بازگشت

تحقيق للعلامة الکراجکي في الغيبة و سببها


قال العلّامة أبو الفتح الشيخ محمّد بن عليّ بن عثمان الکراجکيّ الطرابلسيّ: إن قال قائل: ما السبب الموجب لغَيبة صاحب الزمان عليه وعلي آبائه أفضل السلام؟

قيل له: لا يسأل عن هذا السؤال إلّا مَن قد أعطي صحّة وجود الإمام، وسلَّم ما ذکره من غيبته من الأنام. لأنّ النظر في سبب الغَيبة فرع عن کونها، فلا يجوز أن يسأل عن سببها مَن يقول أ نّها لم تکن، وکذلک الغَيبة نفسها فرعٌ عن صحّة الوجود، إذ کان لا يصحّ غيبة مَن ليس بموجود. فمن جَحد وجود الامام فلا يصحّ کلامه فيما بعد ذلک من هذه الأحوال. فقد بان أ نّه لا بُدّ من تسليم الوجود والإمامة والغَيبة، إمّا تسليم دين واعتقاد، ليکشف السائل عن السبب الموجب للاستتار، وامّا تسليم نظر واحتجاج، لينظر السائل عن السبب، إن کان کلامنا في الفرع ملائماً للأصل، وأ نّه مستمرّ عليه من غير أن يضادّه وينافيه.

فان قال السائل: أنا اسلّم لک ما ذکرتموه من الأصل لا عن نظر، إن کان ينتظم معه جوابکم عن الفرع، فما السبب الآن في غيبة الإمام عليه السلام؟

فقيل له: أوّل ما نقوله في هذا أ نّه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب، ولا يتعيّن علينا الکشف عنه، ولا يضرّنا عدم العلم به.

والواجب علينا اللازم لنا، هو أن نعتقد أنّ الإمام الوافر المعصوم الکامل العلوم، لا يفعل إلّا ما هو موافق للصواب، وإن لم نعلم الأغراض في أفعاله والأسباب. فسواء ظهر أو استتر، قام أو قعد، کلّ ذلک يلزمه فرضه دوننا، ويتعيّن عليه فعل الواجب فيه سوانا، وليس يلزمنا عِلم جميع ما علم، کما لا يلزمنا فِعل جميع ما فعل. وتمسّکنا بالأصل من تصويبه في کلّ فعل، يغنينا في المعتقد عن العلم بأسباب ما فعل. فإن عرفنا أسباب أفعاله، کان حسناً، و إن لم نعلمها لم يقدح ذلک في مذهبنا، کما أ نّه قد ثبت عندنا وعند مخالفينا إصابة رسول اللَّه صلي الله عليه وآله في جميع أقواله وأفعاله، والتسليم له والرضا بما يأتي منه، وإن لم نعرف سببه.

ولو قيل لنا: لِم قاتلَ المشرکين علي کثرتهم يوم بدر، وهو في ثلاثمائة من أصحابه وثلاثة عشر، أکثرهم رجالة، ومنهم من لا سلاح معه، ورجع عام الحديبية عن إتمام العُمرة، وهو في العدّة القوية، ومَن معه من المسلمين ثلاثة آلاف وستمائة، وأعطي سهيل بن عمر جميع مناه، ودخل تحت حکمه ورضاه، من محو بسم اللَّه الرحمن الرحيم من الکتاب، ومحو اسمه من النبوّة، وإجابته إلي أن يدفع عن المشرکين ثلث ثمار المدينة، وأن يردّ من أتاه ليسلم علي يده منهم، مع ما في هذا من المشقّة العظيمة والمخالفة في الظاهر للشريعة، لما ألزمنا الجواب عن ذلک أکثر من أ نّه أعرف بالمصلحة من الأمّة، وأ نّه لا يفعل هذا إلّا لضرورة يختصّ بعلمها ملجئة، أو مصلحة تقتضيه، تکون له معلومة، وهو الوافر الکامل الّذي لا يفرّط فيما أمر به.

وليس عدم علمنا بأسباب فعله ضارّاً لنا، ولا قادحاً فيما نحن عليه من اعتقادنا وأصلنا. فکذلک قولنا في سبب غيبة إمامنا وصاحب عصرنا وزماننا.

ويشبه هذا أيضاً من أصول الشريعة عن السبب في ايلام الاطفال، وخلق الهوام والمسمومات من الحشائش والأحجار، ونحو ذلک مما لا يحيط أحد بمعرفة معناه، ولا يعلم السبب الّذي اقتضاه، فانّ الواجب أن نردّ ذلک إلي أصله، ونقول انّ جميعه فعل مَن ثبت الدليل علي حکمته وعدله وتنزّهه عن العَيب في شي ء من فعله.

وليسَ عدم علمنا بأسباب هذه الأفعال مع اعتقادنا في الجملة أ نّها مطابقة للحکمة والصلاح؛ بضارّ لنا، ولا قادح في صحّة أصولنا، لأنّا لم نُکلَّف أکثر من العلم بالأصل، وفي هذا کفاية لمن کان له عقل.

وهکذا أيضاً يجري الأمر في الجواب إن توجّه إلينا السؤال عن سبب قعود أميرالمؤمنين عليه السلام عن محاربة أبي بکر وعمر وعثمان، ولم يقعد عن محاربة من بعدهم من الفرق الثلاث. والأصل في هذا کلّه واحد، وما ذکرناه فيه کافٍ للمسترشد.

فإن قال السائل لنا: جميع ما ذکرته، من أفعال اللَّه عزّوجلّ فلا شبهة في أ نّه أعرف بالمصالح فيها، و أنّ الخلق يعلمون جميع منافعهم ولا يهتدون إليها.

وأمّا النبيّ عليه السلام وما جري من أمره عام الحديبية فإنّه علم المصلحة في ذلک بالوحي من اللَّه سبحانه.

فمن أين لإمامکم عِلم المصلحة في ذلک وهو لا يُوحي إليه؟

قيل له: إن کان إمامناعليه السلام إماماً، فهو معهود إليه، قد نصّ له علي جميع ما يجب تعويله عليه، وأخذ ذلک وأمثاله عن آبائه عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله.

ولنا مذهب في الإمام، وعندنا أنّ الإمام عليه السلام يصحّ أن يُلهَم من المصالح والأحکام ما يکون هو المخصوص به دون الأنام.

ثمّ نتبرّع بعد ما ذکرناه بذِکر السبب الّذي تقدّم فيه السؤال، وإن کان غير لازم لنا في الجواب.

فنقول: إنّ السبب في غَيبة الإمام عليه السلام إخافة الظالمين له، وطلبهم بسفک دمه، وإعلام اللَّه أ نّه متي أبدي شخصه لهم قتلوه، ومتي قدروا عليه أهلکوه، فحصل ممنوعاً من التصرّف فيما جعل إليه من شرع الإسلام، وهذه الأمور الّتي هي مردودة إليه ومعوّل في تدبيرها عليه، فإنّما يلزمه القيام بها بشرط وجود التمکّن والقدرة، وعدم المنع والحيلولة، وازالة المخافة علي النفس والمهجة، فمتي لم يکن ذلک فالتقيّة واجبة، والغَيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة، لأنّ التحرّز من المضارّ واجب عقلاً وسمعاً. وقد استتر النبيّ صلي الله عليه وآله في غار حراء، ولم يکن لذلک سبب غير المخافة من الأعداء.

فإن قال السائل: إنّ استتار انبيّ صلي الله عليه وآله کان مقداراً يسيراً لم يمتدّ به الزمان، وغيبة صاحبکم قد تطاولت بها الأعوام.

قيل له: ليس القصر والطول في الزمان يفرق في هذا المکان، لأنّ الغَيبتَين جميعاً سببهما واحد، وهي المخافة من الأعداء، فهما في الحکم سواء، وإنّما قِصر زمان أحداهما لقصر مدة المخافة فيها، وطول زمان الأخري لطول زمان المخافة. ولو ضادّت إحداهما الحکمة وأبطلت الاحتجاج، لکانت کذلک الأخري.

فان قال: فالأظهر إبداء شخصه، واقام الحجّة علي مخالفيه وإن ادّي إلي قتله.

قيل لهم: إنّ الحجّة في تثبيت إمامته قائمة في الأمّة، والدلالة علي إمامته موجودة ممکنة، والنصوص من رسول اللَّه صلي الله عليه وآله ومن الأئمّة علي غيبته مأثورة متّصلة، فلم يبق بعد ذلک أکثر من مطالبة الخصم لنا بظهوره ليُقتل. فهذا غير جائز، وقد قال اللَّه سبحانه: «ولا تُلقوا بأيديکم الي التَهلُکة». [1] .

وقال موسيعليه السلام: «ففررتُ منکم لمّا خِفتُکم». [2] .

فإن قال السائل: إنّ في ظهوره تأکيداً لإقامة الحجّة، وکشفاً لما يعترض أکثر الناس في أمره من الشبهة، فالأوجب ظهوره، وإن قُتل لهذه العلّة.

قيل له: قد قلنا في النهي عن التغرير بالنفس بما فيه الکفاية، ونحن نأتي بعد ذلک بزيادة فنقول: إنّه ليس کلّما نري فيه تأکيداً لإقامة الحجّة فإنّ فِعله واجب، ما لم يکن فيه لُطف ومصلحة. ألا تري إن قائلاً قال: لِمَ لَمْ يعاجل اللَّه تعالي العصاة بالعقاب والنقمة، ويظهر آياته للناس في کلّ يوم وليلة، حتّي يکون ذلک آکد في اقامته عليهم الحجّة، أليس کان جوابنا له مثل ما أجبنا في ظهور صاحب الغَيبة، من أنّ ذلک لا يلزم ما لم يفارق وجهاً معلوماً من المصلحة.

وعندنا أنّ اللَّه سبحانه لم يمنعه من الظهور وإن قُتل إلّا وقد عَلِم أنّ مصلحة المکلّفين مقصورة علي کَونه إماماً لهم بعينه، وأن لا يقوم غيره فيها مقامه، فکذلک أمره بالاستتار في المدّة الّتي عَلِم أ نّه متي ظهر فيها قتله الفجّار.

فإن قال الخصم: هلّا أظهره اللَّه تعالي، وأرسل معه ملائکة تُبيد کلّ مَن أراده بسوء، وتهلک من قَصَده بمکروه؟

قيل له: قد سألت الملحدةُ مِن مثل هذا السؤال في إرسال الأنبياء عليهم السلام، فقالوا: لِمَ لم يبعث اللَّه تعالي معهم من الأملاک من يصدّ عنهم کلّ سوءٍ يقصدهم به العباد؟ فکان الجواب لهم: إنّ المصالح ليست واقعة بحسب تقدير الخلائق...، وإنّما هي بحسب المعلوم عند اللَّه عزّوجلّ، وبعد فانّ اصطلام اللَّه تعالي للعاصين، ومعاجلته باهلاک ساير الظالمين، قاطع لنظام التکليف، وربّما اقتضي ذلک عموم الجماعة بالهلاک، کما کان في الأمم السابقة في الزمان.

وهو أيضاً مانع للقادرين من النظر في زمان الغَيبة المؤدّي إلي المعرفة والاجابة، فقد يصحّ أن يکون فيهم ومنهم في هذه المدّة من ينظر فيعرف الحق ويعتقده، أو يکون فيهم معاندون مقرّون، قد علم اللَّه سبحانه أ نّهم إن بقوا کان من نَسلِهِمْ ذريّة صالحة، فلا يجوز أن يحرمها الوجود بإعدامهم في مقتضي الحکمة، وليس العاصون في کلّ زمان هذا حکمهم، وربّما علم ضدّ ذلک منهم، فاقتضت الحکمة إهلاکهم کما کان في زمن نوح عليه السلام، حيث قال: «ربِّ لا تَذَر علي الأرضِ من الکافرين دَيّاراً - إنّک إن تَذَرهم يُضِلّوا عبادَک ولا يَلِدوا إلّا فاجراً کَفّاراً». [3] .

فان قال السائل: إنّ آباءه عليهم السلام قد کانوا أيضاً في زمان مخافة وأوقات صعبة، فلِم لَم يَستَتِروا؟ وما الفرق بينهم وبينه في هذا الأمر؟

قيل له: إنّ خوف إمامناعليه السلام أعظم من خوف آبائه وأکثر. والسبب في ذلک، انّه لم يُروَ عن أحدٍ من آبائه عليهم السلام أ نّه يقوم بالسيف ويکسر تيجان الملوک، ولا يبقي لأحدٍ دولة سواه، ويجعل الدّين کلّه للَّه. فکان الخوف المتوجّه إليه بحسب ما يعتقد من ذلک فيه، وتطلّعت نفوس الأعداء إليه، وتتبَّعت الملوکُ أخباره الدالة عليه، ولم يُنسَب إلي أحد من آبائه شي ءٌ في هذه الأحوال. فهذا فرق واضح بين المخافتَين.

ثمّ نقول بعد ذلک: إنّ مَن اطّلع في الأخبار وسَبَرَ السير والآثار، عَلِم أنّ مخافة صاحبناعليه السلام کانت منذ وقت مخافة أبيه عليه السلام، بل کان الخوف عليه قبل ذلک في حال حمله وولادته، ومن ذا الّذي خفي عليه من أهل العلم ما فعله سلطان ذلک الزمان مع أبيه وتتبعه لأخباره وطرحه العيون عليه، انتظاراً لما يکون من أمره، وخوفاً ممّا روت الشيعة أ نّه يکون من نسله، الي أن أخفي اللَّه تعالي الحَمل بالإمام عليه السلام، وستر أبوه عليه السلام ولادته إلّا عمّن اختصّه من الناس، ثمّ کان بعد موت أبيه، وخروجه للصلاة ومضيّ عمّه جعفر ساعياً إلي المعتمد ما کان، حتّي هجم علي داره، وأخذ ما کان بها من أثاثه ورحله، واعتقل جميع نسائه وأهله، وسأل أُمه عنه فلم تعترف به، وأودعها عند قاضي الوقت المعروف بابن أبي الشوارب، ولم يزل الميراث معزولاً سنتَين، ثمّ کان بعد ذلک من الأمور المشهورة الّتي يعرفها مَن اطّلع في الأخبار المأثورة. [4] .

الآية الثانية قوله تعالي: «وإذ قال ربُّک للملائکة إنّي جاعلٌ في الأرض خَليفةً قالوا اَتجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها ويَسفِکُ الدماء ونحن نسبّح بحَمدِک ونُقدِّس لکَ قال إنّي أعلم ما لا تعلمون». [5] .


پاورقي

[1] البقرة: 165.

[2] الشعراء: 21.

[3] نوح: 26 و 27.

[4] کنزالفوائد 1 : 274- 368.

[5] البقرة: 30.