنامي فالاتراک يميلون اليه منذ نجاحه في حصار بغداد سنة251 ه وارغامه المستعين علي التنازل.

ولو کان حاضراً ابّان الحوادث التي أدّت الي سقوط المهتدي ومصرعه لسمّي خليفةً، ولکنه کان منفياً في مکة، ولهذا الحّ الاتراک فور تسمية المعتمد خليفة علي استدعائه من مکّة وتفويضه القيادة العليا للجيش والقوّات المسلّحة. [53] .



[ صفحه 149]



ولم يبق للمعتمد من الخلافة سوي قدراً تافهاً من النفوذ بينما ترکزت القدرة في يد أخيه الذي بدأ استعداداته للزحف صوب البصرة للقضاء علي الزنوج الثائرين..

برز عبيدالله بن يحيي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء منذ أکثر من ثلاثة شهور شخصية ادارية لها دورها الکبير في تمشية شؤون الدولة واصبح مجلسه مهيباً کشخصية لها نفوذها الواسع... وهو بالرغم من ولائه المطلق للعباسيين الاّ انه بدأ يکنّ الاحترام للعلويين منذ مصرع المتوکل فقد شهد بنفسه کرامات أهل البيت..

ولکي يخفف الامام من محنة العلويين والشيعة خاصّة بعد تفاقم الخطر العلوي في ايران ومصر والحؤول دون موجة جديدة من الاضطهاد يقوم الامام بزيارة الوزير في مقرّ عمله الرسمي.

جاء توقيت الزيارة دقيقاً وحکيماً فهو أولاً نوع من التأييد لسياسة رئيس الوزراء الذي استهدف تثبيت دعائم الامن في البلاد.. وأيضاً ادانة صريحة لثورة الزنج خاصة بعد الفظائع التي ارتکبها الثوّار في البصرة وانتهاکهم الاعراض وقيام زعيم الثورة باعلان انتسابه الي أهل البيت!!

کما أن رئيس الوزراء قد بات يعتقد بقداسة أهل البيت وهو يحترم من صميم قلبه الامام الراحل علي الهادي وولده الذي يشبهه خلقاً وخُلقاً.



[ صفحه 150]



کان مجلس رئيس الوزراء ذلک الصباح حافلاً ومهيباً.. وکان عبيدالله بن يحيي جالساً وقد هيمن صمت مهيب هو انعکاس لسطوة الرجل وهيبته.. وما اضفي الرهبة في المکان انتصاب حرس شديد کتماثيل منحوتة من صخور قاسية.. حتي نجل رئيس الوزراء أحمد هو الا´خر کان واقفاً خلف والده باءجلال..

ولج الحاجب ليقول بعد أن انحني أمام الرجل المهيب:

ـ أبو محمد ابن الرضا بالباب ينتظر الاذن؟!

هتف ابن يحيي بصوت يسمعه الضيف الکريم.

ـ اءئذنوا له!

وظهر الامام الحسن بقامته الاخّاذة ووجهه الاسمر وبالرغم من أن سنّه کان في الرابعة والعشرين الاّ ان ما ينوء بحمله قد أشعل بعض الشيب في ذقنه مما أضفي عليه وقاراً..

وهبّ رئيس الوزراء لاستقباله وقطع بعض الخطي مبالغاً في احترامه وصافحه بحرارة ثم عانقه وقبّل جبينه وأخذ بيده ليقوده الي مصلاّ ه.

فغر أحمد فاه من الدهشة وهو يري سلوک والده الذي لم يبدر منه حتي مع «الموفق» رجل الدولة القويّ، والقائد العام للجيوش العباسية.

لم يکن قد مضي وقت علي اللقاء عندما أعلن الحاجب عن



[ صفحه 151]



حضور الموفق.. وما لبث حرسه الخاص أن اصطفوا علي امتداد الرواق المؤدّي الي مجلس رئيس الوزراء.

نظر الامام الي رئيس الوزراء نظرة لها معني فوجوده في هذا المکان قد يثير هواجس «الموفق» المعروف بحساسيته تجاه العلويين خاصّة في هذه الظروف.. أدرک ابن يحيي رغبة الامام فقال:

ـ اذا شئت جعلني الله فداک!

ونهض اجلالاً له وعانقه.. وأمر الحاجب بمرافقة الامام الي باب فرعية... وأخذ الامام طريقه خلف الحرس المصطفّين کالتماثيل استعداداً لحضور الموفق الذي وصل توّاً.

ما اءن استقرّ الموفق في مجلسه حتي دار الحديث حول ثورة الزنوج التي اصبحت تشکل تهديداً خطيراً للدولة.. وانصبّ الاهتمام حول التجهيزات العسکرية اللازمة وضرورة ان يعلن ابن الرضا مواقفه من مزاعم قائد الزنوج حول حقيقة انتسابه الي الامام علي عليه السلام واکّد علي ضرورة حضور ابن الرضا في مراسم توديع الحملة العسکرية المزمع تنفيذها بعد أيام..

مضت أيام ثم تقرّر الموعد النهائي لاجراء مراسم توديع الموفق قائداً عامّاً للجيوش الزاحفة صوب مدينة البصرة لاخماد ثورة الزنوج.. وخلال تلک المدّة صدر عن الامام الحسن اعلانه الهام في موقفه من قائد الثورة التي استحالت الي فتنة هوجاء، وتناقل الناس تصريح الامام: «صاحب الزنج ليس منّا أهل البيت».



[ صفحه 152]



وکان لهذا التصريح آثاره الطيبة في أوساط الناس فأهل البيت يبقون رمزاً للمقاومة الايجابية والعدالة الانسانية، وان کل من ينتهک حرمات الاسلام والمسلمين ليس من أهل البيت وان ادّعي ذلک... واءن انتسب الي ذلک البيت.. سوف ينسلخ کل من لايسير علي خطي آل الرسول.. تلک هي مبادي أهل البيت ودربهم اللاحب منذ أن اضاءت في سماء المدينة المنوّرة آية التطهير: (ليذهب الرجس عنکم أهل البيت ويطهرکم تطهيرا)..



[ صفحه 153]



«20»

کان ذلک الصباح من ربيع الاول سنة 258 ه أخريات خريف سنة 871م حافلاً فقد تدفق سکان سامراء لحضور مراسم توديع الخليفة المعتمد لاخيه الموفق.. وقد وجد الشيعة في هذه المراسم فرصة لرؤية الامام الحسن فربّما يحظون بلقاء عابر معه في الطريق.. ولذا وقف بعضهم في الطريق بين «درب الحصا» حيث يوجد منزل الامام وبين «الجوسق» قصر الخلافة المهيب والذي يُدعي «باب العامّة».

وقد بدا اءنّ «سوق الغنم» الذي يقع في الطريق کان افضل مکان لانتظار موکب الامام..

کان «محمد بن عبدالعزيز البلخي» واقفاً يتظاهر بأنه جاء لشراء ما يلزمه من السوق فيما کان يختلس النظر بين الغينة والاخري صوب نقطة في بداية منعطف علي اليمين..

وظهر موکب الامام.. ولاح ابن الرضا بوجهه الاسمر الوسيم بعينيه الواسعتين لکأنهما نافذتان تطلاّ ن علي عالم زاخر بالسلام..

کان الامام يرکّز نظراته علي نقطة ما يبدو لمن يراه أنه ينظر الي عُرف بغلته..



[ صفحه 154]



کان البلخي ينظر الي الامام مأخوذاً بهيبته.. اءنّه ينظر الي سليل الانبياء... فهذا الانسان هو الوحيد الذي يحمل الامانة.. انه حجة الله علي العالمين ومن أفترض الله طاعته علي العباد.. وکاد الرجل أن يهتف: يا أيها الناس! هذا حجة الله فاعرفوه!

لکنه فوجي بالامام يرسل اليه نظرة عندما اصبح قريباً بل اءنّه أومأ باصبعه ووضعها علي فمه أن اسکت ولم يتمالک «البلخي» أن هبّ اليه ليطبع قبلة علي رکبته فهمس الامام بصوت خافت فيه حزن الانبياء:

ـ أما أنّک لو اذعت لهلکت.. انما هو الکتمان أو القتل فابقوا علي أنفسکم! [54] .

أجل ايها البلخي هذا زمن يصلب الانبياء.. ورياح الزمهرير تحاصر الفراشات القادمة وهي تبشر بالربيع... لقد ولد الذي سيظهر لينقذ الناس من نير الظلم والقهر والعبودية ويغسل الارض من الا´ثام.. فانتظر!

انضمّ موکب الامام الي موکب الخليفة الکبير وبدأت مراسم توديع «الموفق» القائد العام للجيوش العباسية، وقد بدأت المراسم من «باب العامة» الي ضواحي سامراء بالقرب من قصر «برکوارا» [55] علي شاطي دجلة. [56] .

اجتاز موکب الخلافة البساتين في ضواحي سامراء وهناک