سنّة سماوية
إن من سنن الله تعالي في خلقه، هو أن من يرتدّ عن دينه الحنيف - نظرياً أو عملياً - يصاب بالذلة والضياع في دنياه قبل آخرته. وفضلاً عن أن هذه الحقيقة مثبتة في الآيات والأحاديـث، فهـي مجربـة وملموسة، بالذات لمن اهتدي الي الإسلام، حيث يجد في داخله راحة واطمئناناً عجيباً.
وفي القصة القرآنية التالية يشير الله تعالي إلي هذه الحقيقة، وإلي ضرورة الإيمان بالغيب والتسليم للتکاليف الشرعية، وإلي ضرورة نبذ ثقافة التبرير الجاهلية التي تعتبر مصداقاً علي تراجع الأمة ودليلاً علي تخاذلها وذلها. ففي سورة البقرة يوضح الله تعالي الذل والتراجع الذي أصاب بني إسرائيل، حينما أصابهم مرض الرغبة في التهرب من التکاليف الشرعية، وعدم إيلائهم رسول الله موسي بن عمران عليه السلام حقّ منزلته وشرفه.
«وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُکُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْجَاهِلِين ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّکَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِکْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِکَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّکَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ اِنَّهُ يَقُولُ اِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّکَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِنْ شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَشِيَةَ فِيهَا قَالُوا الاَنَ جَئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا کَادُوا يَفْعَلُونَ» (البقرة/67-71)
إنهم اتّهموا نبيهم بالسخرية والاستهزاء رغم أنه لم يکن کذلک، بل کان رجلاً قائداً عملاقاً شديد المراس. وأرادوا التملّص من الواجب المکتوب عبر التساؤل المتکرّر، حيث کانوا يأملون نفاذ صبر النبي موسي عليه السلام، أو عسي الله أن يبدل رأيه... ثم إنهم ولفرط الضعف في إيمانهم کانوا يصفون الله بأنه رب موسي، وکأنه ليس ربهم أيضاً؛ أي کأن الأمر لا يعنيهم، وأنهم حينما ينفذون المهمة يمنون علي نبيهم وعلي ربه..!
«فَذَبَحُوهَا وَمَا کَادُوا يَفْعَلُونَ». أي أنهم نفذوا الأمر دون تسليم أو رغبة أو تعبّد أو رجاء للثواب.. وهم کلّما يتباطؤون في التنفيذ، کلما زادت عليهـم المشاکل. ففي وقت کان المطلوب منهم ذبح مجرد بقرة - تلاحظ الصيغة النکرة هنا - سوّفوا الأمر حتي اضطروا في نهاية المطاف الي البحث عن بقـرة فريدة من نوعها، وبعد عناء شديد وجدوها في حوزة عجوز فيهم، وهذه العجوز حينما علمت حاجتهم الي بقرتها أخذت بالمساومة والتمنّع ورفع السعر أضعافاً مضاعفاً، حتي اضطرتهم الي القبول بشرائها مقابل أن يملؤوا جلدها - بعد سلخها - ذهباً!!
هذا واقع بني إسرائيل، أما صحابة الرسول صلي الله عليه وآله، والخلّص من الشيعة، فقد کانت سمتهم الأولي أنهم کانوا يتمتعون بروح الانضباط والتسليم، إيماناً منهم بالله الذي لا يريد سوي فائدتهم، وحبّاً في التعبّد الخالص الذي هو الآخر لا يعود بغير الفائدة عليهم.
أمّا نحن - في الوقت الراهن - فلو کنّا أطعنا قياداتنا الإسلامية منذ النداء الأول، ودخلنا في العمل بروح جماعية، لما وصل بنا الحال علي ما هو عليه الآن، ولکانت التضحيات أقل بکثير، ولکانت النتائج الإيجابية أکثر بکثير. إلا أن ثقافة التبرير والتسويف قد تأصلت بنا وتجذرت فينا الي حدٍ لا يمکن الخلاص منها من دون العودة الي مفاهيم القرآن الکريم، وتفسيره
للسنن الکونية الخاصة بهذا الإطار.
إننا بأمس الحاجة إلي الاقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي کان قوله وفعله وسکنه رهن إشارة صغيرة من النبي صلي الله عليه وآله. فکنت تراه أول المضحين، وأول المقاتلين، وأول المؤمنين، وأول المنفذين.. وهو بذلک يضرب للمسلمين المثل الأعلي في الانصهار في المفاهيم القرآنية، وفي التربية الرسالية؛ روحاً ومظهراً، فما أحوجنا نحن اليوم الي تطبيق الإسلام، وهو الموجود في کتاب الله المقدّس، تطبيقاً فردياً واجتماعياً ومصيرياً..