واجبنا في عصر الغيبة
ولکن السؤال المهم المطروح هنا هو: ماذا علينا أن نعمل ونحن نعيش عصر الغيبة؟
إن علينا أن نعلم ونحن في عصر الغيبة أن شعلة الأمل الإلهي لابد أن تبقي وتستمر في قلوبنا، فالطغاة يحاولون أن يسلبوا منّا الأمل والرجاء، وهم يعملون جاهدين من أجل أن ينخر اليأس قلوبنا، ويکيلوا لنا الضربات الموجعة.. وهذا هو هدف الطغاة، ولکننا عندما نعلم ان الله سبحانه قد ادخر لنا أملاً ونجاة فإننا سنعرف أن نهاية هذه المسيرة ستکون سعادة الإنسان، وأنّ العاقبة للمتقين، فهذه المسيرة بالرغم من صعوباتهـا، وما يکتنفها من المشاق، وما تتطلّب من التضحيات الشخصية، فإنها سوف تنتهي بالنصر المؤزر.
إن الطغاة في الأرض استطاعوا أن يقهروا البشر، ولکنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا علي الأمن والاستقرار رغم ذلک، لأن الشعوب ماضية في مقاومتها لهم، وهي غدت تشکل الآن خطراً حقيقياً يهدد مصالحهم، ويقضّ مضاجعهم، وما علينا إلا أن نستمر في هذه المقاومة لکي نکون بذلک قد جسّدنا المفهوم الحقيقي للانتظار الذي يعني تهيئة الأرضية المناسبة لظهور إمامنا المفدّي المهدي عجل الله فرجه.
الإيمان بالغيب؛ ماذا يعني؟!
«الم ، ذَلِکَ الکِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُديً لِلمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمآ اُنْزِلَ إِلَيْکَ وَمآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِکَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُوْلئِکَ عَلَي هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِکَ هُمُ المُفْلِحُونَ» (البقرة/1-5)
ما هو الغيب؟ وما هو موقفنا من الغيب؟ وما هي علاقة الغيب بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام؟
قبل استعراض الإجابة علي الأسئلة المتقدمة الذکر أودّ الإشارة إلي انّ القليل من الناس من يتزود بأحسن الزاد.
وإننا جلوس حول مائدة العقيدة المبارکة؛ فلا يکن حظّنا سوي رشحات، وإنما ليحاول کلٌ منّا أن يکون زاده الأکثر والأنفع. لذلک فإنني حاولت وأحاول أن أتحدث عن قضية هامة جداً، وهي قضية الغيب، لأنها من وجهة نظر العقيدة الإسلامية قضية محوريـة من شأنها أن تحدد علاقاتنا بالحقائق، فما هو الغيب يا تري؟
يؤکد القرآن الحکيم بادئ بدء أن آياته الکريمة هديً، ولکــن ليس لکل من هبّ ودبّ، بل هي هديً للمتقين. وأبرز صفات هـؤلاء المتقـين الذين سيقول عنهم القرآن في الموقع التالي: «أُوْلئِکَ عَلَي هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِکَ هُمُ المُفْلِحُونَ» أبرز الصفات فيهم هي الإيمان بالغيب، فهو الشرط الأساس في إيمان الإنسان المتقي الذي حصر الله سبحانه وتعالي فيه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
ومرة أخري؛ أتساءل: ما هو الغيب؟ ولماذا أصبح الإيمان بالغيب محوراً أساسياً للإيمان؟
إن الله جلّ جلاله هو الغيب، إن الرسالات السماوية هي الغيب، إن الآخرة هي الغيب، إن الإمامة في أهل البيت وعصمتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي الغيب. وإن أبرز وأهم غيب في حياتنا، هو الإيمان بوجود وظهور وانتصار الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ولکن لماذا؟..
الجواب: إن الغيب هو خلق الشهود، وهو أصل الشهود، وهو روح الشهود، وهو محتوي الشهود، وهو في الحقيقة النور الأسطع للشهود. فاللّب أهم من القشرة، ومن أراد شراء بضاعة ما فهو يهتم بتحديد حقيقة هذه البضاعة دون الاکتفاء أو الاهتمام بما يعکسه مظهرها. وعلي الرغم من أنّ کثيراً من الناس يقول بأن ماکنة السيارة هي التي تحرّک السيارة؛ لکنني أقول - کما هي الحقيقة - إن وقود السيارة، هو غيب السيارة وهو الوجه الآخر الأصيل لذاتها. وإنّ ضوء الشمس ليس هو الشمس، وإنما عين الشمس الغائبة عنّا هو التفاعلات الذرية الحادثة باستمرار في الشمس، ولولا هذه التفاعلات لما أضاءت الشمس ولو للحظة واحدة وإن غيب الإنسان ليس حرکته أو سکنته، وإنما الغيب فيه کامن في قوة قلبه وسلامة أعصابه وشرايينه ومخّه. وإذا أمعنّا النظر في حقيقة الإنسان لوجدنا أن مخّه ليس هو الأساس فيه، وإنما الروح هي المحور لديه، وإذا أمعنا النظر ثانيةً لعرفنا أن العقل هو موجّه هذه الروح. ثم إن هذا العقل والحياة والقدرة الکامنة في الروح يقف وراءها أمراً أهم بکثير منها مجتمعةً، وهي إرادة الله سبحانه وتعالي، ولولا مشيئته وإفاضته وقدرته ونوره لتلاشت الروح الإنسانية؛ أو لنقل: لو لم تکن الإرادة الإلهية في إيجاد الروح والقدرة لدي الإنسان، لأصبح هذا الأخير کالجماد أو هو أعجز من الجماد، إن صحّ التعبير عن وجود جمادٍ في هذا الکون العجيب!...
إذن؛ فکلّ حلقة من حلقات الغيب تأخذ أهميّتها وموقعها من مستوي التعمق في النظر إليها. فکلما کانت هذه الحلقة أبعد من حيث الترتيب والعمق، کلما جسّدت هي الأساس والمصدر؛ أما النور والمظهر فلا شيء مهم يذکر فيهما، هذا هو الغيب...
والإيمان بالغيب عادةً ما يکون فارقاً بين الإنسان والحيوان؛ الحيوان العاجز عن النفوذ إلي اللّب والجوهر إلاّ بالحواس المادية. والبشر بدورهم علي مراتب متفاوتة تجاه هذه المسألة؛ فالرجل العادي منهم ينظر الي طبيعة المجتمع المتخلفة والفقيرة والمتوترة والمضطربة، ولکنه لا يعرف السبب من وراء ذلک، وهو قد يقول: لعلّ الله خلقهم کذلک!.. ولکن الخبير منهم ينظر بعين متفحصة وخلفية فکرية متينة، فهو يؤکد - عالماً - بأن هناک أسباب للاختلاف والتخلف والفقر والتوتر والاضطراب وباقي الظواهر الأخري. فالخبير يتعمق ويصل إلي العمق، في حين أن الإنسان البسيط أو المعاند أو الجاهل يقتصر علي التعامل مع المظاهر فقط. والفرق بين فريق المؤمنين وفريق الکافرين هو في بالذات. فالکافرون لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا، فهم لا يعرفون إلاّ أنهم يتوالدون ويتناسلون ويتکاثرون، وأنه لا يميتهم إلاّ الدهر. وأما عن الآخرة فهم قوم عمون، لا ينظرون إليها، ولا يعرفون عنها شيئاً. أما فريق المؤمنين فهو من لا يضطر الي جعل الغيب شهوداً حتي يؤمن به، بل هو يرتفع إلي مستوي الإيمان به.
وماذا يعني ذلک؟!
يعني أن الإنسان المؤمن لم يعترف بالموت أو بما وراء الغيب من رؤيته القبر، أو ماوراء القبر من عذاب أو ثواب، وهو لم يؤمن بالغيب من رؤية رآها في المنام، وهو لم يؤمن بأن الميت الفلاني يتعذب في الوقت بعذاب القبر لأنه قد رأي ذلک في منامه، وهو لا يقول إنّ فلاناً في الجنّة لأنه قد رأي رؤية في ذلک، فرؤية المنام لا ينبغي أن تکون العامل الحاسم في الإيمان بالغيب، کيف کان ومتي کان؛ بل إن المؤمن ومن خلال محاکمة عقلية، ومحاسبة علمية، ومن خلال ارتفاع مستوي روحه الي الاستشراف علي الغيب يؤمن بما وراء المادة والغيب. فهو يعلو ويعلو، ويسمو ويسمو إلي أن يصل الي أفق الغيب فيؤمن به کحقيقة ثابتة لا تقبل الشک.
من هنا يقول البعض: اُؤمن بالإمام الحجة، ويسأل: من رأي الحجة؟
ويجيبه رفيقه: لقد رآه بعضهم وقصته کذا وکذا. فهو يؤمن بالإمام المنتظر لأن أحدهم قد رآه في اليقظة أو في المنام، ولو کان لم يُرَ عليه السلام في اليقظة أو في المنام لأصبح لا وجود له!!
إن الاعتماد علي النقل الموثّق أمر صحيح، ولکنه يعبّر عن إيمانٍ جاهل وناقص؛ جاهل من حيث أنه لم يصدر عن ذات عالمة بذاتها، وناقص بالمقارنة مع ما هو کامل.
إن الإيمان الکامل والواعي والقوي هو الإيمان المتنامي من خلال دراسة القرآن وجوهره وروحه، ومن خلال دراسة الأحاديث النبوية الشريفة التي خرجت عن مصدر الحق والصدق الذي هو رسول الله صلي الله عليه وآله، من خلال ذلک يؤمن الإنسان إيماناً أساسياً بحقائق الغيب، لا من خلال رؤية أحد الناس.